ثقافة وفكر

اليسار التركي: النشأة والصراع مع القومية والإسلام السياسي/ أحمد زكريا

 

 

 

لعلّ من أكثر الأخطاء شيوعاً في النظرة العربية السائدة إلى الأوضاع في تركيا، افتراضُ أن ما وصلت إليه تلك البلاد في العقدين السابقين، بالمقارنة مع بلادنا، ناتجٌ عن جهود حزب العدالة والتنمية وحده (الذي حققّ نقلة نوعية في مجالات عدة دون شكّ)، وتجاهلُ عقود من العمل لأحزاب وحركات ساهمت بشكل تراكمي في هذه «النقلة»، وعلى رأسها اليسار التركي.

وقد شهد تاريخ اليسار التركي خلطاً كبيراً من قبل كثير من الباحثين العرب، وخصوصاً خلال تناول حركة «تركيا الفتاة»، التي عُرفت بعد ذلك بـ «جمعية الاتحاد والترقي»، والمعروفة بدورها الفاعل في إسقاط عبد الحميد الثاني، آخر سلطان عثماني مارس الحكم فعلياً. وربما يكون السبب وراء ذلك الخلط المستمر حتى الآن، التعامل مع «العلمانية» كمظلة واسعة تضم الليبراليين واليساريين معاً.

لكن المتابع لتلك المرحلة سيلاحظ أن الإنتلجنسيا العثمانية التي خرجت منها «تركيا الفتاة» تأثرت بالأفكار الليبرالية، واصطدم هؤلاء بسياسات عبد الحميد بعد تعطيله العمل بالدستور وإغلاقه البرلمان عام 1878 (وقد استمر مغلقاً لثلاثين عاماً). وقد تم اعتقال بعض أعضاء هذه الحركة وهرب آخرون إلى عدة مدن، من بينها باريس، حيث أسسوا هناك صحيفة ناطقة باللغتين العثمانية والفرنسية لمهاجمة السلطان، متأثرين بأفكار المثقف الفرنسي اليميني غوستاف لوبون.

على أي حال، لم تكن هذه الحركة قريبة من الأفكار الاشتراكية أبداً، حتى أن بعض الباحثين اليساريين الأتراك عبّروا عن دهشتهم من عدم انجذاب شباب «تركيا الفتاة» نحو الاشتراكية أثناء وجودهم في باريس، رغم نمو الحركة الاشتراكية في فرنسا آنذاك. كما ينبغي أيضاً إعادة النظر في تسمية «ليبرالي» التي استخدمتها تركيا الفتاة لوصف نفسها، لأنها لم تكن حركة ديمقراطية. إذ على الرغم من أنها كافحت كثيراً من أجل إعادة العمل بالدستور وفتح البرلمان مرة أخرى، إلا أنها كانت في مجملها حركة أرستقراطيين رجعيين، سعوا لمحاكاة الأرستقراطية البريطانية في دورها في بناء الإمبراطورية.

تَشكُّل اليسار التركي

بلا شك، كانت ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 مصدر إلهام لأصحاب التوجه اليساري من الأتراك، سواء داخل الدولة العثمانية أو خارجها، الذين كانوا في ذلك الوقت مجرد مجموعات متفرقة تحاول مواجهة تمدد الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى. وتعد تلك المجموعات نواة للحزب الشيوعي الذي سيتم تأسيسه بعد ذلك.

المجموعة الأولى، «مجموعة روسيا»، التي شكّلها مصطفى صبحي مع رفاقه (صدر قرار بنفيه في فترة الاتحاد والترقي وهرب إلى روسيا عام 1914). والمجموعة الثانية تكونت من العمال الأتراك في ألمانيا، الذين تأثروا بالحركات العمالية هناك، وبعد عودتهم أسسوا «مجموعة اسطنبول». وبانضمام مجموعات مشتتة من اليساريين الأتراك في الأناضول إلى هاتين المجموعتين، تم تشكيل الحزب الشيوعي الأول، الذي اختير مصطفي صبحي رئيساً له في المؤتمر الأول عام 1920، في العاصمة الأذربيجانية باكو.

قرر صبحي مع أربعة عشر من رفاقه العودة إلى الأناضول للمشاركة في حرب الاستقلال، وقد رأى الشيوعيون آنذاك إمكانية التعاون مع مصطفى كمال باعتباره عدواً للإمبريالية، قبل أن يسمّوا ما فعله أتاتورك بعد ذلك بحركة «التحرر الوطني البرجوازية».

استمر ظهور الحركات اليسارية في الأناضول في النصف الأول من عشرينيات القرن العشرين، فنشأت جمعية «الجيش الأخضر»، التي أُسِّست من أجل مواجهة نشاطات «جيش الخلافة» الذي يروّج للسلطان، وازدادت قوتها بعد انضمام مجموعات مقاتلة من الشركس إليها، فقام أتاتورك بحلّها. ثم أُعيد تأسيسها فيما بعد من قبل راديكاليين تحت اسم «عصبة الشعب»، كما أسَّسَ مؤيدو مصطفى صبحي في أنقرة حزب «الشعب الاشتراكي».

كل ذلك دفع أتاتورك إلى اللجوء لسياسة أخرى لوقف نمو الحركات اليسارية، فأمر بإنشاء حزب يساري يرأسه أحد المقربين منه؛ لتشتيت اليسار من ناحية، ولكسب ود السوفييت الذين تحالف معهم آنذاك ضد الإمبريالية (يظهر ذلك في رسائل الودّ الشهيرة بين لينين وأتاتورك)، ثم قام بسحق «عصبة الشعب» وحل حزب الشعب الاشتراكي. وعندما حاول صبحي دخول الأناضول عبر طرابزون، أُغرق في مياه البحر الأسود مع مؤسسي الحزب الشيوعي.

تُعد حادثة إغراق صبحي ورفاقه من الموضوعات الخلافية في تاريخ اليسار التركي القديم، إذ أن صبحي من الشخصيات الأسطورية عند اليسار التركي (فقد ساهم في نشر الأفكار الشيوعية بين ستين ألفاً من سجناء الحرب الأتراك في روسيا)، ويعتقد الشيوعيون حتى اليوم أن قتلهم كان بأمر من أتاتورك شخصياً.

الإيديولوجيا «الكماليّة» ودولة الحزب الواحد

استقرت الأمور بعد ذلك تماماً لأتاتورك، وأُعلن عن تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، وبدأت الخلافات مبكراً حول السياسات التي يجب أن تتبناها تركيا الجديدة. وفي المؤتمر الاقتصادي التركي الأول الذي عُقد في مدينة إزمير، أكد أتاتورك في خطابه على أهمية الاستقلال الاقتصادي بعدما تمّ إنجاز الاستقلال السياسي. كان الهدف من ذاك المؤتمر حسم الخلاف بين اختيار السياسات الليبرالية من جهة وتدخّل الدولة في برنامج الاقتصاد الوطني من جهة أخرى. وأعلن أتاتورك عن اتّباع بلاده مدرسة اقتصادية جديدة، ليست رأسمالية ولا اشتراكية. كان برنامجاً بلا ملامح واضحة، لكن السياسات الاقتصادية في عشرينيات القرن العشرين اتبعت بشكل عام خطّاً ليبرالياً قائماً على الملكية الفردية.

بمجرد إعلان أتاتورك عن قانون «الحفاظ على النظام» عام 1925، ودخول تركيا رسمياً مرحلة دولة الحزب الواحد، لم يعد هناك معارضة شرعية فاعلة. أُغلقت كل الصحف والدوريات المعارضة، ومنحت الحكومة صلاحية إغلاق أي صحيفة تنشر أي شيء يتعارض مع «السياسات العامة للبلاد». ورغم معاهدة الصداقة التي أجراها أتاتورك مع البلاشفة، إلا أن صحيفة جمهورييت التركية نشرت عام 1927:

«إن حكومة أنقرة تُجاهر علناً بأن المعاهدة التي تربطها بالاتحاد السوفييتي هي سياسية بحتة، ولا تريد أنقرة بوجه من الوجوه قبول التعاليم الشيوعية التي تنشرها حكومة موسكو، وذلك لأن ليس للشيوعية في تركيا مكان، ولذلك فإننا نمنع نشر تعاليمها بين الشعب التركي».

ووصلت الدعاية الأتاتوركية ضد الشيوعيين في هذه المرحلة إلى ذروتها، حتى بلغ الأمر حظر نشر كلمات مثل «طبقة» و«بروليتاريا» في الصحافة.

كانت الأفكار التي شكّلت ما يعرف بـ «الأتاتوركية» امتداداً لإيديولوجيا تركيا الفتاة، القائمة على تفسير العلمانية ليس على أنها فقط الفصل بين الدولة والدين، وإنما إزاحة الدين من الحياة العامة أيضاً، بالإضافة إلى أن أتاتورك كان مضطراً لتكوين هويّة قومية جديدة، تحلّ محل الدين. لذلك لم تعرف المرحلة الأتاتوركية مصطلح «الطبقة» بالمفهوم الأوروبي، وفي مؤتمر الحزب الحاكم عام 1931 تم التبني الرسمي لفكرة «الدولانية» كسياسة اقتصادية جديدة، إلا أن الملكية الخاصة بقيت قاعدة الحياة الاقتصادية.

تُعد مسألة توزيع الأراضي من أكثر المسائل الشائكة التي طُرحت بقوة منذ العام 1930، وأحدثت خلافات كبيرة داخل حزب الشعب الجمهوري الحاكم. لكن حزب الشعب الجمهوري لم يتخذ أي قرار فعلي بخصوصها، ولم يحسم أتاتورك أمر هذه المسألة، التي يبدو بوضوح أنها لم تكن على قائمة أولوياته كما كان مشروع «العلمنة».

رحل أتاتورك عام 1938، وحلّ محلّه عصمت إينونو، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، ومع ازدياد قلق المعسكر الرأسمالي من سياسات ستالين، قررت الولايات المتحدة تقديم الدعم لتركيا. وقد وجدَ إينونو نفسه مضطراً لاتخاذ إجراءات تجعل النظام التركي أكثر ديمقراطية بدلاً من سياسة الحزب الواحد، وهو ما استغلّه اليساريون الذين حُظرت أحزابهم طوال عقدي العشرينيات والثلاثينيات، فقاموا بتأسيس عدة أحزاب، أبرزها الحزب الاشتراكي الذي أسسه عادل أوغلو وتم إغلاقه في عام افتتاحه نفسه، كما أعاد الشيوعي القديم شفيق حسني دامر تأسيس حزب العمال والفلاحين الاشتراكي من جديد.

عادت مسألة توزيع الأراضي مرة أخرى إلى البرلمان، لكن الخلافات حولها كانت أكثر حدة هذه المرة، وكان من أبرز المعارضين لقانون توزيع الأراضي، عدنان مندريس (كان نائباً آنذاك عن حزب الشعب الجمهوري، وهو ابن عائلة من كبار ملاك الأراضي في محافظة أيدن التركية) بدعوى أن إعادة توزيع الأراضي ستقضي على الاستثمارات. وتم اعتماد القانون بالفعل، لكنه لم يُنفّذ، وفور اعتماده أصدر مندريس بياناً رافضاً لهذا القانون، قائلاً إن عصمت إينونو يريد أن يجعل تركيا صورة من الاتحاد السوفييتي، فتم فصله من الحزب، ليؤسس مع جلال بيار وآخرين الحزب الديمقراطي.

حتى ذلك الوقت لم يكن بين حزب الشعب الجمهوري والحزب الديمقراطي خلافٌ على المسائل الأساسية للدولة التركية، كمسألتيّ القومية والعلمانية، وقاما بشنّ حملات موسعة لمكافحة الشيوعية، واتهما بعضهما بعضاً بالتراخي مع الشيوعيين. وتعد حادثة اقتحام جريدة تان اليسارية أبرز حدث في تلك السنوات، حين قامت مجموعات من الطلاب القوميين المتأثرين بمقالات صحافة حزب الشعب الجمهوري باقتحام مكاتب الجريدة ومطابعها.

كان الحدث كبيراً إلى درجة أن بياناً وُجّه من السوفييت إلى الحكومة التركية وقتها، مضمونه أن هذا الحدث تم ترتيبه من قبل الحكومة التركية، وهو يُعد اعتداءً على الاتحاد السوفييتي وليس على الصحيفة فقط. أُغلقت جميع الصحف والمجلات اليسارية بعد ذلك، ومُنعت الترجمة من الروسية إلى التركية بين عامي 1946 و1948، واستمرت حملات اعتقالات واغتيالات اليسار، التي راح ضحيتها الكاتب والروائي اليساري المعروف صباح الدين علي.

المثير للدهشة أن حكومة إينونو، التي وعدت بالتعددية الحزبية، وصلَ بها الذعر من شبح الشيوعية إلى حد تعاونها مع عدوها التقليدي القديم المتمثل في الإسلاميين لمواجهة اليسار، وكان اليمين التركي يعتمد في حملات تشويهه لليسار على تقديمه كعدو للدين، وخصصت مجلة سبيل الرشاد الإسلامية عام 1949 عدة مقالات بعنوان: «جبهة الدين والأخلاق لمواجهة الشيوعية»، وتم تصوير الأمر على أنه إذا هُزمت الشيوعية في تركيا فسوف تُهزم في كل العالم الإسلامي.

عدنان مندريس ومؤسسات مكافحة الشيوعية

بعد فصل عدنان مندريس وجلال بيار واثنين آخرين من حزب الشعب الجمهوري عام 1945، أسّس هؤلاء الحزب الديمقراطي، الذي تبنّى اقتصاد السوق الحر منذ البداية، وخاضوا من خلاله انتخابات عام 1946 ضد حزب الشعب الحاكم، لكنهم حصلوا على 62 مقعداً فقط. واستمرّ الصراع بين الحزبين حتى حسمه مندريس وجماعته في انتخابات عام 1950، التي فاز فيها الحزب الديمقراطي بأغلبية ساحقة. وفور وصوله إلى الحكم باشر بتنفيذ سياسات ليبرالية، اعتمدت بشكل أساسي على الدعم الأمريكي، وهو ما عجّل بصدامه مع اليسار التركي.

تُعدّ السنوات العشر لحكم مندريس، المرحلة الأبرز لاندماج تركيا في النظام الرأسمالي العالمي، ولم يكن ذلك على المستوى الاقتصادي فقط، بل شمل السياسات الخارجية أيضاً، إذ أصبحت تركيا في عهده جزءاً أساسياً من البنية العسكرية للمعسكر الرأسمالي في حصاره للسوفييت أثناء الحرب الباردة. وقد شهدت السنوات الأولى من حكم حزب مندريس تقدماً اقتصادياً ملحوظاً، بفضل المساعدات الأمريكية الاقتصادية والعسكرية التي تدفقت إلى تركيا.

عمل مندريس على تنفيذ «الروشتة الأمريكية» بحذافيرها، فأصدر قانوناً لتشجيع الاستثمار الأجنبي في تركيا، إلا أن البرجوازية التركية ظلّت مترددة في الاستثمار بالقدر الذي رغب فيه الحزب الديمقراطي. ويرجع ذلك بشكل أو بآخر إلى التوتر الناتج عن استياء المؤسسة العسكرية (التي اعتبرت نفسها المسؤول الأول عن إرث أتاتورك العلماني) من سياسات مندريس، خصوصاً بعد خطابه الشهير الذي قال فيه: «لقد قمنا بتعريب الأذان، وقَبِلنا بالتعليم الديني في المدارس وسمحنا بتلاوة القرآن عبر الراديو. إن تركيا دولة مسلمة وسوف تبقى كذلك».

أدّت تحالفات مندريس الدولية والإقليمية إلى انتقاده بشكل مستمر من قبل اليسار التركي؛ ففي عام 1950 لم تكن تركيا عضواً في حلف الناتو، لكنها أرسلت قوات عسكرية إلى كوريا الجنوبية للوقوف إلى جانب قوات الأمم المتحدة ودول حلف الناتو، وهي الورقة التي استطاع مندريس أن يربح بها عضوية الناتو رسمياً عام 1952، وسط اعتراضات من اليساريين في بلاده، وعلى رأسهم الشاعر التركي الأشهر ناظم حكمت، الذي كتب شعراً صار متداولاً في تركيا حول إرسال الجنود الأتراك إلى كوريا.

توِّجت علاقة مندريس بالولايات المتحدة بإقامة قاعدة أضنة عام 1954، وهي قاعدة عسكرية جوية أمريكية، أُقيمت بالقرب من مدينة أضنة التركية (تغيّر اسمها الآن إلى قاعدة إنجرليك). أما على مستوى تحالفات مندريس الإقليمية، والتي تسببت أيضاً في صدامه مع اليسار التركي، فقد عقد مندريس معاهدة تعاون ودفاع مشترك عام 1955 مع المملكة العراقية في ظل حكم نوري السعيد، وهو ما عُرف بـ«حلف بغداد» لمواجهة معسكر السوفييت، وكانت حكومة مندريس تعتبر جمال عبد الناصر في مصر عميلاً للسوفييت.

أسَّسَ عدنان مندريس أول مؤسسة لـ«مكافحة الشيوعية» في تركيا عام 1950، وأُغلق حزب العمال والفلاحين الاشتراكي، واعتُقل رئيسه شفيق حسني دامر والعديد من أعضائه، وبدأت حملات تشويه لليسار، وبالأخص للشاعر ناظم حكمت نظراً لتأثيره آنذاك، إذ اتُّهم بإبعاد الشباب التركي عن دينه، ففر حكمت إلى موسكو، وقام الحزب الديمقراطي الحاكم بسحب الجنسية من الشاعر المعروف. وفي 1951 قام مندريس بإصدار قانون «التوقيفات»، وشهد هذا العام موجة اعتقالات كبيرة لليسار، وحوكم مئة وسبعة وثمانون يسارياً في محاكم عسكرية.

ولعل من المفارقات المثيرة للدهشة، أنه بالرغم من تباهي مندريس بعدد المدارس الدينية التي فُتحت في عهده وتعريبه للأذان وما إلى ذلك، إلا أن حزبه كان دائم الاتهام للمعارضة بتهمة استخدام الدين في السياسة. ففي عام 1954، أسّس حكمت كيفيلجملي حزب الوطن اليساري (ليس حزب الوطن الذي خاض انتخابات عام 2018) وسط حملات اتهام اليسار بمعاداة الدين، وكتب عدة مؤلفات لتوضيح أن أفكار حزبه غير معادية للدين. وفي عام 1957، خطب كيفيلجملي خطاباً شهيراً أمام مسجد السلطان أيوب في اسطنبول بحضور أعداد كبيرة من المسلمين المحافظين، محاولاً التوفيق بين الإسلام والاشتراكية، وتم اعتقاله وإغلاق الحزب بعد هذا الخطاب الشهير بتهمة خلط الدين بالسياسة.

لم يثق الحزب الديمقراطي بالمؤسسة العسكرية طوال سنوات حكمه، بسبب الروابط الوثيقة بين كبار ضباط الجيش ورجال النظام القديم. ومنذ منتصف الخمسينيات كانت المؤامرات تُدبّر بالفعل داخل بعض دوائر الجيش، وفي عام 1957 تم كشف محاولة انقلاب، وحوكم تسعة ضباط متورطين، فقام مندريس بإنشاء لجنة من قبل مجلس النواب للكشف عن الروابط بين حزب الشعب الجمهوري والجيش، والتحقيق في أنشطة المعارضة بشكل عام، وهو ما اعتبره أساتذة القانون في جامعات اسطنبول وأنقرة عملاً غير دستوري.

كان من المفترض أن تُصدر اللجنة تقريراً بنتائج تحقيقاتها خلال مدة ثلاثة أشهر، إلا أن مندريس أعلن أن اللجنة أنهت أعمالها في شهر واحد، وقبل أن يكشف مندريس عن هذه الروابط بين ضباط الجيش ورجال النظام القديم، كان الجيش قد تحرك سريعاً واستولى على السلطة، مستغلاً أعمال الشغب التي رافقت المظاهرات الطلابية الواسعة التي خرجت احتجاجاً على تدهور الأوضاع الاقتصادية، وعلى الإجراءات التأديبية التي اتُّخذت بحق الأكادميين بسبب عملهم السياسي.

ولأن ذاك الانقلاب كان موجهاً ضد تيار اليمين، فإنه ليس من الصعب تخمين أن اليسار التركي قد شارك أنصار حزب الشعب الجمهوري، ومعهم شريحة كبيرة من المثقفين الأكاديميين، فرحتهم الجماهيرية العارمة في صباح السابع والعشرين من أيار/ مايو 1960، عندما أعلنت القوات المسلحة التركية استلامها إدارة البلاد، واعتقال رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار وكل وزراء ونواب الحزب الديمقراطي. وهكذا أصبحت السلطة في أيدي «لجنة الوحدة الوطنية»، وعلى رأسها الجنرال جمال جورسال، الذي كان القائد الظاهر للانقلاب، بينما كان الكولونيل ألب أصلان تركش قائد اللجنة الفعلي.

بدأت عمليات تطهير واسعة داخل المؤسسة العسكرية بإحالة مئتين وخمسة وثلاثين جنرالاً وحوالي خمسة آلاف مقدم ورائد إلى التقاعد، ثم تم استدعاء خمسة أساتذة قانون وكُلِّفوا بوضع دستور جديد، وأعلنوا أن الهدف من ذلك هو منع احتكار السلطة كما فعل الحزب الديمقراطي والشعب الجمهوري من قبله، وقد تم قبول الدستور الجديد في الاستفتاء بنسبة 61.7 بالمئة.

رُفع الحظر عن الأنشطة السياسية، وأصبح من حق الأحزاب الجديدة التسجيل في الانتخابات التي ستُعقد في العام التالي 1961. وقد كان حزب العدالة برئاسة راغب غوموش بالا أبرز هذه الأحزاب، وهو امتدادٌ لحزب مندريس، الذي تم إعدامه مع وزيري المالية والخارجية عام 1961 بعد محاكمات هزلية. تلخصت أهداف الحزب في محاولة إعادة العسكريين المفصولين إلى مناصبهم، والإفراج عن المعتقلين من الحزب الديمقراطي. وخاض الحزب انتخابات 1961 لكنه حصل على 158 مقعداً في البرلمان، وفاز حزب الشعب الجمهوري  بـ173 مقعداً.

حزب العمال، «مفرخة» الحركات اليسارية

يُعدّ حزب العمال التركي الذي أسسه محمد علي آيبار عام 1961 مع عدد من النقابيين، أول الأحزاب اليسارية الراديكالية التركية التي تشارك في الانتخابات. ويعتبره كثير من المحللين الأتراك بمثابة «المفرخة» لحركات يسارية عديدة ستتشكل في عقد الستينيات في تركيا. وقد ضمّ حزب العمال كوادر سابقة من الحزب الشيوعي المحظور، وانتشر بشكل واسع بين طلاب الجامعات.

فاز حزب العدالة برئاسة سليمان دميرال في انتخابات 1965، واتبع دميرال السياسات نفسها التي كان يسير عليها مندريس في مواجهة الشيوعية، حتى أنه أعلن في حملته الانتخابية أنه نظراً لأن 98 بالمئة من الأتراك مسلمون، فإن الشيوعية ليس بإمكانها دخول البلاد. واستطاع دميرال جذب شرائح كبيرة من الإسلاميين والمحافظين، وتحالف مع الحركة النورسية، وهي جماعة صوفية تستند إلى تعاليم الشيخ سعيد النورسي.

وما بين عامي 1966 و1967 تعرضت الأحزاب والحركات اليسارية لضغوط كبيرة، فتم فصل عدد كبير من الأكاديميين وطلاب الجامعة ومحاكمة مترجمي الأدبيات اليسارية (هناك حادثة شهيرة لمحاكمة مترجم بسبب ترجمته لكتاب من القرن الثامن عشر!) وتراجع نفوذ الحزب الشيوعي كثيراً في تركيا بسبب دعم أعضائه الكامل لسياسات السوفييت، خصوصاً بعد اعتراض عدد كبير من اليساريين الأتراك على سياسات ستالين.

بالتأكيد، لم يكن نمو اليسار الملحوظ في الستينيات محصوراً بتركيا فقط، لكن احتجاجات الطلاب في فرنسا، التي هزّت حكم الجنرال ديغول، كان لها أثر كبير على الحركات الطلابية في تركيا. إذ نشأت في كل الجامعات التركية جمعيات للنقاش السياسي، وكانت جامعة العلوم السياسية في أنقرة مركزاً مهماً لإعداد الكوادر اليسارية، وكان للبروفسور صادون آرن أثر كبير في ذلك، وهو أحد قادة حزب العمال. وتعد صحيفة الاتجاه اليسارية من أبرز الصحف التي عبّرت عن آراء هؤلاء الطلاب، إلى جانب صحيفتي الثورة والأنوار بعد ذلك.

أطروحات يسارية وانقسام حزب العمال

كان الخلاف الأساسي بين دوائر اليسار التركي في عقد الستينيات يتمحور حول تحديد المرحلة التاريخية التي تمر بها تركيا، وبالأخص موضوع دور الجيش في أيّ ثورة محتملة. كان محمد علي آيبار والكوادر الأساسية لحزب العمال يرون أن تركيا أصبحت مؤهلة لثورة اشتراكية بخطوات ديمقراطية، من خلال تزايد الوعي الطبقي لدى العمال، فقاموا بإنشاء اتحاد فيدرالي للنقابات العمالية.

المجموعة الثانية داخل حزب العمال، التي أطلقت على نفسها اسم «الثورة الديمقراطية الوطنية» وعلى رأسها ميهري بللي، رأت أن تركيا دولة ذات خصائص إقطاعية، وأن دور البروليتاريا في التغيير يكاد يكون أمراً مستحيلاً، وأنه لا سبيل إلى التغيير إلا بالتحالف مع المثقفين من ضباط الجيش. وقد سيطرت هذه المجموعة على جمعيات النقاش السياسي بحلول عام 1968، وأصبحت تعمل تحت اسم منظمة «الشباب الثوري».

الأزمة الثانية التي شهدتها صفوف حزب العمال، جاءت بعد غزو السوفييت لتشيكوسلوفاكيا، حين أدانته مجموعة محمد علي آيبار، واعترضت المجموعة الأخرى على هذه الإدانة.

التوجه نحو «الكفاح المسلّح»

منذ أواخر الستينيات قرر بعض الراديكاليين من مجموعة «الشباب الثوري» أن الحراك السلمي لم يعد كافياً، وأن «الكفاح المسلّح» هو سبيل الثورة الوحيد. وقد أفرزت هذه المجموعة عدة حركات مسلحة، بعض القياديين فيها كانوا متأثرين بالماركسية اللينينية، مثل دينيز جيزميش الذي أسّس «جيش تحرير الشعب التركي»، وماهر تشايان الذي أسّس «جبهة تحرير الشعب التركي»، بينما تأثر إبراهيم كايباك كايا بالماويّة، وأسّس «جيش تحرير العمال والفلاحين الأتراك».

وقد خرجوا جميعاً من رحم منظمة «الشباب الثوري»، بعد أن خابت آمالهم بفكرة التحالف مع ضباط الجيش المثقفين، وبدأوا بعمليات حرب مدينية واسعة مع الجيش التركي. وكانت مجموعة دينيز جيزميش (يُعرف في الأوساط اليسارية التركية بغيفارا تركيا، والتحق بمعسكرات تدريب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الأردن باسم «محمد علي») هي الأبرز بين أجنحة الحركات اليسارية آنذاك. وقد شاركت هذه الحركات في المظاهرات العارمة التي اجتاحت اسطنبول، احتجاجاً على زيارة الأسطول السادس الأمريكي لتركيا عام 1968.

ارتبطت هذه الحركات بشكل كبير بالنقابات العمالية، وشهدت تركيا في تلك المرحلة العديد من الإضرابات العمالية. وفي يومي 15 و16 حزيران/يونيو 1969، وهو من أبرز تواريخ الانتفاضات العمالية التركية، قام ما يقرب من مئة ألف عامل بمظاهرات ضخمة في اسطنبول وأنقرة، حتى أن عدداً كبيراً من رجال الأعمال الأتراك هربوا إلى خارج البلاد خوفاً من ثورة اشتراكية. واكتسبت أسماء دينيز جيزميش وماهر تشايان وإبراهيم كايباك كايا طابعاً أسطورياً بين النقابات العمالية ودوائر اليسار التركي.

وفي أوائل العام 1971، كانت تركيا تعيش مرحلة حرب الشوارع بين الحركات اليسارية واليمينية على حد سواء، وأصبحت حكومة دميرال عاجزة عن وقف العنف. وفي آذار/ مارس، قام رئيس الأركان العامة للجيش بإنذار رئيس الوزراء بضرورة إنشاء حكومة قادرة على إنهاء الفوضى والعودة إلى روح «الكماليّة».

وكان اليمين التركي قد شهد في أواخر الستينيات تغييرات جذرية أيضاً، بانتخاب البروفسور نجم الدين أربكان رئيساً لاتحاد غرف التجارة والصناعة، إذ بدأ أربكان بمهاجمة بقايا أنصار مندريس في حزب العدالة، واعتبر أن سليمان دميرال وحزبه خاضعان لرأس المال الأجنبي، وأنه أدار ظهره للإسلام وأصبح أداة في يد الصهيونية.

وإلى جانب استخدام العنف من قبل بعض الحركات اليسارية في تلك المرحلة، قامت مجموعات يمينية مقاتلة بحرب مدينية أيضاً تحت اسم «الذئاب الرمادية»، وكانت تابعة للكولونيل ألب أصلان تركش، الذي عاد إلى السياسية بثوب إسلامي، وتبنى إيديولوجيا قومية إسلامية جديدة لخّصها في كتابه المعنون الأنوار التسعة.

كانت مجموعات من صغار ضباط الجيش على صلة وثيقة بالتنظيمات اليسارية، وقد حاولت هذه المجموعات القيام بانقلاب، لكن المخابرات الأمريكية كشفت ذلك المخطط، ما أدى إلى فشل الانقلاب قبل أن يبدأ، وإحالة أولئك الضباط إلى المحاكمة. وبعد ثلاثة أيام، قامت القيادة العليا داخل المؤسسة العسكرية بانقلاب مارس 1971.

تصوّر اليسار أن هذا الانقلاب سيكون موجهاً ضد تيار اليمين، مثل انقلاب 1960، لكنهم وجدوا الواقع مختلفاً تماماً، إذ أُغلق حزب العمال وتم اعتقال أغلب أعضائه ضمن حملات واسعة شملت اعتقال آلاف اليساريين، ومن بينهم كثيرٌ من الكتّاب والصحافيين والأدباء. وقد لقي حزب السلامة القومي اليميني التابع لنجم الدين أربكان المصير نفسه.

أصبحت مطاردة اليساريين أو المتعاطفين معهم أولى أولويات الجيش التركي، خصوصاً أنه بعد اعتقال دينيز جيزميش وحسين إنان ويوسف أرسلان، والحكم عليهم بالإعدام، قامت «جبهة تحرير الشعب التركي» التي يتزعمها ماهر تشايان باختطاف القنصل الإسرائيلي في اسطنبول، إفرايم إلروم، واشترطت الإفراج عن جميع المعتقلين ووقف أحكام الإعدام بحق جيزميش ورفاقه مقابل إطلاق سراحه، محددة مهلة ثلاثة أيام تم قتل القنصل بالفعل بعدها، ليتم إعدام جيزميش ورفاقه عام 1972 رغم رفض بولنت أجاويد رئيس حزب الشعب الجمهوري آنذاك، فيما كان سليمان دميرال وحزبه مصرّين على تنفيذ الحكم.

تحالفات لتشكيل الحكومة من أجل التهدئة

منذ عام 1973، وفي محاولة لإعادة الديمقراطية وتهدئة الأمور، شهدت السنوات التالية تحالفات عديدة ومحاولات متكررة لتشكيل الحكومة، وربما يكون أكثر هذه التحالفات بعداً عن المنطق، هو تحالف حزب الشعب الجمهوري بقيادة بولنت أجاويد، مع حزب السلامة الوطني بزعامة نجم الدين أربكان. ولم يستمر التحالف طويلاً في السلطة بطبيعة الحال، خصوصاً أن العنف السياسي لم يتوقف خلال تلك السنوات، وازداد الصراع في الشوارع والجامعات بين الحركات اليسارية المسلّحة وتنظيم «الذئاب الرمادية» اليميني.

وفي احتفالات عيد العمال بميدان تقسيم باسطنبول عام 1977، التي شارك فيها حوالي نصف مليون شخص، قام أحد المسلحين بفتح النار على مظاهرات العمال، وسقطت أعداد كبيرة منهم (تختلف الروايات حول أرقام القتلى)، فازداد الصراع أكثر بين معسكري اليمين واليسار، خصوصاً بعد المذابح التي قامت بها «الذئاب الرمادية» بحق علويين عام 1978 (تبنّى كثير من علويي الأناضول الأفكار الماركسية لمواجهة الفكر اليميني بشكليه القومي والإسلامي) في قهرمان مرعش، والتي تسببت بسقوط أكثر من مئة قتيل.

عادت تركيا مرة أخرى إلى ما يشبه ظروف ما قبل انقلاب 1971 ولكن بصورة مضاعفة؛ حرب شوارع بين الحركات اليسارية واليمينية، واغتيالات متتالية لشخصيات عامة، حتى صارت بعض الأحياء تحت سيطرة إحدى المجموعتين، وحتى أن محافظ مدينة فاتسا اليساري، أعلن استقلال المدينة عن السلطات التركية وقيام جمهورية سوفييتية مستقلة.

في تلك المرحلة، تحديداً عام 1978، قام طالب بجامعة أنقرة يُدعى عبد الله أوجلان، بتأسيس حزب العمال الكردستاني الماركسي، بهدف إقامة دولة كردية اشتراكية في جنوب شرق تركيا، وهو ما سيجعل قضية اليسار في تركيا تأخذ منحى مختلفاً، كما سيتبين في نص لاحق.

أما على مستوى معسكر اليمين الإسلامي، فقد كانت الثورة الإيرانية ملهمة له، وبالأخص لحزب السلامة الوطني التابع لأربكان، إذ نظّم الحزب مع مجموعات إسلامية مختلفة، تظاهرات حاشدة في مدينة قونية وطالبوا بعودة الشريعة.

كان كل ما سبق ذريعة لاستيلاء الجيش على السلطة للمرة الثالثة في كانون الثاني/ يناير 1980، فتم حلّ البرلمان وحُظرت الأحزاب السياسية وجميع أنشطة اتحادات العمال اليسارية. وأخيراً، فإذا كان انقلاب 1960 موجهاً ضد تيار اليمين على وجه الخصوص، فإن انقلاب 1980 المدعوم أمريكياً، كان موجهاً بشكل واضح ضد تيار اليسار.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى