الناس

كيف تصنع وثائقياً في خمسة أيام/ حسام جزماتي

 

 

لا يقدم فيديو «لنتعلم الدرس للأبد… لماذا بقي بشار الأسد» أي جديد لمشاهده، غير أن هذا سبب هام في رواجه. فإحدى وصفات النجاح، كذلك، أن تعزف اللحن الذي يعرفه مستمعوك الذين ربما يطربوا لهذه الاستراحة من التفكير، أو للتنويع والتقسيم وترجيع الآهات على ما يألفون. وهو ما فعله هذا «الوثائقي» الذي نشره موقع الجزيرة-ميدان قبل أيام، بعد تغيير الشطر الثاني الإشكالي لعنوانه وقد كان: «هكذا انتصر بشار الأسد»!

والحق أن تبديل اسم الفيديو، وقد جاء في اللحظات الأخيرة، لم يغيّر شيئاً من المضمون المفعم بالانشداه بـ«الرجل الطويل» الذي يتدرج وصف الفيلم له من «القليل من الدهاء» إلى أنه صاحب «خطة عبقرية بالكامل»، وهو ما لم تزعمه إلا القنوات الموالية في أكثر أوقات نفاقها ذروة وابتذالاً. ناهيك عن نعته بالـ«أسد القوي»، الذي «أدرك جيداً» اتجاه الريح، و«عرف تماماً» ما يفعل، حتى «طال الأمد وتغير كل شيء عدا الأسد». وبعد أن «صمد الأسد»… كانت النتيجة أن «يبقى الأسد»!

لا يعرّف الفيديو بمن ارتكب هذه الكمية الكبيرة من الأسود في النص، لكن ذلك ليس مهماً

مع تكرار هذا النوع من الخطاب، وإن بدرجة أقل فجاجة، خلال السنوات الأخيرة، خطاب التنصل بدواعي التعقل. وهو ما عبّر عنه العنوان، بشكل ليس فيه أثر للتواضع، حين دعانا إلى مشاهدته لـ«تعلم الدرس»… وأيضاً «إلى الأبد»!

غير أن الدرس المطروح شائع إلى درجة الإملال! معلوماته ويكيبيدية، وأفكاره مشهورة، بغض النظر عن مدى صحتها من عدمه، وأسلوبه مكرر حتى على مستوى الألفاظ والتعبيرات. فقد بنى حافظ الأسد «دولة الخوف» باستخدام «سلطة الحديد والنار»، وحول البلاد إلى «مزرعة» ما لبثت أن انفجرت فيها «ثورة عارمة» ضد حكم ابنه الذي وصل إلى الرئاسة عبر «الوراثة» إثر تعديل الدستور «في ربع ساعة». ولكن من قاموا عليه أرادوا «اقتسام الكعكة» قبل نضوجها، رغم اختلال ميزان القوى لغير صالحهم بسبب «أصدقائهم الضعفاء» في مواجهة «حلفاء الأسد الصادقين» من داعمي «الثورة المضادة»، حتى «قويت شوكة الأسد» من جديد و«أحكم قبضته». ورغم ما فعله إلا أن كل شيء تحول لصالحه، هكذا «فجأة»، كما يرى الفيديو المغرم بالإثارة. والذي لا يهمل، طبعاً، التذكير بتجاوز أوباما «خطه الأحمر»، مع مشهد يُظهره يراقص زوجته برومانسية، مما أدى إلى انتقال المسألة/ الكرة من «الجيب» الأميركية إلى تلك الروسية. كما يذكّر بتصريح «التهاوش على الصيدة» الشهير، الذي يعده الفيديو «أهم وأخطر وأصدق ما قيل عن الحرب السورية»!

هذا هو «الدرس الكبير» الذي يدعونا صانعو هذا المنتَج البصري إلى تعلمه؛ أن لا نصدق أوباما «الجبان» في أبدٍ ما قادم، وأن نعرف أن بوتن المستقبل «شجاع»، وأن العلويين معبؤون «إيديولوجياً»، وأن تركيا ستنشغل عنا، وأن تنظيم الدولة سيكون أكبر مساهم في «انتصار» الأسد الذي تؤكد معلومات الفيديو أنه احتفل، مع شقيقه ماهر حصراً، يوم أعلنت داعش خلافتها. وهنا يجدر بالمرء أن يشير إلى لغة المبالغة السائدة في الفيديو الذي قال إن ظهور داعش هو «الحدث الأهم في تاريخ العالم والمنطقة»! وإن اقتتال الفصائل الثورية قدم «أنموذجاً فريداً» للخلاف! وإن حليفي الأسد، الروسي والإيراني، كفيلان بالفوز «بأي معركة تتخيلها»…

في الحقيقة، لا يستأهل هذا الشيء المتلفز عناء التحليل والنقد لولا انطباقه على مزاج رائج، وهو ما يمنحه صفة التمثيل وقوته. هذا المزاج هو ما يستحق الكلام، بوصفه توليد أفكار و«تحليلات» وسياسات أساسها الجزَع؛ الصانع الحقيقي لهذا الخطاب. والجزع، الوارد في وصف القرآن للإنسان بأنه ﴿إذا مسّه الشر جزوعا﴾، هو حزن «يصرف الإنسان عما هو بصدده» كما كتب المفسرون. وهو ما يقوله الفيلم أيضاً، حين يدعونا إلى مجرد تعلم الدرس بأفق أبدي و«النظر بأسى». أما صاحب لسان

العرب فيروي حديث أَبي هريرة أَنه كان يسبّح بالنوى المجَزَّع، وهو الذي حكّ بعضه بعضاً حتى ابيضّ الموضع المحكوك منه وتُرك الباقي على لونه، تشبيهاً بالجَزْعِ الذي قيل إنه الخرز اليماني الذي فيه بياض وسواد. وهو ما يفعله الفيديو حين يتنقل بين مشاهد عنجهية الأسد وضحكه المتكرر وبين تسجيلات جرائمه أو المظاهرات ضده، وكأن لصانع الفيلم قلبين متنافرين، أو كأنه يفرّد وينوح على إيقاعات الأغنية الأيقونية في مزاج الأسى العربي «مو حزن… لكن حزين».

لم يكتب عن الفيديو، حتى الآن، سوى صحافي فلسطيني مؤيد للنظام، استعاد عنوانه الأصلي قبل التغيير، معتبراً إياه علامة على حيرة «الجزيرة» في اختيار الطريقة التي ستتراجع بها عن موقفها ضد بشار وتعترف بانتصاره. بل يذهب استقراء الكاتب أبعد حين يتنبأ أن أبرز مذيعي القناة سيحاورون الأسد و«يطلبون وده ورضاه»، بعد مصالحة «سورية» قطرية تندرج في سياق «الهرولة» نحو دمشق الأسد، كما قال الصحافي، تمشياً مع كلام سائد أيضاً.

ليس غريباً تطابق حصيلة المزاج الانتصاري الشامت للصحافي الموالي مع نتائج المزاج المهزوم لناشطين سوريين كانوا وراء الفيلم، بخياراتهم الشخصية دون الأبعاد «تحت الطاولية» التي يفترضها مؤيد الأسد وتشمل القناة وقطر و«الجميع». لكن إعلامي الممانعة لا يلام في «تقييمه»، إن يكُ الفيديو نفسه قال إن «الجميع» سيقبلون ببقاء الأسد، بالتوازي مع إظهار تسجيل لزيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير!!

تلفزيون سوريا

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى