منوعات

حين تشعر “ديرشبيغل” بالعار

 

أخبر قصة الفتى السوري الذي ظنّ أنه ساعد على إشعال الحرب السورية بمَقلب. وثّق رحلة امرأة أميركية سافرت حول الولايات المتحدة لتشاهد عمليات إعدام. صوّر، بتفاصيل بالغة الدقة، معاناة رجل يريد القيام بعملية انتحارية.

إنه كلاس ريلوتيوس، كاتب مرموق في مجلة “دير شبيغل”، أشهر مجلات ألمانيا الإخبارية وأكثرها احتراماً، وقد فاز بجوائز لتقارير عن أهم أخبار اليوم.

لكن يبدو أن كثيراً منها كان مختلقاً.

طردت مجلة دير شبيغل ريلوتيوس، ونشرت اعتذاراً مطوّلاً لقرّائها هذا الأسبوع. لكن كما يقول المحلّلون وكبار الصحافيين، فإن سقطة مجلةٍ كانت تُعد رائدةً في التحقيقات الاستقصائية الكبيرة في ألمانيا، يمكن أن تكون لها نتائج متعاقبة على وسائل الإعلام الإخبارية.

إن الفضيحة، التي عرفت إعلامياً بـ”شبيغل غيت”، هي إحدى  أكبر فضائح ألمانيا الصحافية منذ الحرب العالمية الثانية، إذ يُحتمل أن يمتد أثرها لسبع سنوات ولعشرات من المقالات. ولكونها جاءت في وقت تدنّت فيه ثقة الناس في الصحافة بالفعل، فإن توقيتها لا يمكن أن يكون أسوأ.

تنتشر الأكاذيب وأنصاف الحقائق بحرّية على شبكات التواصل الاجتماعي، ويحاول الشعبويون (مستغلين هذا) على جانبي المحيط الأطلسي بشدّة تشويه سمعة الإعلام وإرهابه.

فالرئيس ترامب، على سبيل المثال، اتّهم الإعلام مراراً بأنه مصنعٌ “لأخبار كاذبة”. وفي ألمانيا، يصف أعضاء من حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني، الإعلام بأنه “لوغِن بغيس” أو “صحافة كاذبة” وهو مصطلح استخدمه النازيون في عشرينات القرن العشرين قبل بلوغهم السلطة.

قالت إينس بويل، رئيسة تحرير في الإذاعة الدولية الألمانية دويتش فيله، “وقوع فضيحة كهذه في قلب أوروبا لَأمر مروّع، وهي تأتي في وقت نشهد فيه هجمات على الصحافة الحرة في بلاد كتركيا والمجر”. وأضافت أن “ترامب والشعبويين في كل مكان سيملأون الدنيا صياحاً”.

لم يمض وقت طويل قبل أن يخرج ناشطون في اليمين المتطرّف على وسائل التواصل الإعلامي مهاجمين ومُنكلين. قال غوتز فرومينغ، عضو برلماني عن حزب البديل، إن دير شبيغل التي تدّعي تمسكها بالمعايير المهنية، والتي تحب مهاجمة ترامب وحزب البديل، كانت تنشر أخباراً مُختلَقة منذ سنوات”.

كما كتب تينو كروبالا، عضو برلماني آخر عن حزب البديل، على “فيسبوك”: “إن اتهام المجلة بأنها صحافة كاذبة، لعادل بوضوح في هذه القضية”. تقول إنيس، “إن فقدان الصدقية (أي في الصحافة) لخطير في وقت تعتمد فيه الديموقراطية أكثر من أي وقت مضى على مقدرة الصحافة على محاسبة أصحاب السلطة. تخيل ماذا سيحدث لو صرح مراسل لدى شبيغل في الغد قائلاً بأنه سمع أعضاءً في حزب البديل، يلقون نكاتاً معادية للسامية، فمن سيصدقه حينها؟”.

قال أولريش فيشنر، الذي سيحتل منصب أحد رؤساء التحرير الثلاثة في مجلة شبيغل في كانون الثاني/ يناير 2019، “إن المجلة ستتقصّى جيداً عن مكمن الخلل الذي أدى إلى الفضيحة”. لكنه أيضاً، تعهّد بألا يدع الفضيحة تعرقل صحفيّيه عن إجراء تحقيقات جريئة عن أصحاب النفوذ. يقول أولريش “نعم، إن الصحافة في وضع دفاعي الآن، بسبب الأزمة الاقتصادية والهجمات اليومية التي تتعرّض لها، لكن علينا ألا نكون خانعين”.

قال أولريش إن دير شبيغل ستعيّن لجنة تنظر في مكامن الخلل في قسم البحث والتحقّق من الحقائق لدى المجلّة، وهو (أي القسم) مؤسسة عريقة فخورة داخل المجلة. قال أولريش، حيثما وجدنا فرصة للإصلاح سنصلح.

نشرت تقارير صحافية ملفّقة من قبل، من ضمنها، مثلاً، فضيحة جيسون بلير، الصحافي لدى النيويورك تايمز، والذي استقال في 2003، وجانيت كوك، الصحافية في الواشنطن بوست، التي فازت بجائزة بوليتزر عام واحد وثمانين عن مقال لها، اكتشفت الصحيفة في ما بعد أنه كان مزيّفاً.

وصفت شبيغل فضيحتها بأنها “سقطة” في تاريخ المجلة، والتي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية بوقت قصير.

قالت دير شبيغل في اعتذارها لقرّائها، إن كلاس “ألّف فبركاته على نحو متعمّد ممنهج” إذ أدخل في مقالته حوارات مصطنعة، وأشخاص لم يقابلهم قط و”شخصيات مركّبة (أي أنه كان يدمج أجزاء من قصص شخصيات مختلفة لتبدو وكأنها قصة شخصية واحدة) لأشخاص حقيقيين لكن بقصص مُؤلفة”.

قالت المجلة، إنه كان يعمل لديها منذ 2011، وأنه اعترف بأنه زيّف أجزاء من 14 مقالاً على الأقل. إلا أن المدى الكامل لتزويره لم يُعرف بعد. كتب كلاس 60 مقالاً على الأقل لدير شبيغل؛ وكتب أيضاً، حين كان كاتباً مستقلاً، لصحف ومجلات ألمانية محترمة كثيرة.

وتبيّن يوم الخميس، أنه زور أيضاً جزءاً من مقابلتين على الأقل، كان أجراهما لمجلة “زود دويتشه تسايتونغ”، وهي صحيفة يومية كبيرة تتّخذ من ميونخ مقرّاً لها.

كانت تزويراته أحياناً بلا سبب، وأحياناً أخرى كانت لإضفاء إثارة على القصة. في إحدى المقالات اختلق مقابلة هاتفية كاملة مع والدي اللاعب السابق لكرة القدم الأميركية، كولين كابيرنيك.

وفي مقالة أخرى، اخترع شخصية “غيل غاديس”، وهي شخصية متدينة من ولاية ميسوري الأميركية، قد نذرت حياتها لحضور عمليات الإعدام في جميع جنبات الولايات المتحدة. قالت دير شبيغل، إن صفحات المقالة الخمس كانت مفبركة من بدايتها لنهايتها.

كما تحقّق مواطنان محلّيان من قصة نشرها كلاس عن مدينة فروغوس فولز في ولاية مينيسوتا الأميركية، ثم نشرا نتائج تحقيقهما في موقع ميديام هذا الأسبوع تحت عنوان “صحافي لدى دير شبيغل يعبث مع المدينة الخطأ”.

أثارت الفضيحة نقاشاً عن الصحافة الروائية، التي زادت شعبيتها في السنوات الأخيرة، إذ يرى البعض أنها وسعت مساحة الاحتيال الصحافي.

يوضح أستاذ الصحافة في جامعة ميونخ، كارستن راينَمَن، “يقول النقائيون إنّ الصحافة الروائية زادت من ضبابية الحد الفاصل بين ذِكر الحقائق الموضوعية وبين التأويل الذاتي للأحداث،” لكنه حذّر أيضاً من نبذ هذا النوع من الصحافة كلياً.

كما تحدّث أولرييش، من مجلة دير شبيغل عن “أزمة الصحافة الروائية” قائلاً: “علينا أن نسأل أنفسنا عما إذا كنا قد بالغنا في تثمين أشكال السرد القصصية، إلى حد أننا دفعنا الكتّاب إلى زخرفة القصص لتبدو أفضل ممّا هي عليه في الحقيقة.”

وتحدّث من خبرته الشخصية كحكم لمنح الجوائز الصحافية. يقول أولريش، “هناك نزوع في السنوات الأخيرة لإضفاء مثالية على السرد القصصي، فنحن نبحث عن منطقية غير مشوبة وعن قدر من التفاصيل يثير الدهشة. على الصحافة الروائية أن تكون أكثر تواضعاً، فهي أحياناً تكون أفضل حتى من أن تُصدق”.

كان المقال الذي افتُضح رلوتيوس أخيراً بسببه، يحكي بتفصيل احترافي متقن عن ميليشيات حدودية في أريزونا، ولم يكن في الواقع التقى بها قط. وثارت شكوك زميل له، يدعى خوان مورينو، شارك في رواية قصتهم من على الجانب الآخر من الحدود المكسيكية.

يقول خوان مورينو، في لقاءٍ مع زود دويتشي تسايتونغ: “انتهت قصة كلاس بطلق ناري أطلقه رجال الميليشيات، لكن حديثه عن الطلق الناري ظهر في المسودة الثانية للمقال”. يقول خوان “إذا شاهدت لحظة إطلاق أحدهم النار على المكسيكيين، فإنني لن أؤجل هذا الحدث إلى المسودة الثانية، بل سأضعه في صدر المقال”.

كانت هناك عناصر أخرى في المقال مثيرة للشكوك، لكن حين أفصح خوان بشكوكه لدير شبيغل، رفضت المجلة، في البداية، التعاون معه.

لم يكن ريلوتيوس صحافياً يحظى باحترام وتقدير وحب، بل كان أيضاً يبذل جهداً عظيماً لتغطية أدلّة تزويره، إذ كان يختلق حسابات إلكترونية وهمية لمصادره ليثبت للمحرّرين أنه قابلهم. وكان يطلب من زملائه ألا يترجموا مقاطع معينة للإنكليزية أو أن ينشروها على الإنترنت.

يقول أولريش “حين نعيد التفكير في الأمر، نرى نمطاً ما كان يتكرّر، لكن لم تكن ملاحظة هذا النمط وقتها سهلة. كان نظامنا معيوباً، وكان لدينا جانٍ تمكّن بذكاء من استغلال ثغرات النظام”.

هذا المقال مترجم عن موقع New York Times ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى