وجها لوجه

خالد النجّار: تروبادور تونسي في المنفى

 

 

(1- 3)

برشلونة – باسم النبريص

شاعرٌ ومترجِم ورحّالة وناشر؛ أربعة أوصاف عامة، ربما لا تحيط بتجربة التونسي خالد النجّار، لما لها من خصوصية. مع ذلك، تبدو ضروريةً في هذا الحوار المطوّل الذي جرى في مدينة برشلونة التي يزورها للمرّة الخامسة. وفيه يتحدّث عن رؤيته للشعر مستعيداً بداياته الأولى، والهجرة والسياسة وفشل الدولة الوطنية.

■ تعيش في قلب أوروبا منذ عقود. كيف ترى نظرة الأوربيين إلى منطقتنا وأحوالنا اليوم؟

– ظلّ الانسان في أوروبا، ومنذ القرون الوسطى، سجين صورة نمطية رسمَتها الكنيسة عن العرب والمسلمين، وهذا طبيعي، فالمسلمون استولوا على كل ممتلكات الإمبراطورية الرومانية جنوب المتوسّط من الهلال الخصيب حتى المغرب الأقصى.

وأيضاً، أخذ المسلمون القسطنطينية وهي عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، كما لو يقع اليوم على مدينة مثل لندن أو برلين أو باريس. وقبل القسطنطينية، استولى المسلمون على الأندلس. كانت هناك حروب صليبية وفرسان مالطا، تلك الكتيبة العسكرية المسيحية التي تشكّلت لمحاربة المسلمين. واحتلال المسلمين بلادَ البلقان ومحاصرة الجيش العثماني لفيينا التي أطلق عليها قائد الجيوش العثمانية اسم النمسا لأنه ظل يرميها ثمانية أشهر بالمدافع دون أن تردّ الفعل، فقال: “هذه النمسة”، أي ذلك الحيوان الذي يجمد إذا ما ضربته فتظن أنه ميت.

إذن، تاريخ الصراع مع أوروبا المسيحية طويل ودموي منذ الفتوحات الإسلامية الأولى في بلاد الشام التي كانت جزءاً من ممتلكات الإمبراطورية الرومانية؛ صراعٌ مستمر منذ القرن الثامن الميلادي… صراع متغلغل في الوعي الجمعي الأوروبي والإسلامي. وهذه العداوة العميقة النائمة في لاوعيهم الجمعي أيقظوها اليوم واتّخذت تعبيراً حديثاً: “فوبيا الإسلام” التي يغذّيها الإعلام الصهيوني المتخفّي والحاضر بقوة في وسائل الإعلام الغربية. كل هذا لجلب الغرب إلى مخطّطاته لتدمير المنطقة تحقيقاً لحلمه الديني، لا تنس أن الصهيونية حركة دينية مغطّاة بتمويه علماني.

■ أنت مسكون بالسياسة حتى النخاع، وهذا يُلاحظ في أغلب أحاديثك. كيف تنظر إلى العلاقة الجدلية بين السياسة والثقافة في البلاد العربية؟

– لعله إدغار فور من قال “أنْ تنبت وردة في حديقة بيتك هو حدث سياسي”. السياسي هي حياتك اليومية، لأني أرى أن ما يحدث فوق الأرض في عالمنا العربي الإسلامي شيء، والصور الذهنية التي يرسمها الإعلام في وعي المواطنين شيء آخر. يعني أننا نعيش في عالم لا ندركه، بل ندرك عالماً غير موجود. الاستعمار، اليوم، يحاول إعادة هندسة جغرافيتنا ووعينا.

اليوم، لم يعد هناك مجال للحياد. بلداننا ليست في حالة موت سريري، وإنما في حالة موت بطيء. إذْ يراد لها أن تُهدم ليعاد تشكيلها… وإذا لم ينتبه المثقّف إلى هذه الكارثة، فتلك جريمة. عندما يتحدّث الأميركان عن شرق أوسط جديد وشمال أفريقيا جديد، فذلك يعني هدم القديم، والأحسن أن يكون بسواعد أبنائها. أتذكّر عبارة نيتشه: “الهدم لحظة بناء فهم”. ولبناء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الجديدين، لا بد من هدم القديم، وهذا ما شرعوا فيه منذ نهاية الاتحاد السوفياتي. لاحِظ تعريفهم لنا جغرافيٌ وليس تاريخياً. لا نُعرَّف من خلال كياننا؛ فهم لا يقولون المشرق العربي أو المغرب العربي لأنهم يعتبرون المنطقة خلاءً، محض جغرافيا بلا كيان قومي.

لقد ابتدعوا فكرة ذهنية المؤامرة، حتى يُبعدوا الناس عن التفكير في مؤامرات الغرب على العرب والمسلمين في هذه الغرف السوداء التي تصلنا شذرات من أخبارها من خلال أدبيات بعض المعارضات الغربية. تلك الأدبيات المغيّبة من الميديا الرسمية، ويجب عليك أن تبحث طويلاً لتكشف بعض المواقع الجادة في الغابة الكونية للشبكة العنكبوتية.

■ لماذا برأيك فشلت دولة الاستقلال؟

في “أكاديمية الفنون والعلوم” بأمستردام- أوّلاً، لأن النخبة لم تقم بالدور المناط بها، بسبب غياب سلطة شرعية تمكّن العربي من حكم نفسه بنفسه. ثمّ، وباختصار شديد، وكما هو الشأن عبر تاريخنا، تنقسم الدولة لدينا إلى أهل السيف وأهل القلم، وأهلُ السيف عندنا هم من أمسكوا السلطة وأخضعوا أهل القلم. وإذا ما ترجمنا كلمة أهل السيف إلى اللغة المعاصرة، قلنا العسكر أو المغامرين من الانقلابيين. هؤلاء، وهم أمّيون غالباً، جعلوا أهل القلم، أي النخب الفكرية والسياسية، تابعةً لهم.

ولأن الحاكم إن كان غير شرعي، فسيظل خائفاً كامل الوقت. ولأنه خائف، فهو يبحث وباستمرار عن أهل الثقة وليس عن أهل الكفاءة، ونادراً ما تجتمع الثقة مع الكفاءة. كيف تريد لدول أن تنهض وطاقاتها الحقيقية مغيّبة؟

قابلتُ كثيراً من الساسة والوزراء والمسؤولين العرب أيام اشتغالي بالصحافة في باريس، ورأيتُ مدى انحطاطهم. وللحقيقة، أستثني بعض القادة الفلسطينيّين الذين عرفتُهم في تونس بحكم عملي الصحافي؛ من أمثال: أبو إياد، وأبو جهاد الذي جمعني به صديقُه الأستاذ هشام شرابي.

■ زرتَ غزّة قبل سنوات قليلة مع وفد “احتفالية فلسطين للأدب”، ماذا تركت فيك فلسطين من انطباعات؟

– غزّة فضيحة التاريخ العربي والضمير العالمي… غزّة معسكر اعتقال وحصار شامل وقتل لمليونَي إنسان طوال 12 سنة. صمتٌ إجرامي في الاعلام الغربي المتشدّق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتغطيةٌ على الجريمة. بل إنهم حوّلوا، عن طريق الإعلام، هذا الحصار إلى حالة عادية مقبولة في وعي الناس يتعايشون معها. ولا تنديد في العالم سوى في الميديا البديلة والمواقع المهمّشة.

أيضاً، ما يجري في غزّة حرب نفسية؛ ففي تقديرهم أن الإنسان الذي يتحرّك تحت الأرض ويحصل على قوته من تحت الأرض، لن يلبث مع مرور الزمن أن يتماهى نفسياً مع ما يعيش في الجحور، ممّا يُحطّم معنوياته، لأن الانسان يتماهى مع فعله.

غير أن الإنسان الفلسطيني حوّل الحصار والتجويع وصبَّ الرصاص على رأسه ومحاولات كسر الإرادة إلى قوّة لا حدود لها، تتجلّى في هذا الصمود الأسطوري وابتداع أساليب مقاومة لم يعرفها العالم. والمتضرّر الأول نفسياً هو العدو الذي صار يخشى الإنسان الفلسطيني الصامد أمام كل هذاّ العدوان؛ فإنسان بهذا الصمود يبعث الرعب في عدوّه.

■ لنعُد إلى بداياتك مع الشعر، كيف تصفها؟

– هو أمر تلقائيٌ، كأن يقع الإنسان في الحب، من دون تدخّل العقل الواعي، أو مثل ما يسمّيه إيمانويل كانت الحدثَ المطلَق في حياة الإنسان. الأمر يشبه أن تحلُم، لأنك لا تبرمِج أحلامك مسبقاً. منذ البدء، وجدتُ نفسي مشدوداً إلى عوالم الخيال من دون إدراك منّي. أتذكّر أنني، وأنا طفل في السادسة تقريباً في “المدرسة الصادقية”، كنتُ دائم السرحان، أتطلَّع إلى خط الظلّ منتظِراً أن يصل إلى مكان أشّرته في منتصف الساحة. لحظتَها يكون وقت الخروج من هذا السجن قد أزف. ولم أكن أدري أن الظلال تُغيّر مواقعها حسب الفصول. كنت دائماً مشدوداً إلى مربّعات زجاج نافذة الفصل، وإلى تلك الشجرة الكبيرة التي تتوسّط ساحة المدرسة… لعلّه الهروب. طبعاً أدركتُ هذا فيما بعد.

مبكراً، أحببت الشعر. أذكر أوّلَ قصيدة أحببتها في المدرسة الصادقية. كنتُ في حوالي التاسعة أو العاشرة من عمري، وكانت لشاعر تونسي هو أحمد مختار الوزير، كتبها عن قطّه، وهو في ما أعلم موضوع نادر في الشعر العربي الحديث، باستثناء جورج شحادة، وإن كان شائعاً في الشعر الغربي من شارل بودلير واستيفان مالارمي إلى بول إليوار وبابلو نيرودا. وما أزال أحفظ مطلع القصيدة: “قطيّتي ما أحلاه ظريف حين ألقاه”. أتذكّر غلاف الديوان الأخضر وورقه المصفرّ… وأحمد مختار الوزير شاعر رقيق مجهول في المشرق العربي وهو مجايل للشابي ومثله خرّيج الزيتونة. بيد أنه التحق بـ”دار العلوم” في القاهرة… القاهرة التي كانت قبلة المثقّفين التونسيّين منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثلما كانت قبلة الشوام في ذلك العهد.

هناك نشر محمد الخضر ابن الحسين أعماله، وكذلك محمد الطاهر بن عاشور من تحقيقه لديوان بشار بن برد إلى “التحرير والتنوير”، وحسن حسني عبد الوهاب الذي كان صديقاً للأمير فؤاد، قبل أن يجلس على عرش مصر، وكان عضواً في مجمع الملك فؤاد. وقبلهم محمد بيرم الخامس الذي انتقل أواخر القرن التاسع عشر إلى القاهرة، حيث نشر أهمّ مؤلّفاته وأسّس صحيفة “الإعلام”، وهو جدُّ الشاعر محمود بيرم التونسي. ضمن هذا التقليد، نشر الشابي أشعاره في مجلّة “أبولو” ولولا ذلك لما كان أحد لينتبه إلى الشابّي الذي كان مهمّشاً في تونس.

■ كنتَ من روّاد الحداثة الشعرية في المشهد الأدبي التونسي…

– عندما كتبتُ قصائدي الأولى، الفجّة والحزينة، لم أكن أفكّر بالحداثة، ولم أفكّر فيها في ما بعد. بل لم أفكّر أن أكون شاعراً. كانت صيحة انفعال تلقائية. كنتُ أحاول التعبير عن تلك الأشياء التي تحتدم في الداخل من حزن وكآبة وفي الآن نفسه فرح غامر بكل ما يحيط بي وبشكل تلقائي غير واع، مبهوراً بضوء العالم والطبيعة بشكل تلقائي غير مفكَّر فيه.

أتذكّرُ صورةً ظلّت منطبِعةً في وعيي إلى الآن، كنتُ في الثالثة، أو ما حولها، جالساً وراء نافذة صغيرة أتفرّج على المطر الغزير ينهمر في باحة الدار، منبهراً بالقباب المائية الصغيرة الشفّافة مثل الزجاج التي يشكلّها المطر عند سقوطه فوق البلاط، والكناري الأصفر، عصفور عمّي، في قفصه المعلّق في مدخل وسط الدار وصورُ الفرسان التي تبدو لي في الليل وفي ضوء فانوس الزيت وهي تعدو فوق السجّادة المثبّتة على الحائط، والقمر المدوّر الذي يطل من الفتحة الصغيرة فوق باب البيت، والتي نسمّيها “المضوة” و”العولية”… والظلام في الخارج وشجرة الياسمين التي في ركن وسط الدار، والحرباء التي تعيش بين أغصانها وضعَتها جدّتي هناك لتُبطل السحر؛ فقد كان الكبار حولي يعتقدون كامل الوقت أنهم مسحورون… وصفير القطار الذي يأتي من الجزائر وكانت الجزائر شيئاً غامضاً أخضر اللون في مخيّلتي، والنجوم البيضاء التي ترقش السماء المظلمة الزرقاء، وصفّارات البواخر في ميناء تونس كانت تصل حتى الباحة الغارقة في الشمس.

في ما بعد، كان الشعر محاولةً للتخلّص من عذابات المراهقة المختلطة، وما أزال أذكر أنه كان لي كرّاس مدرسي صغير بمربعات زرقاء وخط أحمر رفيع يمين الصفحة أكتب فيه ما أسمّيه قصائد حبّ قصيرة إلى نسيمة كلمات بسيطة رومانسية. أتذكّر أنني جعلت له عنواناً “موسيقى الخريف” وآخر بعنوان “أناشيد الليل” أو شيء من هذا القبيل… لم تكن المسألة مسألة حداثة وإنما هي الرغبة التلقائية في التعبير، الرغبة البدائية التي دفعتني لوضع تلك الكلمات البسيطة، عصارة ألمي، والتي كانت تأتي من الليل أو لا أدري من أين … في الحقيقة لم أهتمّ بالشعر بشكل خاص. كان حلمي الطفولي وأنا في حوالي الثانية عشرة أن أصير مؤرّخاً، وأن أكتب تاريخ العالم منذ البدء… هكذا كنت أحلم به. وفي السابعة عشرة كتبتُ مختصراً لمدينة طبرقة (تقع في شمال تونس على حدود الجزائر) ونشرته في مجلّة “المرأة”.

كنتُ طفلاً ويافعاً معطوباً ومختلطاً ومأخوذاً بكل شيء؛ بضوء النهار، برؤية السماء، أسمع صوت مرور القطار ويصلني نقيق الضفادع في ليالي الخريف… منذ البدء، هكذا وجدت نفسي. كنت أسير في الظلام لم أكن أدرك أن العالم هو نبع كلّ شعر وليس قراءة النظريات.

بعدها بسنوات طويلة، نبّهني لوران غسبار إلى أن معايشة الحياة والإحساس بذاك الضوء الأبدي الذي ينبعث في أعماق الإنسان هو النبع البعيد للشعر، النبع الحقيقي للشعر؛ وأن الدربة اللغوية والأفكار مهما كانت عميقة لا تصنع شعراً. كنّا نقف في البستان المجاور لبيته في سيدي بوسعيد نتوادع في الليل ووجيب البحر يصّاعد من الأسفل مالئاً الليل، وكنتُ في قمّة اليأس. قال: لا بد أن تحافظ على الشعلة التي في أعماقك. وما أزال أعتقد أن تلك النظرة الطفولية اللاواعية للعالم هي جوهر الشعر، وهي تلك الشعلة التي عناها لوران غسبار، والتي علينا المحافظة عليها… بعدها بسنوات كتبت قصيدتي:

“سرقوا منّي طفولتي وجنوني

سرقوا رياحي من صناديق ثيابي الخشبية

ومن بوّابات الجنوب

سرقوا نقيق ضفادعي

ومرايا أمّي”.

■ ماذا كانت قراءاتك المبكرة؟

خالد النجار مع توفيق الحكيم- كنتُ، في تلك الأيام البعيدة من سن المراهقة، نهماً للقراءة وواقعاً تحت تأثير قراءات كثيرة متباينة. لم تكن الكتب متوفّرةً مثل اليوم؛ فكنت أقرأ ما تقع عليه يدي، وما يتوفّر وليس ما أريد. كانت لي قراءات كثيرة في التاريخ، وكان أول كتاب قرأتُه هو تاريخ ابن أبي الضياف “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان” و”الخلاصة النقية في أخبار أفريقية” للباجي المسعودي.

ذهبت أيّامها إلى المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب في بيته في صلامبو أسأله عن مراجع تاريخ طبرقة، فاستقبلني بحنوّ الأب وأحاطني برعايته، وأهداني بعض كتبه وظللت أختلف إليه حتى وفاته. كانت لي أيضاً قراءات في الرواية والتراجم وفي كتب علم النفس المبسّطة. أتذكّر سلسلة كان يُصدرها عبد المنعم الزيادي.

قرأت كل جيل طه حسين وأحمد أمين وسلامة موسى والعقّاد وجبران وميخائيل نعيمة ورجال النهضة الذين اكتشفتُهم من خلال كتاب “زعماء الإصلاح في العصر الحديث” وكتاب أنور الجندي “قمم شامخة”، وهكذا قرأت لشكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا وكل سلاسل “الهلال” و”اقرأ” ومطبوعات “دار المكشوف” وترجمات أحمد حسن الزيّات وكتب “دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر”. ولكن أحببت توفيق الحكيم وسلامة موسى.

■ ماذا عن قراءاتك الشعرية وقتها؟

– في الشعر، قرأتُ قصائد متفرّقة، لأن القصيدة هي مكان الشعر الحقيقي. كانت قراءاتي أشتاتاً من أزمنة مختلفة. كانت قراءات غريزية إن صح التعبير، وبِنت الصدفة مثل الحياة. من الشعر الجاهلي قصائد للبيد وزهير بن أبي سلمى، وطبعاً طرفة بن العبد وشعراء النحل؛ مثل حمّاد عجرد، ومتفرّقات من أشعار الحصري القيرواني والشعر الأندلسي والموشّحات التونسية، ومحمود صدقي الزهاوي وشعراء المهجر إلى جماعة أبولو: علي محمود طه. أحببت الأخطل الصغير وفؤاد الخشن.

أحببتُ شعر المتصوّفة وخاصةً شعر ابن الفارض “سائق الأظعان يطوي البيد طيّ… “وبعضاً من رباعيات الخيّام، وطبعاً أشعار المتنبّي والمعرّي وأبي نواس وأبي العتاهية المقرّرة في المدرسة. ومن خارج المدرسة، قرأت مالك بن الريب وذا الرمة وتلك الأشعار التي كان يصدرها البستاني في سلسلة روائعه.

طبعاً، أحببت شوقي ونثر محمود المسعدي الذي قرأته بحس الشعر. لم أكن أدري وقتها أن الشعر أوسع من الموازين والأشكال والقوالب، ولكني أُخذت بنص المسعدي المقرّر في المدرسة والمقتطف من “السدّ”، وعندما التقيتُ به قرأتُ عليه مقطعاً من نصّه الذي كنت أحفظه ففرح… واليوم، أعتبر كثيراً ممّا كتبه شعراً فلسفياً وجودياً عميقاً. ولكن الشاعر الذي سيطر على سنوات مراهقتي وأنا أعبر من الخامسة عشرة إلى السادسة عشرة هو إلياس أبو شبكة الذي هو بمثابة بودلير العرب. ما أزال أحفظ عن ظهر قلب قصيدته “سدوم”. أو قصيدته التي مطلعها:

“بروحك مغمورة يقظتي/ ونشوى بحبك أحلاميه

وحلمي بحبك لا ينتهي/ وهل تنتهي اليقظة الغافيه”.

بعدها، بدأتُ القراءات الواعية؛ إذ، كما تدري، وأنت الشاعر، لكل حقبة قراءاتها… قرأت المجدّدين نازك الملائكة والسياب والبياتي وصلاح عبد الصبور ويوسف الصائغ الذي أحببت قصيدته “وانتظريني عند تخوم البحر” التي صدرت أيامها في كرّاس مربع الشكل برسوم فاضل العزاوي، وأعتقد أن التحديث الحقيقي للقصيدة العربية تمّ في العراق أرض الشعر والدم.

حافظ العراقيون على جرس الكلمة العربية وروح اللغة ومضوا بهما للتجديد مثل النهر هو نفسه وهو في الآن متغيّر، نهر يمتد من سيبويه في البصرة إلى الأب أنستاس الكرملي في دير الكرمل؛ كما هو التجديد في الغرب؛ إذ لم يتنكّر الناس في الغرب للغاتهم وموسيقى لغاتهم. كلُّ شعر بول فاليري وراينر ماريا ريلكه وكلوديل ولوركا يعتمد الأوزان… سان جون بيرس نفسه يعتمد إيقاعات البحر السكندري الذي يقابل تقريباً البحر الطويل لدينا، فهو يتكوّن من اثني عشر إيقاعاً، كما حافظ على صفاء الكلمة الفرنسية. وقد تعاملتُ كثيراً مع شعر سان جون بيرس ووجدت أن قاموسه ينتمي إلى القرن التاسع عشر.

في المقابل كان تجديد مجلّة شعر تجريدياً تعالمياً، وهو ما يصفه لورانس داريل بظاهرة البناء على تجارب الآخرين التي نجدها لدى الشعراء المبتدئين. جماعة “شعر” أساءت للقصيدة العربية وللغة العربية في حين أن اللبنانيين كانوا من أساطين تجديد اللغة في العصر الحديث، أقصد الشدياق واليازجيين والبساتنة والأب لويس شيخو في مجانيه، إلى جبران ونعيمة، إلى كثير من الشعر والنثر الذي تقرؤه اليوم.

■ متى بدأ الانفتاح على شعر العالم؟

– بعد هذه المرحلة، وفي حوالي الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، غرقتُ في قراءة طاغور الذي شُغفتُ به وظللتُ أعيد قراءته باستمرار، كما أحببت لوركا ونزار قباني الشاعر الكبير الذي لحقه ظلم كبير من طرف النقّاد، وخاصة من جماعة مجلّة “شعر” ومن اليسار الذي كان يقيّم الشعر أيديولوجياً. هكذا اهتموا بمظفر النوّاب وهو شاعر عادي جداً، وأهملوا قباني.

والحال أن الشعر العربي لم يعرف في القرن العشرين سوى شاعرَين مسّا الوجدان الشعبي بعمق هما أحمد شوقي ونزار قباني. لعل أبلغ ما قيل في تعريف وتحديد شعر قباني الجملة العميقة التي قالتها سلمى خضراء الجيوسي من أن نزار شاعر كبير ولكن ينقصه الحس التراجيدي بالعالم.

وكانت قراءتي لجبرا إبراهيم جبرا قد فتحت وعيي على والت ويتمان والشعر الرومانسي الإنكليزي ثم إليوت وباوند. وكانت هناك تأثيرات الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر الذي قرأته على اللواتي أحببت، فرلين وبول فاليري. وكتبت أيامها قصيدة مديح للأرض المعيّدة على تخومنا. كانت حقبة تلمس وبحث في الظلام… ثم اكتشفت رامبو وقصيدة فصل في الجحيم، مع هلدرلين، ولكن التحوُّل الحاسم كان باكتشافي لراينر ماريا ريلكه، وأن الشعر الحقيقي هو مرور الروح في الكلام وليس البلاغة الخاوية.

 

تروبادور تونسي في المنفى (2- 3)

 

■ ثمة قطيعة بين جيلكم وما سبقه. كيف تشكّلت رؤيتكم كجيل للقصيدة الحديثة؟

– كنّا جماعة لم تشكّل حلقةً. كنا مجرّد أصدقاء، وهو ما اصطُلح عليه بـ”شعراء السبعينات”؛ وهم جماعة رفضت الوضع الثقافي البائس. لكن كلّاً منهم خاض على طريقته مغامرة الشعر والحياة، لأن الشعر، كما تدري وأنت شاعر، يأتي من هناك، من تلك المساحات الغامضة في النفس، من ذاك المجال اللالغوي، من ليل الإنسان الأبدي، من ذلك المجهول الذي نتحرّك داخله.

كانت جماعةً من المثقّفين مكوّنة من بعض الأصدقاء تضمّ: بلقاسم التليلي الذي كنّا نسميه الأستاذ، وحبيب الزناد وهو الذي عرّفني على علي اللواتي وقد تعاشرنا فترة قبل أن يلتحق بوزارة الثقافة.

أتذكّر من الأصدقاء: عبد اللطيف كادة وصار اسمه الزبيدي، والسويلمي بوجمعة، وشاعر متصعلك اختفى الآن وآخر مرّة رأيته فيها كانت أوائل الثمانينات في قهوة قرب السوربون في باريس هو محمد الطمباري. حافَظ الطمباري على القصيد العمودي وكنا نناديه طمبريوس، وهو شاب جنوبي متّقد من قرية الشابي ويحلم بالشابي. أذكر منصف غشام وهو شاعر يكتب بالفرنسية. كتب أيامها قصيدة غنائية طويلة من أجمل الأشعار التونسية عنوانها ” أكتب”، وكتب حسن المؤذن قصيدة بعنوان “قصيد مغلق لجسد مفتوح” وهي من أجمل النصوص.

بعد ذلك عرفت محمد الغزّي، والحبيب السالمي، وحسونة المصباحي، ومحمد رضا الكافي، وهشام القروي. في تلك الفترة، نقل علي اللواتي أشعار سان جون بيرس وترجم هشام القروي رفائيل ألبرتي وبدأت ترجماتي للوركا التي تمت أثناء القراءة.

أحببت حدوس محمد الغزي الشعرية وعذوبة قصائده القصيرة الغنائية، وعن طريقه التقيت بمنصف الوهايبي الذي يتميز بقاموسه الشعري الصافي، وربطتني صداقة عميقة بمحمد الحبيب السالمي، فهو في رأيي شاعر في بنيته العميقة وحسّه بالأشياء وبالعالم، خاصةً في قصصه القصيرة الأولى. أمّا حسونة المصباحي فكان شديد الاندفاع في اللغة وفي الحياة، يكتب القصة والشعر ويترجم ويسافر ويخوض المعارك باستمرار. وأذكر أني كنت أسمّيه وعل الجبال البرّي. عرفتُ عزّوز الجملي باقتصاده اللغوي، فهو قادر على رسم دراما في ثلاث كلمات. قصائده تذكّرني بشعر الفرنسي أوجين غيليفيك، ولكنه بعيد عن عالم غيليفيك.

أذكر كمال المدائني الذي كتب أجمل القصائد الغنائية، ولكنه ظلَّ بعيداً متوارياً وفياً لعزلته، وكان هناك شعراء تونسيون في هذه الفترة يعيشون في المشرق العربي لم نكن نتواصل معهم، وقد كتبوا شعراً رائعاً. لا بد أن أذكر منهم محمد الخالدي، ومحمد الكنائسي الذي عرفته في القيروان قبل أن يسافر إلى دمشق، وهو ما يزال يعيش في سورية، وأسماء أخرى لا أستحضرها، بحيث وكما ترى كان كلٌّ قد شق طريقه بشكل مستقلّ. لذلك أنت لن تجد ملمحاً جامعاً لهؤلاء الشعراء، إذ لم نكن نتحرّك كقبيلة شعرية.

كانت سنوات البوهيمية الجميلة… التسكع والصعلكة في مقاهي وشوارع تونس مع صديقي الأستاذ أبو القاسم التليلي. وقد ننزل إلى الجنوب، إلى قفصة حيث كان حسونة المصباحي يدرس الفرنسية، ونمر بالقيروان حيث نلتقي ببعض الأصدقاء.

■ عشتَ في الهامش؟

– ودفعتُ فواتير هذا الهامش: منعٌ من العمل، مضايقاتٌ واعتداءات المليشيات في الشوارع، واعتداء ناس محسوبين على الثقافة وتشويهٌ مستمر، وآخرها كان اعتداء البوليس في شارع بورقيبة. وفي اللحظة التي وضع فيها الكلبشات في رسغي قرّرت مغادرة تونس وهكذا غادرتها.

وطاردوني بوشاياتهم إلى كل بلد ومهرجان أُدعى إليه. أعلمني بذلك صديقي الشاعر الألماني يواخيمسارتوريوس، وأيضاً مدير “مهرجان طهران الشعري”. أجل لم أكن معارضاً، كما لم أكن مع النظام. كنتُ وبكل بساطة إنساناً يفكّر بحرية ويتكلّم بحرية ومع هذا أهدروا حياتي.

■ هنا لا بدّ أن نتكلّم عن منور صمادح…

– في الحقيقة، من دفع الفاتورة الحقيقية ولم يعد يذكُره أحد، هو الشاعر الكبير منوّر صمادح الذي عايش حقبة النضال ضد الاستعمار، ثم وبعد الاستقلال، شاهد تغيُّر بورقيبة وتحوُّله من ضحية المستعمر إلى جلّاد لشعبه. كان شعار بورقيبة هو “الصدق في القول والإخلاص في العمل”، فكتب ساخراً:

“شيئان في بلدي قد خيّبا أملي

الصدق في القول والإخلاص في العمل”.

أما عن بورقيبة، فكتب قصيدته الشهيرة، التي يقول فيها:

عهدي به جدا فكان مزاحا/ بدأ الضحية وانتهى سفّاحَا

من حرّر الأجساد من أصفادها/ عقل العقول وكبّل الأرواحَا

كان السجينَ فصار سجّاناً لها/ يا من رأى سمكاً غدا تمساحَا

 

بعدها غُيّب الشاعر، دُفع به إلى الجنون إلى أن مات.. فكنتَ تراه هائماً في شوارع تونس. عرفتُ منور وزرته في بيته في حمام الأنف ذات أمسية صيف. كان هناك عمر فضّة، المناضل اليوسفي، وأخذ منور العود وبدأ يعزف الأغنية التي كتبها ولحّنها وغنّتها – إذا لم تخنّي الذاكرة الفنانة نعمة – مضت السنون فإذا بي ألقاه صدفة في شارع الحبيب بورقيبة متبدّل السحنة بثياب متّسخة وعلامات الإرهاق الشديد بادية على وجهه. اقترب منّي، وقال بعض الجمل الغامضة، كما لو كان يحدّث نفسه، ثم مضى بعدها. علمت أن النظام نكّل به نفسياً كما فعل مع شقيق صالح بن يوسف الذي كنتُ أراه هو أيضاً هائماً في شوارع تونس بنظارتيه السميكتين وحذائه الواسع.

لم يكن منور صمادح الضحية الأولى. مات قبله الشاعر محمود بورقيبة، والفنان صالح الخميسي، وبعدهما الرسام حبيب بوعبانة الذي أُرهب هو أيضاً ومات حسرة، ولا أحد يذكرهم.

أقول لنفسي دائماً: إذا كان هذا حال الفنّانين، فما بالك بالمعارضة السياسية التي تعرّضت إلى عمليات قمع وتعذيب خيالي في حقبتَي بورقيبة وبن علي. عشتُ بعيداً عن المؤسّسات، لم ألتحق بـ”اتحاد الكتّاب التونسيّين” ولا بوزارة الثقافة ولا بأي من المؤسّسات والأحزاب. عشت كما أردت أن أعيش. ولم أنخرط في كاميز ول أديولوجي سترة المجانين أيدولوجية وكانت حرية باهضة كما هي الحرية دائماً.

أيضاً، أتذكّر تلك الأيام حين كنا نتصعلك بين مقاهي لونيفير وقهوة باريس في شارع بورقيبة ومقهى العباسية وقهوة الحاج علي وقهوة طاهر زنقة في باب سويقة، وقد أمرّ أحياناً على قهوة المغرب في شارع فرنسا، حيث كان للروائي الكبير بشير خريف مجلس كنتُ أغشاه من حين لآخر. كان خريف مثال الكاتب المستقل، لم ينخرط على الإطلاق لا في الحزب الحاكم ولا في اتحاد الكتّاب، وكان صديقاً حميماً للرسام التونسي زبير التركي الذي وضع رسوم رواية “حبك درباني” أي “حبك جنّني” التي أعتبرها من أجمل الأعمال العربية.

كانت تونس في تلك الأيام ما تزال تعبق ببقايا رائحة الحقبة الكولونيالية، ولم تتريّف بعد، كما هو الحال اليوم، حيث ازدادت عمراناً وازدادت ترييفاً. أتذكّر بشير خريف في عشايا آخر الربيع وسط مجلسه على رصيف قهوة المغرب في شارع فرنسا تحت ظلال أشجار الجاكراندا بجبّته البيضاء القمرايا والسبسي غليونه القصبي الطويل بحجارته الفضية التي يحشوها بتبغ يأتي به من بلاد الجريد فيما أظن، أتذكّر ابتسامته النبيلة ولطفه وحذره في مخاطبة الآخرين. ظل هو أيضاً مهمّشاً إلى أن ذكره الطيّب صالح في إحدى حواراته كأحد أهم الروائيين العرب، ولحظتها انتبه إليه التونسيون وبدأوا بالاهتمام بعمله.

■ حدّثنا عن فترة السبعينيات تلك؟

– كانت فترة مُحتمّة، فترة غليان… صعود يسار رومانسي مفصول عن الواقع وتحديث بورقيبي كولونيالي هو أيضاً مفصول عن وجدان الشعب… رغم ادعاءات الآلة الإعلامية، فالرجل يطلب من الناس الإفطار في رمضان ويستهين بالنبي وبعقائد الناس على وجه العموم، ويتحدّث في خطبه عن خصيتيه، وهذا الأمر غريب عن وجدان الشعب التونسي. وكان هناك اندفاع نحو حداثة أدبية هي نقل أكثر منها إبداعاً. كانت الرواية الحديثة الفرنسية والأدب التجريبي الفرنسي هما النموذج لكتّاب القصة القصيرة. كان شيئاً شبيهاً بدور مجلّة “شعر” في لبنان. كانت حداثة تجريدية، حداثة فوقية مستوردة، دعوة أيدولوجية للتجديد ولم تكن ممارسة فعلية للجديد. كان الأمر انفتاحاً على الآخر ونقل عنه، وكانوا يهاجمون التقليديّين الذين يتّخذون التراث نموذج نقل ينسجون على منواله كما يُقال، ونسوا أنهم هم أيضاً في الاتباع والنقل والنسج على المنوال، ولكن من النص الغربي. طبعاً ثمة استثناءات، لعل أعمال الرائد بشير خريّف ومن بعده حسن نصر وصالح الجابري كانت نواة لنص مرتبط ومعبّر عن أعماق المجتمع، عن واقعه وأوهامه وأساطيره، لأن العمل الأدبي عامّةً، والروائي على وجه الخصوص، هو محصّلة تركيبة كيماوية تتشكّل في أعماق الكاتب لمجتمع بلغته وتاريخه وأساطيره وصراعاته.

الروائي أشبهه بالموسيقى. إنك لا تستطيع أن تكون حداثياً كما يقولون باستعارة أصوات الآخرين. لا بد وأن تغنّي أغنيتك وبصوتك، ولكن لم يكن ذلك الانفتاح كلّه سلبياً، فقد جعل الكاتب التونسي يغادر قوقعته الثقافية والفكرية ويحاول التواصل مع تجارب الآخرين.

■ وماذا عن تيار الحداثة في تونس؟

– الحقيقة أن الريادة تعود لمحمود المسعدي الذي استبطن الفلسفة الوجودية وأدخل في التداول أسماء سورين كيركغارد وشوبنهاور وسيلين، ثم تقلّد المسعدي الوزارة وصمت. لكن عز الدين المدني كان دينامو تلك الحقبة، وهو الذي فتح النص الأدبي في تونس على رياح العالم، بيد أنه كان في الآن تعبيراً قوياً على ذاك الاندفاع نحو التغريب الذي شكّل شعار تلك الحقبة في السياسة والاجتماع وبناء الدولة، ولم يشذ الأدب عن هذا المنزع العام، فكانوا يرددون مقولات الأدب التجريبي وتنظيرات الرواية الجديدة (le nouveau roman) في غير أرضها وتاريخها. كانوا يعتقدون أنه يكفي أن تقلّد الغرب، ممثّلاً في فرنسا، حتى تصير حداثياً مثله، غير مدركين أن الثقافة لا تُستَورد لأنها إبداع ذاتي. وأن الحداثة الغربية كانت نتاج سيرورة تاريخية في أوروبا الغربية، سيرورة معقّدة منذ فجر النهضة في أواسط القرن الرابع عشر في إيطاليا، وأن الغرب مرّ بثورات كثيرة؛ فلسفية ودينية وعلمية واجتماعية وصناعية وتقنية، على امتداد القرون الخمسة الماضية. أمّا الحداثة لدينا، فقد كانت عملية نقل متعسّفة وفوقية، ولم تصدر عن تاريخنا ولم تكن من إبداعنا. مثلاً، وضعوا قوانين للمرأة منقولة بورق الكربون عن التشريعات الغربية، قوانين لا تتماشى مع الذهنية العربية الإسلامية للتونسي ولا مع نظام القرابة لديه. باختصار، كانت قوانين مستوردة نتج عنها مجتمع فاقد لتناغمه الثقافي، مجتمع مضطرب الهوية يعيش أزمة أخلاقية حادة، وكذلك كان الشأن في الميدان الفني والأدبي. كانت في الحقيقة حقبة سوداء. إضافة إلى ذلك، لم يكن هناك أيُّ نشاط ثقافي خارج مؤسّسة الحكم. كان بورقيبة ليبرالياً كما يدّعي ومؤسّسةُ حكمه ستالينية في جوهرها وتركيبتها وممارساتها، وليس في أيديولوجيتها. كان هناك ازدواج بين ما يقول وما يفعل.

■ يعني أن السياسة استولت على كامل الفضاء. هذا واقع كل بلداننا العربية…

– أجل، صحيح ما تقول. ولكن عندما أعود اليوم إلى تلك الحقبة، أرى الأشياء بأكثر وضوح، ككل الأحداث التي تمر بنا، والتي لا بدّ من مرور وقت طويل حتى نعيها ونراها بجلاء، ولا أقول نراها بالكامل فذاك أمر مستحيل. كانت فترة ازدهار ما سُمّي وقتها بالقومية التونسية، وهي دعوة انعزالية ليس هدفها تحقيق الذات بقدر ما هي موجّهة ضد المدّ القومي العربي المتجذّر في تونس، وموجّهة على وجه الخصوص ضد سياسات عبد الناصر في المنطقة خدمةً للحلف الغربي الذي جاء ببورقيبة إلى سدّة الحكم.

كانت نسخةً تونسية رديئة لأدبيات الانعزاليين اللبنانيّين. كانت معادية للعرب والعروبة، بل وللإسلام الذي هو جذر بل جوهر الهوية الشعبية، وكيف لا تكون كذلك وهي أيضاً وليدة الصراع الداخلي الذي خاضه بورقيبة في تلك الفترة ضد جماعة صوت الطالب الزيتوني الذين قدّموا عدداً كبيرا من الشهداء، وقد عرفتُ زعيمهم الشيخ البدوي بعد عودته من منفاه في باريس.

كان بورقيبة معادياً لليوسفيين والعروبيين عموماً، والتناقض الصارخ أن بورقيبة المعادي للعروبة نراه يدلي بدلوه في الشأن العربي، ويطالب مبكراً بالاعتراف بالكيان الصهيوني كما لو كان من عتاة العروبيّين.

■ كيف ذلك؟

– كان ذلك بتدبير من بيار منديس فرانس رئيس الوزراء الفرنسي، وهو يهودي صهيوني من أصول برتغالية، وكان صديقاً مقرّباً من ناحوم غولدمان وعضواً ناشطاً في المؤتمر اليهودي العالمي، وهو الذي ربط الصلة بين بورقيبة ورئيس المؤتمر اليهودي العالمي آنذاك، وهناك صورة من أواسط الخمسينات يظهر فيها بورقيبة مجتمعاً مع غولدمان.

كانت دعوة بورقيبة إلى الاعتراف بالكيان وإلى التفاوض النواة الأولى لما توصّلوا إلى إنجازه في أوسلو. وهكذا ذهب إلى أريحا وخطب في الفلسطينيين وطالبهم بالاعتراف بالكيان الصهيوني، وبيار منديس فرانس هو الذي رعى فيما بعد الاتصالات الأولى بين الفلسطينيين والصهاينة عندما نظّم لقاءات بين نعيم السرطاوي وعضو الكنيست الصهيوني لوفا الياف في شقته في الدائرة السادسة عشرة في باريس ثم في قصر أنفري الذي تملكه عائلة زوجته في منطقة البر وفانس جنوب فرنسا.

وقبلها، كان وراء تسليح الكيان الصهيوني بالسلاح النووي. وعندما أوقف الجنرال ديغول تصدير قطع الغيار للكيان ذلك الصيف، هاجم بيير منديس فرانس ديغول بكل عنف. ولم يلبث ديغول أشهراً حتى أجبره استفتاء على مغادرة الحكم.

■ هذا يعني أن تونس عرفت يميناً سياسياً شبيهاً بأيديولوجية حزب “الكتائب” في لبنان؟

– أجل، ولهما قواسم مشتركة؛ فقد نشآ في نفس الحقبة من ثلاثينيات القرن العشرين، والمفارقة أن كليهما متشبّه بفرنسا ثقافياً وروحياً وممثّلاً للمصالح الفرنسية، أي معادٍ للهوية التونسية التي هي عربية إسلامية.

وقد حاول هذا الموقف الانعزالي التونسي إيجاد تعبيرات له، فكانوا يتحدّثون عن قومية تونسية وحضارة تونسية بل لغة عربية تونسية في محاولة لعزل تونس عن محيطها العربي الإسلامي. ثمّ، لم يوضّحوا لنا لا متن هذه اللغة التونسية ولا نحوها وصرفها. وأكرّر المفارقة أن روحهم في باريس، والمفارقة الثانية أنهم هم من تنكّر للهوية التونسية بدعوتهم لتحديث هو تخريب للهوية. كانت مجلة “الفكر والاسم” تقليد لمجلة (ESPRIT) الفرنسية، هي المنبر الذي عبّر على هذا المنزع، وكان صاحبها وسكرتير تحريرها ينتميان للحزب الحاكم، بل كانا لسانه الثقافي في سنوات القمع تلك السوداء.

لا أفهم كيف يكون المثقّف عميلاً لسلطة، أيّاً كانت ومع تكميم الأفواه ويحافظ في الآن على حريته وعقله النقدي. والبديهة تقول إن لا إبداع بلا حرية، لأن الحرية هي جوهر الفكر على مدى العصور.

وهكذا، ظهر كتاب يتحدّث عن الشخصية التونسية بشكل أيديولوجي، والمفارقة الأخرى أن صاحبه كتبه بلغة عربية إنشائية تغلب عليها الكليشيهات، ولم يكتبه باللغة التونسية التي يدعو إليها. ويقوم هذا الكتاب على محاولة إيجاد ملامح خاصة لما يسمونه القومية التونسية وابتداع هوية للتونسي غير هويته، هوية على مقاس الخيارات السياسية لبورقيبة، هوية تعزله عن بقية العرب.

بل كانوا يجاهرون بأنهم ليسوا عرباً، بل وتركوا هذا المرض في الأجيال التالية. وعندما يذكرون العرب والعروبة فهم يذكرونهما بكثير من الازدراء، بل الحقد والتعالي الكولونيالي، أي أن حس الدونية الذي كانوا يشعرون به إزاء سيّدهم الفرنسي يعيدون إنتاجه إزاء شعبهم، وهو شيء شبيه بمتلازمة أستوكهولم؛ حيث يتبنّي الضحية موقف الجلّاد… بل وصل بهم الأمر إلى التشفّي في العرب وفي عبد الناصر بعد هزيمة حزيران، ووضعوا أغاني كلّها شماتة في الهزيمة وسخرية من عبد الناصر وأمين الحافظ ومن الجيش المصري الذي كان يحترق في سيناء والإذاعة التونسية تصدح بهذه الأغاني التي ما تزال في ما أعتقد في أرشيفاتها. أن تختلف مع عبد الناصر شيء وأن تتشفّى في هزيمة أمّة تنتمي إليها فذاك شأن آخر يدل على أزمة أخلاقية.

■ ما هو هذا الكتاب الذي أشرت إليه؟ يبدو أننا لا نعرفه في المشرق العربي…

مع يانيس ريتسوس في أثينا- جيّد أنكم لا تعرفونه؛ فالكتاب فضيحة بكل المقاييس. إنه كتاب “الشخصية التونسية” من وضع بشير بن سلامة. لم يكن الرجل وهو من الحزب الحاكم يدرك أن الحدود السياسية لا تتطابق مع حدود الهويات وهي في حالتنا العربية حدود متعسّفة، فأنت تجد العائلة الواحدة قسمٌ منها داخل الحدود والثاني خلفها. وهذا شائع عندكم في بلاد الشام، لأن هذه الحدود وضعها الاستعمار وهي انعكاس لتاريخ الغرب فوق أرضنا، ولم تنشأ داخل تاريخنا، وأنها لا تتطابق مع حدود الهوية والقومية كما هو الشأن في دول أوروبا الغربية، والدليل الآخر هو أنك تجد أغلب هذه الحدود عبارة عن خطوط مستقيمة وُضعت بالمساطر في مكاتب ضبّاط جيش المشاة أو في وزارات الخارجية، كما هو الشأن عندكم عندما حدّد وزيرا خارجية فرنسا وإنجلترا الخريطة المسمّاة خريطة سايكس بيكو.

وهذا الرجل لا يعرف أن هناك هويات تقوم على مستويات متعدّدة، هو ما يُصطلح عليه “identité à plusieursniveaux”؛ فالتونسي هو تونسي وفي الآن عربي ومسلم له انتماء لكل هذه الحلقات، لأن الدولة القومية كما عرفتها أوروبا الغربية لم تظهر عندنا. الدولة القومية تشكّلت في أوروبا على امتداد قرون أربعة في تاريخ آخر مغاير لتاريخنا، وقد عمد الغرب الاستعماري إلى إيهام هذه الدول الناشئة بأنها قوميات، بل أوهم مجتمعات إثنية كالبربر في شمال أفريقيا والكرد في المشرق العربي بأنها قوميات، وهي في حقيقتها إثنيات وهويات ثقافية، وليست كيانات قومية. وهم في فرنسا يحاربون القوميّين الباسك وسكّان جزيرة كورسكا وقبلهما البروطون في شمال فرنسا. وفي بلجيكا يرفضون انفصال الفلاندر. وفي المملكة المتّحدة لا يريدون انفصال أيرلندا، وفي إسبانيا لا يريدون انفصال كاتالونيا، وتراهم في الآن يشجعون الأكراد والبربر وغيرهم من الإثنيات على الانفصال وتفكيك كياناتنا وذلك منذ دخول الاستعمار إلى بلداننا.

لا يزال الناس يذكرون إعلان فرنسا الظهير البربري في المغرب وكيف رفضه العرب والبربر. واليوم أوجدوا لهم اسماً جديداً، هو الأمازيغ الذي جاء به المستشرقون. ولو أن الاسم صحيح ولكن غير مصطلح عليه. البربر اسم متداول منذ أكثر من ألفي سنة، فكيف يتغيّر اليوم؟ وهل تستطيع أن تغيّر اسم الصينيّين أو الرومان أو العرب وتمنحهم اسماً آخر؟ أو تغيير اسم الأرمن أو الرومان أو الإغريق بعدما استقر آلاف السنين؟

لقد أوهموهم خاصة في الجزائر والمغرب أن كلمة بربر إهانة، في حين أنه اسم علم وليس صفة، والاسم متداول منذ أكثر من ألفَي سنة، ومؤرّخونا يقولون البربر، فابن خلدون، مثلاً، يذكرهم تحت هذا الاسم ويشبّههم في عراقتهم ونبلهم بالفرس، وكذلك صاحب كتاب “محاسن البربر”.

والغريب أن الدعوة للبربرية إنتاج استعماري استشراقي جاء بضاعة معلّبةً من فرنسا. أجل نحن البربر، لنا هويتنا ولغتنا مثل العرب، ونحن متمازجان. أمّا التوظيف السياسي التخريبي لتفكيك البلدان، فتلك جريمة استعمارية، وهذه الدول الاستعمارية العريقة في استعماريتها آخر من يتحدّث عن انعتاق الشعوب. بل المفارقة أن شعار التحرير هذا أحد وسائل إعادة الهيمنة الاستعمارية في شكلها الجديد، كما أن الإنسان في المشرق العربي أشورياً كان أو قبطياً أو سريانياً أو شيعياً أو سنياً ينتمي أيضاً لهذا الكيان السياسي الجامع الذي اسمه العروبة والإسلام، وحتى المسيحي العربي هو ممتزج بالإسلام ثقافياً. لقد عمل الغرب على تفتيت هذه المنطقة من يوم إسقاط الدولة العثمانية وتقاسم ممتلكاتها، والآن انطلقوا إلى تفتيت المفتّت، فهم يمدّون بالسلاح كلّ من هب ودب ويصنعون الفتن. المهم هدم هذه الكيانات بكل الأسلحة المتاحة، بالفيروسات الثقافية والأخلاقية وبشراء العملاء وإغراء السياسيين للوصول لسدّة الحكم، بحيث يتمّ الإجهاز على هذه البلدان بسواعد أبنائها.

■ عمّا يتحدّث هذا الكتاب وما هدف صاحبه؟

– طبعاً، الهدف منه سياسي، ويتشكّل الكتاب من تجميعٍ لبعض المقالات نشرها صاحبها مسلسلةً في مجلة “الفكر”. أذكر من بين خصائص العبقرية التونسية التي اكتشفها صاحبه هي ميل التونسي إلى التعلّم وطلب المعرفة، كأن الشعوب الأخرى لديها ميل إلى الجهل وعزوف عن المعارف. يكتظ الكتاب بترّهات أخرى من هذا القبيل يطول ذكرها وشرحها.

■ وماذا عن الشعر؟ لقد ابتعد بنا الحديث عنه…

– الكل مترابط. وفي نفس هذا السياق الانعزالي، أوجدوا من عدم مدرسةً شعرية تونسية أطلقوا عليها “في غير العمودي والحر”. لأوّل مرّة يقع التعريف بالنفي، كما لو أنك تريد تعريف القطار فتقول هو ليس سيارة ولا طيارة. طيّب هو ماذا؟ صحيح لم يعد أحد يذكر كلّ هذه الترّهات ولا ذلك الكتاب الذي صيغ بلغة إنشائية ركيكة. ولكن هذا هو المناخ الثقافي الذي وجدنا أنفسنا فيه.

كان أفق شعراء هذا المنزع لا يتجاوز جاك بريفير ولويس أراغون. وقد كتبوا أشعاراً بلغة هجينة لا هي فصيحة ولا هي عامية، لغة أطلقوا عليها اللغة التونسية وهي صيغة تونسية كما سبق وذكرت لأيديولوجية الانعزاليين اللبنانيين في دعوتهم الفجّة لما يسمّونه الحكي اللبناني، عندما بدأ والمفارقة أن أجداد هؤلاء الانعزاليين اللبنانيين كانوا هم بناة العروبة الحديثة، والحق يقال كانت لغة هذا الكتاب ركيكة إلى أبعد حدود، كما هي لغة مجلة “الفكر”.

كان صالح القرمادي أحسن المعبّرين عن هذا الاتجاه الثقافي، وإن كان الرجل مناضلاً تقدّمياً ومعارضاً للنظام البورقيبي، ولكن كان له نفس التوجّه الثقافي الانعزالي والشوفيني التونسي، ومعاداة كل ما هو عربي وتقديس كل ما يأتي من فرنسا. وهذه الحالة عامّة يشترك فيها الفرنوكفونيون العرب من لبنان والمغرب العربي المصابون بعصاب المستعمر بفتح الميم الأخيرة.

من أعراض هذا العصاب مقت الذات واحتقارها وتقديس كل ما يأتي من فرنسا والاستعلاء الكاذب على بقية العرب، والذي تلمسه لدى كثير من اللبنانيين والمغاربة إجمالاً، وقد وضع الكاتب اليهودي الفرنسي من أصل تونسي ألبرت ممي كتاباً عدّد فيه تفاصيل أعراض مرض الشخصية الكولونيالية ومدى هوانها واحتقارها لنفسها.

ترك القرمادي مجموعة شعرية عنوانها “اللحمة الحيّة”. وبهذا الديوان مقطع شعري ما أظن العرب قالت أسوأ منه، ولشدّة سوئه فقد علق بالنفس ورسخ في الذاكرة؛ إذ يقول: “أحبّ حبيبتي كلحمة علّوش على كسكسي”، ما ترجمته: “أحب حبيبتي مثلما أحب لحمة الخروف فوق طبق الكسكسي”. هكذا وصل الحال باللغة العربية في تونس بعد حوالي ثلاثين سنة فقط على غياب الشابي الذي هو خرّيج الزيتونة.

ولكن اليوم ثمّة جيل آخر في تونس استعاد التقليد الزيتوني الذي انحدر منه الشابي وطوّره. تقرأ في تونس نصوصاً بلغة عربية مضيئة لا علاقة لها بترّهات اللغة التونسية المزعومة؛ إذ ثمّة فقط لهجات دارجة تونسية موزّعة حسب المدن والأرياف، وحتى هذه اللهجات هدموها. واللغة التي يكتب بها الجيل الجديد هي عربية حديثة جميلة لا عجمة فيها سوى بعض الاستثناءات من المدرّسين الذين لا شأن لهم… ورثة بورقيبة ومجلّة “الفكر”.

■ أنت تُحدّثني عن سياسة الدولة، لكن ماذا عن الحركة الثقافية؟

– الحركة الأدبية والثقافية إجمالاً لم تشذ عن هذا الوضع. وأيضاً لأن السياسة كانت تستحوذ على كامل الفضاء، كما هو الشأن في البلدان حديثة العهد بالاستقلال. وبذلك، أَفسدت الحياةَ الثقافية كما ذكر مرّة محمود المسعدي في حديث خاص.

ثم من المستحيل إيجاد حياة عقلية في مناخ الحزب الواحد، وكلّ ما كان هو ديكور ثقافي تسهر عليه وزارة الثقافة التي مهمّتها الأساسية تنظيم ما يُسمى بالعكاظيات، وهي حفلات أعياد ميلاد بورقيبة التي كانت تستمر قرابة شهر كامل.

في هذا المناخ الذي طغى عليه خطاب شوفيني وثقافة رسمية انعزالية وثقافة تطبيل وتأليه للزعيم الأوحد ومعارضة يسارية كان لها موقف جدانوفي (نسبة إلى الكاتب الستاليني جدانوف) من الإبداع، وكيف لا وقد كان أنور خوجة هو منظّرها وإذاعة “تيرانا” مصدر أخبارها وتحاليلها. كان تقييم النصوص وتصنيفها لدى هؤلاء أيديولوجياً محضاً؛ فالنصوص الجيدة هي الملتزمة مهما كان مستواها هابطاً… تلك التي تتحدّث عن الشعب والنضال بشكل مباشر، وأمّا البقية فهي نصوص رجعية.

هكذا، وحسب هؤلاء، فإن المتنبي وطه حسين وإليوت وسان جون بيرس رجعيون ولا قيمة لهم. وقد أطلقوا علينا أيامها تسمية “الشعراء الكونيين”، وإلى هذه اللحظة لم أفهم معنى أن يكون الإنسان شاعراً كونياً أو قروياً!

كانوا أيضاً عدوانيّين، فكان كلّ من يخالفهم يعتبرونه “بوليس”. وقد كوّنوا منظّمة شيوعية اسمها “العامل التونسي” يقصدون الكادح، وهي مشكّلة من طلبة وأساتذة ولم يكن بينهم كادح أو عامل واحد، بل إن أغلب العمّال كانوا مساندين للحزب الحاكم.

هم عصب المليشيات البورقيبية، فإذا ما خرج هؤلاء إلى الشوارع جاءهم عمّال الرصيف من البروليتاريا التي يتكلّمون باسمها وأشبعوهم ضرباً في مشاهد تذكّرك بشريط “زاد” لكوستا غافراس. هكذا كان المشهد نظام موالٍ للغرب في سياساته الخارجية على آليات تحكّم ستاليني في الداخل: الحزب الواحد واللجنة المركزية ولجان التنسيق الحزبي المبثوثة في الأرياف والجاثمة مع الحرس الوطني على صدور الفلاحين. باختصار، نظامٌ هو مزيج قاتل من إقطاع سياسي وستالينية بدوية، وفي الجانب الآخر يسار مراهق له عقلية ريفية في أغلبه الأعم، ولم يكن أمامك سوى الهامش وأن تتلقّى الضربات من الطرفَين.

■ إذن، اجتمعت عليكما السلطة والمعارضة؟

– أجل فهما متشابهان، ولهما نفس الملامح. غالبية المعارضات في بلداننا لها نفس ملامح السلطات التي تحاربها. انسَ يا عزيزي الأيديولوجيا. المصالح هي التي تتحكّم في آليات التاريخ ومفاصله، وهذا التشابه جعل كثيراً منهم في ما بعد ينخرطون بسلاسة في منظومة الحكم.

صار كثير من قادة اليسار المعروفين بوليس بن علي وعينه على الحركات الإسلامية في أوروبا وآسيا، وقد كتب مرّةً أحدُ زعمائهم أن لزين العابدين بن علي فلسفة تاريخية شبيهة بالهيغلية، أمّا فيلسوف تلفزيوني تونسي آخر، فكتب في جريدة “اليوم السابع” الفلسطينية التي كانت تصدر في باريس مشبّها محمد مزالي وكان أيامها وزيراً أول بسقراط… وشاعر كان يترجم ريلكة وهو فرنكوفوني وحداثي، يعني منبت لا جذور، له كتب سلسلة من الافتتاحيات في جريدته اليومية حول عبقرية بن علي في الحكم.

وأنت ترى تلك النماذج، تشعر بعمق أن هناك أزمة أخلاقية شاملة، وهكذا يجد المثقّف الحر نفسه محاصراً بشكل مزدوج من السلطة ومن المعارضة، والاثنان لهما رأي فيما تفكّر فيه وفيما تقوله وتكتبه.

أمّا أن تستقل برأيك وحياتك، فذاك شأن غير مقبول وهذا طبيعي داخل ثقافة تحكمها، ومنذ قرون، بنية الإجماع والمسايرة، وكلمة مارق في العربية لا تعني فقط الخارج عن الجماعة وإنما المرتكب ذنباً. والجماعة هي العائلة أو القبيلة أو الطائفة أو الحزب، لذلك فأنت ترى العرب وإلى اليوم إذا ما أسّسوا أحزاباً حديثة أو أي مؤسسات تسلّلت إليها سرّاً بنية القبيلة، لأن العلاقة الدموية ظّلت، ورغم التحوّلات التي طرأت على المجتمعات العربية، هي المحدّد الأوّل والأساسي لبقية العلاقات الأخرى.

وكان هشام شرابي شرح هذا في كتابه “مقدّمات لدراسة المجتمع العربي”. ألم تر إلى غالب السياسيّين العرب، إذا لم أقل كلّهم، يأتون إلى السلطة بأقاربهم حتى أن انعقاد مجالس وزرائهم والتئام لجان أحزابهم تبدو وكأنها مناسبات عائلية من زواج أو ختان يجتمع فيها أفراد الأسرة.

وهذا أيضاً من بين العناصر التي فتحت اليوم الباب وسهّلت التدخّلات الأجنبية لتسعير الصراعات الداخلية وتحويلها إلى حروب أهلية تأتي على الأخضر واليابس، لأن ولاء العربي للقبيلة والعائلة والطائفة يطغى على ولائه للوطن، ورابطُ الدم لديه أقوى من رابط المواطنة، ولأن دولة الاستقلال لم تحارب القبلية والطائفية بل كرستها وعمّقتها باعتمادها عليها في مسك مقاليد الحكم.

كان بورقيبة يحارب القبلية والعروشية والجهوية في خطبه، بيد أن حكمه وممارساته كانت نقيض ما يقول. كان في الواقع عائلياً جهوياً، إذ كان أغلب وزرائه من قريته المستير والقرى المجاورة لها في منطقة الساحل. وكذلك الأمر مع زين العابدين بن علي الذي اعتمد على عائلته وأصهاره وأبناء قريته.

نحن ننتمي إلى ثقافة شعارها “الأقربون أولى بالمعروف”. والحداثة في تونس شعار وليست واقعاً… ونحن اثنتا عشرة مليون من الأقارب والأصهار، وليس من المواطنين، وهذا ينسحب على كامل بلاد العرب سلطةً ومعارضةً.

 

تروبادور تونسي في المنفى (3- 3)

 

■ زرت ثلاثة وثلاثين بلداً، وأقمت في بعضها لفترات طويلة، مثل باريس سابقاً، وأمستردام حالياً. ماذا أعطتك هذه التغريبة الطويلة؟ وماذا أخذت منك؟

هناك تلازم اطرادي بين السفر ومعرفة الذات. أنت بقدر ما تسافر تكتشف الأنا، أناك، هويتك. أتذكر باستمرار مقولة الشاعر الألماني غوته، إذ يقول “من لا يعرف سوى لغته لا يعرف لغته”. أنت ومن خلال معايشتك مجتمعات وثقافات مختلفة ومتباينة وسرديات أخرى للحياة وللعالم تكتشف جوانب أخرى من ثقافتك تكتشف المشترك والمختلف بين الثقافات البشرية. الآخر يجعلك تعيد اكتشاف الذات ولكن لا بد من معايشة ما يسميه علماء الانثربولوجيا بـ الصدمة الثقافية التي تهزنا حتى الأعماق وتدفع بنا إلى اكتشاف الآخر والوعي أكثر بالهوية ولا أقصد التعرّف إلى الآخر كمشهد مرئي وكبطاقة بريد لا نتجاوز سطحها كما هو شأن السائح العابر.

الناس كثيراً ما يتجنّبون الصدمة الثقافية، وأنت ترى كثيراً من العمال المهاجرين وكذلك من المثقفين من يستمر في العيش في قريته وهو في المهجر. أتذكر ذات مساء وكنت في أحد أقبية بوارتا دل صول في مدريد ووسط الصخب حين التقيت طالباً سعودياً ماراً بمدريد في طريقه إلى جامعته في أميركا عندما التفت إلي فجأة وقال لي: “يا أخي هؤلاء الإسبان بلا أخلاق،” ففهمت أن الشاب لا يزال في السعودية لم يغادر وأنه لا يعرف موازين أخلاقية غير موازين بلده”.

■ هل هذا يعني أن السفر كما تقول هو غير الانتقال من مكان لآخر؟

أجل، فأنا أعرف كذلك مثقفين عرباً يعيشون في لندن وغيرها من عواصم الغرب منذ ثلاثين سنة ولم يغادروا بلدانهم. ظلوا مشدودين إلى بلدانهم بالتليفون والفايسبوك ولا يلتقون سوى العرب المهاجرين من زملائهم. لا يعرفون من لغة بلد الهجرة سوى قاموس التبضع وكل قراءاتهم للأدب الإنكليزي تتم في الترجمات العربية وهم ينتظرون أن تأتيهم الكتب من بيروت أو بغداد. كان جبران ونعيمة والحكيم ومحفوظ يقرأون إبداعات الغرب في لغاتها وكانت لهم صداقات وحوارات مع كتاب عصرهم، وكان الأفغاني على علاقة بفيكتور هيغو وكان طه حسين صديقاً ومحاوراً لأندريه جيد الذي رشح ذات سنة طه حسين لنيل جائزة نوبل ولا أتحدث عن أولئك النصابين الذين وبعد مكوثهم في بلاد اللجوء بأقل من عام ترى الواحد منهم يصدر الرواية ذات الثلاثمائة صفحة بلغة بلد اللجوء.

أعرف من أصدر عدداً من المجموعات الشعرية بالفرنسية وهو لا يكاد يقضي حاجاته اليومية بهذه اللغة. المسألة كيف يكون الإنسان معاصراً لعصره وهو لا يتقن لغة واحدة من لغات الغرب التي تمت فيها ومن خلالها مغامرة الحداثة منذ فجر عصر النهضة وتمت فيها ومن خلالها تلك التحولات الكبرى في الفلسفة والرياضيات والعلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية من علم نفس وعلوم اجتماعية وسياسية لأن الإبداع في الرواية والشعر والمسرح والفنون المرئية غير منعزل عن تلك التحولات الكبرى التي عرفها الغرب في القرون الأخيرة والتي أعادت صياغة الإنسانية ومست الثقافات غير الغربية. وأنت لا تستطيع عزل السريالية مثلاً عن تطورات علم النفس على أيدي فرويد ويونغ وأدلر واكتشافهم قارة اللاوعي، ولا قراءة شعر راينر ماريا ريلكه بمعزل عن الفلسفة الوجودية التي انبثقت عن أزمة سورين كيركغارد الروحية.

وهذا من الأسباب التي ساهمت في تعميق هذا الفهم الخاطئ للحداثة وهذه الفوضى، والخلط الذي نشهده في الثقافة العربية المعاصرة هو نتيجة عدم استيعاب المنجزات الحديثة كما فعلت الأجيال السابقة وبخاصة جيل ما بين الحربين. كان الطيب صالح وجبرا إبراهيم جبرا هما آخر العنقود. لتكون أنت لا بد من معرفة الآخر واستيعابه وتحويله إلى مادة ذاتية.

■ هل تقصد أن الموهبة وحدها لا تكفي؟

أجل، لا بد من خلفية معرفية تسند الموهبة. هناك من لم يقرأ الكلاسيكيات القديمة والحديثة أو ما نسميه في تراثنا العربي أمهات الكتب. هؤلاء غير معاصرين لعصرهم. وهكذا تتحول الحداثة لدينا إلى شعارات ومجرد صيغ لغوية بلاغية خاوية؛ بدأ ذلك مع مجلة “شعر” التي كان لها تأثير سيئ على الشعر الذي يُكتب اليوم وهو في أغلبه الأعم بلاغة خاوية، زخرف كلام، وباستثناء قلة منسية مبثوثة في كل بلاد العرب وتتحّول الطاقة عن الإنجاز والإبداع إلى الجري وراء النجومية ووراء أموال الجوائز.

أيضا ثمّة أزمة أخلاقية حادّة… كتّاب مطبّعون مع العدو الصهيوني يقع تبنّيهم في الغرب بسرعة وآخرون ينخرطون في أجندة شيطنة العرب والمسلمين الذي دشنته صور الكاريكاتير الهولندي وكذلك كاريكاتير مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية ومثقفون متخفون وراء خطاب حداثي وروائيون هم نماذج كاريكاتيرية لسلمان رشدي من أمثال التونسي عبد الوهاب المؤدب وسليم باشي وبوعلام صنصال الذي يحج إلى حائط المبكى وكمال داود وهم عبارة عن حركيين جزائريين في لبوس روائيين وقد فضحهم الروائي الجزائري رشيد بو جدرة.

هناك كتاب مصريون وعراقيون ومغاربة توقفوا مع عقلانية فولتير، بيد أن عقلانيتهم دعوة أيديولوجية أكثر منها جدل وإبداع فلسفي وعملهم دعاية وتبشير وبروباغندا أكثر منه إبداع فكري. وكما أن هناك إسلاما سياسيا، هناك إلحاد سياسي، وهما وجهان لعملة واحدة. الاثنان من الدواعش؛ واحد للتدمير المادي والآخر لهدم الهوية والاثنان ينتميان لأجندة واحدة؛ داعش الإرهاب يقتل العرب والمسلمين ويهدم دولهم وفي الآن نفسه يقدم صورة للعالم تشيطنهم. وهؤلاء المثقفون من روائيين وغيرهم استمرار ومواصلة للرسوم الهولندية في أشكال تعبير أخرى وشرعنة لهذه الرسوم. هم يقومون بوظيفة الهدم من داخل البيت. ولتبرير الهجمة الغربية ولسان حالهم يقول نحن نعيد ما تقوله نخبهم المضطهدة.

هل تتصور أن مجلة لوبوان الفرنسية العريقة تجعل صورة غلاف أحد أعدادها لكاتب جزائري عادي جداً وتكتب الجملة التالية: كمال داود يهزّ العالم أو يزعزع العالم. ولا علاقة لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم العقلانيين والتنويريين العرب بالجدل الفلسفي. هي قوى داخلية ممولة من الخارج وظفت لشرعنة الهجمة على المنطقة لتسهيل إعادة تنظيم الخريطة السياسية للمنطقة بما يتماشى والمصالح الاستعمارية هي أدوات مساعدة للقوى الإمبريالية لتشكيل شرق أوسط جديد تكون زعامته للكيان الصهيوني متجاوزين تقسيم معاهدتي سايكس بيكو ومؤتمر يالطا.

■ أتعني كتّاباً في خدمة الاستعمار بوعي وبلا وعي؟

أجل هناك كثيرون على حسن نية ويريدون تغيير هذا الفكر القروسطي المتحجر ولكن كثيراً ما يكون الطريق إلى الجحيم معبداً بالنوايا الحسنة كما يقال، وهذا أسلوب اتبعه الغرب في كثير من البلدان يصنعون كتّاباً ويحولونهم إلى أيقونات.

كتاب يعيدون إنتاج الخطاب الاستعماري متخفين بخطاب إصلاحي. بيد أن هناك اليوم كتاباً مهمّين لا يذكرهم أحد لأنهم خارج الميديا. أذكر أنني قرأت أعمالا جيدة لكتاب وشعراء عراقيين وأيضاً كاتبات من السعودية والكويت. أحب خاصة جماعة موقع “تكوين” والعمل الرائع الذي ينهضون به. ثمة كنوز مخفية في العالم العربي تتحرك خارج الميديا وأنت قد تعثر عليها بالصدفة هنا وهناك. هكذا اكتشفت كتاباً من مصر في موقع “هنداوي” للكتب وفي الجزائر والمغرب وتونس من كل بلاد العرب. وقد ذابوا بفعل التدفق الخرافي للمعلومات كما لو يطلب منك البحث عن إبرة في قاع المحيط…

الميديا زيفت المشهد وقضت على القيم وفكت الارتباط بين الصورة الواقعية والصورة الإعلامية الافتراضية؛ بين القيمة الحقيقية للكاتب وبين الصيت الذي يحصل عليه أي صورته الافتراضية. وكما صنعت زعماء تلفزيونيين مشهورين مثل كوكا كولا وفلاسفة تلفزيونيين هم كائنات لها وجود افتراضي كما لو كانوا حلما داخل حلم آخر… انظر إلى ماكرون مثلاً، الرجل نكرة بشهادة كل السياسيين الفرنسيين مارس السياسة شهراً واحداً يتقدم للانتخابات وتتجند الميديا لتقديمه في إحصاء قام به أحد المواقع أن الرجل وطيلة الحملة الانتخابية وقع ذكره حوالي سبعة عشر ألف مرة واستجاب القطيع الذي تتحكم به الميديا التي هي نفسها محكومة من طرف البنوك واللوبيات المالية.

■ نادراً ما تنشر شعرك حتى أنّ نشاطاتك الأخرى غطّت عليه، لماذا؟

أنا مقل أيضاً لأنني ومنذ سنوات طويلة أمسكت عن النشر في تونس، سواء في جرائد أو مجلات السلطة أو غيرها. أتذكر كلمة لستيفان زفايغ يقول فيها إنه من حظه أن وجد ناشرا مبكرا. الصحافة الحرة والنشر الحر محرّضان أيضا على الكتابة. لم تكن في تونس سوى مجلة واحدة هي مجلة “الفكر”، لذلك هاجرت بقلمي إلى الشرق العربي. كل ما نشر لي كان في مصر وبيروت وبعض منابر الخليج. ديواني اليتيم صدر عن “دار رياض الريس” وكذلك كتاب “غبار القارات” صدر في بيروت، وكتاب “سراج الرعاة” نشر في الدوحة. لم أنشر في تونس سوى الترجمات؛ مختارات من شعر سان جون بيرس وكتاب حوارات هنري ميللر وكتاب لوكليزيو “ثلاث مدن مقدسة” فضلاً عن كتابين للوران غسبار وستة كتب صغيرة لإيتيل عدنان وديوان لميشال بيتور الذي ربطتني به علاقة مراسلة جميلة. ولا أتحدث عن المخطوطات، لدي كراس القصائد نشرت شذرات منه في المجلات وفي موقع “جهات” ولدي أعمال مخطوطة ثلاث كتب هايكو مترجمة وديوان للاليميلدور الشاعرة التركية ومختارات لحوالي أربعين شاعرا معاصرا.

ثم أنا أكتب أقل مما أقرأ، وأنشر أقل مما أكتب. الحياة في تونس أكسبتني عادة الصمت لسنوات. عشت بعيدا عن المنابر ورغم هذه المقاطعة فإني كثيرا ما كنت أقع من حين لآخر على قصائدَ ونصوص منشورة ثانية في الجرائد اليومية كانوا يأخذونها ويعيدون نشرها في صحفهم الصفراء لإيهام القارئ بأني أتعامل مع النظام. وقد تولى رئاسة جريدة “الصحافة” رجل لم يمارس الصحافة مطلقا في حياته كان ينشر لي بعض الترجمات ولأني لا أقرأ هذه الصحافة فقد فاتني الكثير مما أعيد نشره. وكنت أكتشف ذلك عندما ألتقي بأحد الأصدقاء في باريس يقول لي صرت تنشر في الصحافة التونسية أقول له لا فيقول قرأت لك أخيرا كذا وكذا. وهكذا اعتبرني كثير من المعارضين من مساندي النظام. في حين كنت مستقلا.

أكثر من ذلك نظموا مهرجانا للشعر العربي ووضعوا اسمي في البرمجة دون علم مني، قام بذلك رجل اسمه حمادي صمود عينوه مديرا لهذا المهرجان. وفي الآن نفسه، كانوا يعتدون علي في الشوارع ويفبركون لي قضايا في المحاكم ليس لأنني مهم فأنا لست مهما ولكن كل ما في الأمر أن هذه الأنظمة مصابة بالبارانويا تخاف من ظلها كما نقول في تونس. ولم أكن طبعا وحيدا؛ الكاتب والشاعر سليم دولة والشاعر عادل معيزي وقع الاعتداء عليهما وغيرهما كثر.

■ سؤالي عن الكتابة وليس النشر. لماذا أنت مقل؟

أنا مقل لأني لا أكتب إلا عندما أشعر برغبة حقيقية في الكتابة، عندما أشعر بالحالة وكثيرا ما تأتيني القصائد وأنا أسير في الشارع أو أفعل أي شيء أنا لا أجلس لأكتب قصيدة وكما يقول هنري ميشو عندما تجلس بقصد كتابة قصيدة هو قتل لها لأن القصد عقلي وواعٍ والشعر يأتي من ذاك المكان المجهول في أنفسنا. صحيح هناك كلام كثير عن العمل والاجتهاد وأن الموهبة عشرة في المائة والبقية عمل وجهد وعرق وإصرار هذا صحيح أيضا… ثم هناك عامل آخر ساهم بتدميري هو ذاك الرقيب الداخلي الذي لم أكتشفه إلا أخيرا فكنت أبدأ بكتابة قصيد ثم أتوقف في السطر الثالث أو الرابع… لقد عشت فوضى كبيرة في حياتي وإصراراً على حريتي التي كانت باهظة ولكنها أمدتني برؤية نقدية للعالم والنص، وبالتالي للنصوص التي جعلتني أمضي في التفكير وفي الكتابة.

■ لماذا اخترت النشر؟

بكل بساطة، عشت في بلد يحكمه نوعٌ من الستالينية البَدوية. كانت دور النشر والمؤسسات الثقافية في يد الدولة، ويشرف عليها موظفون لا علاقة لهم بالثقافة (أذكر رجلاً كان اسمه “العكروت”، جاؤوا به من سوق الأسماك إلى رئاسة اللجنة الثقافية إلى مدينة تونس العاصمة). هذا الرجل الذي جاء من جزيرة قرقنة كان متعالياً على الثقافي والأدبي، وهذا طبيعي لأن مهمته سياسية أكثر منها ثقافية: بمعنى أن تصوّره يقوم على تدجين المثقّفين. ثمّة آخر جاؤوا به من صالون الحلاقة حيث كان يعمل حلّاقاً في مدينة المنستير. وكذلك كانت دور النشر جزءاً من هذا المشهد الثقافي البائس، حيث يشرف عليها أناس لم يمارسوا صناعة الكتاب على الإطلاق، تماماً مثل مديري الصحف الحكومية التي كثيراً ما يُشرف عليها أشخاص لم يمارسوا الصحافة ولو يوماً واحداً، الأمر الذي دمّر الصحافة التونسية التي كانت أرقى بكثير أيام الاستعمار.

لكل هذه الأسباب مجتمعة قررت الاعتماد على الذات وأنشأت أول الأمر مجلة في شكل كتاب جماعي غير دوري هو “كتاب الأسئلة”. وكثيرا ما اتهمت بأني أخذت العنوان من عند الكاتب المصري اليهودي إدموند جباس والحال أني معجب بالعناوين العارية، فقد لاحظت في الفهرست تلك الموسوعة التراثية النادرة لإسحاق النديم استعماله الدائم لكلمة كتاب وكذلك الجاحظ الذي لديه كتاب البغال وكتاب القيان ولأنّي أعتقد كما قدامى الإغريق أن السؤال كما تدري هو الباعث على التفكير وأصل ومنبع المعرفة وأعني بالسؤال ليس تلك الصيغة الاستفهامية الخاوية وإنما ذاك الاستفهام الذي يسكن طالب المعرفة.

وهكذا عندما بعثت “دار التوباد” أطلقت على سلسلة الشعر اسم سلسلة القصيدة وعلى الكتب النثرية سلسلة المتون. والحقيقة أنها نصيحة من جورج شحادة الذي نقلت أشعاره وزرته ذات شتاء في باريس بشقته في شارع الآباء القديسين سألته عن عنوان ديوانه “أشعار”، قال اخترت أشعار لأنه بسيط وعار. وعندما أعلمته بخجل أن لي مجموعة أريد نشرها قال لي اجعل عنوانها قصائد. وعندما نشرت ديواني اليتيم جعلت عنوانه “قصائد” وأضفت إليه “لأجل الملاك الضائع”.

■ لديك تجربة فريدة جداً كناشر، بإجماع مثقفين كثر. والكتب التي تصدرها عن “دار التوباد” تضاهي منشورات أفضل دور النشر العالمية، سواء من حيث الشكل أو المضمون. كيف نجحت في هذا بإمكانيات مادية محدودة؟

هو الشغف بالحرف والكلمة وبالكتاب ونحن نتحدر من ثقافة كتابية عريقة. في منطقتنا ظهرت الأبجدية قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة والكتابة في كل الثقافات السامية مقدسة حروفا ونطقا والكتاب لدينا مقدس ونحن ننتسب إلى الكتاب ونسمى أهل الكتاب. لذلك أبدع العرب والمسلمون في صناعة الخط وصناعة الكتاب والخزائن والمكتبات السلطانية وحتى الأديرة تكتظ بالمخطوطات العربية البديعة ومن شدة ولع العرب بالكتاب خطوه بماء الذهب. ولنا في تونس المخطوطات الزرقاء القيروانية.

الكتاب في لاوعينا الجمعي مقدس فلا غرابة أن يتحدر إلي هذا الشغف بالكتاب …أما “دار التوباد للنشر” فهي محاولة متواضعة جدا وبوسائل محدودة جدا لصناعة كتاب جميل وشديد البساطة في الآن وقد فوجئت بالقبول الذي لقيته هذه المنشورات في كثير من الأوساط والمنابر الثقافية خارج تونس على وجه الخصوص. كتبي توزع في بعض المكتبات المتخصصة في باريس وبرلين وفي أمستردام. كما نشرت نصوصا لكتاب فرنسيين لم يسبق لهم نشر أعمالهم في تونس شعراء مثل ميشيل بيتور ولوران غاسبار، وبرنار نويل، وجامِس ساكري، ويواخيم سارتورِيوس، كما أعدت نشر أعمال سان جون بيرس وجورج شحادة في اللغتين العربية والفرنسية بعد حصولي على حقوق النشر من دار “غاليمار”، كما نشرت ترجمات للوكليزيو وهنري ميللر ولا أخفيك أنني تلقيت وبدعم من لوران غسبار مساعدة حقيقية من البعثة الثقافية الفرنسية في تونس.

■ أنت بعكس كثيرين، يشكون من صعوبة البدء في الكتابة، تشكو من “الفينش”. ما راكم لديك ثماني مخطوطات تحتاج فقط إلى لمسات لإتمامها. أإلى هذه الدرجة يسكنك هاجس الكمال؟

في الحقيقة أعاني من الاثنين. ثمة أسباب عدة منها: هذا المرض الذي صاحبني طويلا وهو مرض الكمالية، والرقيب الداخلي الذي يأتي معها، والذي هو في حقيقته استبطان لموقف الكبار منك أيام طفولتك. ويدفعك للإحباط لأنك انصعت لجبروته. والوجل من الكلمة المكتوبة المتأتّي من رومانسية المراهقة ومن التربية الزجرية التي تلقيناها والقائمة على الدفع نحو الاتباع مما يخمد جذوة الخلق والخيال الإبداعي، لذلك فأنت كثيرا ما ترى الإبداع لدى الكاتب العربي يكون لغوياً بلاغياً لأنه ممنوع في لاوعيه من تخطي الخطوط الحمر.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، رفضي الكتابة في صحافة مصفقي الدولة ولكنني، مع ذلك، ظللت أكتب يومياً مذكراتي، من أيام المراهقة إلى الآن، وإن كنت في الفترات الأخيرة، لا أثابر على الكتابة اليومية في دفاتري. الدفتر ملجأ ومساحة حرية وحوار مع الذات ودربة للقلم على الكتابة اليومية هكذا حميت نفسي ووقيتها من العالم الخارجي إذ منذ البداية وجدت نفسي في التغاير والاختلاف والصدام مع المحيط ورفض القالب الذي يضعون فيه ما يسمى بالمواطن الصالح الباحث عن السلامة أو المواطن الببغاء.

وإنك لتجد في هذه اليوميات كل حواراتي الداخلية، تناقضاتي وأحلامي وقراءاتي. يعني أن هذه اليوميات شبيهة بذاك المجنون الذي يكلم نفسه. ولا أخفيك أيضاً أنني كثيراً ما أكلم نفسي وبصوت مرتفع.

حتى أني في إحدى المرات، جاوبني شخص كان يقف قربي ظنني أتحدث معه قلت له بعصبية: “نحكي مع ملايكتي” وهو تعبير تونسي ما يعني أتحدّث إلى ملائكتي. “أنا أتكلم مع ملائكتي وليس معك!”. أما قصتي مع النشر، فهي نتيجة لهذا المرض: الكمالية. فأنت تجدني أكتب النص وأظل أنقحه إلى ما لا نهاية.

■ أهو حنين إلى ما كان قبل الإسلام عند شعراء تلك الفترة من “تحكيك”، وهو في جوهره احترام للفن والقارئ؟

ليس هذا، أنا لا أقارن نفسي بهذه القمم، كل ما في الأمر أني مهووس بتقديم نص أرضى عنه وهذا الرضى بعيد المنال وهو أيضا عطل نفسي… بيد أني في السنوات الأخيرة، بدأت أحارب هذه الكمالية التي تمنعني من النشر. لقد تعلمت من بورخيس الذي يقول: “لو ظللنا ننقح الكتاب باستمرار، لما نشرنا كتاباً واحدا” والنقص ثابت بشري.

وعلى الإنسان أن يمتدح الخطأ والأعمال غير المتقنة ـ أو التي تبدو لك كذلك، لأن عملاً ناقصاً أحسن وأجدى من عمل لا ينجز بالمرة… طلب الإتقان يؤدي إلى الموت. هذه حكمة تفيدك تثري ثقافتك، أما أن تغير نفسك من الداخل فذلك شأن آخر عسير…

■ قلت أخيرا إن أدب الرحلة يموت على مستوى العالم، هل لك من إيضاح وتفصيل الأسباب؟

أجل يموت أولاً لأن الكتابة تغيرت مفهوما وممارسة. نحن ندري منذ أوائل القرن العشرين أن الكتابة لا تعبّر عن العالم، وأن اللغة والأسلوب يقدمان عالمهما هما، ولا يقدمان العالم الموضوعي، كما هو شأن التقارير الصحافية أو تقارير المحاكم عن الجرائم. والكتابة مرعبة لأنك عندما تكتب فإنما تغوص في أعماقك. ولا شيء مرعب للإنسان أكثر من التأمل في الداخل. والناس تتجنب الكتابة لأنها تتجنب الذهاب إلى مواجهة ذاتها أو طبقاتها النفسية العميقة حيث تثوي في تلك الظلمة جروحنا الكبرى.

يدرك ذلك من تمدد على سرير المحلل النفسي لأن في الكتابة ثمة كذلك شيء شبيه بممارسة التحليل الفرويدي. إذن أن نكتب عن السفر، فهذا لا يغير شيئاً، لأن معاناة الكتابة هي نفسها إن كنت مسافرا أم مقيما. وأيضا يبدو لي أن أدب الرحلة هو نوع من كتابة السيرة الذاتية. فما الفرق بين أن تكتب عن حياتك في الإقامة أو أن تكتب في الظعن كما تقول العرب؟ لذا أرى أدب الرحلة لم يعد جنسا أدبيّاً مستقلاً بذاته، كما أن الرحلة نفسها اختفت في هذا العالم المتشابه والمتكرر في كل البلدان؛ لم يعد المسافر يلتقي كما كان في ما مضى بثقافات مغايرة وشعوب مغايرة، لأن العولمة قضت على لذة الرحلة والاكتشاف والانبهار بالتغاير. صار مشهد العالم تقريبا واحدا في كل مكان، باستثناء المجتمعات الإثنية حيث يذهب الأنثربولوجيون ليقوموا فيها بالدراسات الحقلية.

■ لماذا طغت السيرة على أدب الرحلة؟

كما قلت، الكتابة مرتبطة بالذات، والكاتب مثل الرسام، فهو حتى لو كان يتحدث عن البلدان والعالم، فهو في الأخير يقدم لنا نفسه، من هنا يصير أدب الرحلة سيرةً.

■ ماذا يعني لك أن تترجم شعراً؟

أعلم أن ترجمة القصيدة تُشَبَّه بذاك الذي يقبّل امرأة من خلال الزجاج: كل الأشياء حاضرة، إشراق الوجه وسحر النظرة البشرية باستثناء حرارة الحياة. لكن الترجمة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الثقافات، رغم نقصها. وهناك كلمة تافهة غالباً ما تتكرر هي: الترجمة خيانة. وفي ما أعلم هي حكمة لاتينية قديمة، في حين أننا ندري اليوم أن الخيانة في الترجمة هي الوفاء الحقيقي. هناك ترجمات هي أكثر جودة وجمالاً من النص الأصلي. لأن المترجم أعاد إبداع النص بلغته، فهي إعادة خلق إذن. وأحسن مثال هو نص “ألف ليلة وليلة” لدى بورخيس (شخصية مينار ..)، كذلك ترجمة بودلير لإدغار ألن بو، هي إعادة خلق وإبداع. ترجمة فيتزجيرالد لعمر الخيام هي إبداع فيتزجيرالد والناس تدري اليوم أن فيتز جيرالد غير وبدل كثيراً من متن عمر الخيام، ولكن رباعيات فيتز جيرالد هي التي انتشرت وأحبها الناس وهي التي كان لها دور فاعل في الوصول إلى العالم.

إنها إبداع على إبداع، كذلك لا أنسى ترجمة أبو الطيب [محمود صبح] لمذكرات نيرودا. لقد قدم محمود صبح جوهرة أدبية باللغة العربية. يعني أنا أرتكب هذه الخيانة الجميلة وأحاول أن أقدم نصاً في اللغة العربية يمنح قارئه قدْراً من لذة النص الأصلي.

من أسرار الترجمة تلك المفارقة المتمثلة في أنك تبتعد عن النص الأصلي لتقترب من جوهره؛ وفي هذا السياق، أستعيد مقولة صديقي المترجم الفرنسي كلود بلوتون وقد مارس الترجمة طيلة حياته ونقل أكثر من مائة عمل أدبي من الإسبانية إلى الفرنسية التي فحواها أن الخيانة في الترجمة هي الوفاء نفسه. فالترجمة هي تلك الخيانة الجميلة لذلك ترى أن ترجمات كثيرة ينجزها أساتذة أكاديميون ولشدة دقتها ووفائها اللغوي تجدها ثقيلة لا تقرأ وأنا أتحدث هنا عن الترجمة الأدبية لأن ذلك لا يصح بالنسبة للترجمة العلمية التي جوهرها الدقة الفائقة.

■ تقرن دائماً بين السفر الخارجي والداخلي، وتعتبر أنّ أحدهما يكمل الآخر، فهما متلازمان عندك؟

أجل، لأن السفر هو اكتشاف للعالم، ولكن هذا الاكتشاف يستهلك قدرات ذاتية داخلية على النظر والانبهار، لذلك فالعالم الخارجي هو كما يقال موضوعياً: كل رؤية للموضوع تتم من خلال الذات.

لذلك الناس قد تسافر إلى الأماكن نفسها، لكن كلٌ يرى بنفسه شيئا آخر. فالعالم الذي يبدو موضوعياً هو في الحقيقة يُرى من خلال الذات. نحن أسرى ذواتنا مهما بدا أننا نتفرج على العالم الخارجي، لأننا نراه من خلال ذواتنا بالأساس. وهذه هي مفارقة ستندال عندما يتحدث عن الرسامين، صحيح أن الرسام يرسم العالم الخارجي، سواء أكان مشهداً طبيعياً أم غيره، ولكنه في الواقع يقدم لنا رؤية ذاتية للعالم. هنا تكمن معجزة الفن، إذ يجعل من الموضوع ذاتا.

■ ما هي أكثر مدينة زرتها وأثّرت فيك على الصعيدين الشخصي والكتابي معاً؟

في ما عدا تونس القديمة والكولونيالية، أحببت القاهرة وباريس. قاهرة الدرب الأحمر والموسكي ومقهى ريش وتصعلكي مع يحيى الطاهر عبد الله وصديقه كلفت، حيث ذهبنا معاً إلى قهوة في شارع عماد الدين، كان يحيى يتحدث بحماس عن الشارع وأنه كان في العصر الملكي مكتظا بالملاهي والمسارح ويتحدث عن عبقرية العقاد في مونولوغ لا ينتهي بصوت فيه حرقة وشيء كالنحيب. يحيى القادم هو أيضا من محافظة أسوان مثل العقاد كل ذلك على إيحاء برفض الحقبة الناصرية. قاهرة محي الدين اللباد في ميدان النعام وشارع المنيل حيث يقيم صديقي محمد قناوي الذي عرفني إلى فؤاد حداد وجماعة حدتو وحملني إلى صديق عمره علاء الديب في المعادي وهناك التقيت فؤاد كامل وأهداني ترجمته لسيرة الفيلسوف الروسي برديائيف.

القاهرة عندما آتيها أشعر بأنها المكان الذي تمت فيه مغامرة الثقافة والفكر العربيين الحديثة، منذ أيام محمد علي. القاهرة هي المخبر الذي خرجت منه كل التجارب الثقافية والاجتماعية والفكرية الحديثة. لقد قالت مصر كل ما يمكن أن يقوله العرب في القرن العشرين. النخب الشامية نفسها عاشت في مصر واليوم انكفأت القاهرة بحزن على نفسها بتفشي ظاهرة الترييف المديني والثقافي. كان حسن فتحي هو أول من نبهني في الثمانينات إلى ذلك وهذا ما يفسر لك هجرة جيل سمير أمين ومصطفى صفوان إلى أوروبا.

حوالي السادسة عشرة عرفت حسن حسني عبد الوهاب، المؤرخ التونسي والوزير أيام العصر الملكي. كان عضواً في مجمع الملك فؤاد وأحد رؤساء لجان مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة. كان عبد الوهاب أستاذي وشيخي. كان صديقا للأمير فؤاد الذي التقاه في إيطاليا قبل أن يتوج ملكا على عرش مصر. منه تشربت محبة القاهرة.

أما باريس فهي مغامرة الكتب القراءة والصعلكة في الشوارع التي لا تنتهي وفي النصوص الحديثة. أيام العمل في مجلة “المستقبل” اللبنانية واللقاء بالسرياليين العرب وحلقات المجالسيين. هناك التقيت العفيف الأخضر وقد بدا لي مصابا بالبارانويا يرتاب في كل من يلتقيه. باريس هي إعادة اكتشاف هايدغر ورونيه شار وقراءة بول ليوتو وريلكه وليونار صديقي الفوتوغرافي وعلاقاتي بشعرائها غي غوفيت ولوران غسبار وميشال بيتور وبرنار تويلوبرنار مازو.

باريس هي كاترين التي أحببتها في تلك السنوات البعيدة. وعن طريقها أو بواسطتها اكتشفت كثيراً من أسرار الروح الفرنسي. كاترين هي تلك الرسائل وبطاقات البريد التي كنا نتبادلها يوميا ونحن نعيش معا وذهابها كل آخر أسبوع إلى عائلتها في رين وذهابنا أيام الآحاد التي لا تغادر فيها إلى منتزهات باريس.

وباريس هي قطار موسكو الذي حملني إلى كوبنهاغن أيام التصعلك في طرقات العالم. ومن محطة كوبنهاغن ركبت الباص إلى العبّارة التي قطعت بي البحر إلى مالمو ثم ركبت إلى لوند للقاء الصديقة كارين القادمة لتوها من تشيلي وحضوري حفلاً أقامته لأصدقائها من ثوار التوباماروس. والقطار الآخر الذي حملني إلى دنكرك ومنها عبرت إلى دوفر فإلى لندن حيث أقمت أسبوعا في الحي الباكستاني لأن إقامتي انتهت في فرنسا فلا بد من المغادرة ثم العودة ونيويورك الصاخبة التي وصلتها في صباح خريفي وجلت وسط الجموع في برودواي وحضرت حفل فيروز في مسرح الكارنيغي هال وهي تصدح في ظلام المسرح “بحبك يا لبنان” ومن الغداة ولدى زيارتي بيت الشاعرة اللبنانية نادية تويني وجدتها هناك وكانت شخصا آخر غير الذي رأيته على خشبة المسرح وناطحات السحاب ومتطوعي جيش الخلاص والشارع الخامس الذي كنت أعبره وأنا أفكر في جبران وفي ميخائيل نعيمة اللذين عبرا من هناك و”متحف الفن الحديث” حيث اكتشفت ألوان وأضواء التعبيريين وأخذت بغنائية لوحات ماني وموني وبيزارو وأعمال بيكاسو الأولى، كانت أول مرة أشاهد فيها تلك اللوحات التي سبق ورأيتها في الكتب. واللقاء بإدوارد سعيد في جامعة كولومبيا والحوار حول كتابه “الاستشراق” الصادر أيامها.

ثم واشنطن المدينة الأنثوية التي وصلت إليها في الخريف ذات ظهيرة باردة من أكتوبر وكانت المحطة خاوية والتبس علي الأمر، خفت أن أكون ذهبت بالخطأ إلى مدينة أخرى وسألت الرجل الوحيد على رصيف المحطة هل هذه مدينة واشنطن فأومأ بنعم ولا بد أنه ظن بي الجنون. كنت ذاهبا لألتقي هشام شرابي الذي أحببته كاتبا ومعلما وإنسانا. هشام ابن فلسطين، والذي كان له تأثير حاسم على رؤيتي للمجتمع العربي. هشام شرابي أزال الكثير من الأساطير التي صحبتني وتلك النظرة المثالية لثقافة عصر النهضة العربية. كانت له رؤية نقدية زلزلت كل المسلّمات. صحبته أياما في جامعة جورج تاون.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صاحب التوباد

من الصعب التصديق أن خالد النجار (1949) سيدخل عامه السبعين قريباً؛ فلا صخبه ولا شخصيته الفتية ومزاجه الناري وترحلاته الدائمة توحي بذلك. المثقف والمترجم والناشر، والشاعر قبل كل شيء، هو مثال على اجتماع الحس المناقبي النهضوي بنزعة الصعلكة بمعناها العربي القديم.

رغم أنه صاحب دار نشرٍ اختار لها اسم “التوباد”، في استعادةٍ للجبل الشهير في شبه الجزيرة العربية، إلّا أنه أصدر كتباً قليلة لنفسه وعن دور نشر أخرى، من بينها: مجموعته الشعرية “قصائد لأجل الملاك الضائع” (1990)، و”سراج الرعاة” (2014) وهو سلسلةٌ من الحوارات التي أجراها مع كتّاب وشعراء من العالم. وفي أدب الرحلة: “غبار القارات” (2009)، الذي نقل فيه مشاهداته خلال أسفارٍ إلى أميركا وكندا ومصر والجزائر ولبنان وإيطاليا واليونان.

نقل النجّار أعمالاً لشعراء عرب يكتبون بالفرنسية إلى لغتهم الأم؛ مثل جورج شحادة: “السابح بحب وحيد” (2006)، وإتيل عدنان: “هذه السماء غائبة” (2008)، و”يوم27 تشرين الأول 2003″، و”يوم في نيويورك” و”الجمعة 25 آذار في الرابعة بعد الظهر”.

كما أصدرت داره ترجماتٍ لعدد من الشعراء والكتّاب الأجانب إلى اللغة العربية؛ ضمن سلسلتَي: “القصيدة” و”المتون”؛ ومن أبرزهم: هنري ميشو، وبرنار نويل، وسان جون بيرس، وجون ماري لوكليزو، وآلان نادو، وإيف مزيار، وهنري ميلر.

العربي الجديد

 

لتحميل كتاب سراج الرعاة من الرابط التالي

سراج الرعاة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى