ثقافة وفكر

بين الذكاء الاصطناعي والتعاونيات/ وائل علواني

 

 

في مقابلة حديثة على قناة الجزيرة باللغة الإنكليزية مع المؤرخ الإسرائيلي المعروف، يوفال نوح هراري، صاحب كتاب Sapiens، ذكر الأخير أن أهم التحديات التي يواجهها جنسنا البشري في القرن الحالي، والتي ستغيّرُ مصير البشرية، هي الحروب النووية، التغيّر المناخي، والقفزات التقنية متمثلة بالذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية. يوضح يوفال، المهتم بدراسة التغيرات التي حصلت في تاريخنا الانساني وفهم معالم المستقبل على ضوئها، بأن التحديين الأول والثاني يمكن التعاطي معهما وتحجيمهما، بينما الأخير، أي تحدي القفزات التقنية، هو حتمي ويتعين علينا فتح حوارات جادة حول الدور الذي ستلعبه هذه القفزات في حياتنا. ولا يخفي المؤرخ مخاوفه من مآلات انتشار الذكاء الاصطناعي على سوق العمل بحيث تستبدل الآلات كثيراً من المهن التي يمارسها البشر، وبالتالي تخلق طبقة غير عاملة، والمستفيد الأساسي من هذا، ومن يبث فيه الروح، هي قلة نخبوية من أصحاب الشركات. وبالطبع فإن هذا من شأنه تكريس غياب المساواة في سوق العمل، كما أنه يضع سلطات التحكم والمال بأيدي القلّة. كذلك فإن الدمج بين الذكاء الاصطناعي والتقنية الحيوية سيجعل منا مخلوقات قابلة لإعادة البرمجة أو التهكير، كما سماها يوفال. فدفق البيانات الذي تتحصل عليه الحكومات والمنصات الالكترونية، مدعوماً بأجهزة كالـ Fitbit التي تقيس مؤشرات أجسادنا الحيوية، كل ذلك يجعل سلطةً ما قادرةً على فهمنا أكثر من قدرتنا على فهم أنفسنا إلى مستويات متقدمة، وبالتالي القدرة على التحكم والتنبؤ بأفعالنا، والأخطر، القدرة على استبدال تفكيرنا وتصرفاتنا.

يُبدي يوفال هراري استياءه من إنتاجات الخيال العلمي التي تُشتت الناس عن الخطر الحقيقي الذي تقدمه تقنيات الذكاء الاصطناعي، وذلك عندما وضع فرقاً بين «ذكاء الآلة» و«وعي الآلة». فالأخير هو ما تُتخَمُ به روايات وأفلام الخيال العلمي، ويرى يوفال بأن وصول الآلة إلى مراحل وعيّ ينتج عنها القدرة على توليد وفهم الأحاسيس والمشاعر هي محطة مستبعدة الحدوث بشكل كبير. بينما ذكاء الآلة لحلّ المشاكل هو أمر حاصل، ونرى أثره في تشكيل الخوارزميات التي تنهل من تحليلات البيانات الضخمة لوعينا وتصرفاتنا وقراراتنا وخياراتنا في أبسط الأمور وأهمها (نشرت الجمهورية مقالاً يتعرض لهذه الجوانب في مقال تويتر والغاز المسيل للدموع: عن الحيّز العام المتشابك رقمياً).

هل يجعل هذا من الذكاء الاصطناعي شراً محضاً؟ بالتأكيد لا، فهو كالعديد من التقنيات يحمل بين جنباته الخير والشر، ولكن السؤال الأهم كما طرحه يوفال هراري هو: من الذي سيستفيد من خدمات الذكاء الاصطناعي؟ حكومات ديكتاتورية؟ الدولة الحديثة؟ أم مجموعات شعبية تراقب عمل الحكومة وتحاسبها؟ ربما سنوقن بأهمية السؤال إذا ما تعرفنا على نظام الرصيد الاجتماعي الصيني Social Credit System الذي بدأ العمل به بحيث يحصل كل مواطن على نقاط بحسب سلوكياته، فيكسب نقاطاً إذا ما قام بعمل صالح، ويُغرَّم من رصيده إذا ما قام بعمل مخالفات أو ما لا ترتضيه الدولة. وبناء على الرصيد، يحصل المواطن على خدمات أو يُحرم منها. وقد طبق هذا النظام أول إطلاقه في 2017 وأدى لمنع 6 ملايين مواطن صيني من السفر داخل بلادهم بسبب تدني رصيدهم، وتتحدث مصادر أخرى عن استخدام هذا النظام في التضييق على المعارضين وأقلية الأويغور. يعيد هذا النظام، الذي يجمع البيانات من كل المصادر التي يمكن تخيلها ويقوم بتحليلها بتقنيات الذكاء الاصطناعي، أسئلة الدولة الحديثة والإنسان والأخلاق والسلطة وغيرها. كما يفتح باب الأسئلة التي يتوجب علينا التفكير بها، وما هو دورنا كشعوب عربية وكوردية وتركية وفارسية في كل ذلك. وبكلمات يوفال، فإن منطقتنا فاتها ركوب قطار الثورة الصناعية، وحملت مظلوميات تتقد جذوتها إلى اليوم، وبما أن المستقبل هو للذكاء الاصطناعي القادم من الشرق تحديداً، فإنه سيكون القطار الأخير أمامنا.

إن استعادة دورنا في هذا العالم مركب التعقيد لم يعد مطلباً ترفياً، وإنما صراع بقاء ووجود. وبعد جولات الثورات المضادة التي استطاعت إعادة التموضع، وسط تواطؤ عالمي، بشكل مكّنها من إعادة إنتاج الطغاة وبثّ الدماء في عروقهم، فإن القفزات التقنية المستقبلية الممولة من القوى ذاتها وما تحالف معها من شركات وشبكات مسيطرة على الموارد والسلطات، لن تنتج سوى مستقبلٍ ديستوبيٍّ حالك السواد. ماهي الحلول؟ من أين نبدأ؟

إعادة إحياء فكرة التعاونيات

نشر الصحفي والكاتب المهتم بدراسة الحركات الاجتماعية، Nathan Schneider، كتاباً جديداً عنوانه: كل شئ للجميع، التقليد الراديكالي المُشَكّل لاقتصادنا القادم. يوثّق الكاتب الذي شارك بالتغطية الصحفية لحراك احتلوا وول ستريت وحراك 15M في إسبانيا، ما لاحظه من توجه الناشطين، بعد فتور حراكهم السياسي وفشلهم في تحقيق ما كانوا يسعون إليه، نحو إنشاء المؤسسات التعاونية القائمة على الملكية والحوكمة التشاركية المتساوية. لقد كانت هذه التعاونيات هي أداة الناشطين في لملمة جراحهم وبناء القدرة على خلق عمق تنظيمي قائم على أسس ديمقراطية، وكأنهم أيقنوا بأن توظيف جلّ الوقت الذي نقضيه يومياً في أعمالنا لصالح خلق جوّ ديمقراطي تشاركي في إدارة المنظمات والشركات، سيكون له دور حاسم عندما تحين اللحظة للعودة إلى الميادين والساحات. لقد فهم الناشطون أن هيكليات الإدارة الهرمية التقليدية المسيطرة على واقع منظماتنا اليوم لا تصلح للتعاطي مع تعقيدات العالم الذي نعيشه والقضايا التي نناضل لأجلها، كما أنها لا تتيح القدرة لنا كشعوب على استعادة دورنا في توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الواعدة لما فيه خير مجتمعاتنا وبيئاتنا، في مواجهة المركزية المتوحشة للدولة والشركات العملاقة. إن نقلَ المعركة إلى جبهة المنظمات والشركات وسوق العمل يقلّل من حدة الصدام المباشر مع الديكتاتوريات وأنظمة القمع. ولأن ثقافة الشركات والمنظمات التي نعمل فيها هي انعكاس لثقافة مجتمعنا، فماذا لو تم إصلاح ثقافة العمل فيما بيننا؟

لقد لاحظ الكاتب أن المؤسسات التعاونية تميل للتحقق في الظروف المتقلبة والمتبدلة، وبشكل أكبر عندما يوقن الناس بأن لا أحد سينفعهم سوى جهودهم الذاتية، فتجد من أيقنوا بهذه الاستنتاجات يشرعون في بناء تعاونيات مملوكة من عمّالها وزبائنها بحصص متساوية. أو كما قال أستاذ الاقتصاد التطبيقي Brent Hueth: يبزغ نجم التعاونيات عند تحقق ظاهرة الأسواق الغائبة (Missing Markets) وفشل نماذج الأعمال المهيمنة على تلبية حاجات الناس، فيتم ملء هذه الفجوات بحلول إبداعية. كما يرى الكاتب أن التاريخ يقف لصالح الناس وإمكانية تحكمهم بمصائرهم بأنفسهم إذا ما كان لديهم الخيال الكافي والثقة ببعضهم بعضاً.

كما يعرج الكاتب على مفهوم الثروة المشاعية التعاونية Cooperative Commonwealth وهو مفهوم اقتصادي قوامه مؤسسات مترابطة ذاتية الإدارة، تضع عملية تحديد الإنتاج والاستهلاك بأيدي العاملين فيها ومن يتعاملون معها. هم يحددون ما سينتجون وما سيستهلكون. هذا المفهوم الذي وصفه الوزير الأميركي Norman Thomas في 1934 بأنه «الحل المجدي الوحيد في وجه الدولة الشمولية».

إن رواج النموذج الاقتصادي الرأسمالي القائم على الاستثمار التقليدي والمغامر، دفعَ كثيرين إلى نفي وجود بدائل أخرى، مع أن الشكل التعاوني هو نواة الديمقراطيات الاجتماعية في الدول الاسكندنافية، وهو الأسلوب الذي اتبعته كثيرٌ من المجتمعات عبر التاريخ. ويحاول الكاتب دحض حجة انتفاء البدائل بلغة الأرقام، فيذكر إحصائيات أهمها صدرت عن الأمم المتحدة في 2014 وتقول إن العالم فيه 2.6 مليون تعاونية، يستفيد منها مليار عضو أو زبون، بعوائد تمثل 4.3٪ من الناتج العالمي. وبحسب تحالف التعاونيات الدولي، فإن هذا الرقم يصل لـ 2.2 ترليون دولار، ويعمل في هذا التعاونيات 12٪ من عمال الدول العشرين الكبرى G20، و10٪ من عمال العالم (أكبر تعاونية في العالم هي Mondragon Corporation في إقليم الباسك والتي يملكها ثمانون ألف عضو من العاملين والمستهلكين، كما أن إيطاليا هي أحد الدول الرائدة في التعاونيات). تتنوع القطاعات الاقتصادية التي تعمل فيها هذه التعاونيات، وقد أعطى الكاتب أمثلة متنوعة لتعاونيات مملوكة من موظفيها، مزارعيها، زبائنها، قاطنيها، بل وحتى مدارس مملوكة من المعلمين والأهالي.

تعاونيات المنصّات Platform Cooperativism في مواجهة الاقتصاد التشاركي

قلبت تطبيقات ومنصّات رقمية على غرار أوبر مفهوم خدمات التوصيل وسيارات الأجرة، وقد صنّفها البعض تحت موضوع الاقتصاد التشاركي Sharing Economy واقتصاد الجمهور Gig Economy، الذي يعمل على دمقرطة القطاع الاقتصادي وفتحه لمقدميّ خدمةٍ جُدد يتشاركون عبره في دورة المال بتعاقدات مرنة وغير دائمة. ولكن المتعمق في فهم هذه المنصات يرى بأن لفظة «التشاركيّ» ما هي إلا مسحوق تجميل لبشاعة هذه المنصات المركزية التي تتركز فيها الأرباح بيد أصحاب الحصص، ويتنازل فيها السائقون عن كامل حقوقهم، ومصيرهم رهن تقييمات الناس لهم (المجحفة أحياناً)، بشكل يضعهم تحت تهديد دائم.

كما أن بياناتنا وخصوصيتنا كمستخدمين تُجمع في خوادم المنصات ويتم تحليلها وبيعها لمعرفة أدق التفاصيل عن تحركاتنا. لا شكّ أن كثيرين منا حمدوا التقنية على نعمة أوبر (التي وفّرت علينا عناء الجدل مع سائقي التكاسي) وغيرها من المنصات الخدمية الرقمية، ولكن ثمن التضحية المجتمعية والفردية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وحتى السيادة التقنية كبيرٌ جداً. لذلك يرى الكاتب أن الدمقرطة الحقيقية هي ليست على مستوى الوصول والإتاحة (Access) وحسب، وإنما على مستوى الملكية والحوكمة والمُساءلة. ومن باب تقديم الحلول، استعرض الكاتب تجارب لتعاونيات مثل تعاونية التكاسي الخضراء في أمريكا المملوكة من قبل السائقين، الذين تكاتفوا لدعم بعضهم في مواجهة تطبيقات كأوبر وغيرها في ظل تخلي الدولة عنهم، ونفورهم من اتباع أساليب التشبيح والترهيب على سائقي أوبر.

ولعلّ أحد أهم الإسهامات في هذا الكتاب هو وضع حركة نشأت حديثاً اسمها: تعاونيات المنصات Platform Cooperativism ضمن أطروحة الكتاب. تعاونيات المنصات هي حركة تدمج بين التقنية والتعاونيات وتطرح إطار عمل للتطبيقات والمنصّات الرقمية في محاولة لتجاوز تحديات ما يسمى بالاقتصاد التشاركّي (بل وتقدم نفسها بديلاً عنه)، وتوفير صيغة أكثر ملاءمة لتحديات الواقع والمستقبل المتشابك. تسعى هذه الحركة لتسليط الضوء على التقنيات الناشئة والبدائل المتوفرة (كتقنيات الحوسبة المتوزعة والتقنيات التي تسمح بتخزين البيانات في شبكة ندية لامركزية) بالإضافة للتعاطي مع جوانبها السلبية. فعلى سبيل المثال، يتم نقد الديمقراطيات الموعودة التي أتت بها العملات الالكترونية، والتي بات أكبر مُعدِّنيها في 2014 مالكين لنصف الحصة السوقية، مما يمكنهم من التلاعب والتأثير فيها (ما يمنعهم من ذلك هو أن هذه العملات قائمة أساساً على ثقة الناس بها وبالتداول بها، لذلك فإن التلاعب يبقى محدوداً لعدم كسر الثقة وبالتالي انهيار العملة).

إذن، تبقى التقنيات الواعدة اليوم مطواعة لتسهيل التعاون بدلاً من التنافس فيما بيننا، إذا أردنا ذلك. والمتتبع لحركة تطوير هذه التقنيات ينتابه الإعجاب بقدرة مطورين منتشرين في أصقاع الأرض على توظيف ذكائهم الجمعي في التعديل عليها بشكل يجعلها أكثر قدرة على دعم أفكار الملكية والحوكمة المشتركة (مثلاً التطوير المستمر على تقنية الـ Blockchain في مشروع Holochain وغيرها). هذا ما تحاول حركة تعاونيات المنصات رصده وتبنيه، بل وتطويره في مجتمعات حقيقية، على غرار تجربة التعاونية المتكاملة الكتالونية التي نشرنا دراسة عنها في الجمهورية. كما تفاعلت جهات ومنظمات عدة مع هذه المبادرة، حتى أن حزب العمال البريطاني بزعامة جيرمي كوربن تبنى هذه الحركة في مانيفستو الديمقراطية الرقمية.

نموذج التعاونيات الحديث

لقد تطورت أشكال التعاونيات عبر التاريخ، وحتى لا يربطها البعض بما تشكل في وعينا من أشكال بالية للتعاونيات التي ازدهرت في دولنا «الاشتراكية»، فلا بد من المرور على الشكل الحديث للتعاونيات عبر سرد المبادئ التي أقرّها تحالف التعاونيات الدولي في 1995، والتي تميز التعاونيات المعاصرة:

– العضوية مفتوحة وطوعية.

– عملية تسيير الأعمال وصناعة القرار ديمقراطية.

– مشاركة العضو في العملية الاقتصادية (إنتاج/استهلاك).

– استقلالية وإدارة ذاتية.

– إتاحة المعلومات وفرص التدريب والتعلم.

– التعاون مع التعاونيات الأخرى.

– الاهتمام بالمجتمع.

وبالنظر بشكل أعمق إلى آلية إدارة التعاونيات، يستعرض الكاتب سريعاً أهم الملامح، وهي أن القرار له مستويات تشغيلية يتم بناءاً عليها دعوة الأعضاء ممن سيتأثرون بشكل أساسي به لنقاش هذا القرار والتصويت عليه (صوت متساو لكل عضو، وليس بحسب الحصص). كما أن هناك قرارات استراتيجية يُدعى للتصويت عليها كافة الأعضاء. إن هذا النوع من الديمقراطية المباشرة أو التشاركية، لا التمثيلية، يحفز الأعضاء على الاطلاع والتعلم الدائم، مما يثري في بناء عقل وحكمة جمعية بين جنبات التعاونية وشبكاتها. كما يضيف استخدام الأدوات التقنية الميّسرة لآليات صناعة القرار الجماعية، كبرنامج Loomio، بعداً آخرَ على ما تتميز به التعاونيات الحديثة. (الشركة المنتجة لبرنامج Loomio هي مؤسسة تعاونية مقرها نيوزيلندا).

أما بالنسبة للتعاونيات والمشاريع التغييرية الجديدة، فقد أورد الكاتب ما خلصت إليه Elinor Ostrom، عالمة الاقتصاد السياسي الحائزة على جائزة نوبل في الاقتصاد، في دراستها لما يسمى بموارد المنابع العمومية Common-Pool Resources، والتي تتعامل معها التعاونيات وأي مجتمعات بشرية عموماً، ووجدت أن مبادئ التصميم الواجب تبنيها في الأنظمة القائمة عليها هي:

– أن تكون الحدود مُعرّفة بشكل واضح.

– قوانين محلية مستمدة من الظروف والحاجات المحلية.

– آليات واضحة لتغيير القوانين من قبل المتأثرين بها.

– مراقبة أداء وسلوك المشاركين.

– تبعات ملائمة لخارقي القوانين.

– عمليات فضّ النزاع.

– إدارة ذاتية حرة ومرنة.

– نمط التداخل Nesting بحيث تؤخذ القرارات الصغرى في دوائر أضيق والكبرى في دوائر واسعة.

إن نظام الوقف ونظام التكافل الإسلامي، ونظام الكيبوتزات اليهودي، ما هي إلا أحد الأشكال الأولى لكيفية التعامل مع منابع المصادر العمومية، بحسب الكاتب.

نلاحظ أن النقاط أعلاه تحاول وضع إطار عمل يشمل الأفراد، ثقافتهم، الإجراءات، الأدوات، والتقنيات والتفاعلات فيما بينها وخلق وسط محيط Ecosystem فعال. كما نلاحظ انحياز هذه الأفكار لعقلية الوفرة Abundance، في مقابل ما يسود عالمنا اليوم من آليات استثمار متوفرة غالباً في المدن التي تركزت عليها جهود التنمية، ومتاحة بيد الفئات المرتبطة بشبكات النفوذ أو المال أو السلطة القائمة. ولأن الاستثمار بطريقة رأس المال المجازف Venture Capital، أو المغامر كما يُعرف، يتم غالباً بوضع استثمارات متنوعة في شركات ناشئة متعددة، فإن المستثمرين يسعون لأن تكون إحداها وحيد القرن المنتظر (Unicorn) ليس لأن تكون رابحة وحسب، بل لتعويض كافة الاستثمارات الفاشلة. يقول الكاتب إن هذه العقلية لا تنطلق من جوانب الاستدامة والنمو الطبيعي، لذلك تجد أصحابها تواقين لابتلاع صناعات وقطاعات اقتصادية بأكملها. وهذا ربما يدفعنا للتساؤل عن جدوى مهرجانات ريادة الأعمال التي يعمل فيها طواقم من المرشدين وحاضنات الأعمال، التي تسعى لتجميل رائدي الأعمال أمام المستثمرين. إن عقلية الندرة Scarcity هذه تخلق موارد وسلع ولكنها لا تخلق مجتمعات، أو كما قال الكاتب: نحن لسنا بحاجة لوحيدي قرن، فهي تتحرك فرادى، وإنما نحن بحاجة لحمير وحش تتحرك كمجتمعات.

«ليس السؤال أبداً، في هذا العالم المتشابك،عن الكتل الحرجة، وإنما عن العلاقات الحرجة»

Grace Lee Boggs

بالقدر الذي أتاحته لنا التقنية للتشبيك والتعرف إلى بعضنا والعمل سوية، إلا أنها عبّدت الطريق لاحتكارات عالمية غير مسبوقة. إن التحديات التي نواجهها كشعوب تتطلب بناء العلاقات الحرجة Critical Connections والفعالة، فعالمنا يتحرك ضمن شبكات نوعية تتباين فيها مستويات تأثير الأفراد والمجتمعات. ومع أهمية وجود الكتل الحرجة Critical Masses، أي الأعداد البشرية التي تقلب المعادلة، إلا أن تجارب الربيع العربي علّمتنا أن هذا لا يكفي، وعلّمتنا أهمية بناء هياكل علائقية شبكية مرنة تتحمل الصدمات، وتستطيع مواجهة الخصم القادر على تطوير نفسه والنهوض من معاركه. إن الخوض في تعقيدات الواقع هو أمر مهم لفهم المشهد (أطرح هنا أحد المشاريع التي عملتُ عليها صحبة عدد من الزملاء في فهم تداخل شبكات المال والسلطة في مصر). وهذا لا ينتج إلا إذا اقتربنا من بعضنا كشعوب، وناقشنا تحديات السيستم بشكل صريح، وطوّرنا تجاربنا الخاصة.

ولأن الكتاب يتحدث عن نقل المواجهة لتكون ضمن الشركات والمنظمات التي نعمل بها، وعطفاً على النقطة السابقة، فإنه يتحدث عن أحد الديناميكيات المعطلة لاجتماع وقرب الناس من بعضها، وهي هيمنة التمويل الاستثماري على جانب تمويل المشاريع والمبادرات، والذي فرز شرخاً كبيراً بين رواد الأعمال والناشطين. فالأول مهتم بتحصيل الاستثمار، والثاني يقارع مشاكل المنظومة/السيستم ويحاول حلّها كأولوية قبل عمل أي شيء مُجدٍ.

تقول Grace Lee Boggs بأهمية النظر للناس وحاجاتهم وليس فقط جرائم المنظومة، وتطوير نماذج أعمال مجدية تحل مشاكل المنظومة مع مراعاة احتياجات الناس وما يتقنونه وما يملكونه من موارد محلية. ماذا بيد الناس وهم يرون الدولة الحديثة تسعى لانتشال البنوك وأصحابها من الإفلاس، تاركة الناس لمصائرهم، سوى التحالف والتعاون وبناء العلاقات الحرجة والحلول البديلة؟ وبالحديث عن البنوك والحلول البديلة، يشرح الكاتب علاقة الدين بين الدائن والمدين بأنها ليست مجرد عملية Transaction عابرة، وإنما علاقة تؤثر على الطرفين. لذلك توجد اليوم تعاونيات تمويلية تعقد جلسات دورية بين الدائن والمدين، يقوم فيها الأول بتقديم نصائح توجيهية تُعين المدين على تسديد دينه وتنويع مصادر دخله.

ما الذي يتحتم علينا عمله؟

بالعودة لكلام يوفال هراري، فإننا نرى أن الاقتصاد ماض بخلق المزيد من القيمة والفعالية مع التطور التقني والذكاء الإصطناعي، ولكنه بشكله الحالي لا يبدو سائراً نحو خلق مكان أفضل للعمال والناس، وإنما تكديس السلطة والثروة بيد النخب ومن يتحالف معها، وكما قال الاقتصادي Thomas Piketty، في كتابه Capital in the 21st Century، فأن «المستثمرين يأخذون العالم نحو إقطاعية جديدة»، والدول تستثمر في الذكاء الإصطناعي وإقتصاد المراقبة Surveillance Economy

لقد بات جلياً أمام السوريين كمّ التشوه الذي أحدثته الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في علاقتنا ببعضنا بعضاً. وربما يمكننا تفهّمُ أفول محاولات تغيير الواقع والنهوض من جديد، ولكن إلى متى اليأس؟ ما المخرج من هذا المأزق؟ ليس القصد هو رفض اليأس بالمطلق، فكما قال ياسين الحاج صالح على تويتر: «لا نستطيع الدفاع عن الأمل، في تصوري، دون أن نيأس كفاية ونستمر في الصراع دون ضمانة مسبقة بالفوز. وأعني يأس الاستماتة وليس القنوط والتسليم»، ولكن ألم يحن الوقت لننهض ونطور تجاربنا وصيغنا التحررية، ونكسر معضلات التمويل التقليدية والارتهان لصاحب المال؟ ألم يحن الوقت لكسر فكرة القائد الأوحد في المنظمات والشركات، الذي يتم كل شئ بإدارته وإشرافه؟ هل من المفيد التذكير بأن أسلوب إدارتنا لشركاتنا ومنظماتنا اليوم يطابق كيفية إدارة البلاد السياسية والأمنية: تركّزُ السلطة بيد القلّة من صناع القرار، قيادة العمل بسلسلة الأمر والتحكم، تنافسٌ على استحواذ السلطة، مناورات سياسية في الشركات تقوم على الوشاية وتجهيز الخوازيق؟ إلى متى تغيب العدالة المجتمعية والتوزيع العادل للثروة والسلطة؟ لماذا لا نغير قواعد اللعبة بالكامل بدلاً من مجاراتها؟ إلى متى سنبقى فاقدين للثقة ببعضنا بعضاً؟

إن الشتات السوري أمامه فرصة حقيقية تمكّنه من دراسة تجارب الدول التي تشرّدَ فيها وتحقيق ثورة عقول حقيقية. لنشرع بكتابة عقد اجتماعي واقتصادي جديد. وبدلاً من إعادة إنتاج شكل الشركات التقليدي القائم على هرم السلطة والنفوذ، لنُعِد اختراع المنظمات. وبدلاً من هدر الوقت في مهرجانات وكرنفالات الريادة الاجتماعية التي تقف عند مستوى الأفكار والترويج للمنظمين والمستثمرين المحتملين، فإن لدينا فرصة للإطلاع على التجارب العالمية في مجال بناء المنظمات التعاونية التي نهضت بمجتمعاتها، مثل كينيا التي يقوم نصف ناتجها المحلي القومي على التعاونيات التي يستفيد ويعمل فيها 63٪ من الكينيين، وتجارب أخرى كالـ Eco Villages ومفاهيم الاقتصاد التعاضدي Solidarity Economy، وللمهتمين بمشاريع الانترنت وتعاونيات المنصات التقنية ioo.coop، وللمهتمين بتطوير نماذج الأعمال (Business Models) فهناك جهات عديدة تعنى بتطوير نماذج أعمال مستدامة للتعاونيات.

علينا التفكير والعمل على التمكن من أدوات الإنتاج وليس الاستهلاك، وأن نتحول إلى اقتصادات شبكية تقوم على التمويل الجماعي وبناء التعاونيات بملكية وحوكمة مشتركة. أي أن ننقل الثورة إلى الجبهة الاقتصادية وأماكن العمل التي نقضي فيها جلّ أوقاتنا، وأن نحقق العوائد والأرباح ونسهّلَ بِدء وتسيير الأعمال، دون عبادة إله النمو والسعي لإثراء المستثمرين واحتكار الحصص السوقية. لم نكن أول من واجه المِحَن، ولسنا آخرهم. وفي هذا العالم مجموعات طوّرت تجاربها ومن المهم رصدها، ودراستها وتحليلها، وتطبيق ما هو مفيد، والتطوير عليها.

موقع الجمهورية

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى