ثقافة وفكر

اللغة ضد السياسة: «المنظمات غير الحكومية» وثقافة التحريم/ محمد سامي الكيال

 

 

يثير مصطلح «المنظمات غير الحكومية» كثيراً من الجدل وسوء الفهم، خاصة لدى تداخله مع مفاهيم أكثر تعقيداً مثل «المجتمع المدني» و«الهيئات الوسيطة». وعلى الرغم من أن ذكر هذا النوع من المنظمات لم يصبح مألوفاً في التداول الإعلامي والسياسي، إلا في فترة متأخرة نسبياً، ترجع لأواخر القرن الماضي، إلا أن أنصارها يحاولون مدّ جذورها التاريخية لتشمل كل الجمعيات الإنسانية والحقوقية والدينية المستقلة، التي برزت على الصعيد العالمي منذ مطلع الحداثة.

ومع أن القرن العشرين خصوصاً، شهد بالفعل حراكاً حقوقياً واجتماعياً كبيراً، تجاوز الأطر التقليدية للمجتمع السياسي، مثل حركات الحقوق المدنية والبيئة والسلم العالمي، والمنظمات المعنية بحقوق النساء والمثليين والأقليات العرقية، إلا إن هذه الحركات، التي اتسمت بالتنوع الأيديولوجي والاجتماعي، لا يمكن تشبيهها كثيراً بالمنظمات غير الحكومية المعاصرة، التي تبدو أقل تعقيداً وأشد تجانساً، وتُظهر نمطاً خاصاً من «الاحترافية»، فبدلاً من نموذج المناضل الحقوقي الملتزم بقضيته، صار النموذج الأساس هو الموظف بدوام كامل في المنظمة، المسؤول عن تنفيذ تعليمات مديريه. وعوضاً عن الحيوية الفكرية الكبيرة، التي أنتجها الجدل بين التيارات الفكرية المختلفة ضمن حركات الحقوق المدنية، صار «الجدل» الوحيد هو التنافس بين المنظمات ذات الأيديولوجيا الموحدة على مصادر التمويل.

تعمل المنظمات غير الحكومية اليوم على محورين رئيسيين: الأول سياسي مستتر، عن طريق تشكيل جماعات ضغط ذات حيثية لدى الحكومات والمنظمات الدولية؛ والثاني لغوي- ثقافي، يقوم على إنتاج تعبيرات ومفاهيم جديدة، ومحاولة فرضها على اللغة اليومية والمؤسساتية، مع تنفيذ نوع من الرقابة القاسية على التعبير الثقافي والفني. ما يجعلها أجهزة أيديولوجية من نوع خاص ودرجة هيمنة عالية، لا بد من فهم أساليب عملها، لاستيعاب ظواهر أساسية في عالم اليوم.

سياسة غير سياسية

لا تطرح المنظمات غير الحكومية نفسها بوصفها جمعيات سياسية أو أيديولوجية، رغم الدور السياسي الكبير الذي تمارسه، بل تقدم ذاتها من خلال مفاهيم حقوقية وإنسانية وخيرية بحتة، بريئة من الهوى الأيديولجي، تُطرح بشكل تقني غير قابل للنقاش السياسي، ما ينفي إمكانية وجود رأي آخر من الأساس، فالاعتراض على هذه المفاهيم يعني الجهل الحقوقي، وانعدام الكفاءة الفكرية والاجتماعية. هكذا تلعب هذه المنظمات دوراً تربوياً، يعمل على إعادة تأهيل البشر، وتوعيتهم بقيم جاهزة وصحيحة تعريفاً، وبما أنه لا يوجد نقاش، بل اكتساب للأفكار والمفاهيم، فلا داعي لاستفتاء قبول هذه الأفكار لدى المواطنين بالطرق الديمقراطية الاعتيادية، مثل التصويت العام، والانتخابات الحزبية والنقابية.

يمكن ربط هذا بصعود السياسات التكنوقراطية في الدول الغربية، التي تُبدي الجانب الإداري والتقني على حساب الجانب السياسي، فلكل مسألة جواب أو مجموعة أجوبة صحيحة تقنياً وأداتياً، ويجب صناعة رأي عام متقبل لهذه الأجوبة، بدلاً من مفهوم الإرادة الشعبية، الذي يعتبر اليوم من لوازم السياسات الشعبوية المكروهة. سبق للأناركي الروسي ميخائيل باكونين أن تخيل برعب مجتمعاً يحكمه التقنيون والخبراء، وفقاً لأسس علمية، وهو مجتمع تنتفي فيه الحريات الاجتماعية بالضرورة.

يخفي الطرح التقني جوانبه الأيديولوجية ببراعة، فقضايا المجتمع والسياسة ليست مسائل ميكانيكية بسيطة، يمكن تقديم أجوبة نهائية لها، وما يُطرح بوصفه الحل التكنوقراطي غالباً ما يكون نتيجة لعقائد مسبقة، تدفعها مصالح اجتماعية وطبقية محددة، إلغاء السياسي لحساب التقني، هو أيديولوجيا منافية للمفاهيم الأساسية للديمقراطية، التي تفترض حل النزاعات الاجتماعية من خلال تبادل الحجج والبراهين في الحيز العام، بدون افتراض وجود حقيقة مسبقة وجاهزة، فالحقيقة الاجتماعية تنشأ وتتطور نتيجة لهذا الجدل، وهي تواصلية و«بين ذاتية» كما يؤكد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وليست حكراً على فئة شبه كهنوتية من الخبراء، وهذا يفترض اعتبار المواطنين ذواتاً حرة وعقلانية، وليسوا مجموعة من القُصر الذين يجب إعادة تأهليهم ليرتقوا إلى مستوى الأيديولوجيا السائدة.

أحد الأجهزة الأيديولوجية الأساسية لإعادة التأهيل هو المنظمات غير الحكومية، التي يمكن اعتبار عملها على اللغة جانباً أساسياً من وظائفها: في كل اللغات تنتشر مجموعة من المصطلحات الملتبسة، مثل التمكين، التنمر، الحوكمة..وغيرها، وهي ليست غريبة فقط في ترجماتها العربية، بل تبدو مصطنعة ومفروضة في كل اللغات، لتنشئ عالماً مفاهيمياً متكاملاً، يجب أن يحوز الهيمنة الثقافية الشاملة. فيما مضى كانت الأجهزة الأيديولوجية مثل المدرسة والإعلام تترك هوامش واسعة للثقافات المضادة والفنون الطليعية، اليوم يبتلع العالم المفاهيمي للسلطة المتن اللغوي والثقافي بأكمله، ويصبح التمرد سلعة آمنة لها قيمة سوقية، في عملية طفلنة شاملة للبشر، الذين يجب تمكينهم عقب توعيتهم بالأيديولوجيا المسيطرة. كما أصبحت للعقيدة غير الحكومية أجهزتها التنفيذية، بعد أن صارت جزءاً مؤسساتياً مدمجاً في الشركات الكبرى والحكومات والمنظمات الدولية (لجان «التنوع والاستدامة» و«مكافحة التمييز»..وغيرها)، لتنهي معنوياً واقتصادياً أي طرف يجرؤ على المعارضة أو النقاش.

أقليات عدوانية

قلنا إن سياسات المنظمات غير الحكومية لم تعد مضطرة لحيازة القبول الشعبي، فأصبح ولاء موظفيها لمديريهم ومموليهم غير المنتخبين، وهذا أنتج فئة ذات امتياز، قادرة على التأثير في حياة الأغلبية، بدون الاهتمام بآرائها وردود أفعالها، بل تستعلي على أفكار وأنماط حياة الآخرين، باعتبارها نتيجةً لانعدام الوعي الثقافي أو الأيكولوجي. هذا الشعور بالامتلاء بالحقيقة يشترك فيه الناشطون مع المتطرفين الدينيين. وهو أكثر دوغمائية حتى من نشاط الجمعيات الخيرية والاجتماعية الكنسية، التي يعتبرها البعض سلفاً للمنظمات غير الحكومية.

كل هذا حوّل الفئات المرتبطة بهذه المنظمات، وهي على الأغلب من البورجوازية المدينية في الغرب، والفئات «البيضاء» من بورجوازية العالم الثالث، إلى أقليات عدوانية، لا تسعى إلى انتزاع حرياتها وحقوقها من الأغلبية، كما كان سائداً في نضال الأقليات العرقية والجنسية، في ما مضى، بل إلى الاعتداء على أنماط حياة الناس، التي لا تحوي قمعاً أو تسلطاً على أحد، وإجبارهم على انتهاج الأساليب التي يرونها صحيحة. تمتلك هذه الأقليات العدوانية «ذهنية تحريم»، بكل ما في التعبير من معنى. كل يوم يتم في إحدى الدول تحريم ممارسة ما، أو تجريم متعة معينة، بحجج صحيحة متنوعة، مثل منع الاحتفال بالألعاب النارية، والتدخين في السيارات الخاصة؛ رفع أسعار الوقود واللحوم، لإجبار الناس على ترشيد استهلاكهم، وتوجيههم للاستهلاك المستدام، منع الإعلانات والأعمال الفنية التي تحوي تمييزاً جنسياً، أو صوراً نمطية، والقائمة تطول. قد لا تكون بعض الممارسات التي يسعى الناشطون لتحريمها أفضل النشاطات الاجتماعية، ولكن وجودها يترك مساحة للاختيار وتقرير المصير الذاتي. والممارسات الصحيحة لا تكون أخلاقية عندما لا يوجد بديل عنها، بل تصبح نفاقاً وركوباً للموجة السائدة.

وإذا كان جانب كبير من الممارسات الاجتماعية وأنماط الاستهلاك الحالية نتيجة لأطر بنيوية فرضها المجتمع الرأسمالي، فالحل لا يكون بفرض أطر رأسمالية أخرى أكثر استغلالاً، وأشد ضيقاً وتقييداً، فالبنى القديمة أتاحت هامشاً كبيراً للتحرر، وشهدنا ضمنها حركات اجتماعية مهمة، مثل الحركات العمالية والحقوقية والنسوية، ساهمت بجعل العالم أكثر رحابة. يبدو أن النيوليبرالية لم يعد لديها المصلحة بالمزيد من حرية الاختيار، وتريد أن «تمكننا» على طريقتها الخاصة.

«مجتمع مدني» على الطريقة العربية

للوضع العربي بعض الخصوصية، فما يسمى منظمات «المجتمع المدني» لم يبرز في البداية بوصفه إلغاءً للسياسة لمصلحة الإدارة التكنوقراطية، بل كان على العكس محاولة لاستعادة السياسة بعد أن خنقتها الدولة الاستبدادية العربية. لم يجد المسيسون العرب منفذاً لممارستهم إلا عبر تغطيتها بشعارات عامة مثل «حقوق الإنسان» و«إحياء المجتمع المدني»، في شرط تم فيه حظر الأحزاب والنقابات، أو إفراغها من محتواها. إلا أن الدور السياسي الإيجابي للمنظمات «المدنية» انتهت صلاحيته، عقب انفتاح المجال السياسي نتيجةً لـ«الربيع العربي»، ولم تعد مواجهة القمع بحاجة للتنكر بزي حقوقي بحت، بعد أن صرخ المتظاهرون صراحةً بمطالبهم السياسية في الشوارع. أصبح «المجتمع المدني» العربي معولماً بشكل أكبر في السنوات الأخيرة، ويعمل ضمن القالب الإداري الكوني لـ«المنظمات غير الحكومية». لدينا اليوم ناشطون يحاولون استنساخ العالم المفاهيمي لهذه المنظمات بمقدساته ومحرماته، في جو عربي لا تنقصه المحرمات، ومتخم بالأوصياء، وبعد أن كانت القضايا ضد الحريات الاجتماعية والفنية من اختصاص الإسلاميين والعسكر، والتعصب الهوياتي من شأن الطائفيين، برز الناشطون على الساحة بخطوطهم الحمر، وهوياتهم التي يمنحونها ولاءً شبه قبلي.

في الشرق كما في الغرب يبدو أن مواجهة ما تمثله «المنظمات غير الحكومية»، وجمهور الناشطين المتأثرين بها، قد أصبح ضرورة ينبغي على أي حراك اجتماعي أن يكون واعياً لها، كي لا يفقد المحتجون صوتهم ولغتهم، وتتم طفلنتهم ليصبحوا تلاميذ في «كورسات المجتمع المدني».

٭ كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى