سياسة

سورية.. موضوع صراع دولي/ فاطمة ياسين


التوافقات السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى أوجدت سورية بالتركيبة المعروفة: حاضرتان مدنيتان صغيرتان في دمشق وحلب، ومحيط شاسع وشبه فارغ ذو طبيعة عشائرية أو قبلية، مع تنوع عرقي وطوائفي. لم تَلقَ فرنسا الانتدابية صعوبةً كبرى في السيطرة الكاملة على هذه التركيبة. وقد تكون ظروف الحرب العالمية الثانية، وكذا مزاج أميركا المناوئ للاستعمار المباشر، ورغبة بريطانيا في التحكم بالمنطقة عن بُعْد، ومحاولتها مد اليد إلى الإرث الفرنسي، عجَّلت بخروج فرنسا الكامل، ولا يمكن تجاهل الحضور السوفييتي الذي فرض نفسه، ليس بقوة الأيديولوجيا التي يمتلكها، ولكن بقوة نتائج الحرب العالمية التي توّجته واحداً من المنتصرين.

وجد الوطنيون السوريون بعد الاستقلال أنفسهم يُحْكَمون مباشرة من دون أي مستشارين فرنسيين، وعليهم أن يقرّروا السياسات الداخلية والخارجية، مع وجود مشكلات كبرى مع دول الجوار السوري، أو التي تقع ضمن مداه الاستراتيجي المؤثر، العراق والسعودية ومصر، ومن خلفها كل من فرنسا وبريطانيا وأميركا والاتحاد السوفييتي.

كتب الصحافي البريطاني، باتريك سيل، عن فترة ما بعد الاستقلال في سورية، وصولاً إلى لحظة الوحدة مع مصر. استنتج أن الجغرافيا التي أطلق عليها سورية لم تكن ميداناً للصراع بين القوى المحلية والعالمية، بل كانت موضوعاً لهذا الصراع، حاولت أطراف الصراع الهيمنة على كل الجغرافيا السورية، أو السيطرة على بعضها، واستخدمت السلاح والمال وزرع العملاء، واستنزفت سورية خلال تلك السنوات الاثنتي عشرة، وصولاً إلى الوحدة مع مصر. عزّز هذا الاستنزاف حالة الضياع في البحث عن الهوية الوطنية، وغموض تعريفها الاجتماعي، والاستسلام لصراعاتٍ داخليةٍ ضيقةٍ، من دون مردود وطني، وبقيمةٍ تدميريةٍ مرتفعة، ساهمت في توقف العمل المؤسسي، وتقويضه لصالح الاستثمار في قوى ذات انتماء وطني شكلي، وسلوكياتٍ تخضع لتلك الصراعات، أدت إلى رفع فواقد التنمية. كان استنتاج سيل صحيحاً، وحتى “حادثة” الوحدة مع مصر ذاتها كانت لصالح واحد من تلك الصراعات التي استطاعت أن تتفوّق على زميلاتها في المنطقة، واستنتاج سيل يقول إن التصميم الجغرافي (سورية) الذي أشرفت عليه الدول المنتدِبة مُعَدٌّ خصيصاً ليكون المائدة بمكوّناتها الشهية.

حالياً، لم يختلف الموضوع الأساسي، وهو سورية المُعَرَّضة لصراعٍ لم تتغير قوانينه، وهي بذل المال والسلاح بغرض الهيمنة أو الاستيلاء، مع اختلاف بعض اللاعبين، من دون أن تتغير قواعد اللعب. هنا حالياً إيران وروسيا وإسرائيل، وهؤلاء مجموعة ذات طبيعة خاصة، شكلوا ما يشبه التحالف من تحت الطاولة في وقت الحرب، وكان لوقوفهم معاً دورٌ فيما وصلت إليه المعركة الحالية، وقد يكون حاسماً في الفترة المقبلة. ليس بالضرورة أن يصمد هذا التحالف الخفي إلى الأبد، فكل طرفٍ تحرّكه دوافع مختلفة ومتناقضة أحياناً، خصوصاً في وجود لاعبين آخرين، كالسعودية والولايات المتحدة، يقفون متحفزّين على مقربةٍ من الأحداث، ولا يعني قرار دونالد ترامب سحب القوات الأميركية أن سورية أصبحت خارج دائرة اهتمامه. يمكن أن نضيف اللاعب المصري، وهو لاعب قديم وجديد، يحاول حالياً إعادة “سورية النظام” إلى جامعة الدول العربية، بمعنى كسب مزيد من الحلفاء والتابعين. ويُضاف إلى قائمة المتصارعين فرنسا بوصفها الوصي الانتدابي القديم، وهي الآن بقيادة إيمانويل ماكرون الذي يقدّم، في الآونة الأخيرة، طروحات مختلفة عما يقدمه شريكه ترامب، بما يشير إلى رغبة ماكرون في وجود محسوس على الأرض، يضمن له حضوراً عند تقسيم الأسلاب.

تجعل هذه الوضعية السياسية سورية محطاً للصراع، من دون أن يتمكّن الداخل السوري، بمكوناته جميعها، من استثمار الصراع لصالحه. وعلى العكس، شكل في الغالب وقوداً يغذّي الصراع، ويؤجّج عدم الاستقرار والاستقطاب متعدّد الرؤوس، وهو الأمر الذي ينتج وكلاء، ولا ينتج ساسة، وينتج عملاء، ولا يقدم وطنيين، ويساهم إلى حدٍّ كبير في تعزيز الانقسام.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى