ثقافة وفكر

في المسألة الإسلامية/ ياسين الحاج صالح

 

 

مقالات إلى سميرة (8)

في عالم اليوم مسألة كبيرة، عالمية الأصول والنطاق والآثار، بحيث يتحتم على التفكير فيها أن يكون عالمياً، تفكيراً في العالم، وأن تكون معالجاتها المُحتملة عالمية أيضاً. إنها المسألة الإسلامية. ولهذه المسألة وجهان: أولهما الإسلامية، مجموع التكوينات الدينية السياسية التي نطلق عليها اسم الإسلاميين، والوجه الثاني هو الإسلاموفوبيا، نزعة الاستبعاد حيال ما هو إسلامي، ديناً ومنسوبين إليه وإسلاميين. وستقول هذه المقالة إن أطراف المسألة الإسلامية ليست اثنين، «الإسلام» و«الغرب»، بل أربعة: الإسلاميون ونُظُم الأقلية الحاكمة في بلداننا والقوى الغربية وإسرائيل.

(1)

الإسلامية مذهبٌ مشتق من الإسلام، قام عليه فاعل انشقاقي، حديث ومعاصر، هو الإسلاميون، وهذا بعد أن كان عَرَفَ تاريخُ الإسلام والعالم المسلمين، المؤمنين بدين الإسلام. الإسلامية ظهرت مع تفكك صيغة التراكب الديني السياسي في عالم الإسلام بفعل مركب السيطرة الغربية/ الحداثة. كانت تلك الصيغة ضمنت رجحاناً حاسماً لرمزيات الإسلام السنّي على مستوى السلطة التي كان مضمونها سلطانياً عائلياً، قائماً على الملكية (النازعة إلى التوسّع) والغلبة (المقترنة بالعنف بطبيعة الحال). الإسلامية ظاهرة جمعية أساساً، سياسية دوماً فوق كونها دينية بطبيعة الحال، حديثة جوهرياً، لم يسبق أن ظهرت قبل القرن العشرين، وإن استصلحت لنفسها أصولاً وأسلافاً أقدم، بل وإن طابقت ذاتها مع الإسلام منذ نشوئه. تتمثل الإسلامية في طيف من منظمات إسلامية متنوعة، تُجسد وعي الإسلام بذاته في العالم الحديث والمعاصر، وتعترض اعتراضات متفاوتة الحدّة على العالم الحديث، تبلغ حد القطيعة الكاملة مع تنظيماته، ليس السياسية وحدها بل والثقافية والاجتماعية والحقوقية والجمالية والمعرفية، وربما الحرب الكلية معه.

بحكم «أسباب نزولها» قبل أقل من قرن، في زمن ما بعد تفكك آخر إمبراطوريات المسلمين والاستعمار الأوروبي وظهور الدولة الترابية الحديثة في مجالنا، تنزع الإسلامية إلى أن تُشخّصَ في الغرب المعاصر العدوَّ الديني والسياسي معاً. إنه في آن الصليبية القديمة والمعتدي الاستعماري الحديث. ويضفي تطابق العدو السياسي والديني طابعاً ماهوياً على العدو الغربي وحالة العداوة معه، ما يجعل الصراع مديداً ومستعصياً، وما يسوّغ الكلام على «مسألة» إسلامية. استناداً إلى سوابق تاريخية معلومة، مثل المسألة اليهودية والمسألة الشرقية، والمسألة الفلسطينية، واليوم المسألة السورية، المسائل أوضاع مديدة معقدة، مولدة للعنف ومقترنة به. يُفاقِم من تعقيد وإزمان المسألة الإسلامية أن طرفاها المباشران، الإسلاميون والقوى الغربية، يتوهمان النصر في معركة يُنذر خوضها بانحدار عالمي في بربرية قروسطية جديدة، فضلاً عن امتناع النصر فيها. لن يستطيع الإسلاميون هزيمة الغرب، وأقرب شيء إلى التحقق هو إيذاء الغرب مع تدمير واسع في مجتمعات المسلمين. لكن كذلك لا تستطيع القوة الغربية الاستمرار في حروب متنوعة ضد عوالم المسلمين، وهي تتسبب منذ الآن بأذى كبير لنفسها فوق ما تسببت به من أذى رهيب لمجتمعاتنا. ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى استعداد للتراجع أو تغيير المسار من أي من طرفي المسألة المباشرين هذين.

تتمرد الإسلامية على نفوذ الغرب العالمي دون أن تقترح صورة مغايرة للعالم (غير «فتح»ـه من قبل الإسلاميين). فلا هي تستطيع الخروج من عالم واحد يمكنه أن يكون مكسباً للجميع، ويمتنع الخروج منه إلا كآلية تَباعُدٍ وعداءٍ نفسية، ولا هي تُعيد تشكيل نفسها وتفكيرها على نحو يُتيح لها ولعموم المسلمين الانخراط في هذا العالم الواحد بخسائر أقل، ولا هي تحتجّ على هذا العالم الواحد الذي تعرض فيه أشكال متنوعة من التمييز واللامساواة احتجاجاً يُشرِك غيرها فيه، وباسم قيم أكثرَ عالمية وأَقبَلَ لاشتراك الغير. ولا هي بعد ذلك تنجح في توحيد جمهور المسلمين المؤمنين أو قطاعات مهمة منه، بل تتكثر منظماتها هي ذاتها وتتنازع فيما بينها، على نحو يعكس تعثراً متمادياً في صوغ استجابة حيوية مثمرة على تحديات العالم الحديث. الفاعل الانشقاقي الإسلامي ليس منشقاً عن العالم فحسب، لكنه منشق داخلياً كذلك ومنقسم على نفسه.

غاضبة من العالم، بما في ذلك مجتمعاتنا المعاصرة، ترى هذه الحركات لنفسها أحقية في الحكم في «البلدان الإسلامية»، إما لأنها تمثل «الأمة» (وهذا غير صحيح، حتى لو اختُزِلت «الأمة» إلى المسلمين السنيين)، أو لأن لها علاقة خاصة بالله، وهو من خصّها بالحكم (وهذه نسخة إسلامية من الحكم بالحق الإلهي)، أو لأن التاريخ أعطاها هذا الحق قبل أن تسلبه منها السيطرة الغربية (وهذا بدوره غير صحيح، فأقرب ما يمكن أن يكون استمراراً للحكم السلطاني هو دولة الأسديين في سورية، وليس مشاريع الإسلاميين الأقرب بنيوياً إلى الصيغ الشمولية للدولة السيدة الحديثة؛ وحدها رمزيات الإسلام السني ما ينقص السلطنة الأسدية، وهي لم تقصّر بقدر ما يسمح تكوينها في إبراز هذه الرمزيات).

الوجه الآخر للمسألة الإسلامية هو ظاهرة الإسلاموفوبيا في بلدان الغرب، وهي بلدان تسودُ تنظيماتُها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعلوماتية العالم، وتتشكل وفق تصوراتها ومصالحها ونماذج اجتماعها وسياستها المنظماتُ الدولية وقواعد عملها. وطيف الظواهر التي تقع تحت عنوان الإسلاموفوبيا يمتدّ من تغطيات في وسائل الإعلام تتساهل في الربط بين الإسلام والإرهاب، إلى تمثيلات غير إيجابية في الفن والأدب، إلى أوجه تمييز متنوعة في الحياة اليومية، إلى رعاية سياسية وعسكرية وعاطفية لإسرائيل، بالغة الانحياز ومتعصبة. ويتوحد أثرها في ديناميكية تمييز واستبعاد (أو إقصاء) يتأثر بها المسلمون بوصفهم كذلك.

مسرح الإسلاموفوبيا هو أساساً الغرب مثلما مسرح الإسلامية الأول هو مجتمعات المسلمين، لكن لا هذه ولا تلك تنفصلان عن مركب السيطرة/الهيمنة الغربية الحديث والمعاصر. الغرب ليس العالم، لكن العالم مُتشكِّلٌ بقدر كبير على صورة الغرب الحديث والمعاصر. ولذلك فإن ظاهرة غربية مثل الإسلاموفوبيا هي بقدر طيب ظاهرةٌ عالمية، حتى أنها ظاهرة إسلامية بصورة ما. بالمقابل، ظاهرة الإسلامية إسلامية (دون أن يكون هذا «بطبيعة الحال») وعالمية معاً.

وذو دلالة أن من يهتمون بالاعتراض على الإسلامية بيننا قلّما يجدون ما يقولونه عن الإسلاموفوبيا، وبالمقابل من ينتقدون الإسلاموفوبيا قلّما يمتد نقدهم ليشمل الإسلامية. ومن هذا الاعتبار يحوز تصور المسألة الإسلامية أهمية خاصة لكونه يتيح لنا نظرة عالمية ترى الشأنين معاً. إنها ما يفرّقُ بين عالمي متشابكين، وما يقرّبهما ويعمّق تشابكهما في آن.

أنوّه في ختام هذه الفقرة أني أفضل تعبير إسلامية على إسلاموية، هذا رغم أن «إسلامية» يمكن أن تكون نسبة مؤنثة إلى ما هو من الإسلام: عقيدة إسلامية، حركات إسلامية، و… مسألة إسلامية؛ وأن إسلاموية (أو إسلامانية) هي النسبة المضاعفة: نسبة إلى إسلامي أو إسلامية التي هي نسبة إلى إسلام. لكن المشكلة في تعبير إسلاموية أنه تبطنه شحنةٌ استخفافيةٌ أو هجائية من جهة، وأن استخداماته الشائعة على الأقل تخلق التباسين أكثر مما توضح إشكالاً لغوياً واحداً. يتمثل التباسٌ أول في تصوير أن المشكلة هي مع كاريكاتير ساخر للإسلام اسمه الإسلاموية، وهو ما يفتح باباً لجدال قليل الثمار في مدى مطابقة الإسلاميّة والإسلاميين للإسلام؛ والالتباس الثاني هو، على العكس، أن الإسلاموية هي الإسلام، وأن الإسلام بالذات هو الكاريكاتير الساخر. هذه المطابقة جدالية وقليلة الثمار بدورها.

الإسلامية في هذا التناول هي تشكيلٌ تاريخيٌ معاصر للإسلام، والإسلاميون هم وكلاء هذه التشكيل. إنهم مطابقون وغير مطابقين للإسلام، وهم صنّاعٌ لهذه المطابقة التي ينكرها في الوقت نفسه بعضهم على بعضهم. لا يكفّ الإسلاميون عن إعادة تشكيل الإسلام أو صنعه في صورة تضمن المطابقة وتجعل منهم ورثته الشرعيين، وإن انقلب ذلك إيديولوجياً في تفكيرهم لتكون وراثتهم الشرعية لدين المسلمين نتاجاً لكونهم صنائع له، لا صانعيه. لكن هذا ما يفعله معتنقو الأديان والإيديولوجيات في كل وقت. ليس هناك ما يُفرِدُ الإسلامية عن غيرها في هذا الشأن.

(2)

وجها المسألة الإسلامية هذان متصلان ومتفاعلان على نحو وثيق في العالم الحديث والمعاصر. وإذا عدنا إلى أطوار تاريخية أقدم قد نرى «المسألة الشرقية» تركيباً بين ظاهرتين، يمكن التفكير فيهما كسلفين لوجهي الظاهرة اليوم: اضطرابُ وضعِ القوة الإسلامية الأكبر في حينه، السلطنة العثمانية، في عالم كانت تتعزز سيطرة أوروبا فيه. أرنولد توينبي وصف المسألة الشرقية بأنها مسألة غربية، على نحو يُظهِرُ هذا الارتباط بين مشكلات عالم الإسلام وتحولات الغرب وأدواره التاريخية. الأمر لم يقتصر على عالم الإسلام وحده في واقع الأمر، فقد كانت أوروبا تُعولِمُ العالم الذي شغلت مركزه الإمبراطوري وموقعَ المبادر فيه. لكن القرب الجغرافي من جهة، وتقارب الأصول بين الإسلام والمسيحية (واليهودية) من جهة أخرى، ثم قيام كيان إسرائيل المعاصر في زمن أقرب إلينا، هي من الوقائع المديدة التي تفعم العلاقة بين العالمين بحساسية مستمرة، تُفاقِمها عوارض التاريخ بين حين وآخر. فإذا نظرنا عن كثب إلى هذه الوقائع الثلاثة (قرب جغرافي، أصول متقاربة، إسرائيل هنا في فلسطين)، تمثَّلَ لنا أن القرب هو ما يصنع البعد والاستبعاد.

في مرحلة لاحقة أُلغيت الخلافة الإسلامية في سياق تحول التنظيمات العثمانية إلى إيديولوجية دولة قومية، بل بالأصح إلى دين دولة على يد مصطفى كمال أتاتورك. التنظيمات كانت مسعى إصلاحياً عثمانياً للبقاء في شروط صعود الامبريالية الأوروبية، لكن المسعى خاب بفعل الإمبريالية ذاتها من جهة، ولكون التنظيمات استجابة جزئية لتحول تاريخي هائل، ثورات في العلاقة مع الطبيعة والمجتمع والنفس والتاريخ، تتجاوز ما كان في وسع عالمنا المطمئن إلى تقاليده (كما أي عوالم أخرى) أن يجد حلاً وسطاً معه على ما استطاع أن يفعل طوال أكثر من ألف عام قبل ذلك. كانت الخلافة مؤسسة غير فاعلة، لا تكاد تمثّلُ غير ضرب من الاستمرارية الرمزية. (لكن لعلّه لذلك بالذات كان أصوب لو نالت وداعاً أليق، كأن يُعمل على تحوّلها إلى مؤسسة دينية إسلامية عامة).

بفعل خيبة البقاء المستقلّ، وعلى خلفية انتظام الدولة والجيش والاقتصاد والتعليم، على أسس «غربية»، دون أن تصير دولنا الترابية الحديثة دولَ حقوق وحريات وسياسة مثل دول الغرب، أخذ المسلمون بالتحوّل إلى أقليات سياسية في دولهم رغم كونهم أكثريات سكانية. ظهور طائفة أو طوائف الإسلاميين هو التعبير السياسي عن هذا التحول الأقلّوي، وليس بحال معالجةً له يمكنها أن تكون أساساً لأكثرية جديدة. يقتضي ذلك استيعاباً فكرياً ونفسياً للمتغيرات الحديثة، وتوفير قاعدة تَمَاهٍ عام واسعة، يُقبِلُ عليها المسلمون على الأقل. لم يحدث قط. ظل منهج الإسلامية متجهاً نحو استعادة ماضٍ ميت، وليس استقبال حياة متغيّرة والاضطلاع بتحدياتها. وفي تقاطع تاريخي مصيري، كانت «حقوق الأقليات» و«حماية الأقليات» من العناصر المكونة لـ«للمسألة الشرقية»، في سنوات تقاسم تركة «رجل أوروبا المريض» بين القوى الأوروبية. أي وقت كان يتحول المسلمون إلى أقلية/ أقليات سياسية أخرى. وما يميز اجتماعنا السياسي اليوم، ومنذ بداية الطور العنيف الراهن من ظهور المسألة الإسلامية قبل نحو ثلاثة عقود، هو عدم وجود أية أكثرية بانية أو مُكوِّنة في بلداننا، وما سأسميه لاحقاً التحول الأوليغاركي للدول. حقوق الأقليات وحماية الأقليات هي من جديد بنود أساسية في جدول المسألة الشرقية الجديدة، أعني المسألة الإسلامية. وهي، مثل المسألة الشرقية القديمة، تفترض أن الأكثرية السياسية في بلداننا إسلامية، وهذا غير صحيح قطعياً.

كانت تركيا قد نجت من الاستعمار المباشر، خلافاً لمعظم البلدان العربية والإسلامية، لكن طوال ثمانية عقود أدارت ظهرها لـ«الشرق» والعالم العثماني السابق في ما صار يسمى «الشرق الأوسط». الاستعمار كان استمراراً للمسألة الشرقية، وفي الوقت نفسه حلٌّ من نوعٍ ما لها، دفعها إلى مستوى أعلى من التعقيد. حلّ المسألة اليهودية، وهي مسألة مسيحية وأوروبية أساساً، بإقامة إسرائيل في فلسطين، هو في آن «حلّ نهائي» لـ«الحلّ النهائي» النازي، وضربٌ من الإبادة الباردة للفلسطينيين، وكذلك طور جديد في مسألة سياسية دينية عالمية، أخذ المسلمون يحلون فيها محل اليهود بعد فاصل الحرب الباردة مباشرة.

من منظور تاريخي تبدو المسألة الإسلامية وضعاً متوتراً، يتفجر بعنف أحياناً، بين ممثلي إمبراطورية صاعدة وورثة امبراطورية آفلة. الإسلاميون هم الورثة النوعيون للإسلام الإمبراطوري الذي كان في موقع مسيطر خلال معظم تاريخه حتى قبل نحو قرنين من اليوم. وبحكم هذا التكوين المتأصل والمديد ينزعون إلى التفكير تلقائياً بمنطق جيوسياسي وجيوديني، تشغل وقائع السيادة الغربية وإسرائيل، ثم «الحرب على الإرهاب» مكاناً بارزاً فيه. وشعور الإسلامية بالغربة في تاريخ يسوده الغرب يكمن وراء نزوعها إلى التفكير بلغة الأديان والعقائد غير المتغيرة، لا بلغة السياسة والمصالح المتغيرة. في عالم الماهيّات هذا يرى الإسلاميون في إسرائيل العداء اليهودي الباكر لرسالة النبي، وفي الاستعمار الأوربي صليبية جديدة. وبالمقابل كلما كان المجال الإسلامي، وقلبُهُ العربي بخاصة، في وضع أكثر هشاشة أمام إسرائيل والقوى الغربية، كان هذا بيئة أنسبً لانتشار الإسلامية.

(3)

إسرائيل هي من ناحية استمرارٌ للاستعمار الأوروبي، ومن ناحية ثانية هي حلّ للمسألة اليهودية بتصديرها إلى عالم لا تقبله ولا يقبلها، مع جعل إسرائيل امتداداً لإمبراطورية الغرب. تاريخياً، كان لأوروبا عدوّان: داخليٌ (ولاهوتي) هو اليهود، وخارجي (وسياسي) هو الإسلام، حسب جيل أنيدجار في كتابه اليهود، العرب: تاريخ للعدو،1 وهي صدَّرَت العدوّ الداخلي بشرياً إلى عالم المسلمين، ثم احتضنته سياسياً. وأنيدجار يعتقد أنه جرى تصدير مشكلة أوروبا العربية أيضاً بإقامة إسرائيل، ويرى أنه لذلك اختيرت فلسطين «كوطن قومي لليهود»، وليس أوغندا أو الأرجنتين، وكانا بين الاقتراحات المتداولة لحلّ المسألة اليهودية حتى وعد بلفور 1917، وبعد.

كحلّ نهائي غربي للحلّ النهائي النازي، إسرائيل هي استمرار مغاير لـ «الحل النهائي». لدينا خفض قيمة حياة الفلسطينيين على نحو مديد، يتركهم مباحين للإبادة السياسية. حين تعني الإبادة السياسية Politicide إبادة السياسة أو الاستعباد السياسي للمحكومين أو قطاعٍ منهم (وليس قتل محكومين أو قطاع منهم فيزيائياً لأسباب سياسية)، أقترحُ لها اسماً يخصها هو الإبادة الباردة، وهذه لا تتعارض مع قتل ساخن مُقسّط، يذهب ضحاياه بالعشرات والمئات في كل قسط. عبر السنوات والعقود تُقتَلُ الصفة السياسية للفلسطينيين (والسوريين في ظل دولة الأسديين)، دون مخطط كلي لقتلهم فيزيائياً كما جرى لليهود في معسكر آوشفيتز وأشقائه. المخطط الكلي هنا هو قتل الهوية الفلسطينية أو إبادة الكيان الفلسطيني. لكن لا شيء يستبعد إفناء الفلسطينيين جمعياً حين تتقاطر الظروف المناسبة، ويلتقي الدينيُّ منها بالسياسي والمحليُّ منها بالدولي. إذا كانت الإبادة السورية ممكنة بفعل تلاقي ظروف ليست المسألة الإسلامية والإسلاموفوبيا بمنأى عنها، فلا شيء يكفل ألا تكون الإبادة الفلسطينية ممكنة.

جسّدَ قيامُ إسرائيل استبعادين بنيويين عميقي الأثر على المسألة الإسلامية والعالم المعاصر. استبعاد سياسي للفلسطينيين، ولمحيط عربي أوسع في مصر وسورية ولبنان والأردن، وأبعد، مع وضع الجميع تحت الرقابة الأمنية الغربية، ومنح إسرائيل ما يقارب فيتو على كمية ونوعية تسلّح الدول العربية؛ ثم استبعاد لاهوتي ورمزي تجسّدَ في بسط السيادة الإسرائيلية على مدينة القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهذا بينما انطلقت في الوقت نفسه موجة إيديولوجية واسعة القاعدة تتكلم على الثقافة اليهودية المسيحية أو التراث اليهودي المسيحي. أتكلّمُ على موجة إيديولوجيّة لأن الأمر يتعلق بهوية مختارة ولها مضامين سياسية قوية، استيعاباً واستبعاداً. من يصدر عن تصور ثقافة يهودية مسيحية للغرب، يصعب أن يكون على مخاصمة سياسية لإسرائيل، ويغلب أن يعتبرها بالأحرى امتداداً للغرب، ورصيداً استراتيجياً له.

هناك اعتراض متسّع على الواقعة الإسرائيلية في الغرب، تزامنَ اتساعه مع صعود الموجة الإسلاموفوبية قبل أزيد من ربع قرن، لكن هذا الاعتراض لم يبلغ نطاق الفكر الأخلاقي والفلسفي إلى اليوم، ولا يزال أسير النطاق السياسي الإيديولوجي، مقصوراً على اعتداءات إسرائيل القاتلة على الفلسطينيين وليس على كيانها الإبادي. هذه شهادة غير طيبة بحق مثقفي الغرب. وما يبدو لي ناقصاً على نحو مشين في أدبيات الهولوكست الغزيرة هو توقف إداري عند ما جرى في المعسكرات النازية، وممانعة بالغة القوة للنظر في الحلّ النهائي للحلّ النهائي والإبادة الباردة. ولعل في خلفية ذلك رفضٌ عميقٌ للمساواة في الألم وفي الحق، للتفكير في مصير الفلسطينيين كاستمرار من نوع ما لمصير اليهود الأوروبيين على يد النازية، رفضٌ ثقافيٌ أعمق حتى من الرفض السياسي الخاص بالحكومات. كان يمكن لشجاعة أخلاقية من قبل المفكرين أن تسهم في الحدّ من انتشار الإسلاموفوبيا. ما جرى هو العكس، إذ يبدو أن الإسلاموفوبيا تتوافق مع ميل إلى التأمل بلا نهاية في الهولوكوست، مع توقف غريب عنده وتجاهل لما جرى بعده. ما لا يبدو أن مفكري الغرب يرونه هو أن الاستثناء الذي تجسّدَ في معسكرات الاعتقال والإبادة النازية استمرّ بصورتين مختلفتين في إسرائيل/ فلسطين: استثناء أعلى لإسرائيل واستثناء أدنى لفلسطين، استثناء من العقاب لإسرائيل واستثناء من الحماية لفلسطين، تدليلٌ لإسرائيل وإباحةٌ لفلسطين، استثناءٌ من المسؤولية للإسرائيليين واستثناء من «الحق في الحقوق» (حنة آرندت) للفلسطينيين، استثناء فوقَ سياسي لإسرائيل واستثناء تحتَ سياسي لفلسطين. وبقدر ما إن إسرائيل باراديغم شرق أوسطي للاستثناء، وأن حماية الأوليغاركيات العربية جنحت لأن تصير من مكونات الإسلاموفوبيا (كما سأُظهِرُ لاحقاً)، فإن نموذج الاستثناء الإسرائيلي صار مُتاحاً لتعامل دول أخرى في الشرق الأوسط مع محكوميها، الدولة الأسدية بخاصة.

من غير المتوقع أن تأخذ الفلسفة الغربية علماً بهذه العمليات والبنى، وتبني على العلم مقتضاه. التفكير في المسألة الإسلامية هي ما يقع علينا نحن القيام به، أعني الشركاء في العالمين والمخاصمين للقوى النافذة فيهما معاً. وقد نكون اليوم في وضع أنسب للقيام بذلك بالنظر إلى أننا ورثة صراعات وتجارب تتيح لنا الاعتراض على الإسلامية دون الاستناد إلى الاستبعادية الغربية، والاعتراض بالمثل على هذه الاستبعادية دون الاستناد إلى الإسلامية، القائمة على الاستبعاد والاستثناء بدورها. والاعتراض عليهما معاً على أسس تدافع عن المساواة محلياً وعالمياً، وتعترض على نظم الطغيان المحلية.

(4)

ما تقدّمَ عناصرُ مُحتّمة في أي جينيالوجيا للمسألة الإسلامية، وهي لم تستبعد يوماً تلاقيات سياسية ضد طرف ثالث. من هذه الأخيرة تغذية الأميركيين لـ«الجهاد الإسلامي» في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي في مطلع ثمانينات القرن العشرين، وقبلها أفكار مثل «الحزام الأخضر» الإسلامي حول الاتحاد السوفييتي، وجهد أميركي سعودي لاستخدام الرابطة الإسلامية ضد القومية العربية في ستينات القرن نفسه. إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بمبادرة سعودية عام 1968 كان يندرج في هذا السياق كذلك. وما تكلّمَ عليه وليّ العهد السعوي في آذار 2018 عن أن نشر الوهابية إنما جرى بطلب غربي في سياق الحرب الباردة يقعُ ضمن الإطار نفسه. ولا تزال اليوم أهم البلدان الإسلامية تابعة سياسياً واقتصادياً وأمنياً للمركز الإمبراطوري الغربي، فاقدة للاستقلالية والسياسة الذاتية على نحو يُنذرها بالتفجر إن حُرمت من التبعية.

إلا أن ما تُشير إليه تقاربات سياسية من فوق كهذه من ترابط غربي إسلامي مديد، لا يلغي أن وجهاً متفاوتَ الظهور من النفور والتباعد النفسي بين الغرب وعالم المسلمين صار ملمحاً ثابتاً للمسألة الإسلامية، يجعلُهُ محسوساً بصورة يومية واقعُ التفاعل الكثيف بين العالمين في عالم اليوم الواحد، بما في ذلك انتشار ملايين المسلمين في مجتمعات الغرب اليوم، في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، ومعاينة أعداد كبيرة من دبلوماسيين وصحفيين وخبراء وسواح وعسكريين من الغرب الأحوال عن كثب في عوالم المسلمين، وهي أحوال لا تغيظ عدواً.

هناك تقاربات سياسية بالفعل، لكنها لا تجري على أرضية من التحالف والاحترام، بل يبطنها احتقارٌ غير خفيّ من الجهة الغربية، وإن ظهر ذلك في وسائل الإعلام لا في تصريحات السياسيين. وقبل أن تظهر الإسلاموفوبيا مع نهاية الحرب الباردة، كانت هناك سابقة رضيّة تبدو منسية اليوم: الصدمة النفطية الأولى، 1974، التي تعممت إثرها المطابقة بين العربي والثري الخليجي، بزيّه الخاص وثرائه الفاحش وسفه إنفاقه وسقم ذوقه. الواقع أن هذا الأخير يصلح رمزاً لهزيمة العربي الذي كان يعرّف نفسه بصيغة قومية علمانية، وعلى يد إسرائيل والغرب بالذات، قبل سنوات قليلة فقط: حزيران 1967. «الصدمة» حاضرةٌ في الغرب، أما «الهزيمة» فلا. النسيان الإرادي والتذكر الانتقائي يقومان بواجبهما في صنع «الحقائق البديلة».

كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد يعرض استمرارية بعيدة الغور، عابرة للأزمنة، لجفاء غربي حيال الإسلام. قد يكون ذلك مُجادَلاً فيه، لكن نظرة غير وديّة لعالم الإسلام وجدت أسباباً للصمود والتجدد في حداثة أوروبا، لم يتحدَّها عصرُ التنوير وفكره وفلاسفته ولا القرن التاسع عشر، ولم تقاوَم إلا على نحو فردي ومتناثر. في زمن التنوير صار الإسلام عنواناً للتعصب والاستبداد الذي كانت أوروبا أخذت تتحرر منه، وفي القرن التاسع عشر، قرن التقدم، صار عالم الإسلام رمزاً للركود والتأخر و«الشرقية»، وسوَّغَت رسالة تحضيرية متعجرفة الغزوات الاستعمارية التي لم تكد صفحتها تبدأ بالانطواء حتى كان الحلُّ النهائي للحلِّ النهائي للمسألة اليهودية يُجدِّدُ شبابها على أسس جديدة. وخلال ثلاثة قرون تشرّب النظر الغربي إلى عالم الإسلام بروح تعالٍ جارحة (وإن تكن أحد أوجه التعصب الغربي العام الذي لا يفوقه تعصب)، كان لعدد محدود من المفكرين الغربيين اعتراضٌ مسموعُ الصوت عليها.

ومنذ نهاية الحرب الباردة هناك موجة عداء وتمييز لم تتأخر عن العثور على اسم: الإسلاموفوبيا. في جذور هذه الموجة تقاطعت تحولات متنوعة، منها صعود السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وتراجع وظائف الدولة الاجتماعية وصعود سياسات الهوية؛ ومنها موجة إسلامية، «الصحوة الإسلامية»، كانت صاعدة وقتها، مطلع تسعينات القرن العشرين، وهذا في عالم عربي وإسلامي أخذت تحكمه، منذ سبعينات القرن نفسه، أي بعد جيل واحد من نزع الاستعمار ومن تحولات اجتماعية «تقدمية» وسيرورةِ علمَنَة، نخبٌ تجمع بين الطغيان والتخاذل والنهب الفاحش، منشغلة حصراً بدوامها الخاص؛ ولعلّ من تلك التحولات واقعةٌ مستجدة تتمثل في صعود الشعور الإسلامي بين مسلمي بلدان الغرب متزايدي العدد، ومنهم من كان بعضهم هناك طوال جيل أو جيلين وقتها، ومنذ أكثر من جيلين أو ثلاثة اليوم. امتزجت عند كثيرين منهم مشاعر التمييز بالغربة والاغتراب (بمعنى الاستلاب). المسلم المغترب بمعني الكلمة (الغريب والمغرَّب alienatedأو المُستبعد) في الغرب قد يتأسلم، يجد في الإسلام موطناً بديلاً.

يتمازج في مُدرَك الإسلاموفوبيا دالٌّ عائمٌ هو الإسلام مع انفعالات الكره والخوف. تعبير النفور بالعربية أوفى بالمراد من الكره والخوف، وبفضل ما يتضمنه من حركة ابتعاد وتجنّب، يحوز كذلك على بعد ديناميكي. لكن حتى لو أخذنا بالحسبان أن الابتعاد والتجنب غير ممكنين مكانياً في عالم اليوم، وأنهما يتحولان نسقياً إلى استبعاد وعزل، وإلى تراتب وتمييز متعدد الأوجه، فإن مفهوم الإسلاموفوبيا لا يفي بالغرض إلا كمنطلق. المشكلة في المفهوم أنه يُحيل العلاقة مع «الإسلام» إلى مجال السيكولوجيا الجمعية، ويُغفِل بنى مستمرة مديدة تتمفصل معها هذه الفوبيا. من هذه البنى النمط الحالي لسكنى العالم القائم على ترويض مُعمَّم للحياة والبيئة والأنواع الحيّة على الكوكب، حسب غسان الحاج الذي يرى أن الإسلاموفوبيا كأبرز أشكال العنصرية في عالم اليوم وأزمة البيئة وجهان لما يسميه أزمة نمط الترويض العام، تتصل بصور مختلفة ببنى الرأسمالية والاستعمار2. لكني أتكلّمُ هنا على بنى مديدة مختلفة، أقرب إلى عالم السياسة والصراع السياسي، سأتناولها في الفقرة التالية.

(5)

المسألة الإسلامية هي الترابط التاريخي بين الإسلامية (على نحو ما تتجسد في ظهور الإسلام السياسي، ثم الحربي أو «الجهادي»)، وبين الإسلاموفوبيا مفهومة كعنصرية ضد المسلمين حسبما عرفها تقرير3 أصدرته منظمة RUNNYMEDE البريطانية عام 2017.

والتقرير الذي لا يكاد يذكر الإسلامية بشيء يشير غير مرة إلى «الإرهاب»، ويطالب بسياسات منضبطة بشأنه لا تُفرد المسلمين عن غيرهم. لكنه يغفل الإشارة إلى الصراعات الحديثة الكبرى التي تبطن الإسلاموفوبيا والمسألة الإسلامية. وهو في ذلك وفيٌّ للتراث الذي تقدَّمَت الإشارة إليه: من يتناول الإسلاموفوبيا لا يتكلم على الإسلامية، والعكس بالعكس.

على نحو غير منعدم السوابق في تاريخ القوى الغربية المسيطرة، تضع المسألة الإسلامية هذه القوى في تقارب مع نُخَب حُكم محلية عرضت تحولاً أوليغاركياً عميقاً من سبعينات القرن العشرين في مواجهة كل أشكال الاعتراض الاجتماعي والسياسي، بما فيها نزعة إسلامية سياسية أخذت تجد صدى لدى قطاعات متنوعة من جمهور شعبي، احتجاجاً على التحوّل الأوليغاركي وطلباً للسياسة. للإسلامية عمقٌ اجتماعيٌ مُتبدل يتراوح بين قطاعات من السكان تبحث عن تعبيرات سياسية ولا تجدها في عالم الدولة فتجد أقرب بديل في عالم الدين، إلى قطاعات مهمّشة تحلم بالإمارة، وقد تُمِدُّ «إدارة التوحش» بما يلزمها من عتاد بشري. يبقى هذا العمق محدوداً في تصوري (سقفه دون 20% ممن يحق لهم التصويت من السكان على ما أظهرت الانتخابات المصرية بعد الثورة، وقبلها الانتخابات التونسية)، لكن الاستبعاد السياسي المنظم والمديد حال دون كشف هذه المحدودية، فأخذت الإسلامية تبدو شبحاً منتشراً، لا جسم له إلا أن يكون جسم «الأمة» على ما يفضّلُ الإسلاميون بالذات تصوير أنفسهم، وربما تشاركهم هذا التصوير نُظُم الأقلية وعملاؤها الإيديولوجيون، وعلى الأرجح أيضاً مُخاطَبوها من مبعوثين دبلوماسيين وأمنيين غربيين. هؤلاء الأخيرون يعتمدون في معلوماتهم على «الدولة» ولا يجدون في أنفسهم وفي مصالح بلدانهم ما يدعوهم للتشكك في روايتها. وما أخذت تجده الإسلامية السياسية والعسكرية من امتدادات في بلدان الغرب، أسهمَ في صنع قضية مشتركة مع الأوليغاركيات.

وترتسم على هذا النحو بنية سياسية ثلاثية، تتقابل فيها القوى الغربية (ومعها في هذا الشأن إسرائيل) والدول الأقلوية المحلية والمجموعات الإسلامية، وهو ما يُقصي غير الإسلاميين في مجتمعاتنا، فيصيرون غير مرئيين، بل غير موجودين.

وإنما لذلك يبدو أن مفهوم الإسلاموفوبيا لا يصلح للإحاطة بهذا الوضع، فهو يُخفي أبعاداً خارج الغرب للمشكلة. كان يمكن لتعبير مناهضة الإسلامية أو الأنتي إسلامية أن يكون بديلاً مناسباً لولا أنه قد يُفهَم كمناهضة للإسلاميين حصراً، مما هو موقف سياسي شرعي، وقد يكون موقفاً صائباً جداً. أفكّرُ في ثلاثة وقائع أساسية، يقتضي تمثيلها المفهومي شيئاً أقرب إلى أنتي إسلام مفهوماً كعالم اجتماعي وسياسي متطلع للاستقلال وتمثيل الذات. الواقعة الأولى هي الإسرائيلوفيليا، أي احتضان إسرائيل وحمايتها وكفالة أمنها وإعفاؤها من القانون الدولي وضمان حصانة مسؤوليها مما يرتكبون من جرائم. هذا تدليلٌ تستجيب له إسرائيل بمزيد من الدلال. ومن يدفع الثمن هم الفلسطينيون، لكن كذلك السوريون واللبنانيون ومحيطٌ عربيٌ أوسع وُضِعَ تحت الرقابة الغربية كيلا يهدد «أمن إسرائيل». الواقعة الثانية هي دعم الأوليغاركيات العربية، ليس حبّاً بها بالضرورة، ولكن ضبطاً للمجتمعات المحكومة وكرهاً لنزعات استقلالية غير مضمونة ولحياة سياسية تنقل العلاقة مع القوى الغربية من الأمني والسري إلى السياسي والعلني. هذه الواقعة الثانية وضعت القوى الغربية في موقع معادٍ للديموقراطية في بلداننا. فإذا أضيفت إليها عقيدة حماية الأقليات والإسلاموفوبيا، وضعتها كذلك في موقع داعم بنيوياً للطائفية ومُعادٍ من وجه آخر للديموقراطية. والواقعة الثالثة هي «الحرب ضد الإرهاب»، والعدو الشرير فيها هو الإسلامية تحديداً. لدينا هنا مثلثٌ رؤوسه قوة «خيِّرة وديموقراطية» هي إسرائيل، و«شرٌّ أصغر» أوليغاركي يتراوح بين أن يكون موالياً للغرب أو غير معارض له، و«شرٌّ أكبر» إسلاميّ.

وبالمضمون المُقترح لها هنا، تُبينُ هذه النزعة العدائية لماذا نعتبر أطراف المسألة الإسلامية أربعة اليوم: القوى الغربية، إسرائيل، أوليغاركياتنا الحاكمة والإسلاميون.

(6)

ليست الإسلامية حلاً للإسلاموفوبيا، وليس التمييز ضد المسلمين ومراقبتهم حلاً للإسلامية. لا تفكّرُ الإسلامية بنفسها كجزء من مشكلة أكبر، ويفضّلُ الإسلاميون التركيز على ما يتصل بالإسلاموفوبيا من ظواهر تمييز يطال مسلمين، لأنه يلقي كل مسؤولية خارجهم. هذا يحميهم من التفكير في نصيبهم من المسؤولية عن الأوضاع الكارثية الحالية في مجالنا من العالم، وفي رفع منسوب النزعة المحافظة عالمياً. التمييز حقيقي، لكن تواجهه الإسلامية بتمييزٍ مضاد، لا بدفاعٍ عن تصور مُتسق للعدالة أو بالشراكة مع آخرين مختلفين. ومرة أخرى أعتقد أن في جذر ذلك مُركّبُ المظلومية والإمبراطورية، حسٌّ بالعدالة الذاتية بسبب وضع الضحية وحسٌّ بالتفوق بفعل الدين التوحيدي والميراث الإمبراطوري، هما معاً سوران منتصبان يحولان دون التعلم من الغير وتقمّص الغير.

ومما يُفاقم خلوَّ تفكير الإسلاميين من الطرافة والابتكار القطيعةُ مع الفلسفة والإنسانيات، وبقدر كبير مع الأدب والفن (بقدر ما هما يدوران حول تجارب الذات وصراعاتها). توفِّرُ الإسلامية بالمقابل «علماً» ناجزاً يسهل «ختمه»، لذلك فهي تجتذب إلى عالمها الفكري والأخلاقي الضيّق من يرتاحون لعلم، وعالم، متناهيان، وليس من لا يكفون عن التعلّم فيوسعون عالمهم بلا نهاية. بعبارة أخرى، تجتذب الإسلامية من يختمهم «العلم» ويغلقهم عن العالم ويغنيهم عن تعلّمٍ مفتوح، وهذا من مصادر فقر الفكر الإسلامي، وأرجحية وزن «خاتمي العلم» المتعصبين على المتعلمين وطالبي المعرفة من منفتحي العقول. وبدل معرفةٍ تتجدد بعالم يتغير، تجمع الإسلامية بين الديْن الذاتي (لا ندين لغيرنا، فلا نشكر غير أنفسنا) وبين إدانة الغير. ومن إنكار الديْن الغيري وإدانة الغير يتكون دِينُ الإسلامية المعاصرة النرجسي والعابد للذات.

ولا يبدو أن هذه المشكلات الكبيرة تستوقف الإسلاميين الذين إذا انتُقِدوا انكفأوا على أنفسهم واعتبروا ذلك دليلَ عداء وإسلاموفوبيا، وإذا لم يُنتَقَدوا ثابروا على تكبّر جاهل تسبّبَ بكثير من الأذى في مجتمعات المسلمين، بما في ذلك لهم هم.

وبفعل هذا التكوين تَعرِضُ الإسلامية على اختلاف تياراتها نزعة انعزال ورهاب من العالم، تحمي بهما استقرار عالمها الضيّق، لكنه يحول دون أن تشعر بالغير وأن تشارك في نقاش مع أي غير حول مستقبل العالم. لا يستقيم نقد الإسلاموفوبيا دون نقد متكرر لغربوفوبيا الإسلاميين، التمييزية بدورها والعدائية وغير العادلة.

في الشأن الفكري والأخلاقي تعرض الإسلامية على نحو ما رأيناها في سورية ومصر، وقبلهما في العراق وأفغانستان، فشلاً كارثياً. ولعل من جذور ذلك أن التفكير الإسلامي فقد اتساقه السابق وتوازنه بأثر التجارب الحديثة الراضّة من استعمار ورأسمالية وحداثة تعليمية ومؤسسية وقانونية، دون أن يطوِّرَ بفعل نزعته الدفاعية وتكبّره اتساقاً جديداً. يقتضي ذلك من كل بدّ إعادة هيكلة المعتقد الإسلامي بما يصون قيمه الأساسية (التوحيد، العدل، الأخوة، عمران الأرض…)، ويُتيح للمسلمين الرسوخ في العالم إلى جانب غيرهم. لو حدث هذا، وما كان ممتنعاً كل الامتناع أن يحدث، لصارت الإسلامية قوة نهوض اجتماعي وأخلاقي وسياسي، ولأُعِيدَ تأويل تاريخ الإسلام كلّه وفق الهيكلة الجديدة التي كانت ستُرى بأنها تحقّقٌ أصيلٌ لوعود الإسلام التي لم تتحقق بفعل عوادي الزمن.

انهار عالم الإسلام التقليدي ولم تتجاسر الإسلامية على المبادرة الفكرية والأخلاقية في عالم مغاير ومتغيّر. ما فعلته هو إنكار الحداثة إيديولوجياً والتشكّل وفقاً لها واقعياً. من ذلك مثلاً تقرير أن القرآن هو الدستور (وليس أي دساتير تضعها جمعيات تأسيسية أو أطقم انقلابية، أو سلاطين محدثون)، الشريعة هي القانون («شرع رب العلمين» وليس «القانون الوضعي»)، الحاكمية الإلهية هي السيادة (وليس حاكمية البشر)، القرآن معجز علمياً (وفيه كشوف العلم الحديث قبل العلم الحديث)، الإسلام هو الحلّ (وليس «الحلّ الاشتراكي» أو «الحلّ الثوري»، وهي تعابير كانت شائعة في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، وعلى وزنها أيضاً كان رائجاً «الحلّ السلمي» المرفوض)، وقائدنا إلى الأبد هو سيدنا محمد (وليس «الأمين حافظ الأسد»)… وكلها مبنية على مقدمة كبرى مُضمرة مستمدة من تنظيمات العالم الحديث أو من سقط متاع الدولة السلطانية المحدثة. للوهلة الأولى، قد يبدو أن المُبادِرَ في هذه القضايا هو الشيء الإسلامي: القرآن، الشريعة، الله، النبي… ولا بحال من الأحوال. بل المبادرة لتنظيمات معاصرة لا يتجاوز فكر الإسلامية صبغها بصبغة إسلامية، إنقاذاً لكبرياء كُبرائه (وليس كرامة دين المسلمين، والمسلمين أنفسهم). في مواجهة إحراج الحداثة، يردّ الإسلاميون بمنطق فرويدي: أولاً، لا يلزمنا حكم دستوري وقوانين…؛ ثانياً لدينا كل ذلك سلفاً! ثالثاً، أصول الحكم الدستوري والقانون والعلم… كلها من عندنا! على هذا النحو التلفيقي، فَقَدَ التفكير الإسلامي كل أصالة، وإن ثابر على التغني بها، وصار مزيجاً من التحايل والحربائية، مع علو الصوت بغرض حجب التخاذل وانعدام الشجاعة. ودوماً مع انشغال مفرط بظواهر السلطة وليس بحياة الناس. لا يجري مثلاً التفكير في الغرب كمجتمعات مكونة من ملايين الناس المنشغلين بحياتهم، الذين طوروا مرافق كثيرة نافعة لجميع البشر، بل حصراً كقوة أو قوى معادية.

وبأثر تشكلها وفق الحداثة وفقدانها الجذري للأصالة، تُشكِّلُ الإسلامية ضرباً مما كان سماه أوزفالد شبنغلر «التشكُّلَ الكاذب»، تشكلٌ في قوالب خارجية ووفق منطق خارجي، يُفرِغُ الميراث الإسلامي من محتواه الرمزي والأخلاقي والروحي المتشكل عبر القرون، ويصبّه في قوالب السلطة التي هي الشكل المسيطر للحداثة في مجالنا. نحن هنا حيال ضرب من انسلاب الروح لا يُتيح للتفكير الإسلامي التطور ولا للروح الإسلامية السلام، ولا هو يضيف شيئاً إلى الحداثة الحقوقية والسياسية والفكرية الغربية.

وما يبدو لي مقياساً للتشكّل الكاذب هو امتناع التشكّل في تقليد أو تراث حي. الإخفاق الكبير لحداثتنا غير الدينية يتمثل في عدم تشكلها في تقاليد حية، في عوائد ومسالك تكرارية، في قوانين وأعراف وقواعد مستقرة، أي بكلمة واحدة ثقافةٌ من شأنها أن تُتيح لمن يتماهون بها تشكيلَ مجتمع وسكنى العالم. ليست هذه حال الحداثة في الغرب، فهي نظام وقواعد وتقاليد، ثقافة (تبدو اليوم في تخلخل وضياع). على أن الإسلامية تسجل لحسابها فشلاً مماثلاً لفشل حداثتنا، هو ما يسبغ عليها صفة الاعتباط المحض والعشوائية المنفلتة من عقالها. ليس أنه لا قواعد هناك، لكنه يجري التلاعب بها في كل وقت، وتقوم الأفعال على الاستثناء المستمر، على الانفلات النشط من قواعد يمكن أن يحتكم إليها الضعفاء. السنة التي يتكلم عليها عبد الله العروي في «السنة والإصلاح» لم تعد تطحن الحدث فتلغي حدثيته وتصون دورانها حول ذاتها؛ صار «السنيون» بالذات، أعني عاملو التسنين من شرعيين ومجاهدين ووجهاء الطائفة، حدثاً طاحناً لكل سنّة، لا تضبطه قواعد من أي نوع، إداريو توحش ومبدعو تعذيب وقتلةٌ سعداء، ولم تعد السنّة غير رمز أو ماركة تغليف لحدث «إدارة التوحش».

وفي أصل الاستثنائية المستمرة ذاتٌ ناميةٌ لا تطيق أي تقييد لسلوكها، طائفة الإسلاميين. وهي في ذلك مثل البرجوازية الجديدة الأسدية تماماً، لا يتعارض كيانها بالذات مع قواعد مطردة فقط، وإنما هي تحتاج إلى حالة استثناء ديناميكية، استثناء من الاستثناء، لا تكفّ عن انتهاك ما يحدث أن تضعه هي بالذات من قواعد. في الحالين هناك ذات سريعة النمو، غولية، فتّاكة، تستهلك البشر والحياة والعالم، دستورها الاعتباط، ويتعذّر أن تتشكل حياة قانونية على غير جثتها.

(7)

وبحكم «التشكّل الكاذب» والانفلات خارج وضد أي تقليد حيّ، تسهل معاينة ضمور مبدأ الأخلاقية في الإسلامية، والظهور الشحيح للفرد الأخلاقي على أرضية تكوينها. هناك من جهة جفاف في المنابع الروحية تحت وطأة إهمالها لمصلحة السلطة المعبودة، وهناك من جهة ثانية تحول إلى طائفة مغلقة في وقت ظهور العالم المفتوح على بعضه، والحاجة الملحة إلى أخلاقية عالمية والتزامات عالمية، أو أقله الانخراط في النقاش حول عالم اليوم.

دون أن يفكروا بالله أو يطوروا علم كلام جديد، الإسلاميون المعاصرون إلهيون وليسوا إنسانيين، يفكرون بأنفسهم كمنفذين لتكليف ربانيّ عالٍ على البشر، يسوِّغُ لهم إكراه الناس عليه إن لم يستجيبوا طواعية. والإكراه بأمر إلهي غير مُفكَّر فيه وغير مُساءَل لأنه مُشرّع لسلطة لا تُساءل هي ذاتها، هذا الإكراه يُبيح الحياة البشرية والكرامة الإنسانية على ما يصادق عليه سلوك إسلاميين متنوعين في سورية بين 2013 و2018. وما شُوهِدَ في سورية يبدو مندرجاً ضمن نسق متكرر، سبق أن شوهدت نظائر له في الجزائر والعراق وغيرهما، بما يسوّغ القول إن الإسلامية لا تضمن فعل الخير، وإنما هي توجه نحو فعل الشرّ بضمير مرتاح، أي بالفعل أسلمة الشرّ. أفعال القتل والاستيلاء على الملكيات والتعذيب والإذلال والخطف والتغييب والاستعباد والسبي والاغتصاب ومُلك اليمين تُباحُ بفتاوى دينية. أسلمة الشرّ على هذا النحو المتسق المتكرر والمديد تشرِّر الإسلام أو تجعل من الإسلام شراً، دون أن تُواجَه إلى اليوم بانتفاضة فكرية وأخلاقية كبيرة تتولد عنها إسلامية أخلاقية، تقتضي حتماً مواجهة دين الإكراه وإله الإكراه.

بل إن نموذج الإسلامي المنتشر الذي رأيناه في سورية يثير تساؤلات حول ما إذا لم يكن الضمير الشخصي تشكلاً تاريخياً محتملاً، يمكن أن يوجد أو لا يوجد. إسلاميو داعش وجيش الإسلام وجبهة النصرة وغيرهم يبدون متحررين كلياً من مُساءلة الذات، ومزودين بضمير خارجي، في صورة الشرعي أو المفتي، يسوِّغُ لهم جرائم متفننة. هذا تشكيل ممكن للإنسان، هو ما يصح تسميته هوموإسلاميكس، ومن هذا الكائن المكفهر تتشكل طوائف الإسلاميين العابدة للسلطة، والتي تستمر في التقاتل فيما بينها وتطهير مراتبها الداخلية إلى أن تقضي على نفسها والبيئات الاجتماعية لانتشارها.

لم تكن الإسلامية المحاربة، على ما شهدناها في سورية بخاصة، سنداً للمجتمعات المحلية، وعلاقتها بها لا تشبه بحال علاقة حزب الله مثلاً بالشيعة اللبنانيين، رغم أن هذا المثال بالذات كان حاضراً في تصور بعض تشكيلاتهم لنفسها ولدروها، جيش الإسلام في دوما والغوطة الشرقية مثلاً (كان زهران علوش يريد أن يحكم سورية أو أن يكون حسن نصر الله السوري). لكنه كان أقرب شيء إلى عصابة إجرام مؤذية، حطمت المجتمع الدوماني بالذات بسجونها التي يجري فيها التعذيب والقتل، وبنظام من التجسس والاغتيالات والخطف والتغييب تمرّست به. وفي مجملها ظهرت الإسلامية المحاربة آلة قارضة للمجتمعات، ضرباً من «عضّاضة» (كماشة معدنية) هائلة، من الصنف الذي استخدمته داعش لعض أثداء النساء وأقفيتهن في الرقة، عقاباً على أشياء متنوعة، منها إرضاع أطفالهن في أماكن يمكن أن يراها جواسيسها. العضّاضة الإسلامية أسهمت إلى جانب العضّاضة الأسدية في إنتاج مقادير هائلة من اليأس والكراهية والألم. ومثل الأسدية لم يخرج من صفوفها أصوات مُسائلة للنفس، تتساءل: ماذا فعلنا، وتتقصى أصول أفعال الإجرام في تكوين الظاهرة ووعيها لذاتها.

ونجازف بالتكرار بالإحالة مجدداً إلى مركب المظلومية/ الإمبراطورية، لكن هذه المرة من زاوية ما ينطوي عليه من مُجانبة هائلة للتوفيق. هذا المُركَّبُ المنحوس من جنون العظمة وجنون الاضطهاد ينبغي أن يدلّ على سحب الرضا الإلهي عن المسلمين إذا تكلمنا بلغة لاهوتية، بل على لعنة إلهية. ولقد فاقم المنزع التمييزي للإمبريالية الغربية الحديثة والمعاصرة فقدان الصواب في بيئات إسلامية، قادها الفشل المتكرر في الردّ على التفوق الغربي إلى مَنازِعَ انتحارية آذت الغرب بعض الشيء، وآذت مجتمعات المسلمين كُلَّ الشيء.

وبقدر ما إن الضمور الفكري للإسلامية متولدٌ عن مركب مظلومي إمبراطوري، وعن فقدان للشجاعة الأخلاقية أفقد بدوره الإسلامية الأصالة والطرافة، فقد تولّد عن ذلك مركب إضافي وخيم: الابتذال المأساوي أو التفاهة المأساوية، الخلو من الطرافة والاستعداد للإبادة، تفاهة التفكير ودموية الأفعال.

وما نحصل عليه من اجتماع دموية الأفعال وتفاهة الأفكار هو تبذيل الجريمة، وانعدام الخجل أو الحياء. لقد جعل إسلاميون كثيرون، منتشرون في بلدان كثيرة، من الشرّ ممارسة يومية مبتذلة. شرُّهم أقلّ بيروقراطية من آيخمان والنازيين دون شكّ، لكن مزيج اليقين الفقير والابتذال الوفير ينطوي على طاقة شرّ كامنة عالية جداً. المظلومية والشكوى من الاضطهاد والإسلاموفوبيا ضروريان جداً لتجنّب مُساءلة النفس عن هذا المركب الوخيم. لكنهما ضروريان أيضاً لاقتلاع جذور الخجل من النفس، وبالعكس الاعتزاز بالإثم. النفس التي صفّحتها المظلومية والعتو التوحيدي الإمبراطوري «طق شرش الحياء» عندها فلم تعد تستحي من شيء. لا التزام لديها إلا حيال الطائفة، وكل جريمة بحق الغير مُباحة.

وفي هذا ما لا يعطي غير صورة منذرة عن مآلات المسألة الإسلامية. كان يمكن للصراع بين الإسلامية و«الغرب العميق» أن يكون صراعاً بين باطلين، كوميديا في تعريفها الأرسطي، لولا أن هذه «الكوميديا الإبراهيمية» باهظة الكلفة منذ اليوم، ولا تبدو مرشحة لغير انحدار مديد في بربرية أشدّ كلفة.

(8)

تتراكب في الإسلام المعاصر مشكلات دينية غير طائفية ولا تعود إلى وضع جماعة أو جماعات المسلمين في الدولة والإطار الدولي الحديث، ومشكلات طائفية غير دينية تتصل تحديداً بهذا الوضع. من المشكلات الأولى ما هو أخلاقي حقوقي وسياسي، قائم في المعتقد الإسلامي بالذات، مثل أوضاع تمييزية شبه عبودية للمرأة، ومنها ما يتصل بحرية الاعتقاد الديني، ومنها ما يحيل إلى «الحدود» وعقوبات جسدية ماسة بالكرامة الإنسانية والتكامل الجسدي للمستهدَفين بها، ومنها ما يدعو إلى قتل «المشركين». هذا فضلاً عن مشكلات كلامية تتصل بتصور الله والوحي، ومشكلات أخروية أو مَعَاديّة تتصل بتصور اليوم الآخر والنعيم والجحيم. الفكر الإسلامي أظهر تخاذلاً مشيناً في تناول هذه المشكلات وتغطيتها فكرياً وقيمياً على نحوٍ كان يمكن أن يُتيح للمسلم المؤمن أن يعيش إيمانه دون تناقضات كبيرة. وبفعل هذا التخاذل يحتلّ التناقضُ كيانَ المسلمين. فإما يؤمنون بالمتوراث كما هو، ما يقتضي منهم مقاطعة عالم اليوم وتكفيره والرغبة في تدميره، أو ينفتحون على ثروات عالم اليوم الفكرية والأخلاقية والعلمية فينقلبون على عالمهم الاجتماعي والثقافي كله وليس على الدين وحده، أو أخيراً يجمعون بين هذا وذاك مُسلمين نفوسهم لازدواجية شالّة وغير أخلاقية.

ومما يثبت هذا الانقسام المشكلةُ الأخرى، الطائفية، أعني التنازع بين الجماعات الاعتقادية وتنافسها على السلطة والموارد، وهذا على النطاق المحلي والعالمي. الطائفية هي تمييز سياسي بين الجماعات في نطاق الدولة، يقترن بتراتب ضمني أو صريح بينها، وبأجواء من حرب أهلية باردة تتفجر ساخنة بين حين وآخر، ثم بكيد وعدم ثقة وسوء نية وقلّة احترام. وهو ما يوفر جسر اتصال متيناً بين الطائفية في بلداننا والإسلاموفوبيا. الظاهرتان من الصنف نفسه: التمييز المتصل بالدين أو المذهب، والمؤسس لتراتب يمتد إلى المجالين الاجتماعي والسياسي. فإذا كانت الإسلاموفوبيا هي العنصرية المضادة للمسلمين، وكانت الطائفية تمييزاً مرسخاً سياسياً، تحل فيه رابطة المعتقد محل العنصر، أمكن القول بالقدر نفسه من الشرعية إن الإسلاموفوبيا طائفية مضادة للمسلمين، وأن الطائفية ضرب من التمييز العنصري.

لكن أثر المشكلة الطائفية يتجاوز ذلك. وقد يتمثل أسوأ آثارها وأكثرها خفاءً في أنها تَحول دون الشغل على المسألة الدينية أو تغذي التخاذل في تناولها. في حقل سياسي يسوده سوء النية والتنازع والتنافس غير الشريف، تذهب معظم الجهود إلى الدفاع عن الرابطة المعتقدية للجماعة والتكتم على المشكلات العقدية المحتملة، أو التفرغ لإبراز المشكلات المعتقدية عند الجماعات المنافسة. ومع ترسّخِ هذا المسلك، ونحن في سورية ولبنان والعراق وربما مصر منذ عقود في مستنقع لا يغذي غير مسالك مماثلة، تتصلّب النفوس ضد بعضها، وتنحل المشكلات الدينية تماماً في المشكلة الطائفية. وقد ننتهي إلى نوع من النسبية الطائفية إن جاز التعبير، حيث يجري تمييع كل مشكلة يجري تناولها بالإحالة إلى مشكلة مقابلة عند الخصوم. فإذا ذُكِرت جرائم النظام في سورية جرى الرد بذكر جرائم إسلامية تاريخية أو معاصرة، وإذا قيل شيء بخصوص السنيين أو الإسلاميين جاء الرد بقول شيء عن العلمانيين أو عن المسيحيين أو العلويين، وإذا قيل إن فلان سيء، وُجد له مقابلٌ سيءٌ من طرف مقابل. يجري على هذا النحو تطبيع استقطاب عدائي سلبي، واستحالة قول شيء مفيد عن أي شيء، ويحل التعريض محل التفكير، والتعصب الطائفي محل التجرد والثقة، ويغرق النقاش كلياً في سوء النية وسوء الظن وقلّة الاحترام. هذا وجه من أوجه حربنا الأهلية لم يبدأ بالظهور مع الثورة، لكنه تكرّسَ بعدها وصارت الحرب منطق تفكير وسياسة وهوية ووجود.

هذا الشرط الطائفي ليس مستجداً بحال. لقد ولدت الإسلامية قبل أقل من قرن في حقل صراعي مستقطب بشدة، يسوده التنازع والصراعات السياسية على مستوى دولي متداخل مع المحلي، وضمور الديني ومعه الأخلاقي مدوَّنٌ في هذا الميلاد الذي قضى بالمقابل بصعود السياسي والطائفي. أتكلم على ضمور ديني مَنشئُهُ غلبةُ النزعة الدفاعية وتكريس جهود كبيرة لها، وضمور أخلاقي ناشئ من جعل المعتقد أو الناطقين باسمه ضميراً، والإشفاق في الحالين من تناول ما ينال من تماسك الجماعة التي تضعضعُ «الحداثةُ» تماسُكها. لكن هذا المسلك مرة أخرى متخاذل ومفتقر للشجاعة، ولا يصون التماسك المتضعضع فوق ذلك. كان ولا يزال من الأجدى التصدي للمشكلات الدينية كما لو أنه ليس هناك طائفية ولا إسلاموفوبيا، بل كان من شأن ذلك أن يُسهم في الردّ عليهما، وجزئياً على الأقل في إبطالهما. ولعلَّ أقرب مثال إلى ذلك ما يقوم به الدكتور محمد شحرور، وإن أمكن المجادلة بخصوص تعسّف تأويلاته وصدوره عن عدالة نهائية للنص الديني ومطابقته مع تصور ما هو عادل اليوم. (ليس كاتب هذه السطور مختصاً، لكن يبدو أن هناك منطقان جذريان صلبان للإصلاح الأخلاقي والديني في الإسلام. أولهما أن الخلق من الخالق والأخلاق من الإنسان، فكل ما هو أخلاقي في المتون الدينية يجب أن يعتبر إنسانياً، قابلاً بالتالي للتطوير والإلغاء والتجاوز، وكل ما هو خلقي لا يجوز المساس به كالتدخلات الجينية في تكوين الإنسان، والحياة؛ ويترتب على ذلك، وهنا المنطلق الثاني، أن ما في «الشريعة» من أحكام اجتماعية وقانونية وسياسية تاريخي كلياً، وبحكم اللاغي اليوم).

وبدروها تسهم المشكلات الدينية في الحيلولة دون تناول المشكلات الطائفية والإسلاموفوبية، وتحديداً عبر الميل إلى اشتقاق هذه المشكلات الأخيرة من المشكلات الدينية. كأن تُشتق الطائفية من حرية الاعتقاد الديني أو بالأحرى من غيابها، أو أن سبب الإسلاموفوبيا تديّنُ المسلمين أو حجابُ المسلمات. هذا بالمناسبة يقترب من تصور الإسلاميين أنفسهم من أن مشكلات الطائفية والإسلاموفوبيا هي كيدٌ للإسلام كدين، وليست شيئاً متصلاً بالصراع الاجتماعي والسياسي على النفوذ والسيادة والثروة والظهور العالمي. وفقاً لهذا التصور، وسواء كان منشأه «علمانياً» أم دينياً، لا تعود ثمة مشكلات تمييز محلية ودولية، ونغرق في صراع الأديان و«الحضارات»، ولا يكون الصراع الطائفي غير صراع بين أديان حقيقية وأديان باطلة.

(9)

قد يمكن تمثيل وجهي المسألة الإسلامية بشخصين رمزيين مجردين، لهما منذ الآن سجل رهيب: «المسلم» (Muselmann)، الجثة التي تسير على قدمين، في معسكرات الاعتقال النازية، ثم «الإرهابي الإسلامي» اليوم، الذي هو منذ ربع قرن على الأقل المعتقل السياسي العالمي (كان الشيوعي والمناضل ضد الامبريالية في وقت سبق). نذكر مَشاهد «الإرهابي» بزيّه البرتقالي وقيده الثقيل في سجن غوانتانامو الأميركي، بعد أن كان إخوانه قد أطاحوا ببرجي نيويورك. صنع الأميركيون رمزاً عالمياً. الأول، الموزلمان، لم يكن على دين الإسلام، كان يهودياً غالباً، لكنه كان في أوروبا رمز الاستسلام المطلق، ميت قبل أن يموت؛ والثاني مسلم وليس إلا مسلماً، وهو اليوم رمز التمرد المطلق، يعيش كي يموت. كان المسلم لا يكاد يوجد في آوشفيتز إلا كي «يُختار» بعد قليل، فيُقتَل بالغاز ثم تُحرق جثته، ولا يختلف عنه الإرهابي في قربه من الموت، لكن هذا يَقتل ويُقتل، وفي عمليته الرمزية الأكبر في نيويورك جعل من مقتله فعل قتل للعدو المتصوَّر. مسلم آوشفيتز هو المرحلة قبل الأخيرة من الإبادة، إنه «المنبوذ»، الرمز الأقصى لـ«الحياة العارية»، إن استعرنا من لغة جيورجيو أغامبن، والإرهابي منبوذٌ كلياً خارج السياسة، والإبادة هي النهج الوحيد المعترف به حياله4.

وما سبق قوله عن أن من يعترضون على الإسلامية يتغافلون عن الإسلاموفوبيا، ومن ينتقدون هذه لا ينتقدون الإسلامية، نجد نسقاً محاكياً له هنا أيضاً: في سياق أوروبي وغربي، قلّما يُستذكَر «الموزلمان» حين يُفكَّر بالإرهابي، هذا المنبوذ المعاصر لنا، المنذور للإبادة، الذي لا يمكن إدخاله في السياسة. ثم إنه قلّما يُفكَّر بـ«الإرهابي» عند استذكار «الموزلمان». لعله يُخشى من إقامة صلات آثمة بينهما، رغم أنه في كليهما تتمازج الإسلامية والإسلاموفوبيا. يروي غيل أنيدجار الذي أشرت فوق إلى كتابه اليهود، العرب: تاريخ للعدو، أنه في العبرية لا تترجم كلمة muselmann الألمانية إلى مسلم، بل تنقل بصيغتها الألمانية المُعمّاة: موزلمان. ويروي أن طالبة إسرائيلية له عرفت من حديثه عن آوشفيتز عن «المسلم»، فسألت جدها، وهو ذاته ناج من آوشفيتز، عن «الموزلمان»، ولماذا لم يقل لها إن الكلمة تعني المسلم. الطالبة روت لأنيدجار أن جدها انفجر في نوبة حنق لم تشهد مثلها من قبل، وأصرّ بقوة على أن الكلمة لا تعني ذلك، وأنها لم تعن ذلك قط (تُنظَر مقابلتان مطولتان مع أنيدجار على هذين الرابطين: المقابلة الأولى، المقابلة الثانية).

أستعيرُ هذه الطُرفة المأساوية من أنيدجار للقول إن «مسلم» آوشفيتز موضع كبت اقتضته شرعية الكيان الإسرائيلي الذي يحيل كل مقاومة له إلى مجال الإرهاب، هذا الذي يواجَه حصراً بالحرب والإبادة، بالضبط بذريعة أن هذه المقاومة تهديدٌ بإبادة اليهود.

معلوم أن «مسلم» معسكرات الاعتقال النازية كان أحد «الآثار الجانبية» لإبادة اليهود التي كان يُفترض أن تقضي عليهم جميعاً، والتي انفتحت خلال سنوات قليلة على النكبة، وعلى «المعجزة الإسرائيلية». ومن المحتمل أن ما يخشاه الشيخ اليهودي الناجي من آوشفيتز هو أن معسكر الإبادة النازي جعل اليهودي مسلماً على المستوى الرمزي، أو جعل المسلمَ الاسمَ الرمزيَّ لليهودي الموشِكِ على الموت، بينما صار المسلم الحقيقي ضحية للضحايا السابقين على ما قال إدوارد سعيد يوماً. فكرة أن ذلك «المسلم» ظلَّ حيّاً رغم كل شيء، لكنه لا يزال يموت في فلسطين وإسرائيل، هي بحسب أنيدجار نفسه، مستحيلة ولا تطاق.

ثم لا ننسى أن «الإرهابي»، مُمثلاً بداعش، حرص على زي برتقالي لضحاياه من غربيين وقعت يده عليهم قبل قتلهم الشنيع. كان يقلب الأدوار، ويصنع غوانتاناموه الخاص. هو ذاته عدمي، رافضٌ للسياسة والنظام الدولي، والحرب منهج وجوده الوحيد.

في ذلك أيضاً ما يقيم استمرارية بين غوانتانامو وداعش، لا يريد كثيرون رؤيتها.

وتمثيل المسألة الإسلامية بكل من «المسلم» و«الإرهابي» الذي هو إسلامي، مناسبٌ للربط بين المسألة الإسلامية والمسألة اليهودية. «المسلم» هو اليهودي في معسكر الاعتقال النازي الذي كان مثال الإنسان المباح/ homo sacer5، وبعد حين وجيز غالباً الإنسان المُباد. من يشغل هذا الموقع اليوم السوري «الفاصل» الذي يتعرض لتعذيب نازع للإنسانية قبل أن يُترَكَ ليموت وتُرقَّمَ جثّته وتُرمى في قبر جماعي مجهول (ينظر بحثٌ لعبد الحي سيد يربط بين «الموزلمان» في معسكرات الموت النازية و«الفاصل» في معتقلات نظام الأسد)6، هذا إن لم تُحرَق في محرقة جثث قرب سجن صيدنايا، على ما أشارت تقارير أميركية في أيار 2017. ليس «الفاصل» إسلامياً بالضرورة، إنه من عامة السوريين المعترضين على الأوليغاركية الأسدية، والذي أُنكِرَ على موته وعلى حياته أي معنى بأثر المسألة الإسلامية. المسألة الإسلامية ليست مسألة إسلاميين، وإن كانوا وجهاً أساسياً لها.

(10)

في موسم «الربيع العربي» ظهر وجها المسألة الإسلامية في صورة مجسمة أكثر من أي وقت سبق، وبخاصة في سورية. من جهة أولى ظهرت الإسلامية كطيف متسع نَزّاعٍ إلى القتامة، يمتد من الإخوان المسلمين إلى تنويعات سلفية محلية إلى السلفية الجهادية الأممية في صورة غولية، ومنها تكوين مهجن بالأجهزة الأمنية والإيديولوجية الأشد طائفية للبعثية العراقية المهزومة على يد الأميركيين، مركز قيادة إمبراطورية الغرب المعاصرة، أعني داعش التي هي أعلى مراحل النفي الإسلامي للعالم، أو العدمية الإسلامية؛ ويجمع الطيف كله مركب الابتذال المأساوي الذي تقدَّمت الإشارة إليه. ومن جهة ثانية بنية عنصرية إسلاموفوبية تتغذى من جرائم إرهابية لداعش في الغرب ومن موجة لاجئين، سوريين أساساً، لكن أيضاً عراقيين وإيرانيين وأفغان وغيرهم، ويتلاقى فيها انتخاب الأوليغاركيات لحكمنا كشرّ أصغر، مع «الحرب ضد الإرهاب» أو «الشرّ الأكبر»، ومع تدليل إسرائيل الدائم التي عادت تضرب في سورية كلما عنَّ لها دون أن تُواجَه ضرباتها ولو بكلام طقسي عن أن هذا «لا يخدم علمية السلام». ولسورية موقع خاص بسبب تكوين طائفي متأصل للدولة الأسدية، يضعها في ضرب من الاستمرارية مع الإسلاموفوبيا الغربية، يسهل من أمرها (الاستمرارية) تمثّل الظاهرتين البنيوي كتمييز اجتماعي وسياسي ديني. هنا في سورية، وقعَ لقاءٌ بين النفي الإسلامي لعالم مُتصوَّر كغرب واسع والنفي الغربي للإسلام كعالم اجتماعي عَمِلَ من أجل امتلاك السياسة والسيادة.

وقد يجب القول إن الابتذال يتقدم في الغرب أيضاً، ليس على المستوى السياسي وحده، ولكن على المستوى الفكري كذلك، حيث تتقدم المحلية الغربية أكثر وأكثر، ويترك على الهوامش أن تفكر تفكيراً عالمياً. العالم في أزمة تزداد عمقاً، والأفكار في أزمة وتزداد مركزية غربية واكتفاءً ذاتياً، أي بالفعل ظلامية. الغرب العالمي يتراجع لمصلحة «الغرب العميق»، وفي هذا موازين الدين والعداوة الماهوية ذات العمق «اللاهوتي السياسي» (بلغة أنيدجار) هي الأثقل. وأجازفُ بالقول إن رفض أخذ العلم بالمسألة الإسلامية والتفكير فيها بجدية من العوامل المؤثرة في تقدم الابتذال الفكري والسياسي في الغرب.

وبفعل التغذية المتبادلة بين وجهي المسألة الإسلامية، أمكنَ للإبادة في سورية أن تمرّ غير ملحوظة، وأن يُنتخب نظام بشار الأسد كمنافس وحيد لنفسه رغم استخدامه السلاح الكيماوي عشرات المرات. اليمين الغربي الأكثر إسلاموفوبية واضحٌ في هذا الشأن أكثر من الحكومات. بشار الأسد خط دفاع عن الحضارة الغربية في عين اليمين الإيطالي. ومنظمات اليمين المسيحي الفرنسية تُرسل متطوعين إلى سورية، تحت غطاء إنساني. في العلاقة بين منظمات اليمين الغربي، والغرب العميق عموماً، والدولة الأسدية في سورية، هذا المزيج الطبقي الطائفي، الذي كنتُ استعرتُ لتمثيله تعابير السوريين البيض والسوريين السود. اليوم من جديد تُقال أشياء كثيرة عن حقوق الأقليات وحماية الأقليات، ولا تقال أشياء كثيرة أيضاً. ومما لا يقال إن الإسلامية أقلية. من سيقول ذلك؟ الإسلاميون؟ الغرب؟ الدولة الأسدية؟

حيال سورية بالذات، الغربي المتوسط الذي لا يعرف شيئاً عن البلد، يعرف مع ذلك شيئاً ما ولا ينكر شيئاً آخر. ما يعرفه هو أن معارضي بشار الأسد إسلاميون، وما لا ينكره هو أن بشار دكتاتور واستخدم السلاح الكيماوي ضد محكوميه. وجدتُ نفسي مراراً أُسأَلُ بتشكك من ألمان حسني النية، يبادرون إلى القول إنهم لا يعرفون شيئاً عن سورية، عن وجود «أشخاص جيدين» في سورية، مع علم السائلين بأن بشار كيماوي. أتكلّمُ على أشخاص لا يعرفون شيئاً عن سورية لأن من لا يعرف عن الموضوع يقول ما تكونه الذات، ذاتُه، بحسب نتشه. هناك عنصر إسلاموفوبي قوي في بنية هذه الذات، فلا تجد نظام إبادة شيئاً سيئاً جداً إذا كان معارضوه إسلاميين، ولا تُسائِل نفسها: جيد لمن؟ وفي عمق هذه البنية المتعصبة تعريفٌ للعدو، وهو ليس بحال من يقتل محكوميه بالسلاح الكيماوي.

وهذا في الوقت الذي يُقال فيه الكثير عن ميل جنوب المتوسط وشرقه الفتيين إلى «استعمار» أوربا الشائخة، أو عن «فتح» المسلمين للمدن الأوروبية، شارعاً شارعاً، وصولاً إلى الترويج لخطر تحول أوربا إلى «أورابيا»، قارة يحتلها العرب من الداخل (تُنظر في هذا الشأن مقالة بانكاج مِشرا: A Culture of Fear).

أسوأ من أن تكون مجرد قلب للواقع الفعلي، «ثقافة الخوف» الهستيرية هذه التي يتكلم عليها مِشرا تعني أننا عالقون في أوضاع من قلّة الاحترام المتبادل والنرجسية وعدم الخجل من إشهار الكراهية.

(11)

غير أن ما أظهره «الربيع العربي» بوجه خاص هو ترابط التعقيدات الهائلة، المتصلة بوجهي المسألة الإسلامية. فقد عقدت الإسلامية مسألة التغيّر السياسي في مجتمعاتنا والتخلص من نظم الأقلّية، بما فيها ذلك حكم الأقلية المضاعف في بلد مثل سورية، حيث يظهر بجلاء هنا المستمر الواصل بين الإسلامية المحلية والأممية والإسلاموفوبيا الغربية والإبادية الأسدية والتفضيل الإسرائيلي لها. الطرح الديموقراطي التقليدي، ومن إشكاليته ينحدر كاتب هذه السطور، ظهرت تناقضاته ومحدوديته في زمن الثورات العربية، وصعود الإسلامية محمولة على موجات الاحتجاج الشعبي. بالمقابل، عقّدت الإسلاموفوبيا عمل الديموقراطيين العلمانيين ممن لا يريدون أن تلتبس قضيتهم بنزعة عنصرية، لها فوق ذلك قواسم مشتركة واسعة مع الطغيان الأوليغاركي الحديث في بلداننا. لقد مدّت الإسلاموفوبيا حبل النجاة لنظام تمييز طائفي إباديّ مثل دولة الأسديين.

بوصفها نظام ممارسات سياسية واجتماعية وقانونية تمييزية يقيم تراتباً بين الجماعات، يتأذى من الإسلاموفوبيا عموم المسلمين اليوم، وليس الإسلاميون حصراً. هؤلاء بالعكس يعتاشون من أوضاع التمييز، وبفضل الإسلاموفوبيا يظهرون بوصفهم الممثلين الطبيعيين للمسلمين. وهو بالمناسبة ما تفضله مؤسسات الدولة في الغرب كضرب من احتواء جمعي للمسلمين عبر من يُفترض أنهم قادتهم الطبيعيون. الإسلاموفوبيا بهذه الصفة وجه لنظام مِلل عرفي أو غير مقنن، يمثل فيه الإسلاميون «ملة الإسلام»، فيما يشغل مسلمو الغرب موقعاً عاماً ذمياً. إنها مزيجٌ من الاعتراف والتمييز، مثل نظام أهل الذمة الإسلامي القديم. ألمح عبد الله العروي إلى ذلك في كتابه «السنّة والإصلاح».

وبوصفها بنية عنصرية، تقع الإسلاموفوبيا على خط التمييز العنصري ضد السود ومعاداة السامية، أي بصورة ما للعبودية والهولوكست. وإنما لذلك لا يمكن للديموقراطي أو التحرري في مجتمعاتنا المعاصرة أن يجد نفسه في هذا الموقع، مهما أمكن له أن يكون على عداء مع الإسلاميين.

وللتركيب الطائفي للدولة الأسدية مفعول تعقيدي مماثل من حيث أنه يجرّد نقد الإسلاميين، والإسلام ذاته، من الشحنة الجذرية التي كان يمكن أن يحوزها لو كان الإسلاميون في الحكم أو أكثرية سياسية في البلد، أو لو لم يكونوا موضعَ تمييز ومعاداة. في مثل شروطنا السورية المعلومة تجنح إلى التشوش الفوارق بين نقد تحرري للإسلاميين ونقد مندرج في التنازع الطائفي. فإما يسكت النقد على الأسدية فيفقد محتواه الأخلاقي، أو يصون اتساقه بإدراج الأسدية فيخسر فرصه في الوجود ولو الهامشي في البلد. وحتى في «المنفى» لم تكد تتيسر عناصر لبناء موقع نظري وسياسي ملائم لنقد يفكفك قيود الإكراهات المزدوجة إلا بعد الثورة وبفضلها. والحال أن الموقع الوحيد لممارسة نقد جذري للإسلامية في سورية هو ما ينفتح على تغيير جذري للحكم الطائفي ومجمل البيئة السياسية في البلد. يمكن لبعضنا أن يكونوا «عادلين» ذاتياً فلا يقولون كلمة على الإسلاميين دون كلمة على الدولة الأسدية، والعكس بالعكس، لكن ليس هذا هو موقع النقد الجذري التحرري للإسلامية. نصير في موقع أفضل بما لا يُقاس لنقد الدين وأهله جذرياً بالتخلص من تركيب طائفي يجد نفسه في استمرار مغاير مع الإسلاموفوبيا العنصرية الغربية.

(12)

كل ما تقدم يبثّ في النفس الانطباع بأننا حيال أوضاع معقدة، بالغة التعقيد، عضال ومزمنة، ويرجَّحُ بقوة أن تكون وخيمة العواقب. هذا محزن ومحبط ومثير للغضب. فالتعقيد والعنف قرينان كما نعلم جيداً من المثال السوري الذي يُثابَر على نطاق واسع على إساءة فهمه، بصورة لا يبعد أن تكون متعمدة. ليس هناك عنف مهول في سورية لأن الأمور معقدة، ومن طبيعتها أن تكون معقدة في «الشرق الأوسط»، بل هناك تعقيد بأثر بنيات عنف وتمييز مديدة، لم يعالج ما يتولد عنها من انفجارات بغير مزيد من العنف والتمييز. هناك تعقيد في سورية و«الشرق الأوسط» لأن هناك مُعقِّدون وعنيفون يتحكمون منذ عقود وأجيال بمقادير عشرات ومئات ملايين البشر.

المسألة الإسلامية لغم هائل بالغ الخطورة، إن لم تكن أخطر ما في عالم اليوم فإنها أبرز المرشحين لإشغال هذا الموقع. إنها مصير العالم. فكيف يمكن التعامل معها؟ مع «مستمر» محلي دولي يعني مليارات الناس، وبصورة ما كل سكان الكوكب؟

انشغلَ جيلٌ كاملٌ في منطقتنا المعقدة العنيفة، «الشرق الأوسط»، بالتفكير في حلول لمشكلة الإسلاميين، أحد وجهي المسألة الإسلامية، ولم تتعدَ الخيارات واحداً من اثنين، نعبر عنهما بلغة مجردة بالاستبعاد أو الاستيعاب. لكن يمكن التنويع على هذه الخيارين العريضين، للتفكير في تنويعة استبعادية/ استيعابية، أُسمّيها سلطانية محدثة. كما يوجب التأزم الحالي للمسألة فتح التفكير، وتخيّلَ تجاوزٍ ثوري، يغيّرُ معطيات المسألة كلها ويتخطى الاستبعاديين والاستيعابيين، والإسلاميين أيضاً.

وبعد هذا كله لا بدّ من معالجة الوجه الآخر، الإسلاموفوبيا وما يتصل بها من مسائل إرهابية وإسرائيلية. ليس هناك حلول محلية لما هي مسألة عالمية جوهرياً.

لكن من باب تنظيم التفكير، نتناول أولاً الحلول والمعالجات القائمة والمتبناة والممكنة للإسلامية، ثم للإسلاموفوبيا، ونعود إلى الربط بينها في النهاية.

الاستبعاد أو الإقصاء هو النهج المُمارس من قبل أوليغاركيات الحكم القائمة في معظم الدول في مجالنا. هذه أطقمٌ غير مُنتخبة، غنية، تعيش حياة أرستقراطية، مندرجة في النظام الدولي، لا ضوابط مؤسسية أو قانونية أو زمنية لسلطتها من داخلها، ولا من النظام الدولي إن هي انضبطت في علاقتها بالنافذين فيه. وهي تجد في الإسلاموفوبيا سنداً لنهجها الذي ينكر السياسة والمساواة على محكوميها. ولا يقتصر الاستبعاد على الإسلاميين، فليس هناك مثالٌ واحدٌ لعدم استبعاد غير الإسلاميين في أي بلد جرى فيه استبعاد الإسلامييين. الاستبعاد بنيةٌ حصرية لنخب الحكم تمد جذورها في تكوينها، في غناها وأرستقراطيتها وكونها غير منتخبة من قبل محكوميها. ثم بخاصة لكونها «منتخبة» من قبل المركز الإمبراطوري من أجل ضمان الاستقرار والأمن في «المنطقة». كل طرف سياسي آخر خطر هنا، والاستبعاد بنيةٌ قارّةٌ تحرس نفسها بالعنف. لكن لذلك بالذات الاستبعاد مشكلة. فهو يبقي استقرار مجتمعاتنا غير الممثلة والفاقدة للتوازن مستوجباً لعنف يفتر حيناً ويشتد حيناً، لكن اتجاهه العام صاعد. بل هو انفتحَ بعد الربيع الديموقراطي العربي على أشكال من العنف الإبادي ندرت مثيلاتها حتى في الحقبة الاستعمارية. هذا التكوين الاستبعادي الإبادي هو أحد المنابع الغزيرة للمسألة الإسلامية. من جهة لأن هناك عنصراً احتجاجياً في الإسلامية المعاصرة على أوضاع مُستحِقة، منذ التحول الأوليغاركي، لما هو أكثر من الاحتجاج. ومن جهة ثانية لأن استبعاد الجميع يستبعد الإسلاميين أقلّ من غيرهم، حتى حين يكون استبعادهم أقسى من غيرهم لكونهم يعملون في مساحة اللاتمايز بين الديني والسياسي.

بين ثمانينات القرن العشرين واليوم كانت «الديموقراطية» هي الأرضية الفكرية السياسية للبديل الثاني: الاستيعاب. لا يستطيع أن يدافع عن تصور استيعابي متسق للدولة من يدافع عن استبعاد الإسلاميين، هذا يجد نفسه منساقاً إلى مساندة أطقم حكم تستبعده هو بالذات إن لم تستتبعه فتفرغه من الذاتية والمعنى. بعبارة أخرى، لم تكن هناك مساحة سياسية فكرية للدفاع عن استبعاد الإسلاميين لا تؤول إلى موالاة الأوليغاركيات الحاكمة، هذه التي عرضت قبل الثورات العربية تطوراً باتجاه عائلي، شكلت سورية طليعته المقاتلة والقاتلة. على هذه الأرضية الاستيعابية دافعتُ شخصياً عن حق الإسلاميين في العمل العام.

لكن تجربتنا السورية خلال سنوات الثورة السورية تُظهِرُ أن ما يتطلع إليه الإسلاميون ليس أن يكونوا طرفاً إلى جانب أطراف أخرى في عملية سياسية تستوعب الجميع، بل أن يكونوا هم الدولة. أي كل الأطراف مثل الدولة الأسدية تماماً. ما كان في الإسلامية من بعد احتجاجي أتاح لكثيرين امتلاك السياسة (الكلام في الشأن العام والاجتماع مع غيرهم والاعتراض)، كان يتداعى كل وقت تحت وطأة تطلع سيادي استبعادي هو ذاته. انفجر التناقض بعنف كبير في سورية حيث ظهر أن ما يريده الإسلاميون ليس السياسة (فضاء التعدد) بل السيادة (فضاء الواحد). هذا أصحّ على التشكيلات السلفية الجهادية ممن يصدرون عن نظرية الحاكمية الإلهية، أو يريدون تطبيق العقيدة إن جاز التعبير، لكنه صحيحٌ كذلك على الإسلاميين السياسيين ممن يريدون تطبيق الشريعة، أي أن تكون لهم ولاية عامة وأن يمارسوا العنف باسم شريعتهم، والعنف والولاية العامة وجهان أساسيان للسيادة.

لا الاستبعاد ناجعٌ ولا الاستيعاب ميسور، إذن ما العمل؟ طورت نظم الأقلية بالغريزة والخبرة ضرباً من استيعاب سلطاني، ينكر على المؤمنين بالدين/ الأديان ممارسة سياسة مستقلة، لكنه يوفّرُ لهم مساحة حرية تصرف في مجال الشعائر والأحوال الشخصية والتعبيرات الرمزية والاعتراف الرسمي. يختلف هذه الاستيعاب السلطاني المحدث عن الاستيعاب السلطاني التقليدي بأنه لا دين له غير السلطان ذاته. وهو إن منح الإسلام مساحة رمزية واسعة فمقابل سحق أي تعبيرات سياسية إسلامية مستقلّة. يسحق حافظ الأسد الإسلاميين، لكنه يؤسس «مدارس الأسد لحفظ القرآن الكريم»، وهي تحتكر التعليم الديني الذي يُمنع بالمقابل من الجوامع، ما يسهّل للنظام مراقبته والتحكم فيه. يمكن أن نتكلم هنا على استيعاب استبعادي، مُصمَّم بغرض حماية الاستبعاد السياسي مقابل «حراسة الدين» وفق النموذج السلطاني (تكلّمَ عليها محمد عابد الجابري في «العقل الأخلاقي العربي»)، أي حمايته (الانتقائية) من النقد والانشقاق، ثم الاحتراس منه ووضعه تحت الرقابة. بالمناسبة، ما يسميه غربيون ومحليون «علمانية» هو بالضبط هذا الاستيعاب السلطاني المحدث، الاستبعادي سياسياً وحقوقياً، والخاوي كلياً من أي قيم مساواتية وتحررية. ولعلهم يجدون سنداً لدعواهم في واقع أن العلمانية في الغرب بالذات تعرض حيال المسلمين ذلك المزيج من الاعتراف وخفض المرتبة، أي وجهاً ذمياً محدثاً.

«الجبهة الوطنية التقدمية» في سورية هي، بالمناسبة، ضربٌ من استيعاب سلطاني محدث، تتنازل فيه منظمات شيوعية وقومية عربية وقومية سورية عن السياسة، مقابل البقاء وبضعة مكاسب خاصة بخسة. ولا أستبعدُ في السنوات القادمة أن يمكن استيعاب إسلاميين بالذات في أطر سلطانية محدثة، لكن مع المثابرة على جوهر البنية الاستبعادية: التجريد السياسي لعموم السكان.

لكن أليس هناك حلّ ثوري، يتجاوز استبعاداً إبادياً هو جذرٌ أساسيٌ للمشكلة، واستيعاباً ديموقراطياً لا يبدو أن المعنيين به يريدونه، واحتواءً سلطانياً محدثاً هو في واقع الأمر تحديثٌ لنظام الملل، لا دين له غير سلطة لا تتبدل؟ ويتجاوز قبل الجميع الإسلاميين بالذات ويؤول بهم إلى قوى آفلة تاريخياً، تتغير كي لا تتلاشى؟ عملياً لا يبدو أن هناك أفقٌ لهذا الخيار اليوم، ولا أن هناك قوى تدفع باتجاهه وتبلور تفكيرها حوله. بيد أن الإمكانية النظرية لهذا الخيار مكتوبة في شيئين. أولهما في سابقة تاريخية جسّدتها المرحلة ما بعد الاستقلالية التي بدا فيها أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية «التقدمية» تُحيل الإسلاميين إلى قوى محافظة، بالكاد تنافس غيرها على النفوذ الاجتماعي والسياسي. الأفول التاريخي كان يبدو واقعاً يتجه إلى التحقق حتى سبعينات القرن العشرين، هذا قبل أن ينقلب الاتجاه فيأفل «التقدميون» وينفلون بفعل ازدهار نُظُم الأبد التي تغلق الأفق التاريخي، فلا تغيّرَ ولا تتغير، وفي ظلها شغلَ الإسلاميون موقع «المعارضة الموضوعية» وتحولوا إلى قوى تغيير. وثاني الشيئين هو تناقضاتُ الإسلامية التي بلغت ذرى سيكوباتية إجرامية في سورية بين عامي 2013 و2018، لم يستطع الأقل سيكوباتية بين الإسلاميين صوغ اعتراض واضح في شأنها. لا يتعلق الأمر بداعش التي إن لم تكن فريدة الأزمنة في الأجرام، فإنها من تُحفِه الباقية. «جيش الإسلام» الذي لم يعترض عليه أحد من الإسلاميين لم يقصر عن داعش في شيء تقريباً. هذا التشكيل السلفي مثالٌ مفيدٌ لأنه يُظهر أن داعشَ محلية أكثر تحفظاً، وهو ما كانه الفصيل السلفي الدوماني، يمكنها أن تحظى بتواطؤ واسع من الملأ الإسلامي (مشايخ، وجهاء، عاملين في مشاريع وأجهزة إسلامية…). وأرجّحُ أن الأصل في ذلك تكوين نخبوي وأوليغاركي متماثل، مضاد للنشاط السياسي للجمهور، متعال على العامة ولا يعترف لهم بحقوق ويبيح التعامل معهم بقسوة. جيش الإسلام في دوما فرض نظام حزب واحد وعمل على إثراء قادته وأذلَّ السكان المحليين. ولا يبدو أن في تكوين مشايخ «المجلس الإسلامي السوري» في اسطنبول ما يعترض على ذلك. جبهة النصرة كان يمكن أن تحظى بما حظي به جيش زهران علوش وسمير الكعكة لولا النَسَبُ القاعدي والنبذُ الدولي.

قد لا يمضي وقت طويل قبل أن يأخذ بالارتسام تجاوزٌ ثوري. الأرضية النفسية والأخلاقية مُهيئةٌ اليوم للسير في هذا الاتجاه بفعل خسارة الإسلاميين لوضع الضحية وظهورهم كقوى تقييد مكفهرة، كارهة للحياة وعاملة في خدمة للموت، ومتساهلة في قتل من عاشوا الاستباحة الأسدية لجيلين.

على أن فرص التجاوز تقتضي إدراك جذور فشل السياسة الديموقراطية. ليست المسألة إلا جزئياً أن الإسلاميين لا يقبلون الاستيعاب، أو أنهم سياديون وليسوا سياسيين. جذر المسألة بالأحرى، وجذر «الاستثناء الديموقراطي» العربي أو الشرق أوسطي، هو الثالوث الذي ترتكز عليه العنصرية الدولية التي تسمى الإسلاموفوبيا، وتجمع بين إعفاء إسرائيل من القانون، و«الحرب على الإرهاب» التي لا بداية لها ولا نهاية والمضادة للديموقراطية في كل مكان، وانتخاب الأوليغاركيات الأبدية في بلداننا. رأينا تشابك عناصر هذه البنية عياناً بياناً في سورية في سنوات ما بعد الثورة. هذه الثلاثة هي ركائز النظام الشرق أوسطي الذي هو فضاء استثناء دائم، تشكّلَ بعد حرب 1967، حيث استتب التفوق الإسرائيلي والأبد العربي، قبل أن تنضم لهما «الحرب ضد الإرهاب» منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. لا ديموقراطية ممكنة حين إسرائيل هي سيد كل سيد، وحين هناك بنية تكفل ألّا ينتخب المحكومون الحاكمين، وألا تكون هناك آليات تغيير من أي نوع، وحين هناك حرب مستمرة وهياكل حرب مستمرة متنقلة الجبهات. في سورية بلغت هذه البنية أقصى الكمال: دولة الأبد والإبادة الأسدية تنتخبُ شعبها الصحيح، بعد أن ضمنت انتخابها دولياً.

«الاستثناء الديموقراطي» المزعوم مبنيٌ على ما تقدّمَ ذكره من استثنائين بنيويين مديدين، أعلى وأدنى. استثناءٌ من العقاب، أعلى وسيادي، لمصلحة إسرائيل، يضعها فوق القانون الدولي، واستثناءٌ أدنى من الحماية ومن العدالة، ومن السياسة حتى، هو في واقع الأمر إباحة مفتوحة الأبواب على الإبادة، وهو نصيبُ الفلسطينيين كرمز لعموم السكان في مجتمعاتنا بوصفهم حَمَلة تطلّع إلى الاستقلال والسيادة. أما الشروح الثقافوية للاستثناء الديموقراطي فهي بمثابة شهادات زور، ومساهمة في الإباحة/الإبادة.

التجاوز الثوري هو التحدي المطروح على جيل ما بعد الثورات العربية. وأساس هذا الحل ضرورة فتح آفاق تغييرية تقدمية، اجتماعية واقتصادية وسياسية، تطوي الصفحة الأوليغاركية وعهد التمييز، وتُحيل الإسلاميين من جديد إلى «معارضة ذاتية»، تتشكل دونما صعوبة خاصة أكثرية اجتماعية وسياسية تستبعدها أو تشاركها على أرضية استيعاب ديموقراطي حقيقي. آفاق تطوي قبل كل شيء هياكل الاستثناء الشرق أوسطي المديد. الأبد من الصنف الأسدي وأشباهه لا يصلح علاجاً للإسلامية التي بالعكس تزدهر في ظله، وتصير قوةَ قطع. وهو بالعكس يحتاج إليها لترويج نفسه كواجهة للعلمانية.

(13)

الإسلاموفوبيا كنزعة استبعاد عنصرية منتشرة من أوجه أزمة الديموقراطية في الغرب وعالمياً، ومن مسوّغات الانبعاث الفاشي. الاستيعاب يتراجع، وليس الغرباء وحدهم من يُزاحون إلى الهامش وإن كانوا يُزاحون أكثر من غيرهم. الرأسمالية دون صناعة وطبقة عاملة صناعية، وبدولة أضعف بفعل العولمة، ودون منازعة محلية أو دولية من قوى اشتراكية أو ديموقراطية جذرية، تُضعِفُ المحليين أمام المؤسسات الكبرى من شركات ودولة ووسائل إعلام وتعليم، ويحتمون من هشاشة متفاقمة بزعماء تسلطيين. ترامب ليس الوحيد من هؤلاء، ولا يبدو أن هناك من يربط بين شكاوى جمهور أبيض يشعر بالانكشاف وبالعلوق في أوضاع متجمدة، لا تَعِدُ بالتحسّن بل بانحدار في القوة النسبية لأصحابها (غسان الحاج: Alter politics)، ويين شكاوى الملونيين، ومنهم معظم المسلمين، من التمييز والفقر. ولا يبدو أن مفكري الغرب الذين يزدادون محلية مدركون أن المسألة الإسلامية يمكن أن تكون مُدمرة للعالم ككل، أكثر بكثير من المسألة اليهودية وحلولها. كما لا يبدو أن أحداً في الغرب استوعبَ دلالة القصة السورية، والاستثناءات الكثيرة المتراكبة التي صنعت الحرب المستمرة في البلد المنكوب. ما يُرى من القصة السورية هو أساساً «حرب ضد الإرهاب»، هي على المستوى الدولي اليوم مقياس لللامسؤولية واللاقانون، راية حرب تساعد في منع التغيّر السياسي، وفضاء استثناء وإباحة يترك الضعفاء مكشوفين أمام الأقوياء المسلحين. «الحرب ضد الإرهاب» هي اليوم الأداة السياسية العسكرية لتمديد نظم الإبادة والطغيان في مجتمعاتنا، وإدامة أوضاع استثناء دولية لا تنتهي، وتناسب نخباً سياسية ينحدر مستواها، فضلاً عن عودة النهب المباشر على نحو ما يظهره تعامل إدارة ترامب مع السعودية ودول الخليج. وفي هذه الحرب تجد الإسلاموفوبيا الدولية جيوشها وحروبها وتحالفاتها السياسية وتشابكاتها الأمنية، وهنا الفرق الأدنى بين الغرب العميق والغرب العالمي، وبينهما معاً والأوليغاركيات الحاكمة في بلداننا.

«الحرب ضد الإرهاب» بعد ذلك مدخل إلى الاعتباط والمحسوبية، والتعقيد، في النظام الدولي. الإرهابي هو من يقاوم بالسلاح قوى غربية أو دولة من محاسيبها، وليس من يقتل المدنيين لأغراض سياسية. فإن كفّت الدولة أن تكون محسوبة على القوى الغربية أو عَرَضَ التشكيل الإرهابي استعداداً لأن يصير هو نفسه من المحاسيب، نالَ عفوا عملياً (وليس بالضرورة قانونياً) من تهمة الإرهاب، مثل الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا.

هذا التكوين المحاسيبي وفاسد الضمير لتعريف الإرهاب والحرب ضده يكمن وراء انتخاب أوليغاركياتنا واستثنائها من الديموقراطية. الدولة في مجالنا متراس ضد «الإرهاب»، ولم تعرض الدولة الأسدية نفسها للغرب إلا كمتراس ضد الإرهاب (وهو ما تقوله خطابات المحتلين الإيرانيين والروس كذلك)، ولا يقال شيء عن أن تكوين الدولة هذا هو منبع العدمية والعنف الإرهابي المميت.

وضمن هذه التركيبة إسرائيل نموذجٌ للاستثناء الأعلى، الموقع الامتيازي فوق القانون، ومنبعُ ضخ للتمييز وسياسات الهوية، ومصدرُ تغذية لصراعات لا تنتهي في المنطقة وفي العالم.

من المُستبعد أن تنفجر المسألة الإسلامية في حرب عالمية تقليدية. ليس هناك دول إسلامية تعلن الحرب أو تكون طرفاً فيها، والإسلامية التي يمكن أن تحارِب هي مُحاربة سلفاً وتُواجَه بحرب سلفاً. لكن نرى اليوم بأعيننا توسّعَ فضاء الاستثناء الشرق أوسطي وتعمقه، والصعود العلني للنزعات الإبادية وتقبّلها دولياً. هذه الحرب، ضمن ثلاثي الإسلاموفوبيا البنيوي، تقوّضُ أي تماسك أخلاقي باق في النظام الدولي، وتدفع الكوكب في منحدر قروسطي جديد.

(14)

كل ما يتصل بالمسألة الإسلامية من إسلامية غاضبة وعنيفة، ومن إسلاموفوبيا محبّة لإسرائيل وتفضيل شيطان أوليغاركياتنا الذي تعرفه على شياطين لا تعرفها وقد يضطرها التعرّفُ عليها إلى التكيّفِ معها، ومن حرب ضد الإرهاب، يعطي الانطباع بالعداوة والحرب، بقلّة الاحترام، وباللاعقلانية حين هذه تعني الميل إلى حلول سياسية، وتجنّب سياسة الأعماق، أي الدين. وأكثر حين يكون المقصود بالعقلانية الانضباط بقواعد لعب مطردة مقبولة من اللاعبين هم. لا شيء من ذلك هنا، لا قواعد مطردة ولا أصول مراعاة. نحن أمام فضاءات استثناء مسودة ومنزوعة السياسة، تتحرك بين الإباحة والإبادة، ولم يعد يُسوِّغُ أيٌّ من اللاعبين الأساسيين دوره، ولو من باب الدعاية، بالمساواة أو العدالة للجميع. أو بأي «رسالة حضارية».

على مستوى الرؤية، ليس هناك ما هو غامضٌ في عالم بلا مسألة إسلامية. إنه عالم اللاتمييز، اللااستثناء، السير نحو تمييز أقلّ ومساواة أكبر، ثم العقلانية: سياسة أكثر وقواعد مُتفق عليها أكثر، وحرب أقلّ ودين أقلّ. لا إمبراطورية ولا تبعية. لا استثناءات عليا مسلحة بالنووي ولا دنيا مباحة للإبادة.

مجالٌ إسلامي، وعربيٌ بخاصة، مستقلٌّ يمتلك زمام نفسه ولا يعاني من التمييز هو حاجة لنفسه وللعالم، وهو وحده ما يمكن أن يندرج بروح إيجابية في العالم. المسألة الإسلامية وليدة تراكب أوضاع تمييزية مركبة تعاني فيها أكثريات من المسلمين في مجالهم وفي العالم من مشكلات التبعية والإخضاع. والمسلمون في عمومهم يعرّفون أنفسهم كمسلمين أكثر كلّما تعرضوا لتمييز أكثر.

هذا قانونٌ عام، وسبق أن كان اليهود مثالاً له. تُميّزُ ضدي كيهودي، أصيرُ يهودياً أكثر. هذا ما يحدث في الواقع، وهذا هو الصحيح أخلاقياً وفق ما رأت بحقّ حنة آرندت. التمييز هو الذي يولّد تمايز الهويات وتفاصلها، وكلما اشتدّ التمييز تمسّكَ الأفراد والمجموعات أكثر بتمايزاتهم، بمعتقداتهم مناط كرامتهم. الإسلاموفوبيا كبنية دولية تنجح في شيء واحد فقط: إنتاج مسلمين أكثر وإسلاميين أكثر. في سجّل معاداة السامية «نجاحاتٌ» مماثلة.

وبالمقابل، يجنح الأفراد والمجموعات إلى التقارب والاسترخاء حين يتعرضون لتمييز أقلّ. اليهود المندمجون ظهروا في القرن التاسع عشر مع ما بدا من صعود الرابط القومي على حساب الروابط الدينية. لم يتخلوا بالضرورة عن يهوديتهم، بعضهم فعلوا، لكنهم ظهروا كألمان، مثلاً، أكثر مما كيهود. وانعكس المسار حين بدا أن الاندماج لا يحمي، بل قد يكون جريمة بحق الذات. وفي بلداننا عبّرت أكثريات كبيرة عن نفسها بلغة وطنية استقلالية أو قومية عربية بعد الاستقلال، حين بدا أنها سائرة إلى الأمام مثل غيرها. في شروط كهذه تقترب الهوية من الوجود في التاريخ، فيصير الإسلاميون مسلمين، وتسير المسألة الإسلامية نحو التلاشي.

(15)

منذ قيام إسرائيل، المسألة الإسلامية هي مسألة عربية بقدر كبير. هذا غير ظاهر اليوم بفعل هزيمة القومية العربية قبل خمسين عاماً، وميل الرابطة العربية إلى التحلل بفعل تعثر متكرر في معالجة مشكلات كبيرة موروثة ومعاصرة، ومنها بخاصة الإسلامية التي يلتقي فيه التراث بالعصر، والديني بالسياسي. وبقدر ما تكون إسرائيل هي «الآخر» فسيكون «الأنا» عربياً، ليس فلسطينياً فحسب، ولا إسلامياً. ولعله من هذا الباب تأتي المزايدة الإيرانية المعادية للعرب عداء ملموساً، ودموياً، ولإسرائيل بصورة مجردة. من موقع الغرب أيضاً، ليست إيران هي الآخر، وأن أمكن أن تكون خصماً سياسياً.

انتخاب الأوليغاركيات شأن عربي و«شرق أوسطي» بدوره أكثر مما هو إسلامي، وأولوية الاستقرار والأمن في المنطقة وأمنها متمركزة بينوياً حول سلامة إسرائيل وسلامة البترول، قبل أي «إرهاب» أو«حرب ضد الإرهاب».

أتكلّمُ مع ذلك على مسألة إسلامية ليس فقط بفعل ميل صاعد إلى هيكلة منطقتنا حول الحرب ضد الإرهاب (الإسلامي)، وليس فقط بفعل الإسلاموفوبيا النشطة، وإنما كذلك لأن هناك مشكلات كبيرة، أخلاقية وسياسية وحقوقية، في الإسلامية، يتحمل العرب قبل غيرهم وأكثر من غيرهم من المسلمين مسؤولية العمل على معالجتها والتقدم في حلها. مستقبل الثقافة العربية واللغة العربية والرابطة العربية مرهون بقدر كبير بالنهوض بهذا العبء الثقيل.

ثم إن هذه المسألة الإسلامية هي بقدر كبير أيضاً مسألة سنيّة. وليس الأمر كذلك إلا لأن المشكلات الكبيرة المشار إليها، الأخلاقية والسياسية والحقوقية، هي مشكلات في الإسلام السنّي أساساً، الذي هو الصيغة الأوسع انتشاراً للإسلام في العالم العربي. ما كان لروابط ميتة ورمزيات ميتة أن تنبعث إلى الحياة لولا موت سياسي وأخلاقي عاشه عالم العرب طوال نصف قرن. الإسلامية السنيّة المقاتلة في صيغها التي عرفناها في سورية بعد الثورة وُجِدت بفضل انمحاء الفرق بين الحياة والموت. هي نفسها حياةٌ ميتة أو موتٌ حيّ.

وأتكلّمُ على مسألة إسلامية، أخيراً، لسبب شخصي. فقد وقع أن نالني من إسلاميين يحملون كلمة الإسلام في أسماء تشكيلاتهم، «دولة الإسلام» و«جيش الإسلام»، أذيَيْن يحفران عميقاً في النفس ويُغيّرانها: خطف وتغييب أخي وأصدقائي، ثم وزوجتي وأصدقائي. خطفُ سميرة وفراس وأصدقاءٌ كرماء، وفي سياق تحطيم الثورة السورية المجيدة، هو تجربةٌ مكوِّنة تُضاف فيما يخصني إلى الطفولة الأولى، وإلى سنوات سجني الطويلة التي كنتُ أفكر فيها كطفولة ثانية، وتفوقهما معاً في الوقع والأثر والدوام.

أردتُ ذلك أم لم أرده، لقد اقترن اسم الإسلام بخطف زوجتي وأخي. هذا عبءٌ هائل، كان يتمنى المرء أن يُعفى من حمله. أمّا وأنه لم يعفَ، فهل من بديل عن طرح السؤال وصوغ المسألة؟

  1. Gil Anidjar. The Jew, The Arab: A history of the Enemy
  2. Ghassan Hage. Is Racism an Environmental Threat?
  3. Islamophobia still a challenge for us all. Edited by Farah Elahi & Omar Khan
  4. من أجل «الموزلمان»، يُراجَع كتاب أغامبن: Remnants of Auschwitz، ص 40-86.
  5. صادرٌ بالعربية عن دار الجمل، بترجمة: المنبوذ.
  6. Abdulhay Sayed: on the «Disconnected» Syrian: For the «Muselmannization» of the Syrian, Reflections on the Biopolitics of the Siege of Damascusuyyy

موقع الجمهورية

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى