مقالات

ما زلت أبكي مع القصيدة/ كريم عبد السّلام

نعم، ما زال هناك من الشّعراء من يبكي وهو يقرأ الشِّعر، قصائده أو قصائد غيره من الشّعراء، ربّما لأنّ القصائد عادة ما تكون مرتبطة بمواقف عاطفيّة ونفسيّة، تحمل شحنتها وذكرياتها ولا تستطيع الأيّام والسّنون أن تسلبنا إياها، الأيّام والسّنون تمرّ علينا نحن الشّعراء فتبدّل أحوالنا ومشاعرنا وأمزجتنا ومواقفنا وأفكارنا، لكنّ القصائد تشبه لحظة متجمّدة من الزّمن بكلّ ما اشتمل عليه من توهّج أو برودة، وعندما نعود إليها تعترينا الأحوال القديمة التي كنّا عليها بفعل قوّة ما.

أذكر مثلاً أنّني ياما بكيت مع قصيدة “المعلّم” للشّاعر العراقي الرّاحل يوسف الصّائغ، وهي من القصائد التي ما زالت محبّبة إلى قلبي وأحفظ كثيراً من سطورها:

“هي سبّورةٌ عرضُها العمرُ تمتدُّ دوني..

وصفٌّ صغيرٌ بمدرسةٍ عندَ “باب المعظّمِ”

والوقتُ.. بين الصباحِ وبين الضّحى

لَكَأنّ المعلمَ يأتي إلى الصفِّ محتمياً، خلفَ نظارتيْهِ،

ويكتبُ فوقَ طفولتِنا بالطباشيرِ، بيتاً من الشِّعرِ: من يقرأُ البيت؟

…..

قلتُ: أنا اقرأُ البيتَ، يا سيّدي

ونهضتُ..

ولكنّني، لفرْطِ المحبّةِ، أخطأتُ في النّحوِ..

فاسودّ لونُ الطباشيرِ،

واحمرّ لونُ المعلّمِ،

وامتلأَتْ وجنتايَ بحبّ الشّباب”.

كلّما استعدت هذه القصيدة ليوسف الصّائغ أبكي مع بكاء المعلِّم ومع نبوءته “سيأتي زمانٌ.. وأُشغَلُ عنه وأنتم ستبكونَ”، وأبكي من قدرة الصّائغ على حشد الشّجن العراقي فى كلمات القصيدة البسيطة التي تلفّ الوطن بحروفها وتعلي رايته برهافة وحرفية.

قدرة الشّاعر على الإمساك بالعلاقة الإنسانيّة بين المعلِّم وطلّابه، خاصّة معلِّم اللغة العربيّة، كان يثير لديَّ كما يثير لدى كلّ الشّعراء، ذكرى معلِّمي اللغة العربية الذين ساعدونا ونحن نتلمّس الخطى الأولى على أرض الشِّعر، نتعثّر وننهض بفعل تلك الأيدي العزيزة التي كانت ترعى فينا جذوة الموهبة.

أذكر أيضاً أننّي بكيت مع ديوان “الرّسولة بشعرها الطّويل حتى الينابيع” لأنسي الحاج، وكانت حبيبتي “زهرة” تطلب منّي دائماً أن أقرأ لها مقاطع من الدّيوان، وكلّما غصت في الكلمات طفرت دموعي وهي تبتسم:

“يدي يدٌ لكِ ويَدُكِ جامعة.

حَسَرْتِ الظّلَّ عن شجرة النَّدَم

فغسل الشتاءُ نَدَمي وَحَرَقه الصّيف.

أنتِ الصغيرة كنُقطة الذهب

تفكّين السّحر الأسود

أنتِ السائغةُ اللّينة تشابكتْ يداكِ مع الحُبّ

وكُلّ كلمةٍ تقولينها تتكاثف في مجموع الرّياح

أنتِ الخفيفةُ كريش النعام لا تقولين تعال،

ولكنْ كُلّما صادَفْتُكِ كُلَّ لحظةٍ أعودُ إليكِ بعد غيابٍ طويل

أنتِ البسيطةُ تبهرين الحكمة

العالمُ تحت نظركِ سنابل وشَجَرُ ماء

والحياةُ حياةٌ

والفضاءُ عربات من الهدايا”.

من بين أعمال الشّاعر أنسي الحاج، يظلّ هذا الديوان الأقرب إلى قلبي، ليس فقط لعذوبته

“مضت بنا الأيام دون أن ندري أن مشاعرنا وأحلامنا ستظل هناك بين سطور القصيدة في تلك اللحظة التي توغل في الابتعاد عنا يوماً بعد الآخر”

وشاعريته المتوهّجة، ولا لأنّه كان نقطة تحوّل في مسار صاحبه، بل لأنّ هذه القصيدة/ الديوان بالأساس، جزء أصيل من أيام شبابي الأوّل، فقد تعلّمت منها المحبّة كما تعلّمت منها الاعتذار عن السّطوة والغرور والزّيف، تعلّمت منها الركوع لحبيبتي كما أيقنت فيها بالحزن المصاحب للغرام، لأنّ الغرام ينتهي ولا يبقى إلا شبح الحزن شاهداً على عجزنا عن تثبيت الحياة بحوزتنا. حبيبتي طلبت منّي مرّة وهي في بلدها البعيد أن أسجّل لها القصيدة، ولم أنجح فى تسجيل القصيدة بنبرة صوت محايدة بل صاحبت كلماتها دموعي:

“يا حبيبتي

أُقسِمُ أنْ أكون لُعبتكِ ومغلوبكِ

أُقسِمُ أنْ أحاول استحقاق نجمتكِ على كتفي

أُقسِمُ أنْ أسمع نداء عينيكِ فأعصي حكمةَ شفتيكِ

أُقسِمُ أن أنسى قصائدي لأحفظكِ

أُقسِمُ أن أركض وراء حبّي وأُقسم أنّه سيظلّ يسبقني

أُقسِمُ أن أنطفىء لسعادتكِ كنجوم النهار

أُقسِمُ أنْ أسْكُن دموعي في يدكِ”.

لا أستطيع أن أستعيد هذه القصيدة الآن، دون أن تتداعى إلى ذهني الأيام الضائعة منّي، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، قوّة الحبّ وتقلّبات الزّمن، النّزق والتّهوّر والليالي التي أقسمنا فيها على مواجهة العالم، والقرارات الخاطئة والمضي في طرق الحياة المتشعّبة، والمتاهات التي غرقنا فيها بحثاً عن أنفسنا وعن طريقنا المختار.

لا أستطيع أن أستعيد هذه القصيدة بدون حمولة الذّاكرة وارتباطها بالشظايا المتناثرة من حياتي، كل مقطع فيها مرتبط بموقف، بلحظة مشتعلة، بقبلة، بعناق، بألم، فقد تركنا بين سطورها دفقات من مشاعرنا وأحلامنا، ومضت بنا الأيام دون أن ندري أن مشاعرنا وأحلامنا ستظل هناك بين سطور القصيدة في تلك اللحظة التي توغل في الابتعاد عنا يوماً بعد الآخر.

الرّسولة بشعرها الطّويل حتى الينابيع

أنسي الحاج

يدي يدٌ لكِ ويَدُكِ جامعة.

حَسَرْتِ الظّلَّ عن شجرة النَّدَم

فغسل الشتاءُ نَدَمي وَحَرَقه الصّيف.

أنتِ الصغيرة كنُقطة الذهب

تفكّين السّحر الأسود

أنتِ السائغةُ اللّينة تشابكتْ يداكِ مع الحُبّ

وكُلّ كلمةٍ تقولينها تتكاثف في مجموع الرّياح.

أنتِ الخفيفةُ كريش النعام لا تقولين تعال،

ولكنْ كُلّما صادَفْتُكِ كُلَّ لحظةٍ أعودُ إليكِ بعد غيابٍ طويل.

أنتِ البسيطةُ تبهرين الحكمة

العالمُ تحت نظركِ سنابل وشَجَرُ ماء

والحياةُ حياةٌ والفضاءُ عربات من الهدايا.

أيُّها الرّبُّ

احفظْ حبيبتي

أيُّها الرّبُّ الذي قال لامرأة: يا أمّي

احفظ حبيبتي

أيُّها الرّبُّ إلهُ جنودِ الأحلام

احفظْ يا ربُّ حبيبتي

مَهِّدْ أمامها

تَعَهَّدْ أيّامها

مَوِّجْ حقولها بعُشب الخيال

اجعلْ لها كُلَّ ليلة

ليلةَ عيدِ الغد

أيُّها الرّبُّ إلهُ المُتواعدين على اللّقاء وراء جسر الحُرّاس

أيُّها الرّبُّ إلهُ الخواتم والعُقود والتنهّدات

يلتمسون منكَ طعامهم

وألتمسُ منك لحبيبتي البَرَكة

يلتمسون منكَ لديارهم وما من ديارٍغير حبيبتي

شاطئي أطرافُ بَحْرِها وبحرُها أمان

يذهب الناس الى أعمالهم

ومن حبّها أذهبُ إليك

هي تعمل فتجري أنهاركَ في قِفاري

هي تنظر فأراكَ

هي تعمل فاتأمّل في معجزاتكَ

تنتهي لهم الأرض عند أعمدة البحر

وتنتهي لي بحدود قدميها.

يا حبيبتي

أُقسِمُ أنْ أكون لُعبتكِ ومغلوبكِ

أُقسِمُ أنْ أحاول استحقاق نجمتكِ على كتفي

أُقسِمُ أنْ أسمع نداء عينيكِ فأعصي حكمةَ شفتيكِ

أُقسِمُ أن أنسى قصائدي لأحفظكِ

أُقسِمُ أن أركض وراء حبّي وأُقسم أنّه سيظلّ يسبقني

أُقسِمُ أن أنطفىء لسعادتكِ كنجوم النهار

أُقسِمُ أنْ أسْكُن دموعي في يدكِ

أُقسِمُ أن أكون المسافة بين كلمتَي أُحبّكِ أحبّكِ

أُقسِمُ أن أرميَ جسدي الى الأبد لأُسودِ ضجركِ

أُقسِمُ أنْ أكون بابَ سجنكِ المفتوح على الوفاء بوعود الليل

أُقسِمُ أنْ تكون غرفةُ انتظاريَ الغَيْرة ودخوليَ الطاعةَ وإقامتي الذوبان

أُقسِمُ أنْ أكون فريسة ظلّكِ

أُقسِمُ أنْ أظلّ أشتهي أنْ أكون كتاباً مفتوحاً على رِكبتيكِ

أُقسِمُ أنْ أكون انقسام العالم بينكِ وبينكِ لأكون وحْدَتَه فيكِ

أُقسِمُ أنْ أُناديَكِ فتلتفت السعادة

أُقسِمُ أنْ أحمل بلاديَ في حُبّكِ وأنْ أحمل العالم في بلادي

أُقسِمُ أنْ أحبّكِ دون أن أعرف كم أُحبّكِ

أُقسِمُ أن أمشي الى جانبي وأُقاسمكِ هذا الصديقَ الوحيد

أُقسِمُ أنْ يطير عمري كالنّحل من قفير صوتكِ

أُقسِمُ أن أنزل من برقِ شَعْرِكِ مطراً على السهول

أُقسِمُ كُلّما عثرتُ على قلبي بين السّطور أن أهتف:

وَجَدْتُكِ! وَجَدْتُكِ!

أُقسِمُ أن أنحني من قمم آسيا لأعبدكِ كثيراً.

يا ليلُ يا ليل

احملْ صلاتي

اصغِ يا ربُّ إليّ

اغرسْ حبيبتي ولا تَقْلَعْها

زوّدها أعماراً لم تأتِ

عزّزها بأعماريَ الآتية

ابقِ ورقها أخضر

لا تُشتِّت رياحها

ابقِ خيمتها عالية فعُلوُّها سهلٌ للعصافير

عَمِّرْها طويلاً كأرْزَة فتمرّ مواكب الأحفاد تحت يديها الشّافيتين

عَمِّرْها طويلاً كأرْزَة فتجتازأُعجوبتُها مراكزَ حدودٍ بعيدة

عَمِّرْها طويلاً كأرزةٍ فتتبعها مثل توبتي شُعوبٌ كثيرة

ابقِ بابها مفتوحاً فلا يبيتُ الرجاءُ في العراء

بارِكْها إلى ثلج السنين فهي تَجْمَعُ ما تَفَرَّق

احرسْ نجوم عينيها فَتَحْتَها الميلاد.

وها هو المَطَر

المداخنُ تَصعَد لاستقبال المجيء.

تُمطر من قُبلة.

السماءُ أطلّتْ

الأرضُ الصبيّة أرْبَتْ

المواسمُ تعلو

اسمعوا دقّة الحصاد

المملكةُ المُنقسمة اتّحدتْ

تاجُها الحُبّ سلامٌ للمملكة.

المُستحيل صار معيشة.

تُمطر من قُبلة

والمنفى ينهار

انفضوا على المنفى غُبارَ المنفى

وتعالَوا

من أعماق اليأس ومشارف الصقيع

من أطلال الأماني ورماد الصبر

تعالَوا

صِيروني كما صِرْتُكُم

أنا شفّافكم

أنا مَنْ سَقَطَكُم ومَنْ نَجَاكُم.

حبيبتي كَشَفَتْ عن الضائع

دلّتْ على المفقود

الرسولةُ فازتْ بعُذوبة

بشفَقة فازتْ على القُوّات

وتَشْهَدُ تُعلنُ العودة.

تعالَوا

المملكة مفتوحة

أسرابُ الحساسين عند باب المملكة تُسْرع للتحيّة

على بُعْد قُبلة تقفون من الباب

الكنوزُ وحيدة

الأرضُ وحيدة

الحياةُ وحيدة

تعالَوا

كلَّلوا رؤوسكم بذَهَب الدخول

واحرقوا وراءكم

احرقوا وراءكم

احرقوا العالَمَ بشمس العودة.

#أغنيك حبيبي، كلمات: أنسي الحاج، غناء:هبة القواس، عن قصيدة :الرسولة بشعرها الطويل

حتى الينابيع :

والشِّعر إذا أبكى..

عماد فؤاد

 نافذة أسبوعية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا – يُبكي أحداً؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلاً بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟

في كلّ حلقة سنلتقي ضيفاً ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.

هنا شهادة الشاعر والصحافي المصري كريم عبد السلام:

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى