سياسة

البنتاغون بعد ماتيس: هل سقط جدار برلين؟/ صبحي حديدي

 

 

في وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاغون، ثمة برامج تخطيط متعاقبة لا ينتهي أجل واحد منها حتى يتبعه برنامج آخر؛ ويستوي الأمر أن يقع الإقرار من جانب الإدارة مباشرة، أو يخضع لمصادقة الكونغرس حيث يتعالى الشدّ والجذب حول الميزانية. وهكذا، على سبيل الأمثلة فقط، ثمة «ستراتيجية الدفاع القومي»، وهي الأمّ؛ ثمّ «المراجعة الدفاعية الرباعية»، التي تُجرى كل أربع سنوات؛ و«الستراتيجية العسكرية القومية»، التي تختص في كيفية توظيف القوى العسكرية لحماية الأمن القومي (!)؛ دون أن يغفل المرء تقارير أخرى ذات طابع أخصائي، مثل «ستراتيجية بيئة المعلومات»…

غير أن ما يُكتب على الورق، ويُنشر بعضه القليل على الملأ ويُحتفظ بمعظمه طيّ الكتمان، ليس بالضرورة ذاك الذي يعتمده البيت الأبيض، أو وزارة الخارجية، أو مستشار الأمن القومي؛ بل يحدث أحياناً أن تسير مقتضيات الستراتيجيات هذه في واد، وتسير القرارات على الأرض في واد آخر مختلف، أو حتى مناقض. ولعلّ أبرز الأمثلة ما وقع مؤخراً من تضارب فاضح، بدا أقرب إلى المهزلة في الواقع، بين ما قالته ستراتيجية الدفاع القومي للبنتاغون السنة الماضية، وما جرى على الأرض عملياً، خاصة لجهة دور القوات الأمريكية المنتشرة في سوريا وقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادتها إلى الوطن، «بعد إتمام المهمة» كما قيل، أو بالأحرى كما يُقال في كلّ حالة مماثلة.

وحين تمّ الإعلان عن هذه الستراتيجية مطلع العام 2018، بلسان جيمس ماتيس وزير الدفاع يومذاك، لاحظ المراقبون لشؤون البنتاغون ــ وربما لشجونه، أيضاً ـ ثلاثة فوارق عن غالبية الستراتيجيات السابقة: أنّ ماتيس ألمح إلى أنه هو المؤلف الأبرز لهذه الستراتيجية، وليس أجهزة الوزارة البيروقراطية المعتادة؛ وأنّ فقرات الوثيقة العلنية كانت، ثالثاً، وجيزة على غير العادة (11 صفحة، مقابل 64 لآخر وثيقة ستراتيجية أصدرها البنتاغون)؛ وأنها، ثالثاً، صُنّفت تحت بند السرّية. وانخراط ماتيس المباشر في تبنّي الوثيقة كان يشير، في المقام الأوّل، إلى أنه سوف يسهر شخصياً على حسن تطبيقها ميدانياً؛ ما خلا أنّ ترامب كان يرى رأياً مخالفاً، فخرج على وزير دفاعه بتلك التغريدة المباغتة بصدد الانسحاب من سوريا، وكان طبيعياً أن يحفظ ماتيس بماء وجهه ويكتب خطاب استقالته. ولكي تتخذ المهزلة وجهة أكثر احتفاء بالدراما، سارع ترامب إلى اختصار الفترة التي حددها ماتيس لبقائه في منصبه، فأقاله وخلع عنه فضيلة الاستقالة!

في كلّ حال، هذه الدراما، مثل تلك الفوارق الثلاثة، لا تبدّل كثيراً من جوهر تقارير البنتاغون، ليس لعجز جيو ـ سياسي أو ضعف في الرؤى الستراتيجية أو حتى قصور لغوي لدى نطاسيي البنتاغون؛ بل ببساطة لأنّ الكثير من سياسات الولايات المتحدة تتصف بثبات بعيد المدى وطويل الآجال، أياً كانت هوية ساكن البيت الأبيض. العالم في عقيدة البنتاغون لم يتغيّر كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانهيار نظام القطبين وأفول الحرب الباردة، بل إنّ الصورة تعطي اليقين، وليس الانطباع فقط، بأنّ الإنسانية في العام 2008 لم تغادر العام 1988 إلا زمنياً فقط، وليس جيو ـ سياسياً أو جيو ـ عسكرياً. عالم واحد ثابت، وإلى الجحيم بأيّ وجميع المتغيرات والهزّات والانقلابات، دولية كانت أم إقليمية، داخلية أمريكية أم خارجية كونية، إيديولوجية أم سياسية أم ثقافية… وبالمعنى العسكري، وهو ميدان البنتاغون وعلّة وجوده، العالم كما هو: صورة طبق الأصل عن الحال ذاتها التي اقتضت، قبل خمسة عقود، إعداد سيناريوهات تعبوية وقتالية ولوجستية لمواجهة الخصم الافتراضي!

مثير، أيضاً، مقدار تشابه التقارير التي اعتادت الوزارة رفعها إلى الكونغرس كلّ أربع سنوات، وتأخذ صفة البرنامج العقائدي والعسكري والتكنولوجي والإداري والمالي للوزارة طيلة السنوات الأربع اللاحقة. ومن المعروف أنّ عقود الحرب الباردة جعلت تحرير مثل هذه التقارير مسألة روتينية للغاية، لأنّ العقيدة لم تكن تتغير ما دام الخصم على حاله، وما من حكمة تبرر تجميد هذا الخطّ أو ذاك في الصناعات العسكرية، بل الحكمة كلّ الحكمة في تطوير أجيال الأسلحة كافة.

على مستوى العقيدة العسكرية كانت الرؤية الدفاعية، وتحديداً في عهد رونالد ريغان وطور «حرب النجوم»، قد نهضت على مفهومين ستراتيجيين:

ـ أشكال التعامل مع النزاع الخفيف، أو LIC، والذي لقي اهتماماً محدوداً في السبعينيات إثر هزيمة فييتنام، لكنه اكتسب حيوية خاصة في مطلع الثمانينيات مع إحياء اهتمام البيت الأبيض بالعالم الثالث. ريغان، من جانبه، ارتقى بالمفهوم ليعطيه أولوية عسكرية في ولايته الثانية، حين انتقل اهتمام الإدارة من سباق التسلح النووي إلى التسابق على اجتذاب أنظمة الجنوب، خصوصاً تلك التي كانت موالية للإتحاد السوفييتي.

ـ أشكال التعامل مع النزاع المتوسط، أو MIC، وهو القتال الذي تخوضه القوات الأمريكية ضدّ قوى كبرى في العالم الثالث. وإذا كان الـ LIC مخصصاً لمواجهة ضروب حرب العصابات والجيوش الصغيرة المحدودة (كما في مثال باناما)، فإن الـ MIC مخصص لحرب واسعة النطاق تشترك فيها قوّات وصنوف وأنظمة قتالية عالية المستوى والتدريب والتسليح (كما في مثال العراق).

جديد ريغان تضمن أيضاً ما أسماه مخططو البنتاغون بـ«حرب ونصف»، حين افترض هؤلاء أنّ الولايات المتحدة قد تجد نفسها متورطة في حرب شاملة على نطاق أوروبا ضدّ حلف وارسو (وهذه هي الحرب الكاملة)؛ وتجد نفسها في الآن ذاته أمام احتمال مواجهة محدودة تكميلية في أنحاء مختلفة من العالم الثالث (وهذه نصف حرب). ولكي تكون القوات الأمريكية قادرة على التعامل بكفاءة عالية مع قوّات حلف وارسو، وقادرة في الآن ذاته على ردع أي جيوب متمردة في العالم الثالث، فقد توجّب استحداث وحدات عسكرية على درجة من القوة توازي، وتتوازى مع، قوّات الحلف الأطلسي. وفي أواخر عهد ريغان وبدايات عهد بوش، بدأ الحديث يتعالى عن ستراتيجية اسمها «حربان ونصف»: واحدة لحلف وارسو، وثانية لقوى العالم الثالث الكبرى (العراق، الباكستان، وإيران لاحقاً)، ونصف حرب لدول وجيوش من نوع باناما وغرينادا.

طريف، في ضوء هذه الحيثيات وسواها، أن يقرأ المرء ما تقوله ستراتيجية ماتيس (إذْ يصحّ، بالفعل، نسبتها إليه حتى بعد الإطاحة به)، عن بعض بلداننا: روسيا تعزز نفوذها في المنطقة، على نحو يبدّل المعادلات المحلية خدمة لمصالحها، وعلى نقيض مصالح الولايات المتحدة والحلف الأطلسي (وكأنّ على موسكو أن تخدم مصالح واشنطن والناتو!)؛ وأمّا إيران فإنها تخلق «قوساً من النفوذ وانعدام الاستقرار والمنافسة على الهيمنة، مستخدمة النشاطات الإرهابية، وشبكة متعاظمة من الموالين، وبرنامجها الصاروخي». وفي قلب هذا التشخيص، وإلى جانب المصطلح القديم حول «الأنظمة العاصية»، ثمة ابتكار لتوصيف جديد (لا ندري إذا كان ماتيس صاحبه، هنا أيضاً) معادٍ للولايات المتحدة، هو «القوى التحريفية». وهذه، غنيّ عن القول، تختلف عن مدلول التحريف في المعجم الستاليني، لأنها تشير إلى أقطاب على غرار روسيا والصين، «ترغب في صياغة عالم متناسب مع نموذجها الأوتوقراطي، مكتسبة سلطة النقض على القرارات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية للأمم الأخرى»!

في كلّ حال، لا يلوح أنّ عالم ما بعد رحيل ماتيس وستراتيجياته سوف يختلف كثيراً عن العالم الذي رسم البنتاغون خططه الكبرى وكأنّ جدار برلين قائم منيع، وحلف وارسو على قدم وساق؛ في انتظار تغريدة جديدة من ترامب لا تستذكر إسقاط ذلك الجدار بالضرورة، بل تشيّد أمتاراً إضافية في الجدار العتيد… مع المكسيك!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى