مقالات ونصوص سينمائية

عن سينما تحتلّ العالم/نديم جرجورة

 

 

ـ 1 ـ

يطرح اختيار “عن الآباء والأبناء” (2017)، الوثائقي الأخير لطلال ديركي، في اللائحة القصيرة لـ”أوسكار” أفضل فيلم وثائقي للنسخة الـ91 (24 فبراير/ شباط 2019)، سؤال الحضور السينمائيّ السوري في محافل دولية مختلفة، في ظلّ استمرار الحرب الأسديّة على بلد وشعب وتاريخ وعمارة واقتصاد وذاكرة. فالحضور متأتٍ من ثنائية تبدو متوازية الأهمية، تجمع السينمائيّ بالإنسانيّ، مع غلبة الأول على الثاني في بعض النتاجات الحديثة. والتفاعل الدولي مع تلك الأفلام، المُنتجة خلال العامين المنصرمين تحديدًا، منبثقٌ من جماليات الاشتغال البصري، وعمق المواضيع الإنسانية، وهذه مستلّة من أحوال بلدٍ ينوء تحت وطأة الخراب والقهر والتمزّق.

وإذْ تبدو جائزة “أوسكار” الأكثر شعبية وانتشارًا في العالم، فإن مهرجانات سينمائية مُصنّفة “فئة أولى” تمنح أفلامًا سورية حيّزًا لها في مسابقات رسمية أو برامج موازية. أما الجوائز، فتعبيرٌ عن موقف إنسانيّ للجان التحكيم، من دون تغييب أهمية الجماليات البصرية لتلك الأفلام، وإنْ تتفاوت أهميتها بين فيلمٍ وآخر. ورغم أن الراهن الدوليّ منجذبٌ (أو هكذا يبدو على الأقلّ) إلى معرفة الحدث السوري بعيدًا عن الخطاب الرسمي، غير المكتفي بتغييب وقائع وحقائق فهو يُزوِّر وقائع وحقائق أيضًا، إلاّ أنّ غلبة السينمائيّ في معظم الأفلام ـ المتجوّلة في محافل سينمائية دولية ـ تؤكّد حرصًا غربيًا على التنبّه إلى مفردات الشغل السينمائي الصرف.

هذا كلّه من دون التغاضي عن ميلٍ غربيّ إلى مواكبة لحظات أساسية تحصل في الاجتماع والفنون والعيش اليومي، كأن يُعلي شأن أفلامٍ مهمومة بالإنسانيّ وينقصها السينمائيّ استجابة لتلك اللحظات. منح “كفرناحوم” للّبنانية نادين لبكي جائزة لجنة التحكيم، في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان “كان” السينمائي ـ قبل ترشيحه رسميًّا لـ”غولدن غلوب” أفضل فيلم أجنبي (تُعلن النتائج النهائية للنسخة الـ71 في 7 يناير/ كانون الثاني 2019) واختياره في اللائحة القصيرة لـ”أوسكار” أفضل فيلم أجنبي (تُعلن الترشيحات الرسمية للفئات كلّها في 22 يناير/ كانون الثاني 2019) ـ انعكاسٌ لغلبة الإنسانيّ على السينمائيّ، في ظلّ مسألة التحرّش الجنسي و”فضيحة هارفي وينستين”، وسؤال المساواة بين الرجل والمرأة في صناعة الترفيه.

لعلّ “نسيجي المفضَّل” للسورية غايا جيجي يعكس توجّهًا كهذا، باختياره في مسابقة “نظرة ما” في الدورة الأخيرة لـ”كانّ” (2018). فرغم عدم فوزه بأية جائزة، إلاّ أن اختياره في هذه المسابقة، وهي إحدى أبرز المسابقات التالية للمسابقة الرسمية، كفيلٌ للقول إن الميل الغربي منجذبٌ إلى الإنسانيّ على حساب السينمائيّ أحيانًا، في ظلّ “الفضيحة” و”المساواة” المذكورين أعلاه. ومع أن الروائي الطويل الأول لجيجي يمتلك شيئًا من حساسية سينمائية، خصوصًا على مستوى التمثيل (منال عيسى تحديدًا، في الدور النسائي الأول)، إلاّ أن السينمائيّ فيه ضعيفٌ، في الكتابة والمفردات التقنية والفنية، وفي بناء الشخصيات وإدارة الممثلين. ومع أنه يبتعد عن الحدث السوري، إذْ تدور أحداثه الدرامية عشية انطلاق الحراك المدني الشعبي السلميّ (18 مارس/ آذار 2011)، فهو يغوص في تمزّقات الداخل السوري عبر التناقض الواضح في أمزجة الأم وبناتها الـ3، وفي هواجس شخصيات أخرى تُقيم في خرابها الداخلي المتنوّع الأشكال.

ـ 2 ـ

هذا كلّه مناقضٌ لحالة الأفلام الـ3 الأخرى، المتجوّلة في مهرجانات ومدن غربية وعربية مختلفة: الوثائقيان “عن الآباء والأبناء”، المنطلق دوليًا في الدورة الـ33 (19 ـ 29 يناير/ كانون الثاني 2017) لـ”مهرجان ساندانس السينمائي” (جائزة سينما العالم للأفلام الوثائقية)، و”لسّه عم تسجل” لغياث أيوب وسعيد البطل، المعروض للمرة الأولى دوليًا في “الأسبوع الدولي للنقد” في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي” (جوائز “الأسبوع” و”الاتحاد الدولي للنقّاد” والجمهور)، والروائي الطويل “يوم أضعْتُ ظلّي” لسؤدد كعدان، المعروض للمرة الأولى في برنامج “آفاق” في الدورة نفسها لـ”مهرجان فينيسيا” أيضًا (جائزة لويجي دي لورنتيس “أسد المستقبل” للفيلم الأول)؛ علمًا أن الوثائقي الأخير للأرمني نيغول بزجيان، “عشاء مكسور، قبلات مؤجّلة” (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي الأصلي: Broken Dinners, Postponed Kisses)، يبدأ تجوّله الدولي والعربي مع بداية عام 2019.

وإذْ يطغى الوثائقي في الحضور الدولي لسينما سوريّة منبثقة من حراك مدني مُعطَّل بفعل الحرب الأسديّة، فإن الروائي متمكّن من مواكبة الحدث وقراءة فصول منه عبر شخصيات تعاني مآزق شتّى في يومياتها الغائصة في الموت والقلق والتشرذم. وفي مقابل مواكبة بزجيان ـ ابن حلب ـ مسارات 5 فنانين سوريين يُقيمون في مدن أوروبية؛ فإن طلال ديركي يتابع أحوال أبو أسامة، الأصولي المنتمي إلى “جبهة النصرة”، والثنائي أيوب والبطل يبحثان في أحوال بيئة وأناس مقيمين في ظلّ السينما أو في أمكنة الخراب والانكسار والرغبات المبتورة، وكعدان تحاول التقاط الظلال المفقودة لأناس يواجهون تشتّتهم الفردي، ويصنعون عيشهم على التخوم الواهية بين الموت والحياة.

يستحيل اختزال المضامين الدرامية والجمالية والإنسانية في الأفلام تلك. لكن المشترك بينها موزّع على نقاط عديدة:

أولاً: تمكّنها من توثيق لحظات وحالات وانفعالات إنسانية، بالابتعاد عن فعل التوثيق الجاف والتقليدي، وبالاعتماد على لغة سينمائية متماسكة ومرتكزة على شرطها الفني.

ثانيًا: تجاوز العاديّ في الاشتغال السينمائيّ، إلى ما هو أعمق من مجرّد سرد حكاية، أو التقاط حالة، أو توثيق انفعال. فالتجاوز، هنا، مبنيٌّ على رغبة مشتركة في اختبار إمكانيات الكاميرا السينمائية وقدراتها على التفلّت من صرامة العمل إلى مرونة التجريب، رغم صعوبة التجريب السينمائيّ في ظلّ الحرب والخراب.

ثالثًا: عدم الانجرار وراء أي حكم مسبق، أو تفكير جامد، أو تصنّع معرفة وادّعاء قدرة على تفكيك صائب. فالأفلام كلّها، مع التنبّه مجدّدًا إلى التفاوت الجمالي بينها، تنفضّ عن الجاهز كي تختبر ليس فقط العمل السينمائي بتقنياته ومفرداته ومتطلّباته، بل أيضًا علاقة السينمائيّ نفسه بموضوعه وفيلمه وهواجسه ورغباته. فرغم أن كل سينمائيّ من هؤلاء يُدرك تمامًا ما يُريد، إلاّ أن الاختبار واضحٌ في شغله، وهو اختبار يبدو كأنه يجتهد للإجابة على تساؤلات مرتبطة بعلاقة السينمائيّ بالصورة والسينما والتقنيات، كما بالبلد والحكايات والناس، وهو بهذا يذهب إلى الأفراد مجرّدًا من أي حكم مسبق أو لاحق عليهم.

رابعًا: التزام الإنسانيّ في تبيان الأحوال والحالات، باستخدام السينمائيّ لتغليف الالتزام والتبيان معًا.

ـ 3 ـ

لكن الحضور السوري الدولي خلال عام 2018 لن ينعكس بأفلام تُشارك في مهرجانات وتفوز بجوائز فقط، إذْ يتساوى هذا كلّه باختيار عروة النيربية مديرًا فنيًا لـ”مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية”، في دورته الـ31 (14 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018). فالاختيار غير منطلقٍ من كون النيربية سوريًا مُقيمًا في ألمانيا منذ أعوام عديدة كمُعارض سياسي، بل من الاشتغال الوثائقي طويل الأمد الذي يصنعه في بلده قبل مغادرته إياه بعد وقتٍ قليل على اندلاع “الثورة السلمية” وتحوّلها إلى حربٍ أسدية طاحنة. اشتغالٌ معروف له كمنتج وداعم وناشط في المجال السينمائي الوثائقي، واختياره لمنصبٍ كهذا في أحد أهم المهرجانات الدولية للأفلام الوثائقية ناتجٌ من تاريخٍ شخصيّ له في العمل الوثائقي الحيوي.

والنيربية، في موقعه الجديد، يجتهد لإيجاد حيّز أكبر للسينما العربية في المهرجان الوثائقي الدولي، وهذا بادٍ في الدورة الأولى له كمدير فني. فالسينما العربية حاضرةٌ بفعالية أكبر، والأفلام المختارة انعكاسٌ لهواجس وحكايات، والتفاعل الغربيّ معها منسجمٌ واشتغالاتها السينمائية والفنية والفكرية. وإذْ يتفرّد “طريق البيت” للسوري وائل قدلو (برنامج “إضاءات”) بمقاربة حكاية شخصية بحتة (علاقة المخرج الشاب بوالديه المطلقين، والصراع الحاد بينهما، قبل اقترابه من الحراك السوري في بداياته)، فإن “حلب: صمت الحرب” للإيراني أمير أوسنلو (مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة)، الذي يلتقط فضاء المدينة المدمَّرة مكتفيًا بصُور ومشاهد متتالية (30 دقيقة)، ينتمي إلى لغة تجريبية بحتة في توظيف الصُور وتكثيفها وصُنع مسارها بتوليفٍ ذكي، مبتعدًا كلّيًا عن أي كلام وحوار، وتاركًا للمؤثّرات الصوتية الطبيعية مساحة واسعة للتعبير والتصوير.

ـ 4 ـ

يعكس الحضور الدولي للسينما السورية ـ المُكمِّل لحضور سابق لعلّ “الثورة اليتيمة” (كما في تعبيرٍ للباحث اللبناني زياد ماجد عن الثورة السورية) سببٌ لفعاليته وانتشاره أكثر ـ ثنائية متناقضة: فمع استمرار النهج الأسديّ في التدمير والتشريد والتغييب، تتمكّن السينما السورية من إنتاج أفلامٍ تمتلك شرطها السينمائيّ، بتناولها راهنا مخضّبًا بالدم والعنف والغبار، وبمعاينتها أفرادًا يعيشون في الراهن نفسه ويسعون إلى مواجهة الخراب بحياة معطّلة، وهذا كلّه ليس على حساب السينمائيّ، غالبًا.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى