ثقافة وفكر

أصل الإرهاب وفصله/ خالد زيادة

 

 

ليس من السهل الخوض في نقاش حول مفاهيم مجردة، يثير بعضها تناقضات في وجهات النظر عند التعريف.  فمن هو المعتدل ومن هو الإرهابي؟ وكيف إذا كان البحث عن فرص تغليب الاعتدال على التطرف والإرهاب، خصوصًا أن الاعتدال هو أقرب إلى أن يكون موقفًا أخلاقيًا، بينما الإرهاب يشير إلى جماعات مسلحة مجردة حسب التوصيف من كل ما يمّت إلى الأخلاق بصلة.

ولكي نخرج من المعادلات المفاهمية والتعريفات المعجمية يجدر أن ننطلق من الواقع الراهن الذي املى طرح الموضوع على بساط البحث والنقاش. فقد شهدنا خلال السنوات السابقة ولا نزال صراعات تتسم بالعنف غير المسبوق يتهم أطرافها بعضهم بعضًا بالإرهاب. وشهدنا تطورًا لوساﺋل التدمير والقتل، وربما تكون وساﺋل الاتصالات المتطورة والسريعة قد أتاحت ما لم يكن متاحًا من قبل، كمشاهدة أفلام وشراﺋط مصورة تنقل مباشرة أعمال التدمير والحرق والاعدامات. كما شهدت السنوات القليلة السابقة بروز منظمات متشددة، كان ابرزها “تنظيم داعش” الذي احتل بسرعة قياسية أراضي في سوريا والعراق، واستولى على العديد من المحافظات والمدن ووصل إلى مشارف بغداد، الأمر الذي استدعى تكون ميليشيا “الحشد الشعبي”. نقلت إلينا الاشرطة المصورة مشاهد قوافل السيارات الموحدة اللون والموديل التي يملكها تنظيم داعش من دون أن يُقال لنا كيف عبرت الحدود ووصلت إلى الصحارى التي تتجول فيها بحرية من دون أن ترصدها وسائط الاستطلاع من كل الهويات والجنسيات. وسيطر تنظيم داعش على حقول النفط في الشمال السوري، وأصبحت دولته مصدرة للنفط الرخيص الذي تنقله السيارات المزودة بصهاريج إلى جهات مجهولة أو معلومة. ولأول مرة تعجز الأقمار الصناعية عن تحديد وجهة ناقلات النفط البرية.

ينسب تنظيم داعش نفسه إلى الاسلام. يؤكد ذلك وقوف أمير التنظيم على منبر مسجد النوري التاريخي في الموصل (ومـﺋذنته الماﺋلة التي دمرت لاحقًا خلال عملية طرد داعش) وألقى خطبة زودها بكل الآيات والاستشهادات ليعلن قيام دولة الخلافة. واستعرض التنظيم في تسجيلات مصورة ومتقنة عمليات إعدام وحرق وقطع رؤوس وغير ذلك في مشاهد عنف غير مسبوقة. وقد شهد تاريخ الاسلام في العصر الوسيط ظهور حركات أو جماعات نسبت إلى الإرهاب والتشدد مثل القرامطة في البحرين والحشاشين في شمال سوريا. وتاريخ المسيحية في عصر الاصلاح شهد حروبًا ضارية كما هو معروف. وهنا وهناك فإن الخلافات الدينية أو المذهبية هي التي تؤدي بأتباع الدين إلى التطرف حين تعتقد فرقة واحدة منها أو من طرفي الصراع أنها تملك الحقيقة المطلقة. ولكن الأديان ليست وحدها التي تظهر فيها جماعات او أطراف التشدد، فلو عدنا أقل من نصف قرن من الزمن، سنتذكر أن الارهاب كان ينسب إلى الجماعات الشيوعية أو الماركسية مثل “الألوية الحمراء” في ايطاليا و “بادر ماينهوف” في ألمانيا و “التوبا ماروس” في الارغواي و”الألوية الحمراء” في اليابان وغيرها من حركات اليسار الثوري. ولو عدنا أكثر في الزمن، إلى عشرينات القرن العشرين نجد أن الحركات القومية قد شهدت ولادة تنظيمات متطرفة مثل الحزب الفاشي في ايطاليا والحزب النازي في ألمانيا  اللذين مارسا الإرهاب قبل الوصول إلى السلطة وبعدها. وقد حكم كل من هذين الحزبين ايطاليا من 1923 إلى 1945، وألمانيا من 1933 إلى 1945، عند نهاية الحرب الحرب العالمية الثانية. وينبغي أن لا ننسى المنظمات أو العصابات الصهيونية مثل هاشومير والبالماخ والهاجانا، وكذلك الأرجون التي قادها مناحيم بيغن الذي أصبح لاحقًا رﺋيسًا لوزراء اسراﺋيل.

يمكن أن نأخذ اسرائيل مثالاً للدولة الارهابية، التي استخدمت كل أنواع الترهيب من الاغتيالات والقصف لتهجير الشعب الفلسطيني. وبالرغم من أن النظام في اسرائيل هو “ديمقراطي”، إلا أنه يقوم على العنصرية والهوية اليهودية. وهذا يعني أن الدولة يمكن أن تكون ديمقراطية وأن تكون عنصرية. وهذا لا يقتصر على اسرائيل. فنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كان يدّعي الديمقراطية، والدول الاستعمارية التي مارست شتى أنواع الارهاب في المستعمرات ضد أبناء البلاد الأصليين. واليوم تمارس الولايات المتحدة الأميركية باسم محاربة الارهاب أنواعًا مختلفة من الارهاب، وهي دعمت وتدعم اسرائيل في كل ممارستها الارهابية.

وإذا كانت أدوات وأساليب الجماعات الارهابية متشابهة في عمليات القتل والتهجير والتفجير والاغتيالات، فإن مرجعياتها ليست واحدة، وقد يكون المرجع  العقاﺋدي دينيًا أو فكريًا أو قوميًا يساريًا أويمينيًا.

ولكي نفهم آليات تشكّل الجماعات الارهابية، فإن المفتاح هو التعصّب ومنها العصبة والعصابة والعصبيىة، حسب مفهوم ابن خلدون. وفي زمن ابن خلدون كانت العشيرة أو القبيلة هي البيئة التي تظهر فيها العصبية، التي تنشد الاستيلاء على السلطة والوصول إلى الحكم.

وذكر ابن خلدون أن لا بد لكل عصبية من عقيدة دينية. وأظن أن آراء ابن خلدون لا زالت صالحة شرط تحديثها ونقلها من زمنه إلى زمننا. ففي عصره كانت العصبية عشاﺋرية ودينية. أما اليوم فإن العصبية التي تتشكل منها الجماعة قد تنشأ في بيـﺋة حزبية أو عسكرية، أو مذهبية طاﺋفية، ولم تعد العقيدة الدينية هي التي تشد أواصرها فحسب، فقد تكون عقيدة للعصبية قومية أو وطنية، يسارية أو يمينية، دينية مذهبية أو علمانية ملحدة.

يمكن ان  نذهب أبعد إلى زمن الثورة الفرنسية، فنجد أن الأكثر تطرفًا وراديكالية قد استأثر بالسلطة  ولو لوقت قصير. وعُرف عهد اليعاقبة باسم عهد الارهاب(1793-1794). وقال روسبير “ليس الارهاب سوى العدالة عاجلة صارمة وحازمة، فهو بالتالي ينبثق عن الفضيلة”.  وفي احدى تعليقاته يقول ماركس: “هناك طريقة واحدة يمكن من خلالها اختصار وتبسيط سكرات الموت القاتلة للمجتمع القديم ومخاض الولادة للمجتمع الجديد. وتلك الطريقة هي الارهاب الثوري”. ونعلم أن تروتسكي كتب عن الارهاب والشيوعية، والكتاب مترجم إلى العربية في دار دمشق للطباعة والنشر سنة 1963.

إن كل عصبة أو جماعة حزبية أو عسكرية أو دينية تتوسل العنف والارهاب للوصول إلى السلطة، وقد تكون الأعمال الارهابية التي تعتمد على الاغتيالات والتفجيرات تهدف إلى ترويع الخصم وتهجيره إذا أمكن. هذا ما فعله الفاشيون في ايطاليا والنازيون في المانيا، لكن الارهاب الحقيقي هو الذي تمارسه العصابة أو الحزب أو الجماعة بعد الاستيلاء على الحكم. حينها يصبح العنف والارهاب منهجيًا ووسيلة داﺋـمة لتوطيد السلطة إذ يصبح الاستئثار بها هو الهدف ولا شيء سواه. وحسب حنة أرندت في كتابها التوتاليتارية: “فإن الدولة التوتاليتارية لا تمثل شعبًا وإنما هي الشعب نفسه، وبما أنها مشاركة في وجود الأمة فإنها ليست بحاجة إلى أي شرعية. وليس هناك من قانون يعلو عليها. فهي مركز السلطة وإرادتها وهي القانون. ولأن الإدارة السياسية لا يمكن أن تكون سوى إرادة شخص واحد، فإن السلطة كلها تذوب في شخص القاﺋد الذي يعتبر تجسيدًا للشعب وليس ممثلاً له”.

في كتابها تأخذ حنة أرندت مثلين، الستالينية والنازية كنظامين شموليين أداتهما الأساسية الإرهاب. ضد الأعداء ومن هنا تصبح صناعة الأعداء مهمة دائمة، والبحث عنهم وسجنهم وقتلهم. وأعداء الداخل للنظام الآحادي الاستبدادي هم أخطر من عدو الخارج. لذا يتم ارهابهم وترويعهم حتى تهجيرهم والقضاء عليهم. هجّر هتلر اليهود وغيرهم، وأجبر ستالين التتار على مغادرة بلادهم وهجرهم من جزيرة القرم إلى سيبيريا وأوزبكستان في آسيا الوسطى.

تطهرت أوروبا من الإرث النازي والفاشي بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقد خلفاء ستالين ما ارتكبه عهده من ارهاب أودى بحياة ملايين الروس، إلا أن الوجه الآخر لأوروبا، وهو الوجه الاستعماري الذي أستمر في ارهابه حتى بداية ستينات القرن الماضي في الجزاﺋر والكونغو.

لا أريد هنا أن أثير كل هذه الذكريات. ولكن ينبغي أن ندرك أنّ الارهاب في الأساس هو ارهاب الدول استعمارية وغير استعمارية، التي تشجع الانقسامات وتدعم تيارات دينية وغيرها على حساب تيارات أخرى في البلدان التي كانت تحت سيطرتها.

أعتقد أن كلمة روبسبير التي أوردناها أعلاه، وكذلك توصيف حنة أرندت للارهاب، تفسر لنا آليات التفكير الارهابي، وينطبقان على منطق كل أشكال وأنواع الارهابيين.  فإذا اعتبر روبسبير الارهاب في نهاية المطاف هو التعبير الأسمى عن الفضيلة، فهذا يقتضي أن يعتقد بأن ما يؤمن به هو الحقيقة المطلقة. وهذا يعني تحويل الفكر الذي يعتنقه إلى أيديولوجية تمثل الحقيقة، وكل ما عداها هو كفر أو انحراف أو خيانة أو باطل. عند الإرهابيين الذين ينطلقون من العقيدة الدينية، يشكّل التكفير أقرب السبل إلى نفي الآخر. ولهذا فإن الأعداء الأشد ضراوة هم الذين ينتمون إلى العقيدة نفسها أو إلى مذهب مغاير. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة كيف خاض التكفيريون حربًا ضد تكفيريين آخرين.

أما الأنظمة الاستبدادية العلمانية، قد لا تختلف في ذلك. فقد فتك ستالين برفاق الحزب باسم الانحراف والخيانة. وكذلك فعل هتلر حين قضى على الذين كانوا وسيلته إلى بلوغ السلطة والذين مارسوا الأعمال الارهابية القذرة ضد الشيوعيين واليهود، والذين كانوا يعرفون باسم القمصان البنية وزعيمهم روهم. وليلة السكاكين الطويلة شهيرة في تاريخ النازية، ليستبدلهم بالقمصان السود الأشد ارهابًا وفتكًا.

واحدة من المشكلات التي نعيشها هي تسييس الاسلام الذي بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر حين دعا السلطان عبد الحميد الثاني إلى حشد المسلمين في “الجامعة الاسلامية”، لمواجهة التغلغل الأوروبي. وحين دعا جمال الدين الأفغاني المعاصر للسلطان عبد الحميد إلى وحدة المسلمين لمواجهة الصليبية الجديدة المتمثلة بالانكليز الذين أرادوا فناء هذا الدين حسب تعاميم  مجلة “العروة الوثقى”.

وقد يكون موقف السلطان عبدالحميد الثاني وكذلك الإمام الأفغاني مفهومًا في نهاية القرن التاسع عشر حين لمسا وشاهدا كيف تقضم الدول الأوروبية الأراضي التابعة للدولة العثمانية وتحتل الولايات والبلاد الاسلامية في آسيا وأفريقا، فكانت دعوة إلى شد أواصر المسلمين وتنبيههم إلى مخططات الدول الغربية.

ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف استخدام الاسلام في السياسة. إن في الدعوة إلى إقامة الدولة الاسلامية، وإن في الدعوات إلى مجابهة أفكار الغرب. إن هذا التسييس للدين أتاح استخدام الدين في الصراعات الدولية. عند نهاية الحرب العالمية الثانية رأت الولايات المتحدة الأميركية إن الوقوف بوجه انتشار الأفكار الشيوعية والحد من نفوذ الاتحاد السوفياتي بتشجيع الاتجاه الاسلامي المناهض للأتاتوركية في تركيا. ومن المفارقات أن دول أوروبا قد هللت حين اختار مصطفى كمال العلمنة الراديكالية في تركيا، بينما شجعت الولايات المتحدة الأميركية الاتجاه الاسلامي ليس فقط في تركيا، ولكن في جعل تركيا رأس الحرية في حلف اسلامي (حلف بغداد 1956) ضمّ أيضًا العراق وايران. وتواصل دعم الولايات المتحدة الأميركية للأحلاف الاسلامية في مواجهة العروبة والاشتراكية، وكانت الذروة في الحرب الافغانية حين دعمت الفصاﺋل الاسلامية ضد النظام الشيوعي في افغانستان، والوجود العسكري السوفياتي. وقد ساهمت بعض الدول العربية ليس فقط بتسهيل وصول ما عرف آنذاك باسم “المجاهدين العرب”،  ولكن بالدعم المالي أيضًا. وإذ تخلت الولايات المتحدة الأمميركية عن الفصاﺋل المسلحة انقلبت عليها، وكان الاعتداء الارهابي في 11 أيلول 2001، وشنت الولايات المتحدة الحرب على افغانستان بذريعة محاربة الارهاب ثم على العراق بذراﺋـع  أخرى. فوجدت دول اقليمية الفرصة سانحة لدعم جماعات استخدمت كل أنواع الارهاب لزعزعة العراق وتدمير دولته ومجتمعه.

لست بحاجة لسرد كل الوقاﺋـع الدامية منذ 15 سنة وحتى اليوم. ولكننا بحاجة إلى تصويب النقاش حول الارهاب ومن الذي دعم وشجع نمو الجماعات المتطرفة باسم الدين من أجل محاربة الارهابيين والتكفيريين.

إن الارهاب في الأساس هو ارهاب العصابيات الحزبية والعسكرية والمذهبية التي استولت على السلطة في هذا البلد أو ذاك، والتي لا تكتفي بارهاب مواطنيها بكل وساﺋـل البطش والعنف والاخفاء والتهجير والقصف، بل أنها تعمد إلى صناعة ودعم وتسهيل تكوّن الجماعات الارهابية لتصنع العدو الذي تدعي محاربته.

بعد أن استعرضنا العديد من الأمثلة والوقائع حول الارهاب، لا بد من التساؤل عن أصل الارهاب؟

يذهب بعض المحللين والدارسين، الذين يدهشون أمام أفعال الارهابيين والمتشددين من كل صنف، إلى  البحث عن الأسباب التي تدفع كائنًا ما إلى ارتكاب مثل هذه الأفعال، فهل الدافع غرائزي أم طبقي، أم أنه خاص بجماعة من عرق أو دين أو من المهاجرين أو اللاجئين. كل ذلك جائز في التحليل، إلا أنه لا يذهب إلى أصل الارهاب.

إن مصدر الارهاب هو الأفكار وبمعنى أدق العقائد والايديولوجيات التمامية والخلاصية، حين تتحول إلى دعوة خاصة بجماعة أو عصبة تدّعي أنها تمتلك التفسير الصحيح والوحيد للعقيدة. وقد رأينا ذلك في بدايات الاسلام مع الخوارج الذين كفّروا كل المخالفين لعقيدتهم. وبالرغم من أن الاسلام يدعو مثل سائر الأديان إلى التسامح والتكافل والرأفة والمحبة والحنو على المساكين والضعفاء، بل أن الاسلام امتاز بقبوله المختلف بالعقيدة وتعايش مع اليهودية والمسيحية كما هو معلوم.

وبالرغم من أن الأديان تدعو إلى الخير والمحبة والتسامي، فقد رأينا ارهابًا من جماعات انتمت إلى اليهودية والمسيحية والاسلام وكذلك إلى البوذية والهندوسية.

وتمتلك الأديان في مجمل تعاليمها على ما يحصّن المؤمن من الانحراف إلى ما يشذ عن السلوك القويم الذي تنطوي عليه كل عقيدة. ويمكنني أن أتحدث عن مفهوم “الوازع” في الاسلام، والذي هو بمثابة المانع الداخلي عن ارتكاب المعصية، وكذلك مفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. والآية القائلة:” أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”. وكذلك فإن الأحاديث النبوية تحّض على رفع الأذى مثل: ” لا ضرر ولا ضرار” والذي يعني رفع الضرر بالنفس والاضرار بالغير. وقد اجتهد الفقهاء في تحرير مقاصد الشريعة وحددها الإمام الشاطبي في خمسة مقاصد، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

من هنا مهمتان رئيسيتان. الأولى منوطة بالمؤسسات الدينية الرسمية التي عليها أن تجتهد لتوضيح حقيقة الاعتدال في الاسلام. وذلك بتنقيح مناهج التعليم الديني، وتبيان أن  جوهر الدين هو الرحمة ورفع الأذى عن النفس والآخر. والمهمة الأخرى تتجاوز المؤسسات الدينية، إذ على الباحثين والدارسين أن يكشفوا مدى الأذى الذي لحق بالاسلام منذ أن استخدم في السياسة. أي في الدعوات التي تزج الاسلام في معارك الداخل والخارج، والتصدي للمؤسسات والحركات السياسية التي تدعي الاسلام وينتسب إليها الفتية الذين يظنون أن هذا هو الاسلام. كما أن المطلوب هو الكشف عن أن الاسلام يُستخدم من جانب جهات دولية واقليمية لتنفيذ أغراض سياسية في خضم الصراعات التي تشهدها دولنا.

ثمة ميل للاعتقاد اليوم بأن الارهاب يأتي من معتقدات تنتمي إلى الماضي. إلا أن ما يضفي تعقيدًا على موضوع الارهاب، هو أن الحداثة قد فاقمت الارهاب. يقول رامون غروسفوغل الاستاذ في جامعة باركلي والمتحدر من أصل بورتوريكي، أنه من المستحيل فصل الحداثة الأوروبية عن الاستعمار، فمع الحداثة نشأت النظريات العنصرية التي اعتبرت أن السكان الأصليين في أمريكا وأفريقيا ليست لهم روح. وقد ترافق نشوء الحداثة مع الاسترقاق وإبادة الشعوب واستعمارها وسرقة ثرواتها وتراثها. وبغض النظر عن الأبحاث التي ترجع الفكر الحديث إلى أصول دينية، يجدر أن نذكر نصًا قصيرًا كتبه المفكر الألماني والتر بنيامين عام 1921، ونشر للمرة الأولى عام 1985، تحت عنوان: “الرأسمالية بوصفها دينًا”، يقول: “الرأسمالية دين تعبدي محض، وقد تكون أكثر من تعبدي على الإطلاق.  فلا شيء فيها يكتسب أهميته من دون أن يكون في علاقة مباشرة بالعبادة، ولا عقيدة فيها ولا لاهوت. من هنا تكتسب النفعية صبغتها الدينية. فقد جعلت الانتاج والبورصة والربح طقوسًا دينية، وبهذا المعنى فإن الرأسمالية التي تزامنت مع الحداثة من دون فصل واحدة عن الأخرى، أصبحت دينًا عالميًا سعى إلى الانتشار في كل أرجاء العالم، بل واكتشف قارات كانت مجهولة. وفي سبيل التوسع والانتشار استخدم كل أساليب الارهاب”.

ومع تطور الرأسمالية نشأ الفكر الحديث، وإلى رينيه ديكارت الفرنسي الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر تُنسب أبوة الفلسفة الحديثة القائمة على العقل. وهو من قال العبارة الشهيرة: “العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر”. ويمكن استخدام العبارة ضد العنصرية التي تفشت مع الرأسمالية في استعمارها القارات والأمم في أمريكا، كما يمكن أن نعتبر العبارة أساس المساواة التي تحدث عنها فكر الأنوار في القرن الثامن عشر، وأساس الديمقراطية، وفي نهاية القرن السابع عشر دعا جون لوك إلى فصل السلطات إثر الثورة الانكليزية التي أطاحت بالملكية المطلقة. وأشير إلى ذروة الفلسفة الحديثة مع الفيلسوف الألماني أمانويل كانط الذي أسس الأخلاق على أسس عقلية مستخدمًا مفهوم “الواجب” الذي هو أقرب ما يكون إلى مفهوم الوازع.  إلا أن الفكر الحديث المؤسس على العقل والتسامح وفصل السلطات لم يمنع من نشوء النزعات الفلسفية التي أسست للإنحرافات القومية والطبقية التي ولدت من رحم الرأسمالية.

في زمن الحرب الباردة، كانت الأنظمة الرأسمالية الغربية تدّعي أن الاستبداد والارهاب يقوم في العالم الاشتراكي خلف الجدار الحديدي. لكن انهيار المنظومة الاشتراكية، وغياب الايديولوجيات الكبرى، تكشف أن العالم المعاصر محكوم بدين المنفعة الذي أشار إليه ماكس فيبر في “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، وأوضحه فالتر بنيامين في صفحاته الأربع المكثفة التي عنونها: “الرأسمالية بوصفها دين”. وهي أكثر الأديان ارهابًا على مرّ العصور ، وهي التي تصنع الارهاب لتحاربه في جملة حروبها للسيطرة على العالم.

ضفة ثالثة

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى