سياسة

لم نكن سوريين!/عمر قدور

 

 

من المحتم أن تدعو إلى التشاؤم أحداث أخيرة مثل تحول مقاتلين سابقين ضد الأسد إلى متطوعين في قواته الأشد وحشية، أو انكشاف شخصيات تسلمت مناصب باسم الثورة عن انتهازية وضيعة تجعلها تطرح نفسها كمقاول محلي في صفقة تعويم بشار. لدينا أمثلة على قادة فصائل خرجوا من إمارات حربهم بثروات، أما الذين قدّموا مثالاً مغايراً فقد قُتلوا ومنهم مَن قتله أمراء الحرب أنفسهم، من دون أن نحظى خلال سنوات بذكرى طيبة على المستوى السياسي على صعيد الكفاءة والنزاهة معاً. الحديث عن الارتهان لأجندات الداعم أو الممول الخارجي يكاد لا ينتهي، لكثرة الأمثلة ولانفضاح فواتير الدعم التي عنت تحويل ما تبقى من مقاتلين إلى مرتزقة بالمعنى المباشر للكلمة.

في الواقع لدينا أمثلة لا تحصى على انكشاف الوضع السوري، ومن المرجح أن نحظى بوفرة منها مع الوقت. التفسير الشخصي الذي يستند على الانتهازية الشخصية لا يكفي وحده، على الأقل لأنه لا يفسّر لنا توفر هذا الكمّ الهائل من الأشخاص مع استعداداتهم القوية للارتهان. كذلك لا يفسّر لنا العامل الخارجي الأمر، لأن حجم تأثيره مرتبط بتوفر الاستعدادات المحلية. القول بأن فشل الثورة “أو التآمر لإفشالها” يفتح الباب على شتى أنواع الانحطاط فيه شيء من الصحة، إلا أننا لم نختبر احتمال النجاح، ولم نختبر على سبيل المثال سلوك أمراء الحرب فيما لو أتيحت لهم فرصة إسقاط النظام.

نحن لا نعلم ما الذي كان سيحدث لو أتيح للفصائل العسكرية إسقاط بشار بين خريف وشتاء 2012، لكننا نعلم أنه في ذلك التوقيت حدث انقلاب لم نتوقف عنده جيداً بسبب ضغط ووحشية الأحداث. كما نعلم، في ذلك التاريخ، حدث شيء ما جعل الفصائل المحيطة بدمشق تنكفئ، لتتقدم قوات الأسد وتطبق حصاراً عليها، ثم تحكم الحصار تدريجياً على كافة المناطق المحررة. في تلك الأثناء كانت ميليشيات الأسد والميليشيات الشيعية الحليفة تستفرد بكل جبهة على حدة، ولعلنا ما زلنا نذكر إطلاق صيحات على وسائل التواصل الاجتماعي من قبيل “الفزعة للقصير” أو “الفزعة ليبرود”، من دون أن تتحرك الجبهات الأخرى لتضغط معاً على القوات المهاجمة فتشتت ثقلها، أو تجبرها على خسارة في مكان آخر مقابل المكان الذي تستهدفه.

مفهوم “الفزعة” يأخذنا إلى طريقة تفكير عشائرية، فالرهان على النخوة يأتي كبديل عن الرهان على الحس الوطني، وكبديل أيضاً عن هياكل ثورية وطنية بقيت مفتقدة. المسألة هنا ليست في تعبير يُطلق مجرداً من دلالته القديمة، هي في إطلاق التعبير الذي يستبطن حالة التشرذم ولا يراهن على تغييرها، ويستبطن انحطاط قادة التشرذم لكنه يراهن على بقايا حسّ أخلاقي لديهم.

لقد استخدمت مخابرات الأسد وقواته منذ بداية الثورة تكتيكات تسهّل الوصول إلى حالة التشرذم، فهي قد قطّعت أوصال البلاد بالحواجز مع انطلاق الثورة مباشرة، وفي حين وضعت ثقلها للحيلولة دون وصول المتظاهرين إلى الساحات الرئيسية “بوصفها ملتقى الجميع” لم تبذل الجهد ذاته إزاء المظاهرات المحلية في أحياء المدن أو البلدات والقرى. أيضاً، منذ البداية عمدت مخابرات الأسد إلى تعميم مفهوم الأمن الذاتي، ضمن أحياء المدن، وأحياناً بتقسيم الأحياء إلى مربعات أمنية مستقلة. ذلك كله أدى وظيفة تقسيم البلاد، فتمكنت ميليشيات الشبيحة “باسم الدفاع الوطني” من خنق التحركات المعارضة في بعض الأحياء بخلاف أحياء أخرى لتبدو الصورة كأنها ثورة صافية في جانب وموالاة صافية في المقلب الآخر.

العامل الطائفي أدى فوق وظيفته في الشحن وظيفةَ التغطية على الانقسامات الأخرى، فظهرت الانقسامات المناطقية والفصائلية كأنها فقط نتاج واقع أمني ضاغط، وليس لها ما يسندها اجتماعياً على منوال الانقسام الطائفي الذي تسهل ملاحظته. ذلك حجب ما يمكن تسميته بتضارب المصالح في الخندق الذي ينسب نفسه إلى الثورة، رغم أن المعارك الداخلية التي خيضت بعد مرحلة التحرير الأولى لم يكن لها علاقة بالمعركة الأساسية المفترضة، بل على العكس كانت على حسابها. اليد الطولى في تلك المرحلة كانت لمن أتقنوا لعبة إمارات الحرب، ولا مصادفة في أن ينحدر المستوى السياسي بالتزامن معها، فوق بداياته التي لا تخلو من العثرات، رغم عدم وجود رابط بين المستويين وبقاء ما يُسمى “رئاسة أركان الجيش الحر” بمثابة تسمية لكيان تعذر إنشاؤه.

يفيدنا استعراض ما سبق في أننا كنا لسنوات إزاء بيئة خصبة لتنمو فيها كافة مظاهر الانتهازية الشخصية والجماعية، بلا رادع من أي نوع وبلا رادع وطني بالتأكيد. الذين نجوا من لوثات غيرهم امتلكوا صلابة أخلاقية يصعب التعويل عليها وحدها في الظروف الاعتيادية، ولا يُستغرب أن يعزّ وجودها في ظروف غير مسبوقة. لقد كنا كأننا أمام المظاهر المشينة ذاتها التي خبرناها في الدولة الأسدية، إنما تحت مسميات أخرى لا يندر أن تكون مفرطة في ثوريتها، وهذا ما يسهل ردّه إلى الحكم المديد للأسدية ومخلفاتها. في الواقع لم يندر استخدام الاستنتاج الأخير كمسوّغ لكومة هائلة من الانحرافات، على قاعدة أن أية ثورة لا بد أن تحمل من مخلفات النظام الذي تثور عليه. المشكلة في تبريرات من هذا النوع ليس نسفها الاعتبار الأخلاقي للثورة، وإنما نسفها “بقناع الواقعية” الاعتبارَ الفكري أيضاً، لأن الثورات المنتصرة تقبل مخلفات النظام القديم في لحظة مصالحة تاريخية، لكنها لا تقوم سلفاً بنيّة البناء عليه أو التسامح مع عيوبه.

أمران يحدّان من الانحرافات المذكورة؛ دولة قانون أو حسّ عالٍ بالمسؤولية ينبع من الانتماء إلى الجماعة. في حالتنا كان من المفترض أن تحل المسألة الوطنية أمر الانتماء، بما أن الانتقال إلى دولة القانون كان معلقاً على انتصار الثورة. للأسف ظهرت مع الوقت هشاشة الاجتماع السوري على نحو يصعب توقعه، أو ظهر نجاح الأسدية في تحطيم المجتمع، أو بالأحرى تشظيته إلى حد يمكن فيه الزعم بأن الطائفية لو تحققت على قدر خطاباتها لكانت عتبة أعلى من الاجتماع الفعلي. باستثناء قلة؛ لم نكن سوريين أو لم نصمد طويلاً على هذه الحال. العامل الأخلاقي يأتي تالياً، لأنه على العموم يقتضي وجود مجتمع واعٍ لمصالحه.

المدن

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى