سياسة

عن سياسة واشنطن في سوريا؟ مقالات مختارة لهذا الاسبوع

 

لا توافق روسيا – أميركيا على حل الصراع السوري/ ماجد كيالي

حتى الآن لا يوجد في المعطيات السياسية ما يفيد بتوفّر حالة من التوافق الدولي والإقليمي على إنهاء الصراع في سوريا، واستعادة الاستقرار لهذا البلد، رغم أن الجميع يتحدث عن ذلك، ولا سيما روسيا، التي تعتبر، أو تجزم، بأنها استطاعت إنهاء نفوذ فصائل المعارضة العسكرية، وإيجاد حال من التسويات والمصالحات في أكثر من منطقة، وتمكين النظام من استعادة سيطرته على حوالي 60 بالمئة من الأراضي السورية، أي ما عدا الشرق والشمال الشرقي، حيث الولايات المتحدة وحلفائها، والشمال الغربي حيث تركيا وحلفائها.

هذا ما يمكن استنتاجه خصوصا من اللقاء، البالغ الأهمية، الذي عقد في جنيف (23/8) بين مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون ونظيره الروسي نيكولاي باتروشيف.

فما رشح عن هذا اللقاء يبيّن أن الفجوة مازالت واسعة بين الجانبين، كما يبين على نحو لافت للأهمية، أن الولايات المتحدة مازالت على مواقفها بشأن عدم مساومة روسيا على أيّ مسألة، أي عدم تمكينها من استثمار وجودها في سوريا، إلى مكاسب سياسية في أماكن أخرى، أو في ملفات أخرى، لا سيما أن لروسيا العديد من المطالب من الولايات المتحدة، تشمل تخفيف الضغط عليها في المسألة الأوكرانية، والانتهاء من سياسة “الدرع الصاروخي”، ووضع حد للتلاعب بأسعار النفط وتخفيضها، ورفع العقوبات التكنولوجية المفروضة عليها.

ومن متابعة المعطيات السياسية، أو المداولات الحاصلة بين الجانبين الأميركي والروسي، في هذا السياق، يمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة تشتغل على اعتبار أن روسيا توّرطت عبر انخراطها العسكري المباشر في الصراع السوري، ظناّ منها أن ذلك قد يعزّز مكانتها أو قدرتها التساومية إزاء الولايات المتحدة في ملفات أخرى؛ هذا أولاً. وثانياً، أن روسيا أحوج ما تكون إلى جهود الولايات المتحدة لمساعدتها على الخروج من هذا المأزق، الذي كانت الإدارة الأميركية شجّعتها عليه لإغراقها فيه.

والمعنى أن روسيا لن تستطيع استثمار تدخّلها في سوريا، سياسيا ًأو اقتصادياً أو أمنياً، بسبب ضعف قدراتها، أو أن الولايات المتحدة لن تمكّنها من استثمار ذلك، أي استثمار ما تعتقد أنه ورقتها، في سوريا. ثالثاً، إن الوضع الراهن يفيد، أيضاً، بأن الولايات المتحدة تشتغل على تحويل ورقتي الضغط اللتين تلوح بهما روسيا، وهما إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار، باعتبارهما وسيلتيها للضغط على روسيا ذاتها، إذ لا تستطيع روسيا تأمين الحد الأدنى لمتطلبات إعادة الإعمار، كما لا تستطيع في ظروف عدم الاستقرار إعادة اللاجئين.

رابعاً، تبعاً لكل ما تقدم فإن كل الكلام عن توافق دولي وإقليمي على استعادة الاستقرار والإعمار وعودة اللاجئين إنما هو مجرد أمر مبكّر، ونظري، لافتقاره إلى التوافقات السياسية والإرادة الدولية والإقليمية المناسبة والمواتية، كما لافتقاره الإمكانيات الضرورية اللازمة.

على أي حال فإن الإدارة الأميركية، من وجهة نظر معيّنة، في الموقف السليم، ولا سيما من وجهة نظر المعارضة السورية، وذلك بتركيزها، أولاً، على إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا، وفرض عقوبات مشددة على إيران، ورفضها أي مساومة في هذا الشأن، وهو ما تبين من تصريحات بولتون التي أعلن فيها رفضه لمقترحات روسية بهذا الخصوص، تتعلق بوقف العقوبات على صادرات النفط من إيران، المقررة في نوفمبر القادم، مقابل تحجيم نفوذها في سوريا، بإبعاد قواتها وميلشياتها عن الحدود مع إسرائيل فقط. وثانيا، اشتغالها على إنهاء نفوذ “داعش” في الأراضي السورية.

وثالثا، بتأكيدها على استعادة الاستقرار، والإصلاح الدستوري، والتغيير السياسي قبل فتح ملفات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.

وقد يجدر التنويه هنا بأنّ تلك المواقف تستمد أهميتها من اقترانها بتحركات دولية مع أطراف أخرى سيما ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى بعض الدول العربية، كما من اقترانها بالتواجد عسكريا على الأرض في شرقي الفرات مع قوات عسكرية من بلدان أوروبية أخرى، في منطقة تعتبر بأنها الأغنى بالموارد بالنسبة لسوريا، جاعلة منها بمثابة خط أحمر يحظر تجاوزه على النظام وحلفائه (روسيا وإيران).

بيد أن وجهة النظر هذه مازالت بحاجة، أيضاً، إلى المزيد من المعطيات التي يمكن أن تضفي عليها المصداقية، لأن الولايات المتحدة لا تقوم بأي شيء عمليا من أجل فرض أجندتها تلك، مكتفية بمجرد تصدير المواقف، وضمن ذلك تهديد النظام من احتمال استخدامه مجددا للسلاح الكيماوي في إدلب، في حين تترك لروسيا اللعب في الميدان، وفرض وقائع جديدة فيه، تصب في مصلحة النظام، مكتفية، أيضاً، بأخذها منطقة شرقي الفرات والتموضع عسكرياً فيها بانتظار اللحظة المواتية، التي لا يعرف أحد متى تأتي عند صانع القرار الأميركي، أو كيف ستأتي.

والسؤال، كم من الوقت تم تضييعه، أو كم من الضحايا ومن الخراب ومن التشريد الذي حصل، والذي ما كان ليحصل، لو تم فرض نوع من حظر جوي في بعض مناطق سوريا، على مثال الوضع الذي قامت الولايات المتحدة بفرضه منفردة منذ فترة في شرقي الفرات؟

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

 

 

 

البقاء الأميركي في سورية الروسية/ وليد شقير

لم يبق الكثير من قمة هلسنكي بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب بعد تصريحات مستشار الأخير جون بولتون عن بقاء القوات الأميركية في سورية.

وإذا لم تحصل مفاجأة من النوع الذي اعتاد ترامب أن يتحفنا به، بأن يصدر قراراً بسحب قواته من بلاد الشام من دون سابق إنذار، فإن الإعلان الأميركي عن بقاء هذه القوات يشكل انقلاباً على تأكيده قبل أشهر أنه يريد انسحاباً في أسرع وقت، وعلى تحضيرات طلبها لتنفيذ وعده هذا في موعد قيل إنه في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل كحد أقصى.

وإذا كان بولتون ربط الانسحاب الأميركي بهدفَي الحؤول دون استعادة “داعش” زمام المبادرة، والعودة إلى السيطرة على بعض المناطق، وضمان الانسحاب الإيراني من سورية، فإن موسكو احتاطت لما بعد تفاهمات هلسنكي بأن الدعوة إلى الخروج الإيراني يفترض أن تصدر عن النظام السوري، وأن القيادة الروسية ليست قادرة على إجبار إيران على الانسحاب. فُهم من هذا الموقف في حينها أنه عندما يطلب القيصر من بشار الأسد إصدار بيان يطلب فيه انسحاب القوات الأجنبية، ومنها الإيرانية، لن يتردد في ذلك.

حين مهد بوتين لهذا الاحتمال في محادثاته مع الجانب الإيراني، بحجة الموافقة الأميركية على بقاء الأسد في السلطة مقابل انسحاب طهران، يبدو أنه لم يهمل نصيحة مستشار المرشد علي أكبر ولايتي بأن يستخدم ورقة الانسحاب الإيراني من أجل الحصول على انسحاب أميركي وتركي أيضاً.

وبمقدار سعي موسكو إلى الإفادة من تسليم ترامب بأن لها اليد العليا في سورية، وأنه مستعد لعقد صفقة معها، ففي واشنطن ما زال رجال البنتاغون وبعض الخارجية والاستخبارات عند قناعتهم بأن روسيا “عالقة” في سورية، وهي العبارة التي رددها بولتون أول من أمس. هؤلاء يدعون إلى الإفادة بدورهم من حاجة الكرملين إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، لأنه مقتنع بأن ولوج الحلول للأزمة السورية وإعادة النازحين وإعادة الإعمار… غير ممكنة من دون هذا الاتفاق. واشنطن باتت تأخذ بنصيحة بعض خبرائها في المنطقة حول ذلك مستعينين بالمثل القائل: أنت حطّمتها. أنت أصلحها وخذها… وروسيا ليست في وارد تحمل كلفة “إصلاحها”، بل تريد إغراء دول الغرب كي تنفق الأموال على إعادة الإعمار عبر خطتها لإعادة النازحين، فيما هذه الدول تشترط حلاً سياسياً وفق القرار 2254.

على صحة القول إن سورية ليست أولوية عند ترامب، لا تقل صحة القناعة بأن الوجود الإيراني في سورية أولوية لإدارته من باب ضمان أمن إسرائيل، وفي ظل العقوبات ضدها للحد من نفوذها الإقليمي، فضلاً عن استمرار وجود “داعش” في بعض مناطقها. والقوات الأميركية ترصد منذ أشهر، وبعد الإعلان الروسي والعراقي الانتصار على تنظيم “الدولة الإسلامية” وجود مقاتليه في مناطق البادية وغيرها، والمعلومات الاستخبارية الأميركية تتحدث منذ مدة عن استعادة التنظيم مناطق كان خرج منها. حجة “داعش” ما زالت قابلة للاستخدام لدى كل الأطراف للبقاء على استنفارها الأمني والعسكري. فلماذا لا يستخدمها الأميركيون مجدداً إذا كان الروس والنظام والإيرانيون والأتراك يستخدمونها لمواصلة العمليات العسكرية على الأرض السورية؟ ما حصل في محافظة السويداء مثل على استثمار مجازر “داعش” من قبل النظام والروس، لجلب مناطق إلى بيت الطاعة.

وإذا كان الجانب الروسي يرصد وجود نحو 20 قاعدة عسكرية أميركية لما يقارب 2500 جندي من القوات الخاصة، في مناطق التواجد الكردي وخارجها، أبرزها التنف على الحدود مع العراق، ، فإن هذه القوات قابلة للتخفيض، على نمط التخفيض الذي سبق لبوتين أن أعلنه بعد تأكيده النصر على “داعش” مطلع هذا العام، لتعود الشرطة الروسية فتتكاثر على الأرض والطائرات في الجو بعد أسابيع قليلة.

مع أن بولتون أكد عدم الاتفاق مع روسيا على طريقة استعادة إدلب من المعارضة وإخراج “النصرة” منها، فإنه عارض استخدام السلاح الكيماوي فيها ولم يرفض العمل العسكري. بقاء القوات الأميركية مؤشر إلى أسلوب أميركي جديد بعدم تكرار تجربة الانسحاب الأميركي من العراق بلا نتائج سياسية، ومن دون التورط على الأرض أكثر وخوض المزيد من الحروب، بل على العكس، التمهيد لصفقة مع موسكو، حتى المتشدد بولتون يريدها. والتوصل إليها يتطلب الاحتفاظ بمناطق النفوذ في شمال شرقي سورية، وتأمين الحماية للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمساعدة على إعادة الإعمار فيها، وتأمين صمود مواردها المالية… بموازاة “التعايش” مع بقاء الأسد، إلى حين نضوج أي اتفاق بين الدولتين الكبريين، ليتبادلا التنازلات.

الحياة

 

 

 

النظام السوري والأسد… منفصلان أميركياً/ سميرة المسالمة

تشدد الولايات المتحدة الأميركية في خطاباتها الأخيرة على الحل السياسي أولاً كمدخل لعملية إعادة الإعمار في سورية، على رغم أنها خلال السنوات السبع الماضية لم تستخدم أي نفوذ حقيقي لإلزام النظام، والجهات الداعمة له على السير باتجاه الحل، الذي ترى مرجعيته القرار الأممي 2254، فهل هذه العودة التي يطرحها فريق ترامب الجديد في سورية تتضمن إعادة إحياء الحديث عن مستقبل الأسد؟ ضمن العملية السياسية التي تقبل بها الإدارة الأميركية؟ وهل هي جزء مرتبط بنيوياً باستمرار النظام كطرف في العملية السياسية، كما تريده إيران ضمانة لمصالحها في سورية، أم أنه الجزء المتحرك في بنية النظام السوري، الذي تفاوض من خلاله موسكو شريكها الأميركي المرتقب في جنيف مع حلفائه الأوروبيين؟ لتكون إزاحته من المشهد وفق عملية دستورية، تقرها الصيغة الجديدة لدستور سورية «المصنع دولياً»، بما يضمن حفظ ماء وجه موسكو، وتحقيق مطالب واشنطن في إحداث الخرق السياسي الذي تراهن عليه إدارة ترامب؟

مع إعلان الولايات المتحدة الأميركية عودتها الفاعلة، وترتيب أوراقها ووجودها في سورية من خلال طرح أولوياتها، التي لا تختلف فيها مع روسيا في العناوين الكبيرة، وإنما بتفاصيل تنفيذها، ومن خلال الأولويات الثلاث التي أعلنها فريق عمل ترامب الخاص بسورية مؤخراً (جويل روبان نائب مساعد وزير الخارجية، وديفيد شينكر مسؤول الشرق الأوسط وجيمس جيفري)، والتي تتمثل أولاً، في إتمام الحرب على «داعش»، وثانياً، تقويض النفوذ الإيراني، وثالثاً، تفعيل الحل السياسي في جنيف، فإنه يمكن تسجيل بعض الملاحظات منها:

تمثل معظم هذه الأولويات جوهر السياسات المعلنة من الطرفين الأميركي والروسي، إلا أنها تختلف في التفاصيل الدقيقة وتوظيفاتها المستقبلية، التي تمثل مصالح كل دولة على حدة، بدءاً من الحرب على الإرهاب التي تمثله «داعش» أميركياً، بينما تضيف موسكو إليه «جبهة النصرة» بالاسم الصريح، خلافاً لشريكتها تركيا، وبالتأكيد للضغط عليها، إضافة إلى كل من يعارضها في حلولها المقترحة للحل في سورية، سواء من النظام نفسه، حيث تجري القوات الروسية اليوم محاكمات سرية لعناصر في النظام تحت مسميات مختلفة، أو من الفصائل المسلحة وكيانات المعارضة، ومروراً بمفهوم روسيا للحل السياسي الذي يملك أذرعاً عسكرية وسلاح جو يعمل على قصف المدنيين ليل نهار، بهدف تطويعهم وقبولهم الحل السياسي بالإذعان، كما حدث في مناطق خفض التصعيد في كل من حمص وريف دمشق ودرعا.

أما الملاحظة التي لابد منها بما يتعلق بالدور الإيراني في سورية، والذي لا يمكن أن يتجسد ويتمدد داخل سورية، وعلى الحدود مع إسرائيل، إلا بموافقة أميركية وإسرائيلية بداية، لإتمام مهمتها «التدميرية» في المنطقة، باستبدال أولويات الصراع من «صراع الشعوب العربية ضد إسرائيل» لتصبح في ما بينهم، استناداً إلى تبعياتهم الطائفية، وظهر ذلك في كل من لبنان والعراق وسورية واليمن، وإيران تحاول توسيع دائرة الفوضى باتجاهات أبعد، ما استدعى ضرورة إعادة تحجيمها إلى داخل حدودها، ووفق اتفاقيات دولية جديدة، يجري استكمال العمل من أجل اتمامها، من خلال الحصار الاقتصادي الذي فرضته أميركا عليها، وهو يقوض أمان النظام الإيراني داخلياً، ويلزمه الالتفات إلى محيطه الدولي عبر الانصياع إلى المطالب الأميركية الجديدة، وتوظيف دورها لضمان تنفيذ مبادرة السلام التي طرحتها الإدارة الأميركية سابقاً، ويتم تداولها الآن تحت مسمى صفقة القرن، وهو لا يتعارض مع الوعود الروسية وحجم تفاهماتها مع إسرائيل في المنطقة.

وما يمكن الحديث عنه من خلافات أميركية مع روسيا، هو ذاته ما يمكن بحثه ضمن موسوعة التفاهمات المشتركة بينهما، فحيث لا تمانع الإدارة الأميركية بإتاحة المجال واسعاً أمام موسكو لاستنفاذ كامل فرصها، بتطويع أطراف الصراع المحلي السوريين، وتدجينهم ضمن مسار آستانة «العسكري»، ومسار «سوتشي» السياسي، والمختلط مع العسكري، وذلك للقبول بمشاركة النظام السوري (بكامل رموزه والمسؤولين فيه عن سنوات الحرب وجرائمها)، وابتداع حلول جزئية ومنزوعة من سياقها الطبيعي داخل القرارات الأممية، ومنها القرار 2254، فإن الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، التي رفضت أن تكون جزءاً من تلك المسارات، تضع نفسها في الوقت ذاته بمكان المراقب، والمقيّم لأداء روسيا ضمن تلك المسارات، على رغم أنها اتخذت فيها موقع المتفرج حيناً، والحيادي في حين آخر، والداعم بالصمت أحياناً.

أي في المحصلة فإن الخطوات الروسية لم تكن على أرض غير ممهدة أميركياً، سواء بالاتفاقيات المشتركة المعلنة والمستترة، أو بالأبحاث التي كانت تطلعنا عليها المراكز البحثية الأميركية، كخطة مؤسسة راند مثلاً التي أسست لمناطق نفوذ مرحلية في سورية، تقع تحت حكم المجالس المحلية التي تدير عملية إعادة الإعمار، بعيداً من الهيمنة المركزية للحكومة السورية، وترجمها الروس من مناطق آمنة إلى مناطق خفض تصعيد «مؤقتة» خلال عملية قلب موازين القوى في اتفاقيات آستانة، التي تمت برعاية ثلاثية (روسية، تركية، إيرانية)، ومن خلال اتفاقات منفصلة مع كل من الولايات المتحدة الأميركية، والفصائل السورية.

وعلى رغم مشاهد الخلاف المعلن حول مشروع إعادة الإعمار في سورية، بين الطرفين الرئيسين في معادلة الصراع على سورية (الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا)، إلا أن توافقاً ضمنياً يمكن أن يصل إلى حد الشراكة في بناء منظومة عمل بالتوازي، بين ما تسميه روسيا مناطق تحت السيطرة، أي مناطق النظام، وهي في حقيقة الأمر مناطق منزوعة من هيمنة النظام، لمصلحة السيطرة الروسية، والتي تنافسها عليها الهيمنة الإيرانية المستترة بهيئة النظام، ومناطق موازية تسعى الإدارة الأميركية إلى إعادة إعمارها من خلال دعم المجموعات الموالية لها في الشمال والشرق السوري.

وهو ما دعا تركيا إلى الإسراع وربما «التسرع» في الإعلان عن إنشاء حالة توازن مماثلة في عملية إعادة الإعمار من خلال دعوتها مع حليفتها روسيا، كلاً من فرنسا وألمانيا إلى اجتماع رباعي في أنقره، للمساهمة في إعمار مناطق إدلب وريف حلب ومناطق درع الفرات، التي تفرض تركيا وصايتها السياسية والعسكرية عليها، وتبحث مع روسيا ضمانات تحييدها عن أي عمل عسكري يهدد به النظام السوري، مقابل وجود شكلي للنظام في بعض المناطق، وفتح الطريق الرئيسي بين حلب ودمشق، ليكون الاجتماع التمويلي لإعادة الإعمار تحت غطاء «عودة اللاجئين» لحماية أوروبا من الغرق بموجات جديدة منهم، ما استدعى مواجهته المباشرة من الإدارة الأميركية في رسالة منها للغرب وتركيا وروسيا، بإعلانها إعادة الأمور إلى نصابها في العملية السياسية التي ترعاها بنفسها، من حيث تراتبية الحل السياسي أولاً، ثم إعادة الإعمار، وبناء على مسار جنيف المغيب قسرياً، والحاضر شكلياً، في كل مراحل الصراع في سورية وعليها.

* كاتبة سورية

الحياة

 

 

ما بعد قرار أميركا البقاء شرق سوريا/ روبرت فورد

أكدت إدارة ترمب في 18 أغسطس (آب) استمرار وجود القوات الأميركية في سوريا. وأوضح مسؤولون أميركيون أنه ليس هناك موعد زمني محدد لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في سوريا.

والآن إذا كانت القوات الأميركية باقية في سوريا، السؤال الأبرز: ما الهدف الأميركي من وراء هذا القرار؟ من ناحيتهما أعلنت وزارتا الخارجية والدفاع أن الهدف إنزال الهزيمة بتنظيم داعش إلى الأبد. ومن المنتظر أن تشن القوات الأميركية وحلفاؤها من «قوات سوريا الديمقراطية» هجوماً قريباً على آخر معاقل «داعش» في سوريا للسيطرة عليه، تبعاً لما أفاد به مسؤول رفيع المستوى.

ومن المقرر، أن يقوم الأميركيون بتوجيه عملية إعادة بناء الرقة على المدى القصير بالاعتماد على أموال قادمة من دول حليفة. وتقوم النظرية الأميركية في هذا الجانب على أنه إذا توافرت لدى الأسر المحلية مياه نظيفة وكهرباء وإسكان فلن يتمكن «داعش» من تجنيد مقاتلين جدد. أيضا، يقوم الأميركيون بتدريب قوات أمنية محلية في شرق سوريا للمعاونة في احتواء «داعش».

هذه هي مجمل الخطة الأميركية لتوفير حل دائم لتهديد «داعش»، لكن المشكلة أن الخطة تكاد تبدو وكأنها موجهة لدولة أخرى غير سوريا. مثلاً، من الواضح أن أميركا لا تشغل بالها بمسألة تجنيد «داعش» لعناصر من داخل المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية. إضافة لذلك لا تزال حكومة الأسد تتعهد بإعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية بما في ذلك الواقعة شرق البلاد، وذلك باستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر.

أما الأميركيون، فيتعهدون بالدفاع عن حلفائهم المتمثلين في «قوات سوريا الديمقراطية» حال تعرضها لهجوم من جانب القوات الحكومية. ويعني ذلك إقرار وجود عسكري أميركي دائم داخل سوريا والذي أكد الرئيس ترمب مراراً أنه لا يرغبه.

ويبقى هذا الغموض حتى مع تعيين السفير الأميركي السابق لدى العراق وتركيا، جيمس جيفري، ممثلا لوزير الخارجية مايك بومبيو لشؤون التعاون السوري. وتدور مهمة جيفري حول دفع المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة قدما بغية الوصول لحل دبلوماسي للحرب الأهلية السورية. وسبق أن أعلن بومبيو في 17 أغسطس أن الحل سيتضمن تعديل الدستور والانتخابات بصورة تتماشى مع الخطة الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر عن الأمم المتحدة.

من جانبي، سبق لي العمل بصورة وثيقة مع السفير جيفري داخل العراق منذ 15 عاماً. وهو رجل شديد الذكاء ودؤوب للغاية. ولا بد أنه يدرك خاصة بعد تجربة العراق أن الدستور ليس سوى حبر على ورق من دون حكومة تحترم حكم القانون. بالنسبة إلى الرئيس الأسد واستخباراته فإنهما لم يحترما من قبل قط حكم القانون. كما أن جيفري ذكي بما يكفي لمعرفة أن الانتخابات في ظل النظام الأمني السوري لن تكون سوى مزحة سخيفة. وقد اعترف وزير الخارجية بومبيو نفسه في يونيو (حزيران) خلال جلسة عامة لمجلس الشيوخ الأميركية بأن الولايات المتحدة لا تملك سلطة تحقيق الحل السياسي الذي ترغبه داخل سوريا.

ومن المثير للاهتمام أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة للشأن السوري ستيفان دي ميستورا وجه الدعوة فقط إلى روسيا وإيران وتركيا للحضور الشهر المقبل في جنيف لمناقشة الدستور السوري. وبذلك يتضح أن القوات الأميركية في شرق سوريا لم تفلح في توفير مقعد لجيفري في محادثات الأمم المتحدة بجنيف.

ويأمل الأميركيون في أنه إذا رفضوا هم وحلفاؤهم جميع الطلبات الروسية لتمويل إعادة بناء سوريا تحت قيادة الأسد فإنهم بذلك سيحصلون على مزيد من النفوذ داخل سوريا، وسيجبر الروس الأسد وإيران على تقديم تنازلات سياسية كبيرة. الحقيقة أن الأسد بمقدوره الاستمرار في الحكم لفترة طويلة دون الشروع في إعادة بناء البلاد. علاوة على ذلك فإن حلفاءه الروس يحاولون عزل واشنطن عن الملف السوري.

جدير بالذكر، هناك مواجهة دبلوماسية قائمة بين أميركا وتركيا في وقت تعمل روسيا بصورة تدريجية على بناء علاقة تقوم على الضغوط والتعاون مع تركيا بخصوص سوريا. أيضا سيتولى لافروف تنظيم اجتماع مع تركيا وفرنسا وألمانيا لمناقشة الملف السوري. وفي تلك الأثناء فتح الأسد الباب أمام مفاوضات داخل دمشق مع الحزب السوري الكردي الذي تعتبر الميليشيا التابعة له النواة التي قامت عليها «قوات سوريا الديمقراطية» المتحالفة مع الولايات المتحدة. وإذا نجح الأسد في التوصل لاتفاق سياسي مع الأكراد السوريين فإن الموقف الأميركي في شرق سوريا سيزداد صعوبة رغم المهارات الدبلوماسية التي يمتلكها السفير جيفري وزملاؤه.

من ناحيته، قال جون بولتون مستشار الأمن القومي لترمب في 22 أغسطس إن روسيا في مأزق لا تستطيع الفكاك منه داخل سوريا. ويأمل بولتون في أن ينجح في المساومة بخصوص انسحاب أميركي من سوريا، مقابل انسحاب مماثل من جانب إيران. كما يأمل في أن تتمكن روسيا من الضغط على إيران لقبول اتفاق الانسحاب، لكن روسيا من ناحيتها تصر على أنها لن تجبر إيران أو ليس باستطاعتها إجبارها على مغادرة سوريا. وبالتالي يبدو أن الأميركيين محصورون هم أيضا داخل سوريا. وليس بمقدور القوات الأميركية ولا دبلوماسييها السيطرة على القرارات السياسية للأسد أو إجبار إيران على الانسحاب من سوريا. ولا تعتمد استراتيجية واشنطن لوضع حل دائم لمشكلة «داعش» على الإجراءات التي تتخذها واشنطن فحسب، وإنما أيضا إجراءات دمشق وموسكو والتي يمكن لواشنطن التأثير عليها بصورة طفيفة لكن لا يمكنها السيطرة عليها.

الشرق الأوسط

 

 

ما هي استراتيجية واشنطن في سوريا؟/ عروة خليفة

يمكن القول اليوم أن أهداف الولايات المتحدة أصبحت أكثر وضوحاً في المنطقة، خاصة بعد تعيين جيمس جيفري مبعوثاً جديداً إلى سوريا. يمتلك جيفري، الذي خدم سابقاً كسفير لبلاده في بغداد وأنقرة، أفكاراً واضحة سبق ونشرها مع عدد من المختصين في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حيث عمِل حتى تعيينه أخيراً في الملف السوري، كما يحمل جيفري موقفاً متشدداً من طهران ونفوذها في المنطقة، ومن المتوقع أن يعمل على الدفع بمقترحاته التي صاغها سابقاً لتدخل حيّز التنفيذ على أرض الواقع.

تضع هذه الرؤية الجديدة في واشنطن ثلاث محددات رئيسية للوجود الأمريكي في سوريا: القضاء على تنظيم داعش؛ وتقليص النفوذ الإيراني؛ والعمل مع موسكو لدفع المسار السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. وعلى الرغم من أن وضوح الرؤيا بالتأكيد أفضل من السياسات الارتجالية التي اتّبعها ترامب في سوريا منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلا أنّ هذه الاستراتيجيات قد تحمل عيوباً ستقود بالنهاية إلى تقويض أهداف واشنطن في سوريا، مفضيةً إلى نتائج مماثلة للآثار التي خلّفتها سياسات أوباما في المنطقة منذ عام 2011 بعد انطلاق ثورات الربيع العربي.

تتضمن ورقة السياسات التي أعدها جيمس جيفري وزملاؤه في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عدداً من الإجراءات التي يجب اتخاذها مباشرةً، من بينها فرض حظر جوي وأرضي في محيط المنطقة التي باتت تعرف بـ «شرق الفرات»، والتي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، حليفة واشنطن الأساسية في سوريا؛ وإيجاد أسواق بديلة لتسويق النفط المنتج في هذه المنطقة؛ ومنع القوات الإيرانية من إقامة قواعد عسكرية أو استخباراتية دائمة في سوريا؛ بالإضافة إلى منع قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية من فتح طريق إمداد لها عبر شرق سوريا؛ والتضييق المالي والاقتصادي على نظام الأسد وحلفائه من رجال الأعمال.

يمكن إحالة هذه الإجراءات، من بين عدد من المقترحات الأخرى التي تقدمها الورقة، إلى استراتيجية سبق واستخدمت في العراق بعد حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، لتبدو هذه المقترحات وكأنها خيار مناسب في ظل عدم رغبة واشنطن القيام بعمل عسكري للإطاحة ببشار الأسد. وتعوّل هذه الرؤيا على أن الضغوط الاقتصادية على النظام الإيراني وحليفه في دمشق ستعطل قدرتهم على تمويل ميليشياتهم التي تسيطر على البلاد، مما يجعلهم أكثر ضعفاً، وبأن موسكو سترى عندها أنه من الأفضل لمصلحتها الدخول في عملية سياسة مع واشنطن تنتهي بانتقال سياسي يتوافق بطريقة ما مع الإطار الدولي المتمثل بالقرار 2254.

لكن، وبالرجوع إلى ذات المقارنة، فإن العقوبات والحظر الجوي الذي طبق على العراق لأكثر من عشر سنوات لم تدفع نظام صدام حسين إلى إجراء أية مراجعات، ولولا الغزو الأمريكي للعراق لما كان لعشر سنوات أخرى من العقوبات أن تثمر شيئاً على الصعيد السياسي، هذا دون أن نقول أن تلك الإجراءات قد طُبّقت على العراق بعد هزيمة جيش صدام في الكويت أمام التحالف الدولي الذي تشكّل بهدف استرجاع الكويت من القوات العراقية، بينما يظهر نظام الأسد وحلفاؤه في طهران وموسكو منتصرين بعد سيطرتهم على مساحات واسعة من سوريا.

وفي حين لا يستطيع النظام وحلفاؤه التقدم بقواتهم العسكرية إلى شرق الفرات، فإن النظام يحاول عبر عدة ملفات العودة إلى المنطقة من الباب الخلفي، فبعد تسلّمه السدود التي تديرها كوادر تتبع له، يجري حديثٌ عن عودة عدة مؤسسات تتبع لحكومته إلى مناطق شرق الفرات لتقديم خدمات لا تستطيع قسد تقديمها، مثل الأوراق القانونية ودوائر النفوس، ولازال الباب مفتوحاً أمام مزيد من الانخراط الأسدي في تلك المناطق وتطبيع العلاقات، ما يجعله طرفاً هاماً في المنطقة عبر إدارته لملفات خدمية هامة دون حاجته للقوات العسكرية.

أما بالنسبة للعقوبات المطبقة على طهران، وعلى الرغم من ظهور نتائجها سريعاً على وضع العملة والاقتصاد الإيراني، إلا أن إيران بلد سبق وأن تعرّض لعقوبات طويلة الأمد، ما زاد من مرونة اقتصاده وخبرته تجاه مثل هذه العقوبات، ما سيجعل تأثيرها السياسي على المدى البعيد غير محسوم، خاصة أن تهديدات طهران بإشعال حرب في الخليج العربي إن توقفت الصادرات الإيرانية من النفط سيدفع دول خليجية إلى مساعدتها في التهرب من العقوبات تخوفاً من اشتعال المنطقة، ولا يبدو أن الأوضاع الاقتصادية السيئة ستدفع الشارع الإيراني إلى التحرك بعد تجارب دامية منذ الثورة الخضراء بين عامي 2009-2010، بالإضافة إلى المأساة التي تعرض لها الحراك السلمي في سوريا، الأمر الذي يجعل من انتظار مثل هذه التحركات لتغيير الوضع الاقتصادي شبه المنهار أمراً غير محتمل.

وفي حين تتجه الإجراءات الأمريكية لتثبيت الوضع شرق نهر الفرات في مناطق تواجد قواتها، فإن احتمال سيطرة نظام الأسد على محافظة إدلب، آخر معاقل المعارضة السورية المسلحة، سيكون عاملاً رئيسياً في إنهاء أي أمل بدفع بشار الأسد وحلفائه إلى طاولة المفاوضات، فعندها لن يكون هناك حاجة للتفاوض على الانتقال السياسي أو تقديم أي تنازلات، وسيكون بإمكانهم تجاهل الوجود الأمريكي في شرق سوريا، والذي سيصبح معزولاً أكثر فأكثر وخاصة أن حليف واشنطن الرئيسي في الجوار، تركيا، ليس مستعداً لتقديم تسهيلات لبقاء القوات الأمريكية هناك.

في مثل هذه الأوضاع سيكون الوجود الأمريكي شرق سوريا من دون معنى سياسياً، كما أنه سيجد نفسه غارقاً في التجاذبات التي سيعمل النظام على خلقها في المنطقة من خلال وجوده الحكومي، وسيكون بإمكان النظام وحلفائه القيام في مثل تلك الظروف بالضغط عسكرياً أو أمنياً على الوجود الأمريكي شرق سوريا، إذ لا يمكن تجاهل حادثة تاريخية كانت السبب بخروج الولايات المتحدة نهائياً من لبنان وهي تفجير مبنى المارينز عام 1983، خاصة وأن الميليشيا التي نفذت تلك العملية، حزب الله، ما تزال موجودة، وتمتلك مقرات في شرق سوريا غير بعيدة عن مواقع القوات الأمريكية.

لا يمكن اليوم العودة إلى سياسات ما قبل أوباما، فتجاهل سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق والتنازلات التي قدمها للحلف الإيراني في المنطقة، ستجعل من تطبيق أي استراتيجيات جديدة عملاً محفوف بالمخاطر، إذ لن تكون السياسات، التي كانت ربما صحيحة قبل ست أو سبع سنوات، صحيحةً اليوم. في الحقيقة، قد تقود هذه السياسات التي يراها البعض أكثر تشدداً إزاء إيران في المنطقة إلى نتائج مماثلة لما جلبته سنوات أوباما على المنطقة، وربما أكثر من ذلك.

موقع الجمهورية

 

 

 

 

لبنان – سورية – العراق/ حازم الأمين

رد الجيش الأميركي على الرسالة التي نُسبت إلى أبو بكر البغدادي وطلب من أنصاره فيها الصبر ووعدهم بـ «فتوحات» قريبة، بأن الرجل لم يعد مهماً وأن تنظيمه صار في المراحل الأخيرة من هزيمته، وأن تصريحاته لم تعد تلقى الاهتمام في الدوائر الأمنية الغربية. والرد هذا على ما فيه من تجاهل لحقائق «النصر على داعش»، يملك مقداراً من الواقعية يمكن للمرء أن يوافق واشنطن عليه، مع تحفظٍ عن المبالغة في الاطمئنان، لا سيما أن «داعش» كان جزءاً من حرب أهلية طُوب فيها منتصر مذهبي على مهزومٍ مذهبي، وهذا بدوره مولدٌ لاحتمالات موازية لـ «داعش».

لكن وفي موازاة الرد الأميركي على البغدادي ما زال «داعش» حاجة لأنظمة الحروب الأهلية لكي تُصّرِف عبره أزماتها. في سورية كشفت الوقائع الدامية التي شهدتها محافظة السويداء الشهر الفائت عن هذه الحاجة، فإخضاع الجماعات المحلية ما زال يتطلب لعب النظام على الوتر المذهبي، ومن أقدر من «داعش» على تلبية هذه المهمة. ما جرى في السويداء هو تطبيق حرفي ومبتذل ومكشوف لهذه الحقيقة. لكن ليست هذه حال سورية فحسب، فالطبقة الحاكمة في العراق تعيش حالاً من الاختناق وتتخبط في فسادها وارتهانها وهو ما يستوجب عدواً تعيد عبره إنتاج نفسها. «داعش ما زال يعيش بيننا»، هذا ما يُردده الكثير من المسؤولين العراقيين. وبين الحين والآخر يُستدعى صحافيون لتصوير حروبٍ في الصحراء مهمتها تسجيل مزيدٍ من الانتصارات لا يعرف المرء شروطها ولا ظروفها ولا وقائعها. يقول الجيش مثلاً إنه داهم «مضافات» للتنظيم الإرهابي، وأن عناصر التنظيم الذين كانوا يشغلونها هربوا إلى سورية.

الحرب على التنظيم في سورية تدفع بعناصره إلى العراق، والحرب عليهم في العراق تدفعهم إلى سورية. بيانات جيوش «مكافحة الإرهاب» على طرفي الحدود تكشف هذه المعادلة على نحوٍ مذهل. والحقيقة أن ما تبقى من «داعش» يعيش آمناً خارج هذه البيانات، ومهمة المرحلة الأخيرة من الحرب على التنظيم هي تثبيت أنظمة الجريمة والفساد والمذهبية في هلال الحرب الأهلية المشرقي.

لبنان بدوره انضم إلى الراغبين في حصة من جبنة المنتصرين على «داعش»، وها هي أجهزته الأمنية تذيع كل أسبوع تقريباً بياناً عن نصرٍ أمني جديد على التنظيم، وهذه البيانات تُصور لبنان بصفته هدفاً يحلم أمراء التنظيم في مخابئهم في أن ينجحوا في الوصول إليه. لا بل أن «العدو التكفيري» صار صنواً لـ «العدو الصهيوني» في خطاب النصر اللبناني الذي يُضلل نظام الفساد والفشل والارتهان.

والحال أن نظرة من مسافة على حال الأنظمة الحاكمة الثلاثة في العراق وسورية ولبنان تكشف تشابهاً مخيفاً في أساليب حكمها جماعاتها، من دون أن يعني ذلك إغفال التفاوتات. المذهبية عصب الأنظمة الثلاثة، والفساد الهائل والوقح، والارتهان لدولة أو لدول خارجية، وهيمنة خطاب نصرٍ كاذب إلا أنه مدوٍ وهائل وفاعل. واليوم يمكن أن نضيف «داعش» إلى عناصر التشابه هذه، فالتنظيم صار جزءاً من هوية هذه الأنظمة وعنصراً في سعيها إلى التماسك.

كل هذا لا يعني أن «داعش» صار وهماً، وأن عملية دحره أنجزت، لا بل يعني العكس تماماً، فالتنظيم لطالما شكل حاجة في ظل الحروب الأهلية التي تعيشها المنطقة، وهذه الحاجة التقت مع شروط أخرى انعقدت جميعها في لحظة ولادته وتدفقه على المدن والمناطق. شرط الحروب الأهلية ما زال قائماً، لا بل تعزز بانتصار جماعات على جماعات، ومذاهب على مذاهب، وأنظمة مستبدة على شعوبها. أما الشروط الأخرى فهي تماماً ما فشل فيها التنظيم، ذاك أنه تحول عدواً للبيئة المتضررة من الأنظمة، وهو ما أدى إلى تسهيل دحره في مدنها ومناطقها.

واليوم يعيش هؤلاء الناس هزيمة مضاعفة، فقد هزمتهم أنظمة «الحرب على داعش» وهزمهم «داعش»، والمنطق يقول إن حال الهزيمة هذه لن تدوم طويلاً وسيأتي من يستثمر فيها.

الحياة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى