الناس

عقدة البوشار الكردية/ أحمد عمر

 

 

انفجرت اثتنا عشر عيناً في رأسي، وبلغ السيل الزبى، والروح التراقي، وأعلنتُ الحرب على الذات القومية، وحكمت عليها بألف جلدة، وزعمتُ أنّ النخبة الكردية مصابة بعد التشخيص غير الإكلينيكي في عيادة التشريح النفسي، بمرض أطلقت عليه اسم “تناذر الذُرة النووي”، أو “متلازمة البوشار الأزلية”.

وضعتُ خطة لكتابة قصص المصابين به، وجمعت في مفكرتي أسماء معارفي الكتّاب والشعراء والنخبة السياسية، فوجدت كثيراً منهم مرضى بالداء الوبيل، وأنهم نماذج يستحق أن يُضرب بها المثل وتقديم النفع الخاصة والعامة، وكان أولهم الأستاذ الشاعر الرسام الموسيقار الحقوقي عبد الباقي، الذي يقيم في قرية قريبة من مكان سكني في المانيا اسمها بشوفسهايم. وسيكون آخر هؤلاء شاب لا أعرفه سوى بالاسم من فيسبوك، يعلق على منشوراتي تعليقات شديدة الوطنية، كردستانية، فلو نشرت صورة لذرّة الماء المتجمدة وموشوراتها الكريستالية، مشيداً بجمال ثرياتها وقناديلها، لكتب تحتها: ما أجمل كردستان ياهوو! ولو كتبت: إن اثنين زائد اثنين لا يساوي خمسة، لكتب: كردستان موزعة بين أربع دول متوحشة ياهوو. إنهم قوم بلغوا درجة “آية الله نهايتي” في فقه الظلام، هوامشاً ومتوناً.

طلب فنان تشكيلي كردي نووي وبوشاري وياهوو دوت كوم، صداقتي على فيسبوك، فوافقت. اتصل بي على الخاص بعد التحية، وحذرني من الكتابة عنه، بعد نشر نصي ” ياهووووو: طرائف كردية سياسية وثقافية لا رحمة فيها”، وأخبرني أنّه صحيح معافى، وليس مصاباً بمتلازمة البوشار المفرقع، فقلت: أنا لا أعرفك يا أستاذ ياهوو، فكيف أكتب عنك؟

فذكرني بأنه التقى معي ذات مرة، وشربنا شاياً في مقهى الموعد، فلم أتذكر، وكنت حوّلت عن حلب عنسي، والدهر ينسي، وقد اختلطت منازل سعدي بكواكب نحسي.

فذكرني الفنان التشكيلي بطرفة شهيرة عن فتوة مصري، عتيق، اسمه طحيمر، شاع عنه أنه ما ترك فتوة من فتوات الحارات المصرية إلا وصفعه على قفاه، فشكّ فتوة حارة بولاق بالأمر، وزعم لصحبه، أنّ قفاه طاهرة عذراء، لم تطأها كف، وقصَد طحيمرا في داره، وكان قد ناف على الثمانين، وسقط حاجباه على عينيه مثل الحارث بن عباد، ودقّ  عليه الباب، فوجد حوله أولاده الفتوات، فعرّفه بنفسه، وسأله ما إذا كان قد صفعه في صباه على قفاه، فطلب منه أن يدخل وينظر بنفسه، فلدية لوح محفوظ بكل أسماء الفتوات المضروبين على أقفيتهم، وكان جدولُ الأسماء طويلاً، اضطر صاحبنا أن ينحني حتى يقرأ الأسماء، وعندما ركع، وبرزت مؤخرته، سقطت صفعة قوية على قفاه، وسمع صوت طحيمر يقول: اكتب اسمك يا ولدي في سجل الخالدين.

عودة إلى المرض الوبيل:

قلت لنفسي: عبد الباقي صديقي من أيام حارة بولاق، لكنه شديد الريبة، ومرضه البوشاري قد وصل درجة متقدمة، عصيّة على الشفاء، ويجب ألا أخسره، فعندما أكتب سيعرف نفسه، وسيخاصمني.

دعوته إلى قهوة في مقهى عام، خوفاً من أن يفلت من عقاله، ويستعمل القبضة الحديدية، ونقع في مشادة،  ويحوص حيصة حمر الوحش، وأخبرته أني كتبت عنه نصاً أدبياً، وكنت قد كتبت عن بعض الشخصيات، وكلما كتبت عن شخص ظنّ أنه هو، ولامني كثيراً، وذكّرني بأيام الصبا، والصداقة القديمة والخبز والملح والجورتان (الجبن اليابس) والصداقة بين الوالدين، وبعد أن انتهى من الاستعطاف، قلت له: مخالتي (خؤولتي ) لم ينتبه أحد إليك في المرة السابقة، لولا أن فضحت نفسك وشهرت بنا على صفحتك،  قد تنطبق عليك صفة من عشر صفات، وهذا لا يؤبه به، وهذه أعراض بوشارية، واعلم أن آية الحكمة هي التغافل، وأنه آن أن تعقل، فقد كبر أولادنا وصرنا أجداداً، ولنا أحفاد ينطقون بالألمانية.

ورويت له أني كتبت عن زعيم سياسي كردي مقدس يقسم باسمه مثل الرب، قصةً رمزية، نقلت أحداثها إلى كاتالونيا، فلم ينتبه إليها أحد، لأن الناس في حرب، وليس لديها وقت حتى تفكّ الرموز، أو تتعلم اللغة القشتالية.

فقال وعيناه زائغتان في محجريهما: أريد أن أقرأ النص الذي ستكتبه قبل النشر حتى أضمن عدم الغدر.

قلت: هذه تصرفات مخابرات مخالتي. اطمئن، والله لن يعرف أحد غيرك أنك أنت بطل النص.

قال: والصداقة التي بيننا مخالتي.

قلت: تعرف إن أعظم جملة قالها أرسطو هي: أحبُّ عبد الباقي، ولكنى أحبُّ الحقيقة أكثر من عبد الباقي.

قال: أرجوك، صداقتنا على السندان، فلا تطرقها بالمطرقة، وتذكر الطبخات الرائعة التي كنت أطبخها في المخيم، والخبز والملح والجورتان.

قلت: “مخالتي”، تعرف أن أعظم جملة قالها سقراط هي: أحبُّ طبخ عبد الباقي، لكن طبخ الحقيقة أطيب. اطمئن، سأعمل لك تنكراً لن يعرفك أحد منه، سيكون تنكرا أكثر من تنكير عفاريت النبي سليمان عليه السلام لعرش بلقيس، تعرف أن عمليات تحويل الجنس شائعة هذه الأيام، والفضائيات تحتفي بها أشد الاحتفاء، سأحوِّلك في النص إلى امرأة، فلن يشكّ فيك أحد. وسننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون.

قال: أبلغتْ بك الخيانة أن تحولني إلى حريم السلطان، يا حيف عليك يا حيف. أين الناموس مخالتي؟

عبد الباقي شهم وكريم وودود، لكنه شديد الغيرة، بل إنّه حسود، جشع للشهرة والظهور والبطولة، ومصاب بمتلازمة البوشار المكتسب، كان يكتب الشعر الحديث، فسمع مرة ثناء من ناقد أدبي يرفع من شأن القصة ويهجو الشعر، فتحوّل إلى القصة، ثم سمع من ناقد مدحاً للرواية وأفول عصر الشعر، فتحول إلى الرواية، ثم سمع أنّ العمل في حقوق الإنسان ميدان وبطولات، فصار يعمل في مجال حقوق الإنسان، وأسس منابر كثيرة، ثم سمع أن الغرب يهتم بحقوق الحيوان، فأسس منبراً لحقوق الحيوان… إنه ذُرة في هذا العالم حبة ذُرة، تنفجر من هبة النسيم، غيور، قلاّب، رياّب، وحبّاب أيضاً. وهذ كارثة، إرضاء الناس غاية لا تدرك.

وهو يمرض إذا عوتب، وتدهمه حمى ويصاب “بالخرتكي” (سعال ذئبي)، مرة أخذوه بالإسعاف إلى المشفى من أثر جملة نقدية لدغته في رأسه، أما سياسياً، فقد بدّل خمسة أحزاب حتى الآن، وينوي تأسيس حزب جديد.

قال مهاجماً: وهل أنت طبيب نفسي حتى تشخّص الأمراض النفسية؟

مددتُ ساقيّ على الكرسي من أسفل الطاولة وقلت: أنت كاتب ولديك دزينة مؤلفات، ولا بد أنك تعرف أنّ عقدة أوديب قال بها أديب اسمه سوفوكليس، ولم يقل بها طبيب نفسي بدايةً، ومن يدري قد تدرّس العقدة التي اكتشفتها في الجامعات العالمية.

كان يتجه إلى الكمين، فسأل: وما أعراض المرض هذا؟

قلت: مخالتي، أنت معارض لجماعة البكبكة والبيدا بعد أن استولوا على دارك، وقتلوا مشعل تمو، (سُرّ كثيراً لهذا المديح) ولكنك أعلنت على صفحتك انقلاباً كاملاً بعد بروز صور مقاتلات كرديات جميلات إبان الحرب على كوباني، كما وقع بحارة  السفينة آرغو في غرام السيرينات الاغريقيات.

فقال الخرتكي: غيرتي الوطنية دفعتني للإعلان ذاك.

قلت: صديقي، أنا ليس لي شأن برغباتك وأرائك فأنت حرّ، حتى لو انتسبت غداً للخمير الحمر (لفظتها لفظاً صحيحاً من غير خلط بين الكلمتين أو النقاط)، لكن إعلانك ذاك كان انقلاباً أعدت سببه إلى عقدة البوشار، فلو أنك أعلنت حمل السلاح دفاعاً عن كوباني لكان أمراً مفهوما، لكنك أعلنت الرغبة في الانتساب إلى الوحدات الكردية، وهذه بوشارية سافرة.

ارعوى وخنس صوته، وفوجئتُ بقبوله بالهزيمة وكأني ضربته الضربة القاضية، حتى أني فكرت أن ارفع يده وأعدّ مثل حكام المحكمة في الحلبة حتى العشرة.

رمى آخر ما في كنانته: أنا أيضاً سأكتب أنك مصاب بالخرتكي.

سألت: وهل ستسمّيني بإسمي أم ستحولني إلى امرأة؟

قال: سأحولك إلى عالم الحيوان!

بحثت عن عود حولي، لأقول ما قاله أصحمة الحبشي لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: والله ما عدا عيسى ابنُ مريم ما قلتَ هذا العُود.

هذه هي الفروسية بعينها، الرد يكون بمثله، ونبقى أصحاباً وخؤولة.

ظننت أني أسكنت غضبه إلى حين، وكسبت وقتاً مدته لن تزيد على أسبوع، وهو موعد نشر النص الذي أفكر بتجنب مشاركة رابطه على صفحتي، لكني أظنّ أنّ مثل عبد الباقي كمثل ذلك الرجل الذي يظنّ نفسه حبة ذرة، ويخاف من الدجاج، فعالجه الحكيم وأقنعه أنه إنسان، فطاب، وبرأ من سقمه، وخرج إلى الشارع مثل البطل الهمام، وما أن رأى دجاجة حتى لاذ بالفرار، فقيل له: ما خطبك يا مخالتي؟ ظننّا أنك شفيت؟

قال: شفيت ومقتنع أني إنسان، لكن من يقنع الدجاجة أني لست حبّة ذرة مخالتي.

فعقدة الذُرة النووية عقدة صعبة العلاج. وإكرام الذُرة المقلوبة إلى حبّة بوشار دفنها في المعدة يا … مخالتي.

الماءن

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى