أبحاث

سوريا “الواحدة” على محك انقسامات تاريخية/ وضاح شرارة

 

 

يطمح المؤرخ الفرنسي ماتيو راي M.REY إلى كتابة تاريخ سوريا الحديث و”الملتهب” في ضوء عوامل عريضة ومديدة، اجتماعية وبيئية، سكانية وأهلية وسياسية، مثل انبعاث الأرياف حول المدن ولجم البدو المترحلين، وهجرات الدروز من لبنان إلى اللجا والسويداء في الجنوب السوري، أو نزوح أهالي الجبال إلى الأرياف السهلية وانتقال سكان السهل الى المدن. وتتخلل التاريخ السياسي ثورات وحروب وَلَدت، على قوله، دولة لابس استواؤها على هذه الشاكلة “الأزمة الثورية” والحرب الأهلية. وهي بلغت ذروتها في السنوات المنصرمة منذ 2011 في عهدة آل الأسد وانفرادهم بالسلطة (تاريخ سوريا القرن التاسع عشر- القرن الواحد والعشرين، دار فايار، باريس، 2018). وينبّه المؤرخ إلى توسل كتابه بمصادر تجمع المذكرات والصحف إلى الوثائق والمراسلات الديبلوماسية التي رفعت السرية عنها. والتنبيه يؤيد سعي الكاتب في التأريخ لجماعة سياسية تأتلف من جماعات وأقوام على نحو ما تأتلف من “رجال ونساء”. وهؤلاء يقيمون في “بلاد” أو أرض ويصنعون علاقاتهم فيما بينهم على هيئات ومثالات دون غيرها.

ويستعرض راي أدوار الجماعات والأقوام والبلاد التي ضوتها “سوريا”، منذ أن كانت “البلادَ السورية”- على ما سمى الفرنسي فولني (في العقد التاسع من القرن الثامن عشر) ولايات أو إيالات عثمانية توسطتها مدن كبيرة: طرابلس، حلب، دمشق وصيدا- إلى استواء حافظ الأسد في السلطة ووراثته حزب البعث وتوريثه ابنه، “الأسد الثالث” بعده وقيام “الشعب” عليه ووضع الدولة على مفترق طرق من جديد. ويتعقب طوراً أول أو مرحلة أولى يراها غير معروفة، شهدت في زمن واحد جوار جماعات متنافسة ومتنازعة هي العشائر والطوائف المذهبية وطوائف الحرف والدول أو أجهزة الولايات الإدارية والمالية والعسكرية.

ويذهب المؤرخ إلى أن المنافسة السياسية هذه هي نواة (“رحم”) سوريا المعاصرة. فهي تقتضي من كل مرشح للمنافسة تعظيم موارده في سبيل تجنيد قوة مسلحة تأتمر بأمره. ويستعمل النافذ القوة المسلحة في حماية “رأس ماله”، كان رأس المال هذا عوائد زراعة أم مرفأ أم “قلماً” – يجبي أصحاب التجارات، ونافذون آخرون مصدر مواردهم وظيفة مثل نقابة الأشراف أو ولاية قضاء تسعفهم في تقوية أواصر عصبية لقاء أجر أو خدمات. ولما كانت مراتب النفوذ المحلي بمنأى من سيطرة السلطان العثماني، انقلبت المدن مسرح منازعات حادة وكثيرة. وتولى النافذون المحليون حماية نواحيهم أو حاراتهم من غزوات العشائر. وفي سياق المنازعات الداخلية التي دامت نحو نصرف قرن، منذ العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر إلى الحملة المصرية في 1831، ودارت بين العصبيات المدينية، والقبائل، وعمّال السلطنة، تبلورت هويات آذنت بتعريف القوى والجماعات التي غلبت على الحياة السياسية السورية ولم تزل إلى اليوم.

بادية وحضر

وتنقسم البلاد أو الأراضي السورية وسكانها الى بادية وحضر. ويغلب البدو على معظم البلدان وتجمعهم الحرب في إمرة شيخ، وتنزل الحضر سبحة المدن التي تتوسط البلاد السورية بين حلب شمالاً ودرعا جنوباً وبينهما حماة وحمص ودمشق. وهذه القسمة هي سمة الاجتماع السوري الأولى، ومحور منازعاته وخلافاته البارز- وبين جبال طوروس شمالاً وشمال شبه جزيرة العرب تهاجر القبائل وتنزل مواضع تستجيب حاجاتها في الزرع والرعي والأمن. وشهد منتصف القرن الثامن عشر هجرة قبائل شمَّر من أواسط نجد إلى ضفاف جنوب الفرات، في البلاد السورية والعراقية، وطردها قبائل عنترة والرولّة من منازلها. واتفقت الهجرة الكبيرة هذه مع ظهور الحركة الوهابية، ثم بلوغها في 1803-1807 أطراف حوران. وتوطنت الأحلاف القبلية الكبيرة بادية تدمر وسهل الجزيرة، وبسطت سيطرتها على دير الزور، وحفت بحلب.

وغلبة القبائل وأحلافها على الشطر الأعظم من البلاد والأراضي، وعلى الطرق والمواصلات، لم تحل دون صدارة المدن السياسية. فالحل والعقد، وركنهما المفاوضة والعقد، من طريق الحاميات العسكرية والوالي والدفتردار والقضاء والمراتب الأهلية وطوائف الحرف وعصبيات الرعية، هما بيد المدن وأهاليها. وتتوسط الأرياف منزلتي المدن والبوادي. وتتولى المدن، وهذا من مهماتها الأولى، حماية الأرياف من هجمات البدو. وتعلو مرتبتها على قدر قيامها بهذه المهمة. وأحوال المناخ وتقلباته السريعة عامل بالغ الأثر في تقديم الرعي على الزراعة، وفي ترجيح الشعير على الحنطة الأولى (القمح)، وغلبة ملكية الارض الصغيرة على أراضي الزرع والملكية الواسعة على المراعي. وتقلصت أراضي التيمار (التمليك لقاء القتال وآلته) طوال القرن الثامن عشر إلى أن توارت.

وجُبيت الأراضي الأميرية أو السلطانية على نظام ضريبي جديد: فحلّ نظام المالكانه (الالتزام الدائم) محل نظام الالتزام السنوي، وأدى النظام الجديد إلى عقد أحلاف بين الولاة وبين الملتزمين من التجار، وحملت الأحلاف الولاة على رعاية استقرار ولايتهم. وبرز دور الجبال، وأهاليها، في هذا الوقت. ودعا اكتظاظ السكان في جبل العلويين وفقر زراعتهم الأهالي على الإغارة على السفوح والسهل، على نحو ما دعت الظاهرة نفسها دروز الشوف اللبناني الى النزوح إلى اللجا. فأضيف دور سياسي (عسكري ومحلي) على الأدوار الكثيرة والمتنازعة التي حفل بها المسرح السوري.

وتساس المنازعات بسياسة موازنات معقدة. وكان على حكام دمشق في ذلك الوقت، أي آل العظم، اليقظة على 3 جبهات: مدن الساحل جنوباً، والدروز غرباً، والبدو إلى الشرق. وهذا في كنف السلطنة، أولاً، ثم في كنف التوسع الأوروبي في المتوسط وترجيحه السواحل وموانئها على الداخل، وبعثه على زراعة القطن، وإضعافه السيطرة العثمانية المركزية على ولايتها (الحرب الروسية- العثمانية 1768-1774، والحملة الفرنسية على مصر 1798-1803).

وهذه الأدوار، والمسارح، وإلى حدٍ ما قواعد العلاقات (مبانيها)، يُراد لها أن ترهص بالتاريخ السوري اللاحق وحوادثه ومراجله المتعاقبة على شاكلة إرهاص النواة بالثمرة أو الثمار. ويخالف المثال التاريخي هذا، على رسومه وتقسيماته وأقطابه، النازع السوري الغالب إلى افتراض الوحدة “القومية” كامنة في الارض (البلاد) وفي الناس (الأهالي)، وملحة على السيرورات المرافقة. ويشهد الانعطاف الكبير الأول، مع حملة ابراهيم باشا المصري ابن محمد علي، بروز قوة إقليمية جديدة تسعى في مكافأة السلطان العثماني على أرضه، إذا جاز القول، وضم ولايات المشرق إلى الحجاز والسودان، ومصر أولاً. وترتب على هذه السياسة إخلال فادح بالنظام العالمي المولود من مؤتمر فيينا (1815)، غداة هزيمة نابليون، وبتبلور “جوق الأمم” الأوروبي الذي صاغ موازين العلاقات الدولية طوال القرن التاسع عشر.

وسمات الانعطاف المصري هي إرساء “عمارة السلطات” على الصورة التالية: جباية الموارد من غير انقطاع ولا هوادة واستثمار عوائدها الثابتة في بناء قوة عسكرية متماسكة، وتتولى هذه كسر الجماعات المحلية والانكشارية وتقويض استقلالها، وضبط نوازعها الطرفية “الانفصالية”. ويقتضي الاضطلاع بهذه المهمات والأدوار استمالة نخب المدن وإرساء نفوذها على مجالس محلية “منتخبة”، وتأمين الطرق، والسيطرة على الحيز البدوي بواسطة سلسلة قلاع و”قصور” تطوق الحزام البدوي العريض، وتربط حوض الفرات بالإطار المحدث. وبعثت ضريبة الفردة (على الرأس) نقمة النخب المسلحة، وحملت السلطان العثماني على مناشدة العلماء القيام على المصريين، “أعداء الإسلام”، وكافأت الانتفاضات الريفية والمدينية إجراءات تمكين القوة المركزية.

وأكملت الإصلاحات (التنظيمات) بعض ما بدأه المصريون. فحضن محور حلب – درعا زراعة القمح. واستقر السكن الريفي حول حلب على كثافة متعاظمة في أعوام 1840. ونزل ضفاف الفرات قريباً من مسكنة سكان من أصول بدوية. وامتد السكن إلى دير الزور. وأنشئ حصن ثابت في ديرالزور، وآخر في الرقة. وتدريجاً، برزت بيروقراطية سلطانية غلّبت المجالس على الولاة، ومثلت المركز بإزاء الأشراف والقبائل، وتولت قمع انتفاضات المدن على مساواة “أهل الذمة” بالمسلمين. وأفضى قمع هذه الانتفاضات (وأبرزها انتفاضة حلب في 1850) إلى إضعاف حلف الأشراف والقبائل و(بقايا) الإنكشارية. وتصدرت البيروقراطية الإدارية والعسكرية الناشئة للجماعات المذهبية المتمردة، فسحقت تمرد العلويين والدروز بلا رحمة، بينما أعلن اختيار خيري بك، وهو وجه محلي، قائمقاماً على بلاد العلويين حرص الإدارة المركزية على مراعاة القوم بعد قمعهم.

واستولى الأعيان، وهم ثمرة “صهر” (أو حلف من طريق القرابة والزواج) أسر العلماء والتجار وأصحاب المناصب العسكرية، على وثائق تملك الأرض عملاً بقانون 1858، وعزف صغار المزارعين ومتوسطهم عنها تفادياً لأداء رسومها. وأفضت حرب القرم (1853-1855) إلى إعلان خط همايوني نص على تقاضي المسيحيين أمام القضاء القنصلي أو القضاء المختلط. فتضافر ظهورهم في بعض الوظائف الإدارية مع استفادتهم من التقاء مرافق اقتصادية محلية بمصالح أوروبية عالمية، على “تجميد” الفروق والفواصل الطائفية. وترتب على هذا انفجار الاقتتال بين المسيحيين والمسلمين، منذ 1856، في نابلس وزحلة وديرالقمر وحاصبيا وراشيا ودمشق. فتشابك تدخل الدولة (العثمانية) مع التطييف. ونزعت النخب الاقتصادية، من مختلف المذاهب، إلى تجانس اجتماعي ركنه ملكية الأرض والثروة. وطويت صفحة منازعات “الغرضيات المحلية” وغلب الأعيان على الحياة العامة (فيليب خوري وألبرت حوارني) وتصدرها آل جبري وهنانو وقدسي ورفاعي وكيخيا وبكري… وشاركت المدنَ المكانة والدور السياسيين الاجتماعيين “بلاد” الجزيرة وديرالزور (خصت بإيالة في 1852) وتدمر، بينما أنجزت “السلطة التقنية” (يوجين روغان) مركز السلطنة.

وبلورت التقسيمات الإدارية، في 1864 و1867، عشية إعلان الدستور في 1876، مركزين، حلب ودمشق. وتولى الأول إدارة بلاد ومناطق بين ساحل اللاذقية وبين كيليكيا (الجنوب الأناضولي) والجزيرة. وعاد إلى الثاني تدبير الجليل والبقاع، إلى تدمر شرقاً، وحمص وحماة إلى الشمال. وخرج عن عهدة دمشق العثمانية سنجق القدس، ومتصرفية جبل لبنان التي استقطبت بيروت تدريجاً أنشطتها ومنازعها. وحرفت قناة السويس في 1869 طريق القوافل عن البادية السورية – العراقية إلى البحر الأحمر. وشُقت طرق مواصلات برية ربطت حلب بدرعا، وبيروت بدمشق، وحمص بالساحل، وحلب باللاذقية ومرعش وعينتاب ودياربكر، وبعد أعوام وصلت رياق بحمص وحماة، وحماة بحلب، وحمص بطرابلس، واخترقت محطات القطارات، في دمشق وحلب، الحارات القديمة وأنشأت أحياء سكن جديدة خارج المدينتين. وأرست مكاتب البرق المركز الإداري والسياسي على شبكة اتصالات عريضة. وتوسلت الرقابة على المطبوعات والرأي بهذه الشبكة على قدر ما كانت الشبكة عاملاً في مد الصحافة وتغذيتها.

ونجم عن ضعف الدولة الضريبية وضمور الجباية قصور السلطة عن الاضطلاع باحتكارها العنف المشروع، وعن توليها التأطير الأمني للبلاد. ولعل مصدر هذا القصور هو القيد القانوني على تدخلها في أمور الملكية العقارية، وعزوفها عن تسجيل الملكيات وإحصائها الدفتري. ولكن قوة القبضة العسكرية العثمانية، وانتشار الحصون في أنحاء الولايات السورية، حالا دون ارتقاء المعارضات المتفرقة إلى مرتبة الصف المتماسك. وانتهجت سلطات استانبول في سياسة المعارضات الأهلية والمحلية نهجاً قضى على تماسكها. فعمدت إلى انتخاب قادة حركات التمرد، مثل اسماعيل الأطرش الدرزي، مسؤولاً إدارياً على البلد الدرزي، وهو النهج الذي اعتمد مع العلويين ومع مشايخ القبائل من قبل ومن بعد. وأفضى إلى الجمع بين تثبيت العصبيات وتقويتها من وجه، وإلى إلحاقها بالسلطان وعماله من وجه آخر.

ووحدت محطة القطارات والساحة الجديدة على ضفتي بردى، على قول المؤرخ، عالم الأسواق وقافلة الحج. وتخطت المباني الحديثة أسواق المدينة القديمة، وانتشرت المحال التجارية على محورين. واستقبلت المقاهي شباباً متعلمين يتداولون أفكاراً غير أفكار آبائهم، ويلبسون ثياباً أوروبية، وتغشى النساء أماكن لقائهم. وخرجت المقاهي والمدارس والشوارع عن الرقابة الاجتماعية التقليدية، على ما لاحظ فخري البارودي. وشبكت حياة المدن “الأدب”، على معنيي التهذيب والثقافة، بنشدان فئة أو شريحة الشباب المتكاثرة تغييراً عاماً. وفي مطلع القرن الجديد، العشرين، استوت طبقة “الأفندية”، من المتعلمين وأهل المهن الحرة (المحاماة على الخصوص) المتحدرين من آباء موظفين وتجار وعلماء وحرفيين ميسورين، ظاهرة ومعلماً على بنيان اجتماعي ناشئ. ودمجت هذه الطبقة، “موقتاً” على قول الكاتب الحذر، روافد طائفية وقومية متباينة. وأفل دور القبائل مع عجزها عن قطع المواصلات الحديثة، وآخرها خط بغداد ومحطته الأخيرة في عين العرب (كوباني الكردية)، ومع تفادي المسافرين ديراتها بين تدمر والفرات.

وولدت صورُ التغيير هذه أسئلة عن طبيعة الأواصر التي تشد الأفراد بعضهم إلى بعض، والجماعات بعضها إلى بعضها الآخر. فذهب شكري العسلي ولطفي الحفار إلى إرساء الأواصر الجامعة على رابطة العروبة، حين رأى رشيد رضا وجمال الدين القاسمي أن عروة الإسلام أحرى بتولي الجمع والتوحيد. وألَّفَ “المركّب الحميدي”، نسبة إلى السلطان عبدالحميد، بين اتساع نطاق الدولة الى حدود التوطن المستقر ودوائر الزراعة وزيادة السكان، وبين القمع البوليسي والتمثيل الضريبي والدمج في الإدارة ومراكز القرار. وعلى هذا “دُوّلت سوريا”، أي رست مرافقها على أبنية الدولة. واستقبلت الانتداب الفرنسي وهي على هذه الحال.

 

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى