مقالات

الرضوض النفسية (التراوما) في آداب المنافي واللجوء: تأملات حول قديم وجديد آداب المنافي/ المستشرق الألماني شتيفان ميليش

 

 

ترجمة: روزا ياسين حسن

في ستينيات القرن العشرين طرأ تغيّر عميق على الأدب الفلسطيني، فصدرت رواية “غسان كنفاني”: “رجال في الشمس” 1962، والتي تدور أحداثها العام 1958 أي بعد عشر سنوات من بدء الشتات الفلسطيني.

الرواية هي أول عمل عالمي يعبّر فيه كاتب عن مأساة الهرب البشعة/ المابعد حداثية وبتعبيرات قاسية بالغة التأثير. أحداثها تدور في فلسطين، الأردن، العراق، والكويت، وتحكي قصة ثلاثة رجال ينتمون إلى ثلاثة أجيال مختلفة، يجمعهم طريق الهرب في مدينة البصرة جنوب العراق، بعد أن تركوا وطنهم ليبحثوا عن حظهم في الكويت. لكن سطوة الهروب تبقى وحدها الحاضرة في حيواتهم، تقود شكّهم الدائم بالغرباء، الأمر الذي يجعلهم يثقون بالفلسطيني الرابع، الذي يعمل سائق شاحنة لدى ثريّ كويتي، والذي يعرض عليهم تهريبهم إلى الكويت: “أرض الميعاد”!

كانت فكرة نقلهم في صهريج مياه كبير وفارغ وحار فكرة مأساوية، فحرس الحدود الكويتيون استقبلوا السائق بالنكات والسخرية، الأمر الذي أضاع الكثير من الوقت، وجعل السائق نهاية لا يجد في الصهريج إلا ثلاثة جثث متيبّسة من الحرّ، رماها في مكبّ قمامة موطنه الجديد: الكويت، ولكن ليس قبل أن يأخذ الساعات والأموال التي بحوزتهم!

لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟

السائق الذي أصيب برضّ نفسيّ كبير، جراء انفجار حصل العام 1948 خلال الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى، يعود ليعاني رضّاً نفسياً (تراوما) ثانياً بعد ارتكابه هذه الفعلة، ولكن هذه المرة لم يكن بالإمكان تخطّيه أبداً! فبينما فقد رجولته في الانفجار وكان ضحية للحرب، تحوّل بتهريبه الناس ورمي جثثهم في مكب القمامة إلى قاتل! التراوما الثانية تولّدت هذه المرة من شعوره بالذنب لقتله ثلاثة من مواطني بلده، ولهذا كان صراخه: “لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟”، محاولة فاشلة لتكفير الذنب، فقد كان في العمق مدركاً لذنبه وعليه إكمال حياته مع كل هذا الألم البليغ!

في العام 1972 تم تحويل الرواية إلى فيلم، بتوقيع المخرج المصري “توفيق صالح”، وجاءت نهايته مع مقاطع من قصيدة قديمة لمحمود درويش يقول فيها: “وأبي قال مرة/ الذي ما له وطن/ ما له في الثرى ضريح/ ونهاني عن السفر”. الصمود في الوطن أفضل من موت بائس في المنفى، هذه هي رسالة الفيلم والرواية، التي تعتبر بذكرياتها الغنية ولغتها الشعرية، والسرد السلس متعدّد الأصوات (البوليفوني polyphony) من روائع الأدب الحداثي الذي بدأ على أبعد تقدير في الحرب العالمية الثانية، واستمر ليصبح “نظاماً” في عالمنا الجديد.

موتٌ مشابه في أدب اليوم

بعد خمسين عاماً، أعاد الكاتب العراقي “حسن بلاسم” كتابة القصة ونقلها إلى أوروبا، حيث تجري دراما مشابهة اليوم. ففي قصته: “الشاحنة إلى برلين”، وكما حدث في رواية “رجال في الشمس”، يموت ثلاثون شاباً عراقياً من العطش، تركهم المهربون في مكان ما من الأراضي المجرية.

وهنا نتذكر مأساة اللاجئين الذين وُجدوا جثثاً في بارندورف النمساوية العام 2015، وحينها نفهم كم أن الأدب يعبّر بشكل مباشر عن حقيقة واقعنا! حتى لو لم نستطع أن نعي، باعتبارنا “نحن”، كيف يكون الموت بعد المكوث أيام في شاحنة مبرّدة؟! لأننا لم نولد عراقيين أو سوريين، أو لم نكن من بلدان يهرب مواطنوها ليتمكنوا من البقاء أحياء! ولكن ما مدى استقرار وثبات هذه الـ”نحن”، وماذا تعني “نحن” بالمطلق؟!

المنفى ليس حادثة عرضية

الأدب بشكل أساسي هو تعبير عميق عن الهرب وفقدان الأوطان، كما عبّر الكاتب الألماني اليهودي “ليون فويشتفاغن Lion Feuchtwanger” قبل نحو 70 عاماً. فكما قد يؤدي المنفى إلى “الخرس” الإبداعي، يمكن له أن يكون سبباً أساسياً للكتابة.

فقد قال العام 1943 وفي إحدى محاضراته عن معضلات الكتابة في المنفى: “المنفى ليس حادثة عرضية، إنه مصدر أعمالنا. فلا تتغير مواد كتابة الشعراء بنفيهم عن أوطانهم فحسب، ولكن طبيعتهم هي التي تتغيّر”. حين نخسر أناساً نحبهم، في الحروب، في حالات القمع السياسي والسجون والتعذيب، كما في حالات الهرب والمنفى، يضغط الواقع على مشاعر الكاتب وأفكاره، فلا تكون تجربة المنفى ملموسة في محتوى الشعر فحسب، بل تكون “لحظة تأسيسية” كذلك! كما أشارت “إليزابيث برونفن Elisabeth Bronfen” في مقال لها عن المنفى المجازي وسيره الذاتية. ولكن ما المقصود بالضبط بتغيير “الوجود” و”اللحظة التأسيسية”؟!

يعبّر الكاتب السوري “ابراهيم الجبين”، الذي يعيش في المنفى الألماني، عن ذلك في بداية روايته “عين الشرق” 2016: “ولكن كل شيء يرتبط بما حوله بقوة، مهما حاولت انتزاعه من سياقه، ومهما فكرت بأن السياق لم يكن سياقاً أصلاً. ما أؤمن به أنا أن مجرى النهر هو مجرى النهر ذاته، وأن كل حرف أو ضربة سكين وريشة ورجفة وتر حدثت قبل الآن، إنما تشارك في خلق هذه اللحظة التي نحن فيها. لكنني قبل هذه اللحظة، كنت قد رجعت إلى دمشق، وبقيت عالقاً في عوالمها”.

إذا قارن المرء بين أدب المنفى القديم والحديث سيلاحظ بعض أوجه التشابه، التي تبدو ثابتاً إنسانياً أساسياً: البنية الجدلية للنصوص مثلاً والتي تكوّنت من العلاقة المتوترة بين الوطن والمنفى، بين الوجود والغياب، الجهود المبذولة لتعويض الفقدان والفراغ في اللغة، التوصيفات التي تتراوح بين: “التعاسة” و”مديح المنفى”، وما تعبّر عنه الصور اللغوية حول رحلة الهرب والمغادرة والوصول أو العودة.

وطنٌ محمول..

إن المنفى والتشرّد والهرب هي، وقبل كل شيء، تجارب يُجبر المرء على عيشها، ولا يختار تلك التغيّرات الجذرية في حياته. فمع تغير الظروف المعيشية وتغيّر “جوهر” الأدب، تتغيّر وظيفته أيضاً، بالتالي يمكن قراءة بعض آداب الهروب والمنفى كمحاولات لإعادة لملمة ذلك العالم المفقود، المكسور والمدمّر أحياناً والذي اضطررنا إلى تركه، وجعله سليماً مجدداً.

هو “وطن محمول” كما قال “هاينريش هاينه”، نخلقه من الكلمات والقصص الحية والشخصيات والصور والأصوات والروائح، حينما لا يعود الوطن الحقيقي موجوداً، كما كان الحال مع “محمود درويش”. وفي بعض الأحيان تشكّل الطفولة مصدر قوة ووجود الإنسان، كما الحال مع الشاعر العراقي “سعدي يوسف”.

الأدب والتوثيق

دور آخر للأدب المكتوب بعد الهروب هو التوثيق: إما لحفظ ما حدث من النسيان، أو للملاحظة والتوثيق الشخصي: ما الذي يحدث لي في ظل هذه الظروف المعيشية، كيف أتغير؟ كيف كنت، ومن أنا الآن؟ ومن سأكون؟

بسبب ذلك غالباً ما يحمل أدب المنفى سمات السيرة الذاتية. فغالباً ما يصبح سؤال الخطاب السائد أو حالات الكتابة حاضراً، الأمر الذي يمكن رؤيته لدى قسم كبير من الشعر العربي المعاصر في المنفى، وحيث أسئلة الغرباء تسمح باستجلاء الذات، عندما يكون الناس في المجتمع المضيف منفتحين على مثل هذه الأسئلة الخاصة. ففي حين يلتزم النوع الأول بتوثيق الشهادات لكشف الحقيقة، وغالباً لحفظها ضد أكاذيب النظام، يحاول النوع الثاني الغوص في عمق النفس والعالم، وذلك لفهم واختراق التغييرات العميقة.

الأدب وحماية الموتى

الشاعرة السورية “وداد نبي”، المولودة في كوباني والتي تعيش الآن في برلين، تصوغ الوظيفة الأولى للأدب رداً على “وولتر بينيامين Walter Benjamin” كما يلي: “أردت أن أؤمن بالمعجزة، بأن الكتابة تساعد المنسيين والقتلى على تحقيق العدالة التي لم تمنحها الحياة لهم. اليوم نحن نكتب عن الموت والحرب، كي نحفظ قصص الموتى من النسيان. ينبغي على أحد ما أن يخبّر عن هذه المأساة الكبرى”.

“ولكن هذا يعني أيضاً حماية الموتى والشهداء من استغلال العدو/ النظام”، يعقّب “وولتر بينيامين” الذي توفي 1940 في بلدة بورتبو Portbou الحدودية، فيكتب: “وحده كاتب التاريخ يمكنه أن يشعل شرارة الأمل في الماضي، فالموتى لن يكونوا آمنين إذا انتصر العدو! وهذا العدو لن يتوقف عن الانتصار”.

وبالنظر إلى أن العلوم مازالت تخضع لرقابة الديكتاتور العربي أكثر من الآداب، لذلك ربما على الفنانين والكتاب أن يضطلعوا بمهمة كتابة التاريخ. وفي الوقت الذي لا يستطيع علم التاريخ فيه إحياء ميت، تستطيع المخيّلة الشعرية ذلك، حتى لو لم تكن قادرة على أن تكون حقيقة! وأتذكر هنا بيتاً من الشعر لسيلان من قصيدته “متأخر وعميق”: “يحدث ما لم يحدث أبداً، يقوم ميت من قبره!”.

غالباً ما تحضر وظيفتا الأدب في آن معاً، كما في جملة بنيامين: “أنه يود أن يبقى بخير، يوقظ الموتى، ويعيد جمع الحطام”. ففي الأدب نعيد إحياء الأشياء المهشّمة وبعث الروح فيها، وفي الوقت نفسه نحاول لملمة شظايا الدمار.

اقتباس:

“يحدث ما لم يحدث أبداً، يقوم ميت من قبره!”.

الجزء الثاني

لكن هناك بالتأكيد الكثير من الوظائف والمهام الأخرى للأدب العربي: فهو يستطيع نقل عبث وبشاعة تجربة الواقع لغوياً، ويعيد إحياء الحقيقة بابتذالها وشذوذها في اللغة. كما يستطيع استخدام تجربة الظلم الخاصة بالكاتب كفرصة ليعكس تجارب الظلم الأخرى التي عاشها الآخرون.

ويمكن أن يكون الشعر كمنولوجات داخلية أو كحوار، أي يدور حول الذات أو يحتفل بالحوار وتعدّد الأصوات. أفكر كيف كان كل من “بول سيلان” و”كمال سبتي” مثلاً منشغلاً بتعاسته ومأساته الخاصة، في حين كان ثمة شعراء آخرون كـ”محمود درويش” و”إنجبورغ باخمان”، فكّروا بالآخرين وبالضحايا الغرباء، ربما لأنهم كانوا مميزين بطريقة ما، وبالتالي تمكّنوا من اختراق المونولوجات أكثر من غيرهم، أو على الأقل بطريقة خاصة بهم، باتجاه الحوار وتعدّد الأصوات.

في نهاية الأمر، يعيش الأدب أيضاً بعد الهرب عبر التخييل وقدرة اجتراحه والرغبات والأمنيات، بغية الفرار من قيود الواقع الضاغطة الصادمة والمليئة بالخسارة، ليواجهه وليضع نقاط علام جديدة لعالم آت أفضل. ربما كان التخييل هو الكنز الأكثر حيوية وقيمة، حينما لا يتحوّل على المدى البعيد إلى هروب ثانٍ، وحين لا يقود المرء للخروج من الواقع تماماً. لذلك من غير المسموح للأدب أن يتخلى عن الخيال، سواء لأدب السوريين اليوم، اليمنيين، الأفغان، والكونغوليين وغيرهم. ولكن هل يوجد بالعموم أدب للكبار يرقى إلى مستوى هذا الادعاء؟ حيث يجب عليه بالإضافة إلى سرد الفظاعات أن يمتلك قدرة التخييل وموهبة الحالمين بمستقبل أفضل، والتي تصبح واضحة في ظروف الحياة الجديدة والجيدة. وإلا لن يبقى إلا أدب الأطفال، الذي نستطيع فيه، نحن الكبار، أن ندنو من المستحيلات (كما يطلق عليها أبرز شعراء الحداثة العرب): الوطن، البيت، الجمال، الحب، والصداقة، بطريقة فورية وبسيطة وربما ساذجة. وفيما يستمر العالم بسقوطه في الدمار والرماد، وفي تبديد مصادر الحياة، تتم تنحية الواقع الحقيقي من خلال الافتراضية والثقافة المزيفة.

***

يمكننا أن نجد الكثير من أوصاف المنفى في الأدب العربي بعد العودة من المنفى إلى الوطن الأم، وليس فقط في المنفى. بعض الكتاب العراقيين عاوا إلى الوطن بعد العام 2003 2004، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا ثانية إلى منفاهم. فليس “صدام حسين” من دمّر البلاد فحسب، وإنما الأميركيون كذلك وبعض الأطراف الاجتماعية الفاعلة. فلا يمكن لأحد أن يختار العيش بملء إرادته في ظل الاعتداءات اليومية وعمليات الاختطاف. بعض الكتّاب الفلسطينيين وصفوا العودة من منافيهم إلى المناطق المحتلة بعد اتفاق أوسلو في منتصف التسعينيات بأنها مستحيلة، وتحدّثوا عن استمرار المنفى، أو عن العودة (غير الكاملة) إلى الوطن. هل يمكن للمنفيين اليوم الاستفادة من الصراع الذي عاشه الفلسطينيون والعراقيون مع تجربة المنافي كي لا يكوّنوا توقعات مستقبلية خاطئة! أو ربما من الأفضل أن نستمر في الحلم ونرعاه لفترة قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى أوهام، كي لا نخسر طاقة الحياة.

في قصيدة بعنوان: عودة 1999، يرتّب الشاعر الفلسطيني “غسان زقطان” صور ومشاهد رحلة العودة مع بعضها البعض، ليكشف في النهاية باقتضاب: لم نصل بعد. عودتـ”نا” لم تتحقق بعد! ذلك أن على الأسلاف بوجود الأحياء أن يعودوا إلى الصفوف الخلفية، ليس ليجدوا السلام فحسب، بل ليتحقق وصول العائدين وتنتهي الغربة. ولكن لا توجد قبور لموتى أو قتلى أو أماكن ذكرى النكبة! بل يجب على الشعر تعقّب الأسلاف والموتى بطريقة إحيائية ورهيبة، لإعادة إيقاظ الحياة وخلق نصب تذكارية من الكلمات، يجد فيها الموتى سلامهم.

السؤال الذي يطرح نفسه: كم هو مهم لأناس اليوم بقاء الأسلاف؟ وهل لا يزال ثمة وطن في تشرّد الحداثة متصل بشكل ما مع الأسلاف والموتى؟ أم ينتمي معنى الأسلاف لمرة واحدة وإلى الأبد لماضي المجتمعات التقليدية؟ ربما كان ذلك أيضاً نتيجة الحروب الحديثة والعنف السياسي العام: تدمّرت العائلات الكبيرة كما الأوطان، ولم يعد لهم دور حقيقي في حياة الأجيال الشابة. كما هي مجازية أو حقيقية أشباح أسلاف “توني موريسون” في روايتها الكلاسيكية ما بعد الكولونيالية: “محبوبة”.

هل هو استعارة لماضي العبودية والاقتلاع، أم ما يزال يلعب الأسلاف والموتى والأرواح دوراً حقيقياً في حياتنا اليوم؟

في مقطع طويل حول فهم المنفى، يتحدّث الشاعر العراقي “سعدي يوسف” الذي يعيش في المنفى الإنكليزي حول الأسلاف ونقطة التقاطع التي يشكلها الخط العمودي والأفقي والتي كان الوطن يقع فيها يوماً:

“يتضمن المنفى فكرة الالغاء: إلغاء علاقة الفرد بالسماء والأرض والمجتمع، ثمة خط رأسي يصل بين السماء حيث المعبود والأرض حيث الأسلاف، في هدأة الموت الطويلة، وثمة خط أفقي ينتظم القرية أو البلدة، حيث المنازل والذكرى وملاعب الطفولة، وفي نقطة تقاطع الخطين يقف الفرد، هول المنفى هو في اقتلاع الفرد من نقطة التقاطع هذه، وزرعه في بقعة أخرى لن تكون نقطة التقاطع فيها”.

عرّف جون بيرغر John Berger “مفترق طرق” الوطن، “le foyer”، العام 1986 بعبارات مشابهة قد يكون يوسف قد عرفه:

“الوطن هو مركز العالم، حيث يتقاطع العمودي مع الأفقي. الخط العمودي يصعد إلى السماء وينحدر باتجاه باطن الأرض إلى عالم الموتى. الخط الأفقي يمثل الدورة الأرضية، جميع الشوارع والطرق التي تؤدي إلى أماكن أخرى، وتربط الأماكن ببعضها. لذلك فالمرء سيكون قريباً من الآلهة والأسلاف في الوطن”.

الأهم من ذلك، تبدو النتيجة النهائية لبيرغر فيما يتعلق بالهجرة في العصر الحديث، والتي تطرح أسئلة ليس من السهل رفضها:

“أنا أصرّ لأن المرء إذا لم يفهم بداية ماذا يعني الوطن بالأساس، لن يدرك أبداً المعنى الكامل للاغتراب.

الاغتراب ليس مجرد ظرف طارئ، إنه ليس أن تغادر وطنك تعبر البحر وتعيش بين الغرباء فحسب، ولكنه يعني أيضاً أن ترى تفكك معنى العالم، وفي الحالات القصوى تحوّله إلى عالم غير واقعي، وهذا استسلام للامعنى والعبث”.

ماذا يعني فقدان الشعور بـالعالم أو انتفاء معناه؟! هل الإنسان قبل كل شيء غريب في هذا العالم إذا لم يعد يملك معنى للعالم أو للحياة؟ ماذا يعني للهاربين ألاّ يصلوا بعد؟!

الفيلسوف الفرنسي “جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy” يعتبر (غير الواصل) غريباً، فالغربة تتأتى من (عدم الوصول)، وفقط حين يتحقّق الوصول تنتفي الغربة، ويعبّر عن ذلك بقوله:

“يبقي المرء غريباً بعد وصوله، فوصوله لايني حاضراً. لن يكون وكأنه في وطنه، على الأقل طالما يشعر بأنه غريب! وسيكون لاحقاً المرء الذي وصل، لكنه لا زال عالقا في الطريق”.

باستخدام تعبير “im Kommen” أي في الطريق، يُذكِّر “جان لوك نانسي” بالظاهرة، التي سبق ورآها “جاك دريدا” أيضاً، التي تتم في المستقبل: الأطياف والعدالة والديمقراطية. الأدب لن يتوقف عن الحديث عن هذه الأشياء القادمة، التي يمنع عدم وصولها وصولنا للعالم.

(القادم) يلعب دوراً أيضاً عند “غسان زقطان”، لأن العودة تحوّلت لديه سلفاً في خضم محاولة (الوصول) إلى يوتوبيا، أو على الأقل إلى مكان موعود لم ينوجد بعد، ولن يأتي إلا مع تحقيق العدالة! لابد من خلق ذلك المكان الأكثر عدالة، رغم غيابه الذي نشعر به في كل مكان. و(الوصول) هو ليس فقط إيجاد معنى، لكنه مرتبط بإحقاق العدالة والاعتراف بالظلم من قبل الجاني، أو على الأقل من قبل طرف ثالث.

إذا لم يكن هناك فهم عادل للتعامل مع الماضي، فسيكون (الوصول) بعد العودة إلى البلاد أشدّ صعوبة. وإذا لم يتحقق (الوصول) بسبب رفضه، فسيأخذ معنى القبول الإيجابي للمكان الجديد الذي يحتله المرء الآن في العالم. هذا القبول سيمنع المرء من البقاء سجيناً في حالة الضحية وانتظار النجاة.

يضيف “نانسي” بعداً آخر لفكرة “الغريب القادم” فيقول: “وصوله مابرح يتسلّل إلى كل علاقة من علاقاته، فلا يعول عليه في حق أو ألفة أو اعتياد”.

يجلب العائد معه كغريب لحظة مقلقة إلى وطنه الذي لم يره منذ مدة طويلة، تعزّزها طرق الحياة والعادات الجديدة المتّخذة في الغربة. في قصائد “زقطان” لا يكون القلق أو الاضطراب عند أولئك المستقبلين ولكن عند الواصلين كمجتاحين من الخارج.

يواجه الفرد العائد إلى أماكن حياته القديمة أناه القديمة، يشعر بعمق أنه أصبح شخصاً آخر! وبكل الأحوال سيبقى العائد لوقت طويل مسجوناً في قضية (الوصول) المقلقة: فلايمكن الحديث بعد عن وصول مكتمل ومنجز.

الجزء الثالث

يمكن للخسارة بالطبع أن تخلق شيئاً جديداً، بمعنى أن يتحوّل الفراغ والفقد الذي يعيشه المنفي إلى شرطين ومطلبين أساسيين لبدء مشروع جديد، فيُملأ الفراغ بالحياة، والفقد بالبناء والعلاقات والقصص والخبرات الجديدة.

لذلك فإن إعادة خلق المعنى المفقود أمر ضروري جداً، هذا يعني أن الكتابة وجميع عمليات وأشكال إنتاج المعنى تنوجد حين يكون معنى الحياة والعالم مهدّد للغاية، تماماً كما يحدث في المنافي، كأنها تترسّخ لتغدو أقرب إلى موارد قيمة أو مصادر حيوية للحياة.

مع ذلك ثمة حقيقة تبدو أقرب إلى عزاء صغير، فخسارة المنفي، كما عبّر “إدوارد سعيد” بوضوح كتابه “في تأملات حول المنفى”، تبقى غير قابلة للتعويض، الأمر الذي يطرح أمامي معضلة غير قابلة للحل، فمن ناحية أعتقد أن الواقع الحقيقي مهم أكثر من أي فن، ومن ناحية أخرى فالواقع الافتراضي هو ما يمكن أن يعطيك القوة حين تتفاعل ثانية مع الواقع الاجتماعي الحقيقي. ومع ذلك أعتقد أن ليس علينا محاربة أي شيء بقدر ما علينا محاربة (الواقع الصناعي) واستبداله وتغييره! وعلى البشر حول العالم أن يتّحدوا لأجل ذلك، فكل شيء حقيقي ومهم اليوم مهدّد بالاستعاضة عنه بالافتراضي والصناعي بدل الواقعية المحيطة، حيث ينشغل الأطفال يومياً بها ولساعات طويلة وهم عائدون إلى بيوتهم التي لم تعد موجودة!

تبدو جهود وزارات الأوطان المشكّلة حديثاً، أو وكلائها، مثيرة للسخرية بل ومحزنة، كما قال شاعر عراقي قبل بضع سنوات: “أن تملك وطناً فهذا يعني كثيراً من سوء الحظ، وألّا تملك وطناً فهذا يعني الكثير من سوء الحظ كذلك”.

يبدو من العبث حقيقة التحدث بأمور مشابهة من موقعي كألماني غربي مشبع بالرفاهية، ومع ذلك من المهم أن تتضافر وجهات النظر المختلفة والقصص معاً، بمعنى أن نضع قصصنا ضد التفرقة لفهم هذا العالم بشكل أفضل، ولنقترب خطوة أكثر من بعضنا. ربما هي آثار الماضي غير الواعية التي تؤثر على واقعك المباشر دون أن تكون جزءاً حقيقياً منه، كحقيقة أن أجدادي مثلاً كان عليهم أن يغادروا مدنهم وبيوتهم ما بين عامي 1945 و1946 كسوديت ألمان وأن يعيشوا لاجئين لشهور عديدة في جنوب غرب ألمانيا، قبل أن يعودوا ببطء ليصبحوا مواطنين عاديين. في الحقيقة لم تلعب هذه القصة دوراً مهماً في عائلتي حتى اليوم، وعلى الرغم من انقسام البلاد إلى شرق وغرب آنذاك إلا أن المنفى انتهى بالنسبة للاجئين بسرعة كبيرة، وعادت الحياة لتغدو طبيعية مرة أخرى. فلو أراد بعض كتاب المنفى العودة إلى ألمانيا فإن ذلك ممكن، فيما هو محال منذ عقود بالنسبة لبعض البلدان والمجموعات السكانية من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغيرها من المناطق.

أصبح المنفى لدى العرب دائماً وطبيعياً للأسف، ولكن القليل منهم اكتشفوا ذلك بشكل عميق كـ”محمود درويش”، والذي ربط تجارب النفي المتعددة بدقة مع نقد للتحديث الزائف والمسيطر. كما قال في قصيدته خطبة “الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض” في العام 1992، وفي إحدى نصوصه الأخيرة العام 2008 كتب “محمود درويش” هذه الرسالة ترحيباً بضيوف “احتفالية فلسطين للأدب” قائلاً فيها: “نحن الآن في العام الستين من عمر النكبة. هنالك من يرقصون الآن على قبورنا، ويعتبرون نكبتنا عيدهم. لكن النكبة ليست ذكرى، إنها عملية اقتلاع مستمرة، تجعل الفلسطينيين أكثر قلقاً على وجودهم، النكبة مستمرة لأن الاحتلال مستمر. واستمرار الاحتلال يعني استمرار الحرب”.

ورغم السياقات المختلفة تماماً، يستطيع المرء أن يتمنى فحسب ألا يعيش السوريات والسوريون وغيرهم من المنفيين والمشردين مصيراً مشابهاً للفلسطينيين.

يبدو أن نظام الدولة القومية، الذي يحكمه مبدأ البحث عن الربح والتنافس، مصمّم لإنتاج أشخاص عديمي الجنسية، أشبه بضرر جانبي لإنتاج “حياة عارية”، دون أن يتمكن أي سياسي حتى الآن من القيام بأي شيء ضد ذلك، أو وضع بديل لآلة القتل الجماعي هذه. الأسوأ من ذلك أن ما أصبح اليوم مكان الدول القومية هي الشركات العالمية الكبرى، لأنها في الواقع فوق القانون، وعلى من سنلقي اللوم؟! الشركة التي تخضع فقط لمبدأ الربح والنمو لا تهتم بالحياة البشرية أو الإنسانية إلا إذا كانت من أجل الربح. ألا ينبغي أن يكون كل ما حدث كافياً لنا؟

خسارة شخص لوطنه يمكن أن تؤدي إلى تشرد شخص آخر، وليس التاريخ الألماني اليهودي الفلسطيني هو وحده من أظهر ذلك، كما ذكرت “حنة أرنت” أوائل 1950: “منذ الحرب العالمية الأولى زادت كل حرب وكل ثورة من كتلة المشردين ومعدومي الحقوق برتابة لا مثيل لها. يتم ترحيل مشكلة انعدام الجنسية إلى دول وقارات جديدة، لا مشكلة أخرى تعود بمثل هذا الإلحاح وانعدام الأمل المتشابه دوماً حين محاولات إيجاد الحل في المؤتمرات الدولية”.

لم تكن السياسة يوماً أقل استدامة من اليوم، ولم يستخدم السياسيون أبداً كلمة “الاستدامة” كما يستخدمونها اليوم. نحن في العام 2018 أي بعد 100 سنة من نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد 200 سنة من ولادة “كارل ماركس”، وبعد مرور 70 سنة على النكبة، و527 سنة على ما يسمى اكتشاف أمريكا من قبل البيض “الكولومبوسيين- أكلة لحوم البشر”، وبعد سبع سنوات من القمع الوحشي الذي مارسه نظام الأسد ضد الانتفاضة السورية، واليوم تغيرت السياسة الخارجية بشكل جذري، فلم يعد هناك وجود لدولة قوية فاعلة في العالم. لأن التنافس الإمبريالي الذي وضعته أوروبا، والذي هو أكبر سناً ربما وهذه جذوره الحديثة في معركة الهيمنة بين القوى المتوسطية، لا يزال يطرح مبدأ المساومة على كل شيء من السياسة إلى الاقتصاد إلى المجتمع. واليوم تصوّت ألمانيا والاتحاد الأوروبي ضد اتفاقية دولية تعمل على إخضاع الشركات في جميع أنحاء العالم إلى معيار حقوق الإنسان! سأعيد ما قالته الشاعرة السورية “وداد النبي” يوماً فحسب: أنتم “عار”!

على الرغم من أنها ليست قصيدة عن الهروب والنفي، لكني أود أن أقتبس السطور الأخيرة لقصيدة “محمود درويش” الطويلة التي ذكرتها سابقاً، لأننا نحتاج أيضاً إلى التفكير فيما وراء رحلة الهروب والنفي إلى العالم، لتطوير شكل آخر من أشكال السياسة، وذلك بالطبع بعد استشارة عدد لا يحصى من القتلى!

السطور الأخيرة من قصيدة عام 1992 خطبة “الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض”:

هنالك مَوتى ينامون في غرفٍ سَوف تَبْنونَها

هنالك مَوتى يَزورون ماضَيهم في المَكان الّذي تهدِمونْ

هنالك مَوتى يمرّون فَوقَ الجسورِ الّتي سوفَ تَبنونَها

هنالِك مَوتى يُضيئون لَيْل الفَراشات، مَوتَى

يجيئونَ فَجراً لكي يَشْربُوا شايهم مَعكُم، هادِئينْ

كما تَرَكَتْهمْ بنادُقكُم، فاتركوا يا ضُيوفَ المَكانْ

مَقاعَد خاليةً للْمُضيفينَ.. كي يَقْرأُوا

عليكُمْ شُروطَ السّلامِ مَعَ المَيّتين!

حتى لو كان هذه القصيدة تخاطب المجتمع الإسرائيلي، وقبل كل شيء دولة إسرائيل، فإنها تتجاوز السياق الأصلي لصراع الشرق الأوسط، فـ”بشار الأسد” هو أيضاً ضيف في سوريا اليوم، لكنه ضيف لن يترك كرسيه مهما حصل، فلقد أثبت ذلك بالفعل وبما فيه الكفاية!

موقع أبواب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى