الناس

محمد خالد رحمون رجل النظام الذي سيحاول اللعب بين الروس والإيرانيين

 

 

لندن – زوّار دمشق هذه الأيام، يتحدثون عن عودة الأمن إلى الحياة في العاصمة السورية. لكنهم  يرجعون الفضل في ذلك الأمن إلى استعادة القبضة الحديدية لفروع المخابرات السورية لتعيد الساعة إلى الوراء وتعمل كما كانت تعمل أواسط السبعينات من القرن العشرين. أما الأمان المفقود والذي يتمثل في انتشار الجريمة والخطف والابتزاز وانعدام الحد الأدنى لتطبيق القانون، فيلومون عليه وزارة الداخلية السورية التي تعتبر الحلقة الأضعف بين مراكز القوى والمؤسسات المكلفة بالسلطة التنفيذية.

ومن هنا يأتي تعيين اللواء محمد خالد رحمون وزيراً للداخلية في سوريا، في ثاني تعديل وزاري يجريه الرئيس السوري بشار الأسد على حكومة المهندس عماد خميس، ليكون خطوة تجمع المتناقضين، فسّرها الموالون بالضرورية، ووصفتها المعارضة بأنها مكافأة على التمادي في الإجرام وإطلاق يد المخابرات. فرحمون قادم من مؤسسة الأمن التي تدرّج في مناصبها وخبرها جيداً، وكان قد لمع نجمه منذ منتصف التسعينات، حين تسلم رئاسة فرع المخابرات الجوية في محافظة اللاذقية، مسقط رأس الأسد.

ولم يكن نجاح رحمون في منصبه بالأمر السهل في تلك الفترة، فاللاذقية كانت تجمع كل التناقضات في مكان واحد، ولطالما شاع أن الخدمة في المناصب الهامة فيها كانت بمثابة محرقة، قلّما نجا من نارها المسؤولون آنذاك.

الرقص على رؤوس الأفاعي

ذلك هو التعبير الذي ابتدعه الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، ليصف معاناته مع حكم اليمن، وهو التعبير المناسب لوصف التجربة التي عاشها ضابط مخابرات سوري بمستوى رحمون، الذي عُرف عنه الحزم في قراراته، وقوّة الشخصية. فقد أتقن فن المناورة والالتفاف في مواجهة المشاكل التي دأب أقرباء الأسد والمحيطون بهم على افتعالها، ما جنّبه الاصطدام المباشر معهم في جو من الفوضى والمحسوبيات والفساد المستشري.

فاللاذقية تعتبر مسرحا حقيقيا لخرق القانون منذ تولي الأسد الأب السلطة في العام 1970. حينها أتاح لإخوته وأقاربه هامشا واسعا من الحرية للعمل في التهريب والسلاح والهيمنة على المجتمع الذي كان طابعه طابعا اقتصاديا بحكم مكانة اللاذقية وطرطوس كمرفأين هامين على البحر المتوسط. وأولئك الذين عرفوا مبكرا باسم “الشبيحة”، لم يكونوا يكترثون بأي مسؤول أمني يجري إرساله من العاصمة دمشق لتولي مهامه في اللاذقية، فهي مملكتهم الخاصة، ولديهم فيها كامل الصلاحيات، أولا باسم فرض هيبة عائلة الأسد، وثانيا لضمان مصالحهم الخاصة.

ولهذا كله لم يكن رحمون يقحم نفسه، والفرع الأمنيّ الذي يرأسه، في كل المسائل والقضايا في المحافظة، على عكس الأفرع الأمنية الأخرى، وحافظ على سمعة المخابرات الجوية المرعبة بانتقائه جبهات محدّدة برع في حسمها مع الحفاظ على علاقة جيدة مع المتنفذين في المحافظة لا سيما آل الأسد. وكان يمكن لأي تماد يقع فيه رحمون أن يودي به كما أودى بغيره، فهو ليس أكثر قوة من باسل الأسد الشقيق الأكبر لبشار والذي قضى في حادث سير غامض قرب مطار دمشق في الفترة ذاتها، والذي شنّ حملات تطهير ضد أقاربه في اللاذقية وأغلق موانئهم غير الشرعية وزجّهم في السجون، ولكن البعض يقول إنه قد يكون دفع ثمن ذلك غاليا في ما بعد.

ساهم النجاح الذي حققه رحمون خلال عمله في اللاذقية، في اكتسابه سمعة جيّدة، وثقة القيادات العليا، ما أهّله لتولي مناصب لاحقة، ودخوله في الحلقة الأمنية المقرّبة والموثوقة من الأسد. فتسلم في العام 2004 رئاسة فرع المخابرات الجوية في محافظة درعا، ما اعتبر ترقية جيدة، نظرا لأهمية الموقع الجغرافي للمحافظة الجنوبية المتاخمة للحدود الأردنية والإسرائيلية، وتركز الثقل العسكري للجيش في ذلك المحيط. وبرع أيضا في مهمته الجديدة، من وجهة النظر الأمنية للنظام، وأحكم قبضته في محيطه الجديد، وكعادته كان حذرا في عمله، ولم يقع في فخاخ المغريات الهائلة المحيطة به، ما أهّله مجددا لتولي منصب أكثر أهمية لاحقا.

من إدلب إلى الغوطة

وكان أول ظهور هام لاسم رحمون، عندما تسلم رئاسة فرع المخابرات الجوية في مدينة حرستا في العام 2011، إبان انطلاق الانتفاضة السورية، وهو من أخطر الأفرع الأمنية، والذي لعب دورا محوريا في قمع الاحتجاجات في غوطة دمشق والمناطق المحيطة بها.

كشف توليه هذا المنصب مدى ثقة القيادة الأمنية به وبإمكاناته، وأثار حفيظة الموالين كونه ينحدر من إدلب، التي انخرطت في الثورة منذ بداياتها، ولا تزال خارج سيطرة الدولة حتى اليوم.

رحمون الذي ولد في العام 1957 بمدينة خان شيخون خريج الكلية الحربية، باختصاص دفاع جوي. وقد أجّج قرار ترقيته نقمة المعارضين، لا سيما سكان مدينته الذين صدمهم قبوله بالمنصب الجديد، ومناصرته للأسد ضدهم، على عكس ما كانوا ينتظرونه منه، أن يناصرهم ويبادر بالانشقاق عن نظام الأسد على أقل تقدير. فتعرضت أملاكه وأملاك عائلته للدمار والتخريب، كما تمت ملاحقة أقربائه من قبل الثوار انتقاما منه على مواقفه المؤيدة للأسد ودوره الأمني الخطير في قمع الثورة. لتعكس تناقضات رحمون الأوضاع في سوريا بصورة مأساوية، حيث يمكنك أن تجد الأسرة الواحدة منقسمة ما بين مؤيد للنظام ومعارض له، ما يستدرج رد فعل مشابه من قبل النظام الذي لا يتسامح مع من يرفع في وجهه أي صوت معترض، ولا يشفع لأحد إخلاصه إذا تبيّن أنه من الممكن أن يشكل خطرا على التركيبة التي تحكم.

مصائر مجهولة

سبق رحمون إلى منصبه في وزارة الداخلية، ضابط مخابرات عريق آخر هو اللواء غازي كنعان الذي قدم خدمات جليلة للنظام في لبنان على مدى عقود، وكان يحكم لبنان فعليا باسم الأسد الأب والابن، لكن هذا كله لم يمنع أن وجهة نظره حول العلاقة مع رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي اغتيل في العام 2005 وحول طبيعة النفوذ السوري في لبنان أدت إلى العثور عليه مقتولا في مكتبه في وزارة الداخلية، وقد أعلن النظام حينها أن كنعان انتحر.

وفي حالة الضابط الشهير اللواء رستم غزالة رئيس جهاز الأمن السياسي مثال فاقع يظهر كيف تعاملت الأجهزة التي حكمها غزالة نفسه مع الأخير تعاملا وحشيا أدى إلى موته تحت التعذيب رغم عقود من الإخلاص في لبنان ولاحقا في سوريا، غير أن انتماءه لمحافظة درعا وشخصيته غير القابلة للتطويع، كانا حاسمين في تقرير مصيره.

منصب وزير الداخلية في سوريا الذي يدشّنه رحمون اليوم، كان قد سبقه إليه ضابط مخابرات كبير آخر هو اللواء غازي كنعان الذي كان يحكم لبنان فعليا، لكنه وجد مقتولا في مكتبه، وقد أعلن رسمياً حينها أنه انتحر. لذلك فإن رحمون سيواجه خطورة العمل بين المحظورات.منصب وزير الداخلية في سوريا الذي يدشّنه رحمون اليوم، كان قد سبقه إليه ضابط مخابرات كبير آخر هو اللواء غازي كنعان الذي كان يحكم لبنان فعليا، لكنه وجد مقتولا في مكتبه، وقد أعلن رسمياً حينها أنه انتحر. لذلك فإن رحمون سيواجه خطورة العمل بين المحظورات

ونقلت إذاعة “صوت لبنان” حينها أن “عيّنة من دم رستم غزالة نقلت إلى أحد مستشفيات بيروت لفحصها بناء على طلب عائلته، وتبيّن أنه حقن بمادة سامة منذ مدة طويلة مما تسبب في وفاته”. وكان سبب تفجّر الخلاف مع غزالة اعتراضه على دور وسطوة ونفوذ إيران وحزب الله في سوريا.

وقد سرّب الإعلامي الفرنسي جان فيليب لوبيل أن مصادر في المخابرات السورية أكدت أن غزالة استدعي إلى اجتماع أمني، ولدى وصوله نُزع سلاح حرّاسه وتم ربطه وتعذيبه ورميه أمام مستشفى الشامي بدمشق بين الحياة والموت. وعلى الفور، وصل ثلاثة أطباء من الموالين لرئيس تكتل التغيير والإصلاح اللبناني، رئيس الجمهورية لاحقا، ميشال عون لإنقاذه. ولكن غزالة فارق الحياة بعد فترة وجيزة.

ولكنْ رحمون مختلف عن كنعان وغزالة، فقد بالغ، كعادته، في الإخلاص لعمله وولائه للنظام، ما رشّحه لترقية جديدة في العام 2017 ومنحه رتبة لواء. فتولى رئاسة شعبة الأمن السياسي التي كان يقودها غزالة قبله بفترة، بعد أن شغل منصب نائب رئيس الشعبة لفترة قصيرة.

واستمر في منصبه حتى صدور مرسوم التعديل الوزاري في 26 نوفمبر الماضي، وتعيينه وزيرا للداخلية خلفا للواء محمد الشعار الذي شغل المنصب منذ العام 2011. ويخضع رحمون لعقوبات الخزانة الأميركية منذ العام 2017، مع 17 مسؤولا و6 كيانات، لاتهامهم بقصف الغوطة الشرقية بأسلحة كيمياوية. ورغم ذلك كان مشاركا ضمن وفد النظام السوري في الجولة الأولى من مباحثات أستانة مع فصائل المعارضة التي جرت في نفس السنة.

مستقبل المؤسسات الأمنية

وتتهم المعارضة السورية رحمون بارتكاب الفظائع في الغوطة الشرقية، إبان تسلمه رئاسة فرع المخابرات الجوية فيها، وأُطلقت عليه العديد من الألقاب “جلاد الغوطة، مسؤول الكيمياوي، رئيس فرع الموت”. وذاع عنه الإفراط في استخدام القوة في قمع المظاهرات، حيث كان بمثابة الذراع الأمنية القوية التي استخدمها النظام في محولته لإخماد الثورة في الغوطة الشرقية.

موقع “مع العدالة” السوري المعارض، ذكر أن رحمون “أشرف بشكل مباشر على عمليات التحقيق والتعذيب الممنهجة للآلاف من المعتقلين في فرع حرستا، وفق شهادات لمعتقلين احتجزوا في الفرع، نشرها مركز توثيق الانتهاكات في سوريا”. وأضاف الموقع أن رحمون كان “أحد المشرفين على عمليات تجارب الأسلحة الكيمياوية في الوحدة 417 التابعة للمخابرات الجوية”، لافتا إلى أنه “تسلّم ملف الكيمياوي بعد أن ترأسه اللواء علي مملوك عدة سنوات قبل الثورة”.

الخارجية الفرنسية بدورها، توجه اتهامات لرحمون في تقرير رسمي صدر عنها بعنوان “التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري”، يتحدث عن قسوة التعذيب الذي تعرض له المعتقلون في فرع المخابرات الجوية في حرستا، برئاسة رحمون ذاته، إضافة إلى مشاركته في مجزرة الكيمياوي والتي أودت بحياة حوالي 1400 شخص بينهم أطفال ونساء في الغوطة الشرقية، وذلك لارتباطه بأحد المشرفين على عمليات تجارب الأسلحة الكيمياوية.

ولأن الآفاق السورية مازالت مفتوحة على المجهول، فإن موضوع الأمن داخل سوريا، لم يعد قضية محلية، بل أضحى شأنا يدلي كل صاحب نفوذ بدلوه فيه. وهكذا تصبح إعادة “تلصيق” الدولة من جديد وكياناتها المؤسسية، أمرا بالغ الصعوبة، في ظل وجود ثلاث نظريات تحكم الحالة الأمنية في سوريا؛ النظرية الروسية التي تحاول فرض القانون بالقوة، بالتدخل هنا وهناك، لضبط التجاوزات الكثيرة التي تعرقل أي حلول سياسية تشرف عليها روسيا، حتى أنها تمنع اعتقال جهات معارضة محسوبة عليها أو جهات تعهّدت لها بألا يتعرض لها النظام بأي أذى.

والنظرية الثانية هي الإيرانية التي تعمل على برمجة المجتمع السوري عبر المساحة التي يهيمن عليها النظام، دون توقف، وذلك بتطبيق التشيّع الإجباري في حلب ودير الزور وريف دمشق الغربي والشرقي والجنوبي، مستفيدة في ذلك من الفرق الدينية والميليشيات التي يبرز على رأسها حزب الله اللبناني.

كما تم حين فرضت إيران الأذان الشيعي في محافظة دير الزور السنية، وهو أمر تكرر مؤخرا في جامع “الأرقم” في حي المثنى في الجانب الأيسر من مدينة الموصل العراقية، ما يعني أنه نهج “أمني” متواصل عابر للحدود في نطاق النفوذ الإيراني، وهو نشاط أبعد من طائفي يهدف إلى تكوين حواضن مجتمعية جديدة، ما يزيد الأمر تعقيدا، حتى في مناطق الساحل السوري التي يشكو أبناؤها من تدخل الإيرانيين في مجالات الحياة كافة فيها، وهو أمر لم يكن متوقعا بالنسبة إليهم بحكم كونهم العمق الاستراتيجي المؤيد لنظام الأسد، ولاختلاف المجتمعين الإيراني والسوري الساحلي حيث يتواجد العلويون، وهم في غالبيتهم يعتبرون أنفسهم أصحاب فكر مغاير تماما.

أما النظرية الأمنية الثالثة فهي نظرية النظام نفسه، الذي يسعى بكل ما يستطيع لإعادة جميع مظاهر الحياة التي فرضها النظام ذاته أيام قوة الرئيس حافظ الأسد، معتقدا أنه بذلك سوف يصحّح الأخطاء التي أدت إلى إضعاف سلطته بعد رحيل الأخير. ولذلك يقوم بإعادة تدوير لحزب البعث من جديد عبر قيادات جديدة، وعبر تغيير القيادة القطرية له ليصبح اسمها “اللجنة المركزية” وتغيير منصب بشار الأسد من الأمين القطري للحزب إلى الأمين العام له بعد إلغاء القيادة القومية، حتى أنه لم يتردد في تنسيب عشرات الآلاف من الأطفال في المدارس الابتدائية لاتحاد طلائع البعث، بعد اجتماع قيادات حزبية بعثية، في حلب على سبيل المثال، يوم الأربعاء الخامس من شهر ديسمبر الجاري واتخاذ قرار بتعيين 2086 كادرا حزبيا في مدارس حلب وريفها بهدف “تجاوز آثار الإرهاب التي خلفها على الجيل”. وكأنّ شيئا لم يكن.

في مناخ كهذا تصبح المؤسسات الأمنية السورية بما فيها وزارة الداخلية، لاعبا بين اللاعبين، وربما اللاعب الأضعف وسط الأقوياء. ويصبح دور وزير الداخلية الجديد محمد رحمون دورا بيروقراطيا، قد يستفاد منه في إعادة هيكلة وترميم مخافر الشرطة وما يتبع للداخلية من أقسام في المحافظات التي استعادها النظام لا أكثر. وإذا تجاوز هذه الخطوط، فإن الكثيرين سيسارعون إلى إيقافه عند حدّه.

 

العرب

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى