الناس

سيرة سرمد من النظام إلى “النصرة” وصولاً إلى “الخوذ البيض”/ محمد فارس

 

 

في ما يلي سيرة لشاب سوري عرفته شخصياً وتابعت كل تحولاته حتى نهايتها، أكتبها من دون ذكر اسم الشخص المعني صراحة لأسباب تتعلق بأسرته..

 

مطلع عام 2017، مرّت وببطء سيارة “سكودا” بيضاء من أمام مسجد أسامة بن زيد في قرية سوق وادي بردى غرب دمشق، خرج منها ملثّمون وراحوا يطلقون الرصاص وأردوا أحد الرجال قتيلاً. كان ذلك ذات ليلة أثناء معارك منطقة وادي بردى في ريف دمشق الغربي. سريعاً عرف الأهالي أن القتيل هو سَرْمَد ثُرَيَّا (اسم مستعار)، مؤسس وقائد فرع لمنظمة «الخوذ البيض» (الدفاع المدني االسوري) في المنطقة.

تأسست «الخوذ البيض» في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وتعمل في أجزاء من سوريا تسيطر عليها المعارضة. وتتهمه الحكومة السورية بالإرهاب وبأنها «ذراع جبهة النصرة»، وتقول إن المخابرات البريطانية أنشأتها. لكن معارضي الأسد يرون في أفرادها أبطالاً حقيقيين، وقد ساهم الملياردير البريطاني السوري، أيمن أصفري، في تمويل التغطية الإعلامية للخوذ البيض.

وكانت المنظمة موضوع فيلمين سينمائيين ضخمين، حاز أحدهما، وهو بعنوان “The White Helmets”، جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 2017. كما رُشِّحَت المنظمة لجائزة نوبل للسلام لعام 2016. وقدمت الحكومة الأميركية أكثر من 33 مليون دولار أميركي لتمويل المنظمة ما بين 2013 ونيسان / أبريل 2018، عندما علقت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تمويلها، كجزء من إعادة النظر في دور الحكومة الأميركية في الصراع السوري. وفي وقت لاحق، سمحت الإدارة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) بتقديم نحو 6.6 مليون دولار أميركي لدعم «الخوذ البيض» والآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وهي مجموعة مستقلة تشكلت بموجب قرار الأمم المتحدة 71/248 في كانون الأول / ديسمبر 2016 للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم العنيفة – طبقاً للقانون الدولي – المرتكبة في سوريا منذ آذار/ مارس 2011.

وسائل إعلام مقرّبة من الحكومة اعتبرت سرمد «مسلّحاً قُتِلَ في المعارك». في المقابل، قالت «الخوذ البيض» إن مقتله جاء «بعد قصف جوي مزدوج للنظام استهدف عمّال إنقاذ» معتبرة إياه «بطلاً». وقال ناشطون معارضون إنه «قُتل بنيران مدفعية النظام بينما كان يُنقذ المدنيين». وفيمانعته عائلته من دون إيضاح سبب وفاته، أعلنته صفحات ذات طابع ديني على أنه «شهيد ربح البيع» في تشبيه له بالصحابي صهيب بن سنان الرومي (587 — 658)، الذي وصل إلى المدينة المنورة مهاجراً من مكة تاركاً فيها ماله في سبيل دينه، فقال له رسول الإسلام محمد: «ربح البيع أبا يحيى».

قبل أربع سنوات من تلك الحادثة وتحديداً في 25 تشرين الأول 2013، وبالقرب من المسجد نفسه، سقط حوالى 300 شخص بين قتيل وجريح في انفجار سيارة مفخخة. وكعادة أبناء القرى، ونظراً إلى انعدام خدمة الإسعاف وشحّ الخدمات الطبية، أسرع سرمد بسيارته من قريته، تل الزهور، المجاورة لموقع الانفجار لينقل الضحايا إلى مستشفى إسعافي قريب.

وعلى رغم أن جيش النظام كان يحاصر منطقة وادي بردى، قالت وكالة «سانا» الحكومية إن «سيارة انفجرت أثناء قيام إرهابيين بتفخيخها في سوق وادي بردى ما أسفر عن مقتل الإرهابيين» من دون ذكر تفاصيل أو إيراد مصدر معلوماتها، خصوصاً أنه ليس لديها مراسل في المنطقة. إلا أن تحقيقات نشرتها «جبهة النصرة» – «هيئة تحرير الشام» حالياً – على يوتيوب في شباط/ فبراير 2014، مع شخصين من المنطقة، تُشير إلى وقوف «المقدم علي الشيخ علي من المخابرات» خلف العملية. وقال متحدث من «الجبهة» إن التحقيقات أفضت إلى «إنزال الجزاء العادل» بالشخصين وإعدامهما، وإطلاق سراح شخصين آخرين «لعدم كفاية الأدلة». وبحسب مقاتلين سابقين في المعارضة المسلحة، رفضت «النصرة» محاولات اللواء جميل حسن، رئيس إدارة المخابرات الجوية، إطلاق سراح أحد المتهمين مقابل 100 مليون ليرة سورية (نحو 192،000 دولار أميركي في حينه).

وفي آب/ أغسطس 2016، نشرت «سرايا النهروان» المعارضة تسجيلاً مصوراً لأحد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تحدث عن دوره في  هجوم السيارة المفخخة على مسجد قرية سوق وادي بردى في 25 تشرين الأول 2013، وأظهرت تحقيقات «النصرة» تورط المخابرات السورية بتنفيذها.

ذكريات «الكاوبوي» الموالي

أذكر أنه في أواخر عام 2008، سار سرمد بسيارته البيضاء بجانبي بهدوء. وبينما استدار نحوي بابتسامة مريبة، برز سنٌّ ذهبي في فكّه الأعلى غير مختلف كثيراً عن أسنانه الصفر. خفض نظارته الشمسية العاكسة ذات الإطار المذهّب، فظهرت عيناه السوداوان الواسعتان. لفتتني سترة لونها أخضر فاتح بأزرار مذهبة لامعة متدلّية على علّاقة خشبية مثبّة بسقف السيارة. كان سرمد حينها، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، في عزّ تألقه؛ فهو أشهر من «دبك على الجحشة» (أو مقدمة الدبكة الشعبية) في المنطقة. وقد غدا الشاب حليقُ الذقن والشارب في نهاية التسعينات، نجم الأعراس في المنطقة، لا بل ذاع صيته على مستوى المحافظة وهو الذي أحب كذلك أجواء الملاهي الليلية حيث كان «يدبك» حتى الصباح.

طلب مني بصوته المميز وبنبرة عميقة عريضة أن أؤدي له خدمة. استقبلتني في سيارته رائحة عطره المزعجة ممزوجة بأثر رائحة تبغ ثقيلة. أشعل سيجارة وعضّها بجانب فمه، عدّل نظارته ودفع «الڤيتيس» بهدوء، فتهادت السيارة رويداً.

اعتاد سرمد أن يقود سيارته ببطء. سيارته النظيفة ذات الإطارات العريضة غير متّسقة مع حذائه “التكساس” الجلدي البني الضخم وقميصه الحريري المرجاني. وقد أوحى شعره المرفوع المكوّر بإتقان في مقدمة رأسه والطويل المشذّب من الخلف والقصير على الجانبين، بأنّه «كاوبوي» في فيلم أميركي رديء. لكن سرواله القماشي الزيتوني اللون متعدد الثنيات والمكوي بعناية؛ والمزنّر بحزام جلدي قديم بني اللون مثبت برأس أسد معدني مذهّب، وشى بشخص معتدّ بذاته محبٍّ للحياة.

ركن سرمد سيارته وأخبرني أنه في حاجة لأترجم له محادثة هاتفية «خاصة»، فقد سمع أنني «أشطر واحد في الضيعة بالروسي». أبرز من جواله صورة حسناء شقراء بعينين زرقاوين وقال بصوت متذلل أنه يعشقها ويريد مني أن أقنعها بالزواج به، على رغم أنه كان متزوجاً ولديه أولاد. وقالت لي السيدة الروسية التي كلّمتها إن صديقي «مريض نفسي»؛ وقد سبق لها وأخبرته أنها متزوجة وعندها طفلة. وطلبت مني أن أقول له ألا يتصل بها مرة أخرى. وحين أخبرت سرمد، بكى، وطلب أن يبقى الأمر سرّاً.

بعد أشهر تأسست المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. واتُّهِمت سوريا بالجريمة. وتضامناً مع القيادة السورية التي أشارت إليها أصابع الاتهام بمقتل الحريري، علّق سرمد في مطعم الشاورما الصغير الذي كان يملكه صورة للرئيس الراحل حافظ الأسد، والرئيس بشار، والأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله.

ولم أقابل سرمد حتى ربيع 2011، حين خرجت تظاهرة من مسجد قريته. أوقف المتظاهرون سيارته البيضاء، فترجّل حاملاً عصا سوداء مدقدقة بمسامير فضّية، وراح يرقص كما لو أنه في حفلة عرس. حمله المتظاهرون وصاروا يهتفون للحرية. حين رأيته مساءً قال إنه ظن التجمّع لزفاف عريس، فنزل ليرقص ولم يفهم الهتافات. كانت تلك آخر مرة التقيته.

تحوّلات تحت الحصار

وكغيره من الأهالي، عانى سرمد ظروف الحصار القاسي الذي خضعت له المنطقة. وسيطرت فصائل معارضة على الوادي الذي كان في الوقت ذاته محاصراً من قبل الجيش الحكومي منذ مطلع عام 2012 وحتى انتهاء المعارك هناك أواخر كانون الثاني/ يناير 2017.

أغلق سرمد مطعم الشاورما بعد أن ساءت الأحوال الأمنية تحت الحصار. وشاهدت صوره بعد ذلك على “فيسبوك” وقد تغيّر مظهره، إذ أعفى لحيته وقَصَّرَ شاربه وشعر رأسه. وزاد وزنه وارتدى بدلة رياضية وجُبَّةً فضفاضة مبطّنة بجلد خروف.

وعدّل مظهره مرة أخرى في صور نشرها على “فيسبوك”، إذ اعتمر خوذة بيضاء وقاد مجموعة من رجال الإطفاء السابقين وأسسوا مركز «الدفاع المدني السوري في وادي بردى»، وهو واحد من 17 مركزاً توزعت في ريف دمشق.

وبات سرمد ينشر مقاطع وصوراً لنشاطات مجموعته من تدريبات وعمليات إنقاذ. وأجرت المجموعة أثناء الحصار بضع عمليات إطفاء وإنقاذ وهمية نشر سرمد صورها على “فيسبوك”، على أنها حصلت أثناء هجمات للجيش الحكومي على الوادي. وتقاضى أفراد المجموعة بضعة دولارات لم تسد الرمق تحت الحصار القاسي. ونسب سرمد أعمالاً خدمية نفّذتها دوائر حكومية خدمية لمجموعته؛ حيث كان يصوّر ويعلّق على عمل آليات جمع القمامة، وينشر المقاطع على أن «الدفاع المدني» هو من يقوم بالعمل. وأذاعت قناة «الجزيرة» القطرية تقريراً في حزيران / يونيو 2015 عن المجموعة، وتحدّث سرمد بصفته قائد مركز الدفاع المدني في الوادي. كما ظهر وفريقه في كانون الثاني 2016 في وقفة تضامنية تعاطفاً مع مضايا والزبداني اللتين حاصرهما الجيش الحكومي و«حزب الله».

وخسر الوادي مئات الضحايا أثناء سنوات الحصار والقصف من قبل القوات الحكومية وعشرات عمليات الاغتيال التي قام بها مسلحو «داعش». وفي شباط 2016، قام تحالف «النصرة» و«أحرار الشام» و«الجيش الحر» بطرد «داعش» من الوادي. وألقى التحالف القبض على بعض عناصر التنظيم.

نهاية غامضة

وفي صيف 2016، سرت بين سكان الوادي شائعات غير معروفة المصدر تتهم سرمد باختلاس نحو 70000 دولار أميركي مخصصة للخوذ البيض. وبسبب ذلك، بدا أنه، ومن طريقة كتابته على صفحته على “فيسبوك”، قد تلقّى تهديدات بالقتل من جهات لم يفصح عنها. وصار يضع على صفحته منشورات متناقضة. فنشر يطالب الناس بألا يصغوا للشائعات واعداً بأن يبرهن أنها كذب. ودعا الله «أن يفضح كل من يفتري على الناس بالكذب والفتن والتشهير». وتوعد «العملاء والجبناء والسفلة والغدارين بأن قادم الأيام سوف يسوؤهم». وتنبأ أنه شخصياً «سيموت في الوادي ويدفن فيه ولن يترك أرض الجهاد»، وأنه «مشتاق للقاء ربه مقبلاً غير مدبر»، وسأله «المغفرة والرحمة»، ودعاه «أن يسامح ظالميه».

ومنذ اليوم الأول في معركة وادي بردى (23 كانون الأول2016 – 29 كانون الثاني 2017)، قصفت القوات الحكومية المراكز العائدة للخدمات الطبية والدفاع المدني والإعلام. وقُتِل عنصران من «الخوذ البيض» في الوادي أثناء عمليتي إنقاذ منفصلتين. ووفقاً للجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة، «قصفت القوات الجوية الحكومية عن عمد (في كانون الأول 2016) مصادراً للمياه (في وادي بردى) مرتين على الأقل، في جريمة حرب أدت إلى قطع المياه عن 5.5 مليون شخص في العاصمة دمشق ومحيطها».

وفي 25 آذار 2017، شكلت وزارة العدل لجنة لتوثيق الجرائم التي ارتكبتها التنظيمات المسلحة في وادي بردى. وقال المحامي العام بريف دمشق ورئيس اللجنة عبد المجيد المصري إن القضاء «لن يحاكم من سوّوا وضعهم واستفادوا من مراسيم العفو باعتبار أنهم كانوا أداة، وبالتالي فإنه ستتم مقاضاة من كان يدعمهم». وأضاف: «إن اللجنة ستعتمد في التوثيق على الوقائع الحية وشهادات الأهالي والضبوط والكشوف القضائية والوثائق ولو كانت إعلامية». لكن التعويل على لجان تشكلها الحكومة كهذه أمر لا طائل منه. فقد شكل الأسد في 31 آذار 2011 «لجنة التحقيق القضائية الخاصة المكلفة إجراء تحقيقات في الأحداث التي تشهدها سوريا» ولم تحدث اللجنة أي تغييرات حتى اليوم.

يُرجح أن أقارب اللَّذَيْنِ أعدمتهما «النصرة» بتهمة تنفيذ الهجوم على المسجد قد تمكنوا من «الأخذ بثأرهم» بقتل سرمد في سيارته أثناء مروره في قريتهم. إذ تبيّن لاحقاً أنه شخصياً حقق مع أحد منفّذي الهجوم وكان صوته العميق واضحاً أثناء قيامه بطرح أسئلة على أحد المتهمَين في تسجيل مصور بثته «النصرة». وقصة سرمد التي تخترق الهويات المحتملة لمنفذي التفجير، تبدو عقدة ثابتة في الروايات عن التفجير. وهنا يصبح دور أحمد في الكشف عن هوية المنفذين جزءاً من السيناريو الذي وضعه من خطط للتفجير. ولا حل لهذه المعضلة إلا بقتله بصفاته كلها.

في ليلة 22 كانون الثاني 2017، انتشرت صورة على “فيسبوك” لسرمد ممدداً على الأرض في منزله مكفناً بقماش أبيض. لم يظهر منها سوى وجهه الأسمر هادئاً، فيما عيناه الكبيرتان مغمضتان على أسرار رحلت معه. ويتعلق أحد أكبر تلك الأسرار بهجوم بسيارة مفخخة على مسجد، يُتهم جميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية، بتنفيذه. وأخيراً، أصدرت ألمانيا وفرنسا مذكرتي دوليتين بحق حسن بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

في تلك الليلة قال الأهالي إن سرمد كان مرّ بسيارته البيضاء ببطء في قرية سوق وادي بردى. بعض محبّيه يروّج لـ«استشهِاده» هناك أثناء سعيه لإنقاذ مدنيين عبر إخراجهم من المعارك في الوادي عبر حاجز للجيش الحكومي. بينما يقول مقاتلون معارضون سابقون إنه “مرّ من هناك في طريقه إلى شراء السجائر فتربّصوا به للأخذ بثأرهم”. وتاريخ المنطقة القريب يقول إن الثأر يجلب ثارات.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى