ثقافة وفكر

تحولات صناعة الإعلام… من كنفِ السلطةِ إلى سلطةِ الجمهور/ حمزة قناوي

 

 

■ كيف تحوّلنا من الإعلام القَديم إلى الإعلام الجديد؟ قد يظن المتلقي غير الدارس للإعلام الجديد بأن القصة مجرد تطور تكنولوجي أدى إلى تغيُّرِ نوع الوسيط الفيزيائي للمادة الإعلامية، لتتحول من ورقية إلى إلكترونية، ومن ثَمَّ فلا تغيير في النوع، وإنما في الدرجة، خاصة مع قدرة الوسيط الجديد على سرعة الانتقال والوصول لمختلف فئات المجتمع؛ لكن في حقيقة الأمر القضيةُ أكبر وأعمق من ذلك. وهذا ما يكشف عنه كتاب عباس مصطفى صادق، والمعنون بـ «الإعلام الجديد: المفاهيم والوسائل والتطبيقات»، ويطرح في الكتاب مجموعة من التساؤلات المهمة، التي تبدأ من تصور يطرح تساؤلا عن، هل نشأ الإعلام الجديد نتيجةَ تَطورِ وسائل الاتصال والطباعة والكلمة المسموعة والتحول إلى المشاهدة؟ ماذا عن التحول في قدرات الجمهور ـ الذي كان متلقياً من قبل ويتحول إلى متلقٍ ومُرسِلٍ في الآن نفسه عبر تطبيقاتٍ اجتماعيةٍ وتَدوينيةٍ مُختَلِفَة؟ هل تكنولوجيا الاتصال الجديدة والتلفزيون الفضائي وأجهزة الاتصال المحمولة، والالتقاء الذي حَدَثَ بين الاتصالات والكمبيوتر أثرت تأثيراً جذرياً على الإعلام؟ تأثيرٌ يصل لمرحلة التغيير في النوع؟ أم مجرد تأثير في الدرجة فقط؟ هذه الأسئلة التي يطرحها الكاتب ويُحاوِلُ أن يجيبَ عنها في سبعة عشر فصلاً ومُلحقَيْن من كتابه النوعي، إلا أننا يُمكِنُنا تقسيم الكتاب إلى الأقسام الثلاثة التي نجدها في العنونة ذاتها، أي أن الكتاب يدور حول «مفاهيم الإعلام الجديد»، ثم «وسائله»، وأخيراً «تطبيقاته»، ووفق هذه النقاط الثلاث سوف نقرأ كتاب «الإعلام الجديد».

لقد تعمّقَ وازداد في فَترةِ الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقيّ والغربي، وبين اليساريين والرأسماليين في نهاية القرن التاسع عشر، ثم نشأة اليونسكو (1945)، تصارُع وَكالاتِ الأنباء والمؤسسات الإعلامية الكُبرى كـ«رويترز» و«ولف» و«هافاس» حول التدفق المعلوماتي وتبادل الأخبار وتقديمها للجمهور، وظهور سي أن أن (1980) على فكرةِ المطالبة والمناداة بنظامٍ إعلاميٍ عالمي جديد، حتى أنه في ملتقى عدم الانحياز في الجزائر سنة (1973)؛ كانت إحدى تَوصياتِهِ ضرورةُ العمل على إيجادِ نظامٍ إعلاميٍّ عالميٍّ جَديدٍ، وإن كانت فكرة كل معسكر ـ ما بين اليمين واليسار وعدم انحياز- عن النظام الإعلاميّ الجديد؛ فكرة مختلفة تماماً عمَّا في ذِهنِ بَعضِهِم بعضا؛ فبينما كان تدفق المعلومات الإعلامية من الشمال إلى الجنوب أكثر عن الاتجاه العكسي لذلك، وبينما كانت بعض الأماكن تعاني من عَدمِ العدالة في وصول صوتها للعالم؛ فضلاً عن وصولِ الأخبار إليها، ورغم ذلك فإنه يمكن القول إن الإعلام الجديد في صيغته الحالية، وليس ذلك الذي كان مطلباً للجنة شون مكبرايد «وُجِدَ بقوةِ التكنولوجيا»، ورُبَّمَا بشكلٍ فَاقَ ما خُطط له، وما تمت المطالبة به، فقد تزاوجَ الإعلامُ مع المعلوماتية، وثورة الاتصالات مع العولمة، ما عمل على ردم الهوة المعلوماتية بين مختلف أماكن العالم، حتى وصلنا لقمةِ جِنيف العالمية في (12 ديسمبر/كانون الأول 2003) لإعلان مبادئ القمة بعنوان: «بناء مجتمع المعلومات: تحدٍّ عالمي في الألفية الجديدة».

ونلاحظ دقة وتعمُّق عباس مصطفى في استقصاءِ البحث التاريخي، وتناول التطور الإعلامي، عبر وقائعَ وأحداثٍ مفصليةٍ ومؤثرة في حقل الإعلام، وكونُ الكتاب أكاديمياً في الأساس، فإن هذا يحاول تجسير هوةٍ في مجاله، حيثُ نواجهُ فقراً حقيقياً في الكِتابةِ العِلميةِ عن الإعلام، فلوقت طويل تصدَّرت كتبٌ هي بالأساس «مذكرات حول العمل الصحافيّ» أو الكتابة عن «كواليس صناعة الإعلام في العالم العربي» لكنَّ قِلَّةَ تِلك الكُتب التي تَتناوَلُ أثرَ السياسةِ ـ لاسيما السياسة الدولية ـ على الإعلام، وتتقن فن الرصد والتتبع لتخصصاتٍ مختلفة، خاصة أن في الدراسة التي بين أيدينا يتمُّ التحليلُ بتَروٍ وهدوء، بدون انحيازٍ لجَانِبٍ عن آخَر، وإنما بتوضيحٍ مُستَفيضٍ لمتغيرات الواقع التي تُلقي بتبعاتها وتعدديتها وتنويعاتها على مغبَّةِ الفهم الصحيح.

يقدِّمُ صادق تعريفه الخاص للإعلام الجديد عقب تقصيه للمعاني المختلفة بقوله: «الإعلام الجديد إذن هو إعلامٌ تعدديٌّ بلا حدود ومتعدد الوسائط ليؤدي أدواراً جَديدةً كلياً لم يكن بوسع الإعلام التقليدي تأديتها، فهو على سبيل المثال لا الحصر وسيلة تعليم ومنافس تلقائي للمدارس. وهو يعملُ في سِياقِ مُؤسَّسَاتٍ جديدةٍ تَختَلِفُ كثيراً عما عهدناه في وسائل الإعلام التقليدية، فهو ليس إعلامَ صحافيينَ وكُتَّاب وقُرَّاء، ولكنهُ مُجتمعٌ متفاعلٌ يتبادَلُ فيهِ الأعضاءُ خَدماتِهم ويحصلون على احتياجاتهم الأساسية ويمارسون أعمالهم اليومية».

إذن ثلاثةُ متغيراتٍ جَديدةٍ في الإعلام الجديد عن القديم، يتمثل الأول في التعددية واللامحدودية التي تتيح بسهولة ويسرٍ إمكانيةَ قيامِ عَددٍ كبير من وكالات الأنباء أو منصات الإطلاق التعليمية، أو حتى البث الحي المباشر للأفكار والأحداث في وقتٍ واحد، وغيرها من الإمكانيات التي أتاحها المتغير الثاني، المتمثل في نوعية الوسيط الجديد للإعلام، من إنترنت وتلفزيون فضائي وهواتف نقالة متطورة وغيرها، ما يَجعلُ الإعلامَ الجديدَ إعلاماً متعدد الاتجاهات، قابلا للتفاعل والتعقيب، وكم من خبرٍ ربما ترك التعقيب أو التعليق عليه من قبل أحد جمهور القراء أثراً أكبر من الخبر ذاته، ثم يأتي المتغير الثالث، والمتمثل في تغير نوعيةِ الصحافيين والإعلاميين، حتى أننا لا نعرف ماذا نسمي هذه النوعية الجديدة، فتارة نسميهم «مدونين»، وتارة ناشرين، وتارة كُتَّاباً، وصحافيين محليين، وغيرها، حتى أننا نرى للكاتب الصحافي التقليدي الآن نوعين من الحضورِ الإعلامي، نوعٌ في جريدته، ونوعٌ آخَرَ على صفحته الشخصية أو منصات التواصل الاجتماعي.

يبذل صادق مجهوداً هائلاً في استقصاء المتغير الثاني من المتغيرات التي تناولتها، فيتابِعُ نَشأةَ الحاسب الآلي (كلمة السر في التغيرات الجديدة)، ثم نشأة الإنترنت وتطورها، والتليتكست والفيديوتكس، وشبكة الويب، والنص التشعبي، وأنواع مواقع الويب، وأسس تصميم المواقع وضوابطها، وعلاقة الشكل بالوظيفة، وغيرِها من وسائل تقنية دقيقة، قد لا يكون المهتمُ بدِراساتِ الإعلام على درايةٍ بِها، حتى يمضي المؤلفُ للدراسة حول أثرِ التحول من التماثلية إلى الرقمية، لنصل لمرحلة استخدام الوسائط المتعددة، ثم يتوقفُ أمامَ الوَاقِعِ الافتراضيّ، وتطبيقاتِه الإعلامية، كل ذلك بصورةٍ تجمَعُ بينَ المعلومة التكنولوجية التخصصية البسيطة، والالتفات للجانِبِ الثقافي لأثر كل متغير من متغيرات التطور التكنولوجي، حتى نصل للفصل التاسع، لنطالعَ مناقشةً لأسس صحافة الإنترنت وأنواعها، وتتبعاً للأنماطِ الجديدة من الممارسة الصحافيةِ والصحافيين والقراء، وفق ما يذكُرُه المؤلف، فالقارئُ أصبَحَ يَعتَبِر نفسهُ شريكاً في الصحيفة، أي شريكاً في تحريرها وليس في تلقي أخبارها وحسب، ويتابع صادق هذا التطور ما بين الموجة الأولى (1982- 1986)، التي كانت فيها شبكةُ الإنترنت مُتاحةً لمجموعة فقط، ثم الموجة الثانية (1993-2001) بدخولِ شَرِكاتِ الإعلامِ الكُبرَى لمجال صحافة الإنترنت بعدما شعرت بسُلطانِهَا، وأبدَت انزِعاجَهَا مِنهَا، والتحول من المحتوى المجاني إلى المدفوع، ثم الموجة الثالثة منذ ما بعد هذا التاريخ حتى يومنا هذا، ويحللُ الكاتبُ على عجالةٍ الأطُرَ التَقليديةَ والمستحدثة في التفاعلية الصحافية، فتحديدُ نوعِ الوسيط الذي سيُقدَّمُ فيهِ الموضوع الصحافي يؤثِّرُ على الموضوعِ ذاته، حتى أنه أصبحت لدينا مدارس في ذلك، فهناك نموذجُ وكالةِ الصحافة الفرنسية، ونموذجُ وكالةِ رويترز الشبكية.

ومثلما كان هناك تأثيرٌ على الإعلامِ من أخبارٍ وآرَاء وكتابات، وحتى من قَبلِ السينِمَا والتلفزيون، وكذلك فإن أمراً آخرَ شهِدَ طفرةً على نحوٍ غيرِ مسبوق، وهو الإعلانات، خاصة مع نظام تعقب المواقع والاهتمامات، فكل فردٍ الآن يمكن استهدافه بمجموعة من الإعلاناتِ مُختلفةٍ عن الآخر، على النحو الذي يراعي اهتماماته ومكانه الجغرافي وغيرها من المتغيرات، التي تجعل الإعلانات ذات فعالية تفاعلية مغايرة للإعلانات التقليدية، ومثلما تغيرت مفاهيم النشر والإعلانات، تغيرت كذلك مفاهيم المكتبات، فهناك الكتاب الإلكتروني، وأصبح لدينا مصطلح «المكتبة الإلكترونية».

يردف المؤلفٌ بحثَهُ المعمَّق بملحقين، الأول تتبعٌ استقصائي للإعلام التقليدي، وهي التسمية التي يجعلها في المقابل من تسمية الإعلام الجديد، وفيه يتحدث عن نشأة وتطور الإعلام التقليدي، بدءاً من عصر الطباعة، مرورا بالتلغراف وصولاً إلى التلفاز، ثم ملحق آخر لتقصي فكرة الحاسب الآلي بدءاً من الحضارات القديمة وعداد أبايكوس، انتهاءً بالآفاقِ الجَديدةِ التي يعد بها الحاسوب الآلي بتنويعاته الحالية.

ورغمَ الجهد الكبير من قبل المؤلف في استقصاء مرجعيات كتابه، إلا أننا نلمس بعض النقاط التي كنا نتمنى الاستفاضة فيها، فالملاحظ أن التقصي التاريخي كان مهتماً بالمتغيرات الغربية، بالمهاد الأصلي لهذه المتغيرات في وطنها الغربي الأصلي، لاسيما الإنترنت وخدمات الكابل وشبكات الإنترنِت التي بدأت أولاً محليةً، داخل الولايات المتحدة ثم تحولت إلى وضعها العالمي، ومثلما نحتاج لهذه المعرفة حتى نستطيع الوقوف على متغيرات الإعلام الجديد، فإننا بحاجة لمثل هذا التتبع في العالم العربي، ومواقف وقوانين الحكومات العَربيَّةِ من هذه القضايا، وأثر هذه التغيرات على واقِعِ الإعلامِ العربي، ومن ناحية ثانية، فإذا كانت الثورة المعلوماتية والاتصالية الحديثة مع التطور التكنولوجي قد جعلت من المتلقي عنصراً فاعلاً في عمليةِ الإعلامِ، فهو يتحولُ إلى مُتلقٍ ومُرسِلٍ في الوقت ذاته، ومن ثم فإننا بحاجة إلى سبل دراسة هذا المتلقي في حد ذاته، بجانب التعمق المطروح في الكتاب لمعرفة متغيرات الوسائط، كما أن هناكَ شِقاً مهماً لجانب هذه المتغيرات، وهو الجانب الاقتصادي، سواء اقتصاديات الإعلامِ نفسِه، ولعلنا نشهد حالياً أزمةَ النشر، ومقدار ارتفاع تكلفة النشر الورقي، والتحولات والأقسام المستجدة في وكالات الأنباء حول وظائف الإعلام الجديد، وهناك الأثر الاقتصادي على المجتمع، وعلى واقع الشعوب، فكيف يمكن أن نوجد نظريةً لدراسة هذه المتغيرات؟ وهل الأمر من اختصاص أصحاب دراسات الإعلام فقط في ظل هذه المتغيرات؟ أم أن الأمر أصبح يحتاجُ لتَكامُلِ تعددية التخصصات في دراسة المتغيرات الجديدة للإعلام؟

٭ ناقد مصري

القدس العربي»

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى