وجها لوجه

صلاح بوسريف: المال الخليجي وراء عودة التقليد الذي يزدري التحديث في الشعر…

 

صلاح بوسريف: السيرة جعلت الشعر عندي أفقا للكتابة

عبداللطيف الوراري

صلاح بوسريف كاتب مغربي جعل من الشِّعر شغله في الذهاب- الإياب بين ما كان وما ينبغي أن يكون ضمن السيرورة التي يجيدها نهر الشعر. ينتمي إلى جيل الثمانينيات في الشعر المغربي، بل أبرز شعراء هذا الجيل جرأة وامتحانا لسؤال الشعر. يعتقد صلاح أنّ الشعر هو من نادى عليه: «كنتُ كمن أُلْـقِيَ به في يَـمٍّ حتى وهو لا يعرف السباحة، فما لم يشربْـك ماء الشِّـعر، فلن تبلغ قاع اليَمِّ، وما يجري فيه من أسرار». صدرت باكورته الشعرية «فاكهة الليل» بإلحاح من الشاعر الراحل عبد الله راجع، عام 1994، لتتوالى بعد ذلك أعماله التي توزعت بين الممارسة والنظرية من نصوص وتأملات وقضايا؛ ولعلّ أشهر ما عُرف به هو إيمانه الصوفي بالكتابي بدل الشفويّ، وانتصاره للجمالي بدل الأيديولوجي.

■ صار من الدارج أن جيل الثمانينيات الذي تمثل أحد شعرائه الأساسيين، حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي، بوصفك محلّلا للخطاب ومواكبا لهذا الجيل قراءة وتنظيرا، ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له، والتي ما زالت تفعل فعلها المؤسس؟

□ هنا، أريدُ أن أُذَكِّـر بما كنتُ نشرتُـه في بداية التسعينيات في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، حول ضرورة التحرُّر من ضغط الأيديولوجيا في الشِّـعر، ووضع الذات في سياقها الشِّـعريّ، بدون أن تبقى أسيرة السياسة. هذا المقال، كان بالنسبة لي بداية إعادة تفكير الشِّـعر خارج سياق الجو العام الذي كان ما زال طاغيا، أعني هيمنة السياسة على الشِّـعر، أو وصاية السياسي على الشِّـعريّ والثقافي عموما. أثار هذا المقال ردود فعل داخل الجريدة نفسها، أعني من كُـتَّاب كانت لهم سلطة داخل الجريدة والحزب، وفي اتحاد كتاب المغرب. ربما كان نشر المقال خطأ بالنسبة لهم، لكن بالنسبة لي، كان لحظة تحرُّر، ليس من السياسي في الشِّـعري، بل ومن الحزبي، ومن عقلية الأمر السياسي، والتبعية، والخضوع، وهنا، بدأت علاقتي بالحزب، نفسه تضعف. انتصرْتُ للشِّـعر على حساب كل الامتيازات السياسية التي حظي بها من ظلُّـوا يكتبون وفق الشرط السياسي. إقرأ دواوين حسن نجمي، ستجد أنها كانت عبارة عن بيانات حزبية مكتوبة باسم الشِّـعر، كما كنتُ كتبْتُ عن ديوانه «الرياح البُنِّيَة»، الذي كان فيه التشكيل قشرة وسطحا، لا غير. لذلك فجيل الثمانينيات كان الذين خرجوا فيه من السياسة مبكرا، قليلين، ومحسوبين على الأصابع. هذا الانفصال، أو التحرُّر، كان انفصالا وتحرُّرا عن الجيلين السابقين، وأيضا انفصالا وتحرُّرا عن كل ما لا علاقةَ له بالشِّـعر. كان تنقية للشِّـعر من شوائب السياسة، والصُّـراخ السياسي، وهذا ما انعكس على السابقين لنا الذين تبعونا في ما بعد، وعلى اللاحقين أيضا الذين هيَّأْنا لهم طريق الشِّـعر، بدون شوائب. وأنتَ كنتَ في إحدى دراساتك انتبَهْتَ إلى هذا، وأشرْتَ إليه، وهو حقيقة وواقع، لا يمكن إنكارهما، بالنص والحجة. هنا، يمكن الحديث عن «الفعل المُؤَسِّس» لهذا الجيل، كما تُسَمِّيه في السؤال، وعلينا أن نقرأه في سياقه الذي جاء فيه، وليس بما نراه اليوم من تحرُّر فَكّ ارتباط مع السياسي.

■ من عمل إلى آخر، يرصد المتتبع انشغالك النصي والنظري بمفهوم الكتابة بدل القصيدة. هل يحمل هذا المفهوم عندك انقطاعا عن سيرورة النص الشعري العربي وتاريخ حداثاته؟ أم يبحث فيه عن قرابات ووشائج منسية؟ وبم تفسر عودة «الشفوي» في مشهدنا الشعري؟

□ خلال فترة العَـزْل والإفْـراد، بتعبير طرفة بن العبد، التي عشتُها حين مُـنِـعْـتُ من النشر في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، ومن «بيت الشِّـعر»، الذي أنا أحد مؤسِّـسِـيه، و«اتحاد كتاب المغرب»، تفرَّغْـتُ للعمل على أطروحتي «حداثة الكتابة في الشِّـعر العربي المعاصر». فرض عليَّ هذا الاختيار أن أعود إلى قراءة ومراجعة وتفكيك وتأمُّـل المُدوّنتيْن الشعرية والنقدية القديمتين، في كيف كان يقول أو يكتب الشُّـعراء، وكيف كان النقد ينظر إلى الشِّـعر، ويعمل على التقعيد له، بتثبيته ووضعه في سياق «التدوين»، الذي كان يفرض وضع الهوية العربية، ثقافيا، خارج الهويات التي دخلت إليها عبر الإسلام، وما جرى من اختلاط. هنا، سأجد أن النقد، أو النظرية النقدية، كانت تجري خارج الشِّـعر، لم تكن النظرية تتبع الشّـعر وتُـنْصِـت إليه، بل اكتَفَتْ بنماذج، اعتبرَتْـها هي الشِّـعر، وهي اللغة، وهي مصدر كل تقعيد، أعني الشِّـعر الجاهلي، أو بعض هذا الشِّـعر، وألْـغَـتْ بعضها، لأنه لا يستجيب للمعيار الذي وُضِع. فكما انتُقِـدَتْ وأُلْـغِـيَتْ مُجَـمْـهَـرَة عبيد بن الأبرص من هذه المدونة، لأنها لم تُساير النمط العروضي المُتَّفَق عليه، باختراقاته، أو بزحافاته وعلله، سيتِـمّ اعتبار البحتُرِيّ هو مثال «عمود الشِّـعر العربي»، وليس أستاذه أبا تمام، الذي انحرف (هكذا) عن الشعر، وعن عموده، وجاءت استعاراته بعيدة، لا يفهمها من اعتاد على الاستعارات السائدة. وهذا كان، في جوهره، نقدا بمعايير سابقة على الشِّـعر، أو بشِـعْـر، ليس هو كل الشِّـعر. الخلل جرى في هذا المعنى، لتصبح القصيدة هي ما يُسَـمَّى به كل الشِّـعر، في مقابل كلمة شعر التي لا هي جمع قصيدة، ولا هي جمع في أصلها، بل هي كَـثْرَة، بل هي كما سمَّـيْتُها، جامع أنواع شعرية، القصيدة ضِـمْـنَها، ببنيتها التقابلية التي يتوازى فيها شطر مع شطر، وهي شفاهية، تُلْـقَى وتُلْـفَظ، وليست مكتوبة، وشكل إملائها يكشف عن نزوعها الشفاهي. فلا وجود لمثال إملائي يُـبَيِّن لنا أن الشُّـعراء الأوئل، هكذا كتبوا، لأنهم في الأصل لم يكتبوا، ولم يعرفوا الكتابة. وفي حديث للرسول، إننا أمة أمية لا تعرف الكتابة والحساب، ما يكفي لتعرية هذه البنية الشفاهية للقصيدة، التي فرضت التَّقْصِيد، أي شطر النص إلى صدر وعجز.

اليوم، نكتب، ونحن في زمن الكتابة والصورة بامتياز، فكيف لا ينعكس هذا الزمن، وهذه البنية الكتابية على شعرنا، وعلى ثقافتنا ووعينا، أو ما يمكن اعتباره وعيا كتابيا، عندنا؟ ذهابي إلى الكتابة، هو عودة إلى مفهوم الشِّـعر في مفهومه الذي نجده في كل اللغات السامية، وهو مفهوم يَسَعُ الكتابة، ويقبل الصيرورة، وتداخل الأجناس والأنواع الكتابية وتَـضَـايُـفِـها، بما في ذلك الشفاهة، التي لم تعُـد هي المُهَـيْمِـنَة، بل صارت إحدى مكونات النص الشِّـعري المكتوب على الصفحة، أي باعتبار الشفاهي صوتا، ورمزا، وعلامة سيميائية، تراه العين وتسمعه الأذن، وليس هو ما يتأسس عليه الشِّـعر، كما جرى في «القصيدة»، التي مازال من يدَّعُـون الحداثة والتحديث يستعملونها كمفهوم يتنافى مع ما قالوه نظريا، وأعني هنا أدونيس، ومن تبعوه في تنظيراته. أسألك هنا، هل «الكتاب..» لأدونيس، شعر، أعني كتابة، أم «قصيدة»، بما فيها من لعب كتابي، غلبت الشفاهة على بنيته التعبيرية، لأنه لم يخرج من ماضي القصيدة التي فيها نشأ، رغم كل ما يبدو لنا أنه حداثة واختراقات عنده، لا بد من المراجعة والتأمل والتفكيك والنقد، حتى لا نبقى أسرى لماضٍ يُـهَـيْمِـنُ على فكرنا ووجداننا، ووجودنا، كما أننا لسنا مُلْـزَمِـين بخَـلْـق الأوثان، فالوثن الوحيد الذي علينا الإيمان به، هو الصيرورة، أو ما اقتَرَحْتُه من سنواتٍ، وهو مفهوم مرتبط بحداثة الكتابة، أعني المغايرة والاختلاف الذي كنتُ سمَّيْتُ به أحد كُتُبِي.

لا بُدّ من توضيح أمر، في هذا السياق، هو أن النظرية، كما أذهبُ إليها، لم تكن سابقة على النص، بل هي جاءت منه، النص هو ما أتاحها لي، بمساعدة المعرفة الشِّـعرية، وكذلك باقي المعارف الجمالية والفكرية، وخصوصا الفلسفة التي كانت، دائما، طريق العقل إلى الشِّـعر، الذي لا يمكن أن يبقى الخيال وحده هو ما يُـهيمن عليه. إذن، فدفاعي عن حداثة الكتابة، هو دفاعي عن الشعر، في مواجهة «القصيدة»، أي التقليد والشفاهة. وما تراه في عودة الشفاهة، هو عودة التقليد، بدعم من المال الخليجي الذي يزدري التحديث في الشعر، ويذهب إليه في العمارة، وفي التسويق، وحياة الاستهلاك، يرفضون البداوة في عمارة المدن، ويعملون على تثبيتها في الفكر والشعر، وهذا، لعمري، أمر يدعو إلى السخرية، وازدراء معاني الصيرورة والتقدم. فدعم القصيدة العمودية بالمال والإعلام، والمهرجانات، ليس هو ما سيجعل الشِّـعر يتراجع عن صيرورته، لأن النهر لا يعود إلى الوراء، فهو أمام دائما.

■ انتبهتَ مبكّـرا، كما أشَرْتَ قبل قليل، إلى قيمة البُعد الجمالي بدل الأيديولوجي الذي كان يسلب الشاعر صوته الفردي، في بناء ممارستك الشعرية. وضمن هذا البعد احتفاؤك بالسيرذاتي. كيف تنظر إلى مسألة السيرة الذاتية في سياق الشعر؟ ماذا يبقى منها، وما الذي ينضاف إليها؟

□ نعم، كان من الضروري أن يقوم أيّ واحد من الشُّـعراء بهذا الاختراق، مُـقابِـل ما كان سائدا من شعر. تعرف أنّ الشعر كان مختفيا خلف السياسة، وكان السياسي يستعمل الشِّـعر بدون اهتمام بالشِّـعر في ذاته، لذلك اختفت القيمة الجمالية في الشِّـعر، كما اختفت الذات، وتَـمَّ حَـجْـبُها. فما كتَبْتُه كان تعبيرا عن رفضي لأن أبقى صَـدى للسياسي، أو لِمـا ليس شعرا، ومن هنا، كما لاحَـظْتَ اهْتَمَـمْـتُ بالجانب السَّـيْرِيّ في أكثر من عمل شعري، لأن الذات، كانت ترغبُ في أن تكشف عراءها، أو تكون هي بذاتها، دون عكاكيز ووساطات. ففي ديوان «حامل المرآة»، وهو عمل شعري واحد متواصِـل يستغرق الكتابَ كاملا، تجد الجُرح الكبير الذي عشْـتُه خلال مرحلة الإفراد التي اسْـتَغْرَقَـتْ أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن، وفي «شرفة يتيمة»، بأجزائها الثلاثة تجد السرد، والحوار، كما تجد استعادة الذات في حيواتها الماضية، وما عاشَـتْه من قهر وفقر وإخفاقات، والعلاقة السيئة التي كانت لي مع الأسرة، ومع المدرسة، ومع إخوتي الذين كانوا أكثر من خمسة عشر أخا من أمهات مختلفات، نعيش في البيت نفسه، فتصوَّر ما الذي سيحدث في وضع مثل هذا، بين الأمهات والإخوة. الأب بقي عندي المثال، كونه كان اللّحمة التي شدت هذا البناء، الذي بمجرد موته انهار كل شيء، وبقيتُ وَحْدِي، لأن علاقتي به كانت هي الخيط الذي ربطني بهذا البيت المتشظي والمنحل في علائقه وتوازناته.

السيرة أتاحت لي شعريا أن أُوَسِّعَ دوالّ النص، وأن أجعل الشِّـعر أفقا للكتابة، واهتممتُ فيها كثيرا بالسرد، الذي جاء في أصله من الشعر، وليس من الرواية، لأن الأعمال الشعرية الأولى التي كتبها البشر، كانت أعمالا شعرية سردية. خُـذ «ملحمة جلجامش»، و«الإلياذة» و«الأوديسا»، وغيرها، ففيها تجد الشِّـعر الذي هو جامع أنواع. فحين نوسِّع ونُـضاعِـف دوال الشِّـعر، فنحن يمكن أن نستغني عن كتابة الرواية، مثلا، ونكتب كل ما نريده في العمل الشِّـعري، وهو ما رغب فيه أكثر من شاعر، وحتى في الرواية، ثمة من حلم بالكتاب الكبير أو الكوني. والشِّعر يمكنه أن يصل إلى هذا، بتوسيع دوالِّه، وبالانتباه إلى الكتابة التي هي أفق الشِّعر اليوم.

■ في عملك الشعري «يااااا هذا، تكلم لأراك» تزاوج بين الجسدي – الدنيوي والصوفي-المقدس في بناء سيرتك الذاتية، بل ابتكار هويّتك من جديد عبر قناع جلال الدين الرومي. كيف توجّه خلفيات بناء كتابة في مثل هذه التوجّه؟ وكيف تراقب عمل الصفحة وتوازن بين كوجيطو الأنا السيرذاتي ومحكيّات الحياة، ولاسيما إذا استغرق أكثر من أربعمئة صفحة؟

□ تبعا لِما أشَرْتُ إليه قبل قليل، فأنا مِـلْـتُ أكثر، في ما أكتُبُه إلى العمل الشِّـعْـرِيّ الذي هو أساس الكتابة، وهو معمارُها، أو ما نعتبره بناء في الشِّـعر. عمل واحد يستغرق الكتاب كاملا، أو الديوان. وبالمناسبة، فكلمة ديوان تليق بالكتابة وبالشِّـعْـر، أكثر من القصيدة، لأنها تُـشِـير إلى التدوين والرسم والكتابة الخَطِّيَة، أي إلى الأثر المكتوب، ولا علاقة لها بالشفاهة التي لا تُـدوَّن، بل تُـلْفَظ وتُلْـقَى، وهذا وضع القصيدة. بهذا المعنى كتـبتُ «حامل المرآة» و«شُرفَة يتيمة»، وهو ثلاثية شعرية، و«رفات جلجامش» و«ياااا هذا تكلم لأراك».

ما قُـلْـتَهُ، بصدد العمل الأخير، صحيح، فأنا حاولتُ فيه النظر إلى الصُّـوفِيّ، في سياقه أو معناه الدنيوي، لأن الخطأ في النظر إلى التصوُّف، هو أنه صاعدٌ من الأرض إلى السماء، وهذا غير صحيح، بل إن الصُّـوفِيّ أنزل السماء إلى الأرض، وجعلها أمام عينيه، ولم يعد الله مُـسْـتَعْـصِـيا على الرؤية، فهو بات مُـحايثَا للإنسان، مُجاورا له، يراه ويُكلِّـمُـه، لأنه موجود في دمه، وبالتالي، فهو لم يَـعُـد في حاجة إلى البحث عنه خارج نفسه، وهذا ما أدْرَكَـه الحلاج، وعُـوقِـبَ عليه، لأن الناس لم يفهموا ما بلغه الحلاج من كَـشْـف، وكذلك السهروردي المقتول، وهو ما أدركَـه ابن عربي، وشمس الدين التبريزي الذي نقَـل هذه الرؤية إلى جلال الدين الرومي، وجعله يُـدْرِك أن أساس وجود الخالق في المخلوق، هو معرفة المخلوق لنفسه وذاته، بمعنى أن كل إنسان هو خالقُ نفسه، أي خالقٌ ومخلوق في الآن نفسه. ثمة سيرة تُـرْوَى، وهي سيرة بحث، وتَـقَـصٍّ، واكتشاف، بل واسْـتِـشْـفَاف. وهي في النهاية، سيرة وجود قائم على القلق والمُساءلة، وعلى اختيار المعنى الأنطولوجي للكائن، بأي معنى يوجد؟ من هو؟ ما الحاجة لوجوده؟ بأي شكل أو صيغة يُـقِـيم في الأرض (وليس على الأرض) وكيف ينظر إلى نفسه، بالمعنى الذي كُـتِـبَ على مدخل معبد دِلْـفِي «إعرِفْ نَـفْسَـك بنفْسِـك»؟ فهذه السيرة، لا بُـدَّ أن يكون لها قناع، وكان الرومي، بحكم انشغاله بمعاني العشق، هو من اخْـتَرْتُ أن أتماهى وأتصادَى معه، ليس لأنه اليوم مُـوضة، بل لأنني كنتُ، بدون ادِّعاء، أول من استعمل الرومي كقناع في الشِّعر المغربي المعاصر، في ديوان «فاكهة الليل».

السيرة، بهذا المعنى، تتمظهر في أكثر من صيغة، وفي أكثر من تعبير. فأنا، هنا، لم ألتزم بالميثاق السيري، بل عملتُ على جعل السيري يعود إلى أصله وجوهره الشِّـعري، سواء في الثقافة العربية، أو عند السومريين والإغريق بعدهم. فأسطورة جلجامش، هي سيرة جلجامش في مواجهته للوجود، أو للأبد بالأحرى، والإلياذة والأوديسا، هما سيرتا أبطال، وسيرة حرب وتَدافُع على احتكار الوجود وتَملُّـكِـه. النظر إلى السيرة، يحتاج إلى وضعها في سياقها الشِّعريّ، وهذا ما اعتقدتُ أنني قُمْتُ به هنا. أما الصفحة، فهي لم تكن فُـضْلَـة في الكتابة، والصفحة ليست مُـجرَّد حامل، إنها بين أهم دوالّ الكتابة، لأن فيها تتحقَّـق العلامة غير اللغوية، وفيها يحضر الفراغ والبياض، وتحضر الرسوم والأشكال الهندسية والشكل الطباعي للنص، أي معمار العمل الشِّـعري. وهذا يحتاج منا، ونحن نكتب أن نستفيد من الثقافة المعمارية، وتوزيع الفضاءات في المدن وفي الساحات العامة، فكما أن المدينة الحديثة، وكذلك البيت ليسا امتلاء، فالنص المكتوب، هو أيضا، ليس امتلاء. الفراغ هو تعبير سيميائي، وهو رسالة، وهو معنى، حين نقرأ السواد، أي ما هو مكتوب، بدون النظر إلى الحذف، والنقط والفواصل، وتوزيع الأسطر، والهوامش والإحالات وغيرها، ستكون قراءتنا عمياء، لا نرى إلا السواد، فالنهار لا يخرج من النهار، بل من الليل بعد أن يَـلِجَـهُ، وهذا التوالُج بين البياض والسواد، هو ما يُعزِّز أهمية وقوة الصفحة كدالّ شعري، لا يمكن تفاديه في قراءتنا للشِّعر، وحتى في كتابته.

حجم العمل الشِّـعري، هذا غير مُـتاح لأيّ كان، لأنه يحتاج إلى تخطيط، وبناء، وبحث، ومواجهة مع اللغة، ومع الإيقاع، ومع الصورة، ومع كل الدوال التي بها يَبْتَنِي الشِّعر وجودَه. أغلب الشِّـعر العربي، يُـعاني من مشكلة ما نُسَـمِّـيه بالنَّفَس الشِّـعري، وأعتقد أن هذه الأعمال التي أشرتُ إليها أتاحت لي تجاوز هذا المشكل، لأن الشِّـعر العربي، هو بطبيعته غنائي، والغنائية تفترض حدودا معينة في التعبير، في حين أنني انتقلتُ إلى النص الشبكي، أو البلَّـوْرِيّ المُتَعدِّد والمركَّـب، أو النص الملحمي الذي تتعدد فيه الأصوات والضمائر، ويجري فيه الحوار والسرد، وهذا، أيضا، أحد رهانات حداثة الكتابة، بامتياز، وأحد آفاقها التي تخرج بالشِّعر من الوضع الذي هو فيه اليوم، أعني «القصيدة» أو الشفاهة.

■ بوصفك معنيّا بسؤال الشعر المغربي، كيف تنظر إلى حاله اليوم، وإلى مستقبله بالنظر إلى الإكراهات الثقافية المتراصّة؟

□ لا أخاف على الشِّـعر من شيء، بقدر ما أخاف عليه من المال الذي يسعى اليوم أن يعود به إلى أشكاله المَيِّتَة. فحين تصبح الكتابة طلَـبا، أو وفق طلب وتوجيه معينين، فهذا معناه استهجان الشِّـعر وتبخيسه في جوهره وعمقه. لكن، مهما تكن محاولات تبخيس الشِّـعر بهذا المعنى، فالشِّـعر لن يحيا بغير الصيرورة والتجدُّد. وكما قلتُ سابقا، فالنهر لا يعود إلى الوراء، والرهان على «شاعر المليون»، هو رهان على عطب الفكر والخيال، وسعي إلى الاستعادة، لكن بصورة ليس فيها ابتكار. أن أقرأ أبا تمام، أو شوقي، أو الجواهري، أو البردوني، فهذا أهم بكثير من أستمع إلى طَـحْـن القُرون الذي يجري في مثل هذه المُسابقات التي هي مجرد رحى، لا غير. الشِّعر حَيٍّ لن يموت، لأن به بدأ وجود الإنسان، وهو أبَدٌ.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى