مقالات

حكايات الحرب والسلام/ علاء رشيدي

 

 

(1): الروي عن الحرب

التناقض الظاهر بين «المحارب» و«السلام» في اسم منظمة (Figthers For Peace)، الذي يعني «محاربون من أجل السلام»، مقصودٌ تماماً، لأن أعضاءها سبقَ لهم أن شاركوا في حروب، لكنهم بعد تجاربهم تلك يعملون اليوم على تنبيه العالم من أهوال الحروب.

يعمل أعضاء المنظمة من أجل السلام بوسائل متعددة، من بينها نشاطهم المسرحي في لبنان مع فرقة وصل، بعنوان «قصص حرب، مسرح إعادة تمثيل»، وهو مشروع يتضمن عروض مسرح تفاعليّ، ويُقدَّمُ منذ سنوات في عدة مناطق لبنانية، خصوصاً تلك التي عرفت أحداث عنف في فترة الحرب الأهلية، كا يتم تقديم عروض أيضاً في مخيمات اللجوء الفلسطينية والسورية. وإيماناً منها بدور المسرح التفاعلي في تشجيع المجتمع على الروي، تقدم فرقة وصل شهرياً عرضاً تفتح فيه الباب للجمهور ليتمكن من الحديث عن ذكريات وقصص الحرب، كان آخرها في فضاء زيكو هاوس في بيروت.

يبدأ العرض بدخول الجمهور إلى الصالة، ليجدوا على المسرح أربعة ممثلين، ومعهم مقدمة تتوجه بخطابها إلى الجمهور مباشرة، طالبةً من الحضور أن يدلوا بقصص، أي قصص يختارونها عن الحرب. «ماذا كنتِ تفعلين أثناء الحرب ؟»، «كنتُ أقاتل»، جاء أول أجوبة الجمهور اعترافاً صادماً من امرأة حملت السلاح خلال الحرب، وهكذا منذ الدقائق الأولى أصبح المحظور مقبولاً ومتجاوزاً، فما هي إذن صعوبات الحديث الأهلي عن الحرب بعدها؟

بعد أن ينتهي المتطوع من سرد قصته، يشرع الممثلون المؤدون الأربعة بتقديم حكايته مسرحياً، رمزياً، بأدوات وحركات بسيطة، لكنها تسمح للمتطوع صاحب القصة أن يتماهى معها، ويراها للمرة الأولى بين أيدي الآخرين، بما فيها من شجن وعواطف. آلتان موسيقيتان تشاركان، العود، والإيقاع، من خلال عازفين على يمين المسرح يعزفان خلفية المشاهد، ويتحكمان بالإيقاع في حال نضبت مخيلة الممثلين الفورية.

لكن ما هي حكايات الحرب؟

مهما بدت حكايات الحرب كثيرة ومعقدة ولانهائية، إلا أنها في مجال السرد الأدبي، تتمحور بين الحين والآخر على موضوعات مكرورة: المأساة، الدراما، المرعب، المريع، المازوشي والسادي، المذهل، الدمار، البالغ ذورة الكراهية. هل حكايات الحرب هي الفجائعيات إذن؟ وبما أننا في صالة مسرح، فالمثال الأصدق هو أن نسرد قصص جمهور صالة زيكو هاوس، الذين يمثلون عينة نموذجية للإجابة على سؤالنا.

هل حضرت نزاعاً مسلحاً من قبل؟

هل تمتلك ذكرى عن النزاعات المسلحة؟

أروِ قصة عن الحرب.

يحكي المشترك الأول أنه نزح ثلاثة عشرة مرة في حياته، خلال حروب متعددة مرّت على لبنان منذ العام 1975 حتى 2006، لكن الغريب أن ما الذكرى التي اختار روايتها من كل تجارب الحرب تلك، هي ذكرى بسيطة بقيت عالقة في ذهنه، في العدوان الإسرائيلي على لبنان تموز 2006، كان يستعدُّ للذهاب مع عائلته على البحر، لكنهم اضطروا إلى النزوح إلى الجبل. هذه هي ذكراه التي اختارها.

المشترك الثاني يتذكر حاجزاً مسلحاً ظهر فجأة في أحداث 7 أيار 2008 أمام بيته، أثارت رؤية الحاجز في نفسه قلق العودة إلى الحروب. والمشتركة الثالثة تتذكر كيف قطعت الصواريخ سلسلة تمارينها للدخول في صف البيانو في المدرسة في حرب 2006. مشاركةٌ أخرى روت عن تجربة قمع تعرضت لها في مظاهرات (طلعت ريحتكم) التي عمّت العاصمة بيروت في تموز 2015، واعتبرت أن القمع المُمارَس عليها كمتظاهرة كان بمثابة تجربة عنف مفرط تعرضت لها كما في حكايات الحروب.

لا يمكن تصديق أن هذه ستكون نوعية القصص التي سيرويها المجتمع حين يسمح له بالحديث بِحرّية عن حكايات الحرب، إلا أنه يبدو أن الروي لمجرد الروي، وبخيار شخصي بحت يعتمد على أهمية الذكرى أو القصة من عدمها، هو الغاية التي يسعى هذا النوع المسرحي لتحقيقها مع الحضور، الفاعلين، المشاركين. إنه الشفاء بالروي. الغاية من هذا المسرح مساعدة الناس على الروي، على تشارك التجارب من الماضي، والأهم على تقييمها عبر ردود الأفعال.

من المتخيل أن تكون حكايات الجمهور عن الحرب مليئة بالعنف وبالمأساة، لكن المفاجئ أن تُروى حكايات ساخرة من الحرب أيضاً. فمثلاً، اختارت المشتركة الأخيرة أن تروي على المسرح حكاية من الإعتداء الإسرائيلي على بيروت الضاحية في العام 2006. كان تنادي على عمتها كي تنتبه لأن هناك صاروخاً سيسقط فوقها، لكن العمّة ذُعِرَت أكثر حين فكرت أنه «صرصور»، قالت: «صاروخ مو مشكلة». كانت الحكاية الأولى التي تجعل من الحرب على هذا القدر من السخافة والأهمية من الآن نفسه.

يُخبرنا علماء اللغة والذهن، كم يلعب الروي، السرد، الحكي، دوراً في أنشطة التفكير. أن تعي الشيء، يعني أن تمتلك القدرة على سرده. في الحديث اليومي نُسرع جميعاً إلى روي القصص دون توقف: «آه وصلت أخيراً، كنت قد أتيت بالتاكسي…»، أخبارٌ من هذا القبيل تتحول إلى قصص. كم روينا للآخرين مثلاً أحاديثاً مع سائقي التاكسي، أو حكايات استيقاظنا متأخرين هذا الصباح.

أن تروي حكاية عن الحرب، يعني أن تتشكل الحكاية في الوعي، أن تُعبِّرَ عنها من خلال اللغة، أن تقسمها إلى أحداث، مشاعر، وردود أفعال. حين جاء علم النفس، أكّدَ على أهمية السرد، وعلى أهمية إخبار المعالج النفسي بالحكايات عن الذات. ولا يمكن أن ننسى هنا الطقس المسيحي الاعترافي، حيث الروي يحقق التطهير في غرفة الاعتراف الكنسية. لقد اختار الروائي غابريل ماركيز عنواناً لسيرته الذاتية، نعيشها لنرويها، ربما لأن فعل العيش نفسه يبدو مساوياً لفعل الروي.

صحيحٌ أن نشأة المسرح الأثيني تشي بالتفاعلية بين الجمهور والصالة، وأن المسرح طالما حاول أن يكون تفاعلياً، مؤثراً ومتأثراً بالحدث الاجتماعي وبالحضور في الصالة. إلا أن النقاد يعيدون استعمال هذا النوع من المسرح إلى تجارب المسرحي البرازيلي أوغستو بوال 1931 – 2009، الذي اتبع هذا الأسلوب في مسرح المقهورين، الذي يقول عنه د.سمير سرحان في كتابه تجارب جديدة في الفن المسرحي (2006): «الهدف الأساسي من تجربة مسرح المقهورین هو تحویل المتلقي، الذي غالباً ما یكون في المسرح التقلیدي السائد متفرجاً سلبیاً، إلى متلقٍ إیجابي یغیّر مسار الحدث الدرامي ویعید صياغته. وفي ذلك یقول بوال صاحب نظریة مسرح المقهورین، مقارناً نظریته مع أشهر نظریتین في تاریخ المسرح، أن المتفرج في نظریة أرسطو یسلّم نفسه إلى الشخصیة الدرامیة، بحیث تقوم هذه الشخصیة بأداء الفعل والفكر بالنیابة عنه. أما في نظریة بریخت فإن المتفرّج یسلم نفسه أیضاً للشخصیة الدرامیة، لتقوم بأداء الفعل بالنیابة عنه فيما یحتفظ لنفسه بحق التفكیر، وغالباً یكون هذا التفكیر متعارضا مع فكرة الشخصیة الدرامیة. والنتیجة في حالة أرسطو هي حدوث (التطهیر)، وفي حالة بریخت یصبح الهدف هو إیقاظ الوعي النقدي لدى المتفرج. أما مسرح المقهورین فیُركّز على الفعل أو الحدث ذاته ، والمتفرج في مسرح المقهورین لا یسلّم نفسه للشخصیة الدرامیة أو (الممثل) لیقوم بأداء الفعل أو الفكر نیابة عنه، بل یقوم بنفسه بدور البطولة، فیغیّرُ من مجرى الحدث الدرامي، ویقترح الحلول ویناقش احتمالات التغییر على المسرح الإنساني والاجتماعي والسیاسي».

إذن تهدف نظریة بوال إلى ترك المتلقین یعبّرون عن أفكارهم بحریة تامة، دون أن یتقیدوا بفكرة ثابتة من المجموعة المسرحیة التي تقدّم العرض، لیكتشفوا بأنفسهم مدركات جدیدة في أطروحاتهم ضمن منظومة وعیهم. وبطریقة غیر مباشرة، فإن أغستو بوال یدرّب المتلقي من خلال تدخله في مجریات العرض، وتغییر الفكرة وفقاً لما یراه صحیحاً، عبر القیام بالفعل ذاته على مستوي الحیاة».

يسمح لنا أدب الشهادات، المذكرات، والسير الذاتية، بالتعرف على الحكايات التي تختار الإنسانيةُ روايتها عن الحرب، لكن الموضوعات تتكرر، إذ يرتبط كثيرٌ منها بالأصوات مثلاً، فالحرب أصواتٌ من القصف، تقطع إيقاعية حياة من يعيش يومياتها. وهناك أيضاً قصص الحرب التي تعتمد على وصف المجازر، وقصص الحرب المتعلقة بالهجرة والنزوح والهرب من الموت إلى مكان آخر، وقصص التأقلم مع الواقع الجديد تحت الحرب. هنالك بشكل خاص كل شيء عُرِفَ أنه متعلق بالعنف خلال التاريخ، من قهر وذبح وجرائم وتطهير عرقي وإبادة جماعية. ولكلّ منها قصة وتجربة.

في قاعة زيكو هاوس تعددت الحروب المذكورة من تاريخ لبنان بين المشاركين، ورغم أنه كان هناك سوريون في الصالة، إلا أن أحداً منهم لم يشارك بقصة أو حكاية. والمرات القليلة التي ذكرت فيها سوريا، كانت كمعيار للخراب والدمار الكامل، بوصفها أشد حالات المبالغة في العنف التي يتخيلها المشاركون حين يتحدثون: «أنو يعني ما صار متل مو صاير بسوريا… أكيد»، لتبدو سوريا الرمز الأول لحكايات العنف في العالم، ولمشاهده البصرية.

يمكن أن تكون تجربة هذا العرض مُلهمة لتجارب مماثلة في سورية، حيث ضرورة إشراك الفن في  السلم الأهلي، والتصالح السياسي. هنا بإمكان المسرح أن يساعد المجتمع على التواصل والتعبير، وكيفية معالجة المشكلات. وأن يعيد عبر التفاعل في العرض المسرحي تشاركية في المشاعر والانفعالات، بعد أن عرف أفراده أقسى الانقاسمات والكراهية. في صالة زيكو هاوس، كان هناك ضحك ومحاكمات جماعية لأفكار وذكريات حميمية، عبر السرد، الروي، والجدل الذي يمكا أن يساهم في بناء المجتمع المستقبل.

إذن هي دعوة للروي الجمعي، تحديداً لما نعتقد أنها فظاعات لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، أو جماليات صغيرة لا تُقيَّمَ بملقط جواهر الآخرين، أو شعور حسيّ بحت نعتقد أننا لن نتمكن من قوله باللغة، لكننا هنا لا نتكلم فقط على اللغة، الروي ليس لغوياً فقط، إنه عوامل عديدة متظافرة.

في مقاله بعنوان «مملكة البشر – القصص في ألف ليلة وليلة»، يكتب الناقد الأدبي تزفيتان تودوروف: «في أسلوب القصّ في هذا الكتاب، الشخصيةُ تساوي قصة، أي أن كل قصة تروي شخصية جديدة تظهر بين الحكايات. القصة تساوي الحياة، وغياب القصة يساوي الموت. كما في إحدى قصص ألف ليلة وليلة وهي قصة الكتاب القاتل، حيث الصفحة البيضاء مسمومة. لأن الكتاب الذي لا يروي أي قصة يقتل، وغياب القصة يعني الموت».

الغاية من كل ذلك هي التشجيع على الروي، لأن المجتمع يحتاج ببساطة لأن يروي ما عايشه بحرّية، ليستوعبه ويدركه. السبيل الوحيد هو أن نروي باستمرار حكايات الحرب، كي ندرك ماهيتها.

(2): الروي عن الجريمة

تتنوع حساسيات المجتمعات تجاه حكايات الحرب، بعضها تمنعها تحريماً، وبعضها تسمح بأن تسري بعض أخبارها وسردياتها من أجيال إلى أجيال، فيما تعمل أخرى على استذكارها باستمرار عبر برامج حكومية واجتماعية، حتى لا تتكرر التجربة مرة أخرى.

الحرب نزاعٌ بين طرفين، والجريمة تفترض دوماً فاعلاً وضحية. إذن هناك قناعان يمكن أن يرتديهما الراوي لحكاية الحرب ذاتها، إذ لا بدّ أن تكون رواية أحد الطرفين مخالفة لرواية الآخر.

1- الرواي الضحية

تُظهِرُ لنا تجارب تاريخية سابقة كيف أن الضحايا أكثر مرونة في روي تجارب الحرب والعنف التي تعرضوا لها، بالمقارنة مع قدرة المعتدين أو مرتكبي الجرائم على روي تجاربهم. فمهما تأخرت قدرة الضحية على التعبير، إلا أنها غالباً ما تتمكن من الروي في النهاية، لأنها ضحية. وتُسجِّل حكايات الاغتصاب الحساسية الأعلى، إذا غالباً ما تكون روايتها هي الأصعب بين حكايات الحرب الأخرى.

في سرد التعذيب

في كتاب تسع عشرة امرأة: سوريات يروين (سمر يزبك، دار المتوسط، 2018)، تحتلّ شهادات الاعتقال المساحة الأكبر، فهوي يروي الكثير عن السجن والفظائع التي تُرتكب داخله، ويصفُها بدقة بهدف «تعرية الوجه الحقيقي للجلاد» على حسب تعبير المؤلفة يزبك، فداخل السجن يتمّ تشييء الجسد، ويُمسرَحُ التعذيب. وتتحدث الشهادات عن هذه المَسرَحة بتشابه فظيع، فالوسائل جميعها متاحة لتحطيم السجينة، وتفتيت إرادتها وكيانها، ودفعها إلى الرضوخ بإذلال لجبروت السجان الذي يمسك بخيوط الحياة والموت، السجان الذي يصبح بمثابة قَدَر يَصعُبُ الإفلات منه.

الراوية فاطمة، 27 سنة، من القنيطرة تروي عن أساليب التعذيب: «كانت جلسات التعذيب بالكهرباء، على رجلي بدايةً، وكان حلقي ينشف نتيحة صدمات الكهرباء، فيسقونني ماءً، ثم يعاودون التعذيب. لاحقاً، ونتيجة التعذيب، تمزق عندي الغضروف في ركبتي، وصارت حركتي صعبة، ولا أستطيع تحريك رجلي جيداً الآن. استمروا في التعذيب، ولم أعد أُبدي أي رد فعل، توقفتُ عن البكاء والصراخ، كنتُ لا شيء، ومحطمة ومذهولة من الاتهامات الموجهة إليّ».

عن التعذيب النفسي المركب وأثره على الذات، نقرأ في شهادة مريم حايد، طالبة علم نفس، يجبرها السجان داخل السجن على التأقلم مع اسم آخر: «قال لي: ما اسمك ؟ قلت مريم. فصفعني بعنف أكثر، وقال اسمك أميرة خليف. فصمتت. ضربني بعنف، ولطمني، ولبطني، فتراجعت السجينات مذعورات. منذ تلك اللحظة، لم أعد أُنادى إلّا بأميرة، وكلما كان السجان يناديني أميرة، كنت أقول لنفسي: لا تنسي… أنت مريم، أنت مريم حايد التي تريد سورية حرة ديمقراطية، أردد هذا الكلام مع تنفسي بصمت، وأنسى ما يفعلونه بي».

في سرد المجزرة

الشهادة الأخيرة في الكتاب، لفاتن، 24 سنة، تروي عن مُعايشة مجزرة: «عندما وصلت، رأيت أبشع منظر في حياتي، كنت قد رأيت الكثير من المجازر، ورأيت الجثث والفظائع، لكن منظر الطفلات الصغيرات وحقائبهن في أكتافهن وهنَّ مبتورات الأطراف، كان فوق احتمالي. صور لا يمكن أن تصفها اللغة. عدت إلى بيتي وثيابي تقطر دماء. انهرت، وشعرت بالعبث واللاجدوى، لقد كنت مديرة مدرسة، وأقود حملة من أجل التعليم والطائرات قتلت الكادر التعليمي والطلاب. ضحكت بهستيريا، وشعر أهلي بالخوف عليّ. بعد هذه المجزرة، فقدتُ قدرتي على التحكم بكمية الطعام التي أتناولها، وأصبت بإضطرابات هضمية. كانت اللحظة التي رأيت فيها طلابي قتلى ومبتوري الأطراف لحظة حاسمة. لقد فقدتُ نفسي، كنا نموت فقط. كل ما نفعله أننا كنا نموت، وكنت أموت معهم، ثم أعيش».

2- الراوي المجرم

مقابل تجربة الضحايا، يظهر كيف أن تجربة المعتدين أو مرتكبي الجرائم أثناء الحروب الأهلية أكثر صعوبة في الروي والسرد. هؤلاء نفذوا جرائم وأفعالاً يعجزون عن سردها بعد انتهاء العنف، لأسباب عدة. إمّا تهرباً من المسؤولية، أو لأن وعيهم الذي تشكل في زمن السلام يدلّهم على فداحة ما ارتكبوه زمن الحرب، أو لأنهم يخشون حكم المجتمع على البشاعة والشناعة وقسوة ما سيروون. لكن العجز عن الروي هو عقوبة المجرم، لأن الفن والأدب والتاريخ يبين أن الشعور بالذنب هو العقاب الأساسي لأي مجرم، ولا يمكن التحرر منه إلا ببذل الجهود للقيام بفعل الروي والاعتراف.

الذنب عقوبة المجرم

في المسرح اليوناني، أوديب شخصٌ يقتل أباه، ويتزوج من أمه وينجب منها. ورغم جهله وإقدامه على هاتين الفعلتين دون معرفة، فإنه لا يحتمل مقدار الذنب حين يُدرك الحقيقة، ويعاقب نفسه بأن يفقأ عينيه.

ماكبث لدى شكسبير يرضح لتحريضات زوجته، فيقتل دوق دنكن ويجلس على عرش اسكتلندة، لكن هلوساته ومخاوفه من فعلته تقوده إلى الجنون. إنه عقاب ذاتي، النموذج الأمثل له شخصية راسكالينكوف، في رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي، حيث كل المبررات العقلية والمنطقية تدفع راسكالينكوف لارتكاب جريمة قتل في الكتاب الأول من الرواية، وفي الكتاب الثاني تبلغ به هلوساته، وقلقه، وشعوره بالذنب، إلى تسليم نفسه للعدالة.

الاعتراف كفعل خلاص، كفعل روي

في فيلم الذنب (الدنمارك، 2018، غوستاف مولر)، آشغر هو ضابط شرطة مسؤول عن استقبال مكالمات الإنذارات العاجلة، النجدة، في القسم. قبل انتهاء يوم عمله، حيث عليه أن يحضر جلسة محاكمة قضائية في الغد، يستقبل اتصالاً من امرأة، ينخرط بكليته في إنقاذها، يعمل خارج سلطاته كموظف، وخارج سلطات مدرائه في قسم الشرطة، لمجرد إنقاذ إيبين، الأم التي يعتقدها ضحية.

في الثلث الأخير من الفيلم، يظهر أنه مخدوع، وأن المرأة ليست إلا مريضة عقلية يقودها زوجها إلى مشفى الأمراض العقلية. تعي إيبين اختلالها، وتقرر الانتحار من على الجسر، بينما هي مع آشغر على السماعة. فجأة، يروي آشغر حكاية ذنبه، لقد ارتكب جريمة مرةً عن عمد، وقتل فتى في التاسعة عشرة من عمره كان يزعجُه. بينما آشغر يروي حكايته لإيبين، تصل الشرطة وتتمكن من إنقاذها. هنا نجد قصة ملموسة تشرح كيف أن اعترافاً قد يكون سبباً لإنقاذ حياة.

الضحية واعتراف أو إنكار المجرم

في مسرحية الموت والعذراء (1991، أربيل دورفمان)، تلتقي باولينا، الشخصيةُ الرئيسية، بمن تعتقد أنه جلادها، د. ميراندا. خمسة عشرة عاماً مرت وباولينا لا تزال تحمل في ذاكرتها تداعيات التعذيب والاغتصاب في السجن حين اختطفها البوليس السري، عندما كانت طالبة في كلية الطب. يجعل اعتراف أو نكران د. ميراندا الجمهورَ يشكك بما تدعيه باولينا، وتبدأ رحلة البحث عن البراهين. بإنكاره المستمر، يقود د. ميراندا باولينا إلى استخدام العنف والتهديد باستعمال المسدس. هنا يجعل إنكار المجرم من الضحية هستيرية موهومة، أو عنيفة تسعى إلى الانتقام.

يروي لنا الأديب بورخيس ما حدث لأمهات الأرجنتينين المخطوفين قسراً، غير معروفي المصير، جرّاء الحكم العسكري الذي عرفته البلاد في 1975. استمرّت الأمهات بالتجمّع في ساحة مايو، مطالبات بالكشف عن مصير أبنائهنّ. كان على نظام الحكم البيروني الاعتراف، إلا أنه رفض، وقام بتوجيه خطاب للشعب مفاده أن هؤلاء الأمهات لم يكنَّ يملكن أولاد مسبقاً، وأنهنّ أمّهات واهمات، حتى أنه أطلق عليهنَّ تسمية الأمهات الواهمات، أو الأمهات المجنونات. هنا نرى كيف أن رفض المجرم للاعتراف، يَسِمُ الضحية بالوهم، بالمبالغة، بالكذب، وبالجنون، إن لم تحصل على حقها بالاعتذار.

في الفيلم اللبناني ليال بلا نوم (2012، إليان الراهب)، يبحث مسؤول المخابرات السابق في القوات اللبنانية، أسعد الشفتري، عن سبيل التطهّر ونيل الغفران على الماضي الدموي الذي انخرط فيه إبّان الحرب الأهليّة الطويلة. أمّا مريم السعيدي، فهي المرأة التي لا تتعب من الأمل الواهن في البحث عن ابنها الفتى الذي كان مقاتلاً في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، واختفى أثره في العام 1982. كلٌّ منهما يبحث عن خلاصه، هي من الألم وهو من الندم. ثمة عقدة أخيرة ومهمة في الحكاية، وهي أن مريم متأكدة أن أسعد يملك معلومات عن اختفاء ابنها، لأنه شارك في توقيفه أثناء الحرب، إلا أن أسعد وبعد عشرين عاماً، أصبح مستعداً للحديث عن كل ممارساته الوحشية، لكنه عاجزٌ عن أن يجيب مريم عن مكان أو حال ابنها. هذا مثالٌ آخر على أن الضحية قادرة على الروي بسهولة أكبر من المعتدي أو المجرم.

لا يمكن أن تنجح تجارب الفن في السلم الأهلي والتأهيل الإجتماعي، مع وجود رقابة. هذا النوع من الفن يشترط مساحة واسعة من الحرية، وتشتتاً كاملاً لحضور السلطة. في لبنان تُمنَعُ الأعمال الفنية التي تتناول الحرب في موضوعتها، لأن الحرب انتهت على مبدأ لا غالب ولا مغلوب. إذن، كيف يعالج المجتمع نفسه بالفن، والفنُّ معاق.

في فيلم شو صار (2011)، تأخذنا كاميرا المخرج ديغول عيد في رحلة عودة من فرنسا، إلى بيروت، إلى أحياء المجزرة. إلى منزل فقدان المخرج لعائلته، وإلى تلك الذكريات متداخلة العوالم. يتابع المتلقي مع المخرج رحلة العودة لإعادة روي ما حدث. في محاولاته لاستعادة سرد الماضي، يتعّرف المخرج – السارد على أحد المشاركين في الهجوم على منزله وقتل عائلته، ويحمل الكاميرا ليقابله. الفيلم مُنِعَ من العرض في الصالات اللبنانية، وخسرت التجربة اللبنانية فيلماً مميزاً في معالجة موضوعات الحرب، واستعادة السلام.

عن الاعتراف بالجرم

يتابع الفيلم الوثائقي بوباي القاتل (2017، بافيل بايديكوف)، حكاية جون فيلاسكيز بعد أن أمضى ثلاثة وعشرين سنة في السجن. كان فلاسكيز (بوباي) قاتلاً مأجوراً يعمل لصالح عملاق تجارة المخدارت في كولومبيا، إسكوبار، وقد اعترفَ أنه قتل أكثر من 250 شخصاً، وخطط لعمليات قتل أكثر من 2500 شخص من مجموع سجّل ضحايا مافيا كارتيل ميديلين، الذي يفوق 50000 ضحية.

بعد مغاردته السجن سنة 2015 بإطلاق سراح مشروط، أصبح بوباي مدوناً وناشطاً سياسياً، وصّرحَ أنه قد تاب عن أفعاله الإجرامية، وأنه يصرّ على أن يكون إنساناً سويّاً. استغلَّ الرجل شعبيته وشهرته ليترشح لمجلس الشيوخ في البرلمان الكولومبي، غير أن الدستور الكولومبي يمنع ذلك، ليقرر بعدها أن يكون ناشطاً سياسياً يبث فيديوهات عبر قناته على يوتيوب، التي يزيد متابعوها على 500 ألف شخص.

هو شخصية مشهورة الآن في أوساطه، وفي عموم البلاد، لكونه أشهر قاتل مأجور في تاريخ كولومبيا. المارّة يطلبون الصور بصحبته، النساء، الأطفال. لقد اعترفَ فلاسكيز، ثم قضى سجنه، وتابَ بعدها وتحوَّلَ إلى كائن قابل للتواصل، حتى أنه تصالح مع جرائمه لتصبح بالنسبة له رصيد شهرة.

يتابع الفيلم حياة بوباي الخاصة، ويسعى المُخرج لأن ينسق له لقاءات مع ضحاياه. الضحية الأولى أنثى بيدٍ صناعية جراء تفجير خطط لها فلاسكيز. لقد أصابها تشوّهٌ دائم بسببه، لكن في لقائهما الذي يجري التحضير له طويلاً، ويتمّ على مقعد في حديقة، يطلبُ مجرمُ الماضي السماح والصفح، ويحصل عليه بصدق في النهاية. الضحية الثانية فقدت أماً أو أباً بسبب عملية اغتيال نفذها فيلاسكيز، وهي ترفض فكرة لقاءه أمام كاميرا الوثائقي. الضحية الثالثة كاتبٌ صحفيٌ فقد والده في عملية تفجير طائرة كان القصد منها اغتيال أحد معارضي إسكوبار، لكنها أودت بحياة 107 ضحايا. كان هذا الصحفي لا يزال يشك بقدرة فلاسكيز على التوبة، ويكتب عن ضرورة إعادته للسجن. في اللقاء الأخير بين الصحفي وفلاسكيز، يعجز القاتل بوباي عن تمالك غضبه، يتحول عنيفاً، بل إنه كان راغباً بالمواجهة مع الضحية قبل أن يحاول التواصل للحصول على الصفح. ضحيةٌ واحدةٌ أخيرةٌ أوضحت عنف فلاسكيز الذي ما يزال كامناً في أسلوبه، وهكذا يساعدنا الوثائقي في رحلته على اختبار مقدار التوبة الحقيقة في أعماق فلاسكيز، الذي يعترف في نهاية الفيلم: «ما زال حمل السلاح خياراً مطروحاً في حياتي».

في العام 1965، أطاح الجيش بالحكومة الإندونيسية، واعتبرت الدكتاتورية العسكرية الجديدة أي معارض لها شيوعياً، وبالتالي يجب قتله. وخلال سنة، تمت تصفية وقتل ما يفوق المليون إندونيسي بتهمة الشيوعية. استعان الجيش حينها بالعديد من المجرمين كي يرتكبوا أعمال القتل.

بعد أربعين عاماً على المجازر، في فيلم فعل القتل (2012) يعود المخرج جوشوا أوبنهايمر ليقنع أنور كونغو، أحد قادة عصابات المرتزقة منفذي الإعدامات، بأنه يصنع فيلماً عنه، وبأنه سيوكل إليه مهمة إخراج الفيلم. أول مكان يختارّ أنور للتصوير هو المعتقل حيث كان يتم تعذيب السجناء. الآن، أمام الكاميرا يروي في باحة المعتقل أفعاله «البطولية» في التعذيب، وخلال 120 دقيقة يحاول أنور أن يُخرِجَ «بطولاته» تلك، وأن يروي سيرة حياته وهو قائد كتيبة مسلحة من المرتزقة. وبينما هو يروي بفخر، نكتشف مقدار الوحشية والقمع الذي تنطوي عليه شخصيته. كلما صور أنور القليل من فيلمه، كان يعيد مشاهدة اللقطات، ولقد استغرب أن أحداً لا يريد أن يلعب دور المُعذَّب، الضحية، المُعتقل. وكي يُعيدَ تجسيدَ حدث من الماضي، يطلب من أهالي إحدى القرى أن يهرعوا ويتحركوا كما لو أنهم كانوا فزعين. يبدو واضحاً أن أنور ليس واعياً نهائياً بمقدار الأذى الذي أحدثه في تاريخ أندونيسيا، وتاريخه.

في مقال بعنوان شبيحة أندونيسيا يتحدثون، يكتب المسرحي زياد عدوان عن فيلم فعل القتل: «لأن أنور وأصدقاءَه مولعون بالسينما الأميركية العنيفة؛ يقرّرون تمثيل أفعال القتل التي ارتكبوها بطريقة سينمائية، علماً أن أنور يملك قصصاً تفوق أفلام العنف ساديةً ودمويةً؛ قصصاً حقيقية، غير نابعة من الخيال. في تمثيلهم لمشاهد جرائمهم الرهيبة، يستخدم القتلة في البداية بعض الأدوات البسيطة. لكن بما أن طموحهم السينمائي كبير، يستحضرون الأزياء المناسبة والمكياج والكومبارس، كما يمثلون أدوار الضحايا وأهلهم، ومن ثم يعمدون إلى تقييم الأداء بعد كل مشهد».

القيمة الإستثنائية لفيلم فعل القتل، هي ما نراه من تأثير للفيلم نفسه على أحد شخصياته الرئيسية. بسبب صناعة الفيلم، يعي أنور مقدار الوحشية والإجرام الذي مارسه في ماضيه. كان الفيلم هو سبب هذا الاكتشاف. لكن ما هو الدليل على أن أنور بات يعي جرائمه؟

في المشهد الأخير نعود إلى المكان الأول الذي اختاره، معتقل التعذيب الذي دخلناه مع أنور بداية الفيلم، وكان يؤدي فيه بفخر عمليات تعذيبه. في نهاية الفيلم، حالما يخطو في باحة السجن، يخونه جسده، ويتقيأ. يشمئزّ من المكان ذاته الذي كان فخراً له. ها هو الفيلم يشكل وعياً لشخصيته التي يعالجها، ليس وعياً لاحقاً على الفيلم، وإنما وعياً مُبرهناً عليه في داخل أحداثه نفسها. حقّقَ المخرج أوبنهايمر عبر هذا الفيلم عملاً يجمع بين الفن كعلاج، والفن وحقوق الإنسان، وحقق إضافة مهمة لتاريخ السرد عبر الفيلم الوثائقي.

هذه نماذج فنية تتعامل مع موضوعات الجريمة، الذنب، الاعتراف، الروي. والهدف منها هو تشجيع المذنببن على الروي والاعتراف، لأن استمرارية شعور الذنب هي عقابٌ مستمر، ولأن المجتمع والضحايا يحتاجون هذا الاعتذار ليستوي في فكرهم المنطق. مهما بلغت جرائمكم، وأفعالكم من الوحشية والقسوة غير القابلة للتخيّل، فإن عدم مشاركتها هو فعل أكثر حمقاً من ارتكابها، لأن الجميع يحتاج أن يروي كي يستطيع الاستمرار.

موقع الجمهورية

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى