وجها لوجه

ثلاثة حوارات مرتبة حسب تاريخ النشر مع برهان غليون

==============================

———————————-

برهان غليون متحدثاً حول قضايا الساعة: “سيزر”، السويداء، الأكراد وخيارات نظام الأسد

شهدت الساحة السورية في الأسابيع والأيام الماضية، تحريكا للعديد من الملفات بعد أشهر من الجمود، وسط توقعات بتغيرات، وربما اختراقات، قد تشهدها عدة المسائل مرتبطة بالقضية السورية. صحيفة “جسر” حاورت المفكر السوري، الدكتور برهان غليون، واستطلعت رأيه وتصوراته بخصوص هذه الملفات التي تشغل بال غالبية المهتمين والمتابعين للشأن السوري.

شهدت الساحة السورية في الأسابيع والأيام الماضية، تحريكاً للعديد من الملفات بعد أشهر من الجمود، وسط توقعات بتغيرات، وربما اختراقات، قد تشهدها عدة مسائل مرتبطة بالقضية السورية. صحيفة “جسر” حاورت المفكر السوري، الدكتور برهان غليون، واستطلعت رأيه وتصوراته بخصوص هذه الملفات التي تشغل بال غالبية المهتمين والمتابعين للشأن السوري.

المفكر السوري برهان غليون

ـ نبدأ بالوضع الأكثر إلحاحاً، وهو الانهيار الاقتصادي في مجمل سوريا، خاصة المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد، وذلك على الرغم من عدم البدء بتنفيذ قانون قيصر، ما هو السياق التاريخي لهذا الانهيار، وما هو أفقه السياسي وعقابيله الاجتماعية المحتملة؟

من الواضح ان قانون قيصر جاء بعد تسع سنوات من محاولات المجتمع الدولي اليائسة لوضع حد للمأساة السورية وبدء مرحلة جديدة تنهي الحكم الدموي لبشار الأسد وبطانته المافيوية. والهدف منه وضع الأسد، الرافض دائما للخروج من السلطة، بعد أن دمر فرص أي حل وسط، أمام خيارين: البدء بترتيب رحيله مع الممثل الشخصي لبوتين، الذي عين في منصب ما يشبه الوصاية على قاصر، أو التردد والإنتظار حتى يسقط تحت ضربات أقدام وأحذية الجائعين والمشردين، في بلد جفت فيه كلّ منابع الحياة والأمل. وما نشهده اليوم هو جزء تمهيدي من مفاعيل أو تفاعلات قانون قيصر، أي هو من آثار الاعلان عن بداية تطبيقه القريبة. وربما ينهار الوضع الاقتصادي تماما وتخرج الناس إلى الشوارع مطالبة برحيل “بطل” هذه المأساة الدموية، غير المسبوقة في التاريخ قبل أن يصار إلى تطبيقه عمليا. وكل ذلك، أي ما نعيشه ونشهده الآن، يقع في إطار انهاء اسطورة الأسد السوداوية، ونظامه الكابوسي.

ـ انطلقت في السويداء مؤخراً حركة احتجاجية، عالية السقف، كيف تنظر إلى الظاهرة في سياقها السوري، وفي سياق ما سعى إليه النظام من خلال اصطناع “حلف الأقليات”، وما توقعاتك المستقبلية حيال هذا الحراك، وتحركات أخرى قد تنشأ على خلفية تدهور الوضع الداخلي في سوريا؟

قلت في أحاديث سابقة إن الثورة قد انتصرت في الوقت ذاته الذي نجحت فيه في الاستمرار وتحدي نظام القهر الأسدي، لأن نزول الشعب إلى الساحات والشوارع كان لوحده، بصرف النظر عما حصل فيما بعد وما يمكن أن يحصل، تجسيدا لإنكسار سيف الترويع والإرهاب، الذي اقام عليه الأسد سلطته، من خارج السياسة وبدفنها. بمعنى آخر كانت الثورة وتظاهرات المخاض الذي اعلن عن ولادة الشعب كقوة مستقلة وحرة وقادرة على الفعل. ومنذ ذلك الوقت، ولدت السياسة المغتالة من جديد، وتغيرت معادلة القوة، ولم تعد هناك سلطة مطلقة واحدة، تفرض إرادتها بقوة السلاح وأجهزة القمع، وإنما برزت في مواجهتها قوة جديدة ثانية غيرت قواعد اللعبة السياسية الى الأبد. منذ الآن تشكل الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات والمسيرات لغة الشعب السياسية الأولى والأساسية في مواجهة اي سلطة، وللتعبير عن إرادته الحرة التي قامت الديكتاتورية الدموية على إلغائها. وهذه هي في الواقع، حتى الآن على الأقل، هي الثمرة الوحيدة الناضجة للربيع العربي بأكمله. دخول الشعب إلى المسرح واكتشافه لغة السياسية، الابسط والأوضح والاقوى معا، أي التظاهرات الحاشدة، للتعبير عن إرادته الطالعة من تحت الارض. ومنذ الآن ولفترة طويلة قادمة ستكون هذه التظاهرات الجماعية والمسيرات الحاشدة، مصطلحات السياسة الأقوى تعبيراً عن التغيير الذي احدثته الثورة، وبشكل ما عن استمرارها أيضا، عبر قنوات النضالات السياسية المدوية. وعلى جميع من يتطلع إلى العمل السياسي في سورية المستقبل، وفي بلاد العرب جميعا، بعد اليوم، أن يتعلم الإنصات إلى أنغام هذه التظاهرات والحشود ووقع اقدام صناعها. فهنا تكمن السياسة، ومن هنا سيولد المستقبل. ستظل الشعوب تقاتل بأقدامها، حتى تحقيق جل مطالبها، بصرف النظر عن طبيعتها، أكانت مطالب سياسية، أو اجتماعية أو اقتصادية.

ـ وقعت مؤخراً على بيان يرفض انفراد قوات سوريا الديمقراطية بتقرير مصير ومستقبل الجزيرة السورية، من خلال اقتسام السلطة والثروات بين أحزاب كردية مختلفة، ووضع مبادئ دائمة لعملية صنع القرار، تستثنى بقية مكونات الشعب السوري، ما هي برأيك الطريقة الأفضل للتعامل مع المسألة الكردية في سوريا؟

ـ الكرد جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، وضمهم الى مسيرة التغيير الثوري المنشود، والقادم، لا محالة مهمة رئيسية أيضا، تقع على عاتقنا وعاتق أي وطني سوري، بصرف النظر عن الخلافات التي برزت أو يمكن أن تبرز مع بعض التشكيلات السياسية الحزبية أو الحركات أو التيارات القومية المتشددة هنا وهناك. وكما أن علينا أن نتفهم تطلعات الكرد القومية عموما، أعني في سورية وغيرها من بلدان الجوار، علينا أيضا أن نصارح الكرد فيما يمكن للسوريين أن يقدموه من مساعدة لهم، وما لا يمكنهم فعله. وكما قلت في محادثاتي مع بعض ممثلي أحزابهم، إن الحل العادل للقضية الكردية العامة هو اقامة دولتهم القومية الواحدة، التي تعبر عن هويتهم وإرادتهم الجماعية.

لكن ليس بإمكان سورية والسوريين أن يجعلوا من تحقيق هذا الهدف أجندة سياسة وطنية سورية، أو أن يشاركوا فيها في الوقت الذي تتعرض سورية نفسها لانتهاك صارخ لسيادتها وتقاوم، كالعين في مواجهة المخرز، قوى الاحتلال المتعدد، وتكافح من أجل وحدتها واستقلالها وحرية شعبها. كما أنني لا أعتقد أن كرد سورية قادرين أن يحملوا عبء القضية القومية الكردية بأكملها، كما يحاول بعضهم أن يفعل الآن، لأن ذلك سيكبدهم خسائر لا طاقة لهم بها، من دون أن يكون هناك في المقابل أي أمل بتحقيق تقدم مهما كان.  ما تستطيع أن تقدمه سورية الحرة، القادمة لا محالة، هو حل عادل للقضية الكردية السورية، أي لمواطنيها الكرد السوريين، سواء برفع الغبن الذي كان واقعا عليهم، كما كان عليه الحال، في الواقع، على كل سكان المحافظات الشرقية، أو بتحقيق أمانيهم في أن يكون لهم حكم محلي ذاتي في المناطق التي يشكل فيها الناطقون بالكردية أكثرية بين السكان، بحيث يمكنهم إدارة شؤونهم وتعليم لغتهم والتفاعل مع ابناء جلدتهم.  وترجمة هذا الحل في سياق العمل المشترك بين جميع السوريين للخروج من المحرقة واعادة بناء سورية ديمقراطية تعددية هو أن يميز الكرد بين القضية الكردية، التي تعنى بمصير كرد سورية، وقضية الإدارة الذاتية الحالية التي تغطي مناطق واسعة، ليس ولا يمكن للكرد السوريين أن يكون لهم طموحات لضمها الى مناطقهم الذاتية. فالحل العادل الذي يضمن حقوق الكرد هو نفسه الذي ينبغي أن يضمن ايضا حقوق القوميات والجماعات الوطنية الأخرى.

بمعنى آخر مثلما يتوجب على السوريين الاعتراف بحقوق الكرد كمجموعة قومية متميزة في سورية، على الكرد السوريين أن يعترفوا أيضا بحقوق المجموعات الأخرى. وفي هذه الحالة لا يمكن اعتبار الوضع الراهن الناجم عن أزمة الدولة السورية حلا نهائيا، ينبغي تكريسه وانما هو تعبير عن سلطة امر واقع، ينتهي مفعولها حالما تستعيد سورية سيادتها، ويقرر الشعب السوري كشعب واحد مصيره، عبر مؤسساتها الشرعية التي يقرها باجتماع كلمة أطيافه القومية والدينية والمذهبية والمناطقية كافة، ويحدد شكل الدولة التي يريد انشاءها، مركزية أو شبه مركزية، أو اتحادية أو فدرالية. هذا حقه وهو صاحب قراره، ولا يمكن لأحد، جماعة او دولة أجنبية، أن ينتزعه منه، أو يتخذه مسبقا بدله. وبعبارة واحدة: مستقبل الكرد يقرره الكرد أنفسهم، أما مستقبل سورية والسوريين فحسمه من حق السوريين جميعهم.

ـ قال جيمس جيفري، المبعوث الأميركي إلى سوريا، قبل يومين من الآن، إن بلاده قدمت عرضاً لبشار الأسد للخروج من الأزمة الحالية، ماهو بتقديرك هذا العرض؟ وهل سيقبل النظام به لتخفيف عقابيل الضغط الأميركي على الشعب السوري؟

ليس لدي أي فكرة عن هذا العرض، لكنني أتوقع أنه يحمل تطمينات للأسد إذا قبل بالتخلي عن الحكم والرحيل الارادي. لكنني لا أعتقد أن الأسد يمكن أن يثق بأحد، بعد ما ارتكبه من جرائم لم يسبق لحاكم أن ارتكبها من قبل، في التاريخ. حصل أن دمرت جيوش الغزاة بلادا أجنبية لضمها إليها، لكن لم يحصل أن دمر حاكم بلاده على رؤوس سكانها. حتى المحتلين.

أعتقد أننا مقبلون على أحداث جسام، وأن ما بدأ بكارثة، أعني الحرب على الشعب للإبقاء على النظام، لن ينتهي إلا بكارثة ثانية، هذه المرة بخصوص النظام نفسه.

سيدرك العالم الذي تعامل مع بشار الأسد حسب فرضية الضغط عليه من أجل الإصلاح، ثم من أجل تعديل سياساته، أنه ليس أمام شخص قادر على المحاكمة العقلانية، والأخذ والرد وتبادل المصالح، وإنما أمام كتلة صلدة من الغرائز والأهواء، لا تترك لصاحبها إلا منطق رد الفعل والعناد والإنكار، ومع ذلك ادعو واتمنى وارجو، أن أكون مخطئا، وأن ينجح بشار في التغلب على مخاوفه وأوهامه واحقاده، ويقبل بعرض من يشاء، من الروس أو الامريكيين ويقرر أن يكتب فصل الختام بأقل ما يمكن من الدماء.

الجسر

———————————-

برهان غليون: أربعة ظروف جعلت مصير ثورة سوريا مختلفا عمّا سواها

باريس – تلفزيون سوريا -حاوره أحمد صلال

الدكتور برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، والكاتب والمؤلف والناشط السياسي معا، هو آخر جيل المفكرين السوريين المخضرمين الذين واكبوا كفاح الشعب السوري والشعوب العربية الأخرى منذ عقود طويلة من أجل الحرية، فكان كتابه بيان من أجل الديمقراطية فاتحة إنتاجه الفكري، وما سوف يتحول إلى التزام تجاه قضية الديمقراطية والحرية في جميع ما سوف يكتبه في المستقبل. وهذا هو المسار الذي سيقوده إلى رئاسة أول مجلس وطني سوري مثّل الثورة والمعارضة بعد أشهر من اندلاع ثورة الكرامة والحرية المجيدة، والتي عاين عثراتها “غليون” عن كثب بكتابه “عطب الذات”.

 هنا حوار أجراه موقع تلفزيون سوريا معه حول مصير الثورة السورية وبعض قضاياها الراهنة.

1- بعد مرور أكثر من تسع سنوات، ورغم الدّم الغزير، لم يقطع السوريون بعد كل المسافة التي تفصلهم عن إسقاط النظام ونيل الحرية. إلى ماذا تعزو ذلك؟

لكنهم قطعوا مسافة كبيرة حتى الآن. فما كان اسمه نظام الأسد تحول إلى رسم دارس لم يمح ولا ينبغي أن يمحى من ذاكرة الأجيال وإنما أصبح من الماضي. وجميع الأطراف المنخرطة في الصراع تتسابق على الأشلاء وتتقاسم الغنيمة. لكن بالتأكيد لا يزال أمام السوريين طريق طويلة يقطعونها قبل أن يحققوا هدفهم الأكبر في بناء نظام الحرية والعدالة للجميع ويعيدوا إعمار ما دمره الأسد وحلفاؤه.

وقد كنت دائما أردد أن ما جعل مصير الثورة السورية تختلف عن مصير ثورات الربيع العربي المشابهة هو أنها عانت من تقاطع أربعة ظروف استثنائية. الأول نوعية نظام الأسد الذي كنت أطلقت عليه اسم الانقلاب الدائم. فهو لم يسحب السلاح من الشارع في أي يوم وعاش على الهجوم منذ تأسيسه. لم يبحث حتى عن شرعية سياسية ولكنه اختار عمدا القهر والإذلال والعنف المجاني بهدف الإرهاب والردع. كان نظام حرب استباقية دائمة على الشعب والمجتمع. وتحالف من أجل الاستمرار في هذه الحرب مع جميع القوى التي تخشى نهضة الشعوب العربية وعودة الحياة الحرة إلى سوريا، من إسرائيل إلى إيران إلى دول الخليج إلى الدول الغربية، والتي راهنت على حكم أقلوي، ليس بالضرورة طائفي، يقمع الشعب ويشل حركته. وهذا ما أنتج نظاما مسعورا وليس متوحشا فحسب، لم يخرج من عباءة الأحكام العرفية وقانون الطوارئ طوال وجوده، أي لم يفكر ولم يقبل الانتقال أبدا من حالة الاستثناء إلى حالة طبيعية مهما كانت حدود التطبيع أو شكليته. وكان دائما جاهزا ويده على الزناد للقضاء من دون رحمة على أي نفحة استقلال للأفراد أو حتى حياد، فإما أن تكون معه أو ضده، وفي النهاية فجر كأي إرهابي حزامه الناسف ليقضي على الشعب والدولة والبلاد تحت أنظار المجتمع الدولي الذي بقي في موقف المتفرج.

والثاني اصطدام حلم التحرر السوري بإرادة السيطرة الإيرانية الإقليمية التي أعطاها انهيار العراق البعثي، والاستحواذ على موارده الهائلة، والأزمة المتفجرة التي تشهدها الدول العربية عموما، شعورا بأنها أمام فرصة تاريخية لا تفوت لاستعادة مجد الإمبراطورية الفارسية القديمة، وتحقيق حلمها في التهام المشرق بكامله وإلحاقه بها وتحويل نفسها، باسم الدفاع عما سمته بالعتبات المقدسة وتحرير الأراضي المحتلة، إلى قوة إقليمية كبرى تقارع الدول الغربية وتتحكم بمفاتيح إحدى أكبر المناطق حساسية من الناحيتين الجيوسياسية والاستراتيجية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف لم توفر طهران جهدا، ولا ترددت أمام استخدام أي وسيلة دينية أو عسكرية بما في ذلك حرب الإبادة الجماعية. وقد كانت أكثر من شجع الأسد على الذهاب قدما في عملية التدمير المنظم للعمران السوري والتهجير المنهجي للسكان ومحو معالم القرى والأحياء والمدن والبلدان.

والثالث دخول روسيا على خط المأساة السورية، الإقليمية والسياسية، لاعبا رئيسيا، واستغلالها أو الانطلاق منها في سبيل إعادة ترتيب علاقاتها واستعادة مكانتها الدولية على صعيد النظام العالمي، والانتقام لنفسها من التكتل الغربي الذي رفض إدماجها في نظامه وسعى إلى تهميشها ومحاصرتها وفرض العقوبات الاقتصادية عليها كما لو كانت دولة من الدرجة الثانية أو الثالثة. لقد نظرت موسكو إلى سياستها السورية الجديدة كتحد وردا على التحدي الغربي وتهديدا محتملا لمصالحه في البحر الأبيض المتوسط بكامله. ولم يعنها ولا نظرت بأي عين إلى قضية الشعب السوري ومصالحه ومستقبله. وهذا ما لا يزال يحكم موقفها إلى اليوم.

والرابع انكماش الغرب الأميركي والأوروبي على الصعيد العالمي وانكفاؤه على نفسه بعد حقبة طويلة من المغامرات الفاشلة والمكلفة في أفغانستان والعراق وليبيا والصومال، وإخفاقه في سياسة احتواء إيران، وتراجع اهتمامه بالشرق الأوسط عموما مقابل توجيه أنظاره ومحور استراتيجيته الدفاعية نحو الشرق البعيد لمواجهة أخطار صعود الهيمنة الصينية في آسيا والمحيط الهادي لكن أيضا على صعيد السباق العلمي والتقني والاقتصادي والعسكري.

ومن الطبيعي ألا تستطيع الأمم المتحدة أن تقوم بأي دور فعال أمام هذا التقاطع الاستثنائي للعوامل السلبية، ولا تنجح في حلحلة عقدة ما سوف يتحول إلى “أزمة سورية” مستعصية، تتجاوز رهاناتها وأبعادها الإقليمية والدولية رهانات جميع السوريين وتهمشهم جميعا، حتى إنه لم يبق لهم في النهاية، الثائرين والموالين معا، دور آخر سوى العمل كأدوات في خدمة استراتيجيات القوى الأجنبية، والعمل على أجنداتها. هذا ما يفسر الوضع الذي نعيشه اليوم والذي نقف فيه متفرجين، لا حيلة لنا ولا قدرة على التأثير، ولو بالقليل، في تقرير مصيرنا الذي تصنعه لنا القوى الأجنبية المتنافسة.

2- لماذا تصرّ موسكو وطهران على دعم النظام إلى هذا الحد؟

لا ترى طهران وموسكو وأي دولة أخرى النظام من زاوية ممارساته في الداخل وتنكيله بشعبه ولكن من خلال ما يمكن أن يقدمه لها من خدمة في صراعاتها الخاصة، ومن أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية على المحورين الإقليمي والدولي. فهو مجرد ورقة تلعبها وتتمسك بها العاصمتان طالما كان ذلك يخدم مصالحها. وهذا أيضا وضع سورية بكاملها، ومصيرها، دولة وشعبا، في لعبة إعادة التموضعات الاستراتيجية الجهنمية هذه.

3-   وكيف تفسّر التردّد الأميركي؟ وهل من فارق بين الموقف الأميركي والمواقف الأوروبية خاصةً الموقف الفرنسي؟

لا أعتقد أن الإدارة الأميركية كانت مترددة في الموقف من الثورة حتى لو بدا عليها ذلك. في الواقع كانت إدارة الرئيس باراك أوباما منخرطة قبل الثورة في عملية مفاوضات تعتبرها استراتيجية مع طهران بهدف إيجاد حل يوقف أو يحد من تقدم إيران في إنتاج التقنية النووية ويحول دون إنتاجها للقنبلة النووية، وإعادة استيعابها في المجموعة الدولية، مما يعني توفير حرب على الولايات المتحدة للقضاء عليها كما كانت تطالبها دائما حليفتها الإقليمية الرئيسية إسرائيل. وقد فاجأت الثورة السورية أوباما وجاءت في لحظة حرجة ما كان يقبل فيها التراجع عما حققته له المفاوضات من مكاسب سياسية عامة وشخصية. لذلك رفض منذ البداية أن يوليها أي أهمية، وربما استاء من اندلاعها في تلك الفترة، وأشاح بنظره عنها قبل أن تضغط عليه الدول الأوروبية، أمام مشهد المجازر وجرائم الحرب التي تفاقمت في سوريا، فأجبر على إطلاق بعض التصريحات المنددة بالأسد. لكنه لم يقم بأي إجراء جدي، وحتى عندما استخدمت الأسلحة الكيميائية لَحَسَ بالمعنى الحرفي للكلمة، الخط الأحمر الذي رسمه لدمشق إذا استخدمتها. وبعد أن قبل برصد بعض الدولارات لدعم المعارضة، وللتغطية على فعلته المشينة عاد فسحبها وعطلها بعد أشهر معدودة. وأعلن رسميا في أكثر من تصريح بأنه لا يملك أي استراتيجية تجاه المسألة السورية. وقد فضح تعليقه على نتائج اجتماعه ببعض قادة الائتلاف المعارض قبل نهاية ولايته رؤيته الحقيقية للأمر عندما صرح للصحافة أن مزارعين وأطباء أسنان لا يصنعون ثورة أو دولة.

إدارة الرئيس دونالد ترامب غيرت موقفها ونظرتها لسوريا، لكن ليس من منطلق ملاقاة التطلعات الشعبية السورية أو التعاطف معها وإنما من منطلق مواجهة روسيا أو عدم السماح لها بأن تفرض هيمنتها في منطقة متوسطية كانت لها فيها ولا تزال السيطرة الرئيسية. وربما فكر بعض خبرائها بتحويل سوريا إلى مستنقع للرئيس الروسي بوتين. لكن في النهاية استقرت السياسة الأميركية على تشارك الأعباء بين واشنطن وموسكو لضبط الأوضاع والإمساك بها ومحاربة الإرهاب وتجنب كارثة إنسانية هي الوجه الأبرز للأزمة اليوم. لكن ليس لكل ذلك أي علاقة بدعم الشعب السوري في مواجهة الإبادة الجماعية أو حتى التعاطف مع قضيته وتضحياته من أجل الحرية. ولا يخرج تدريب ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتجهيزها ودعمها وتمكينها من السيطرة على موارد المحافظات الشرقية في الجزيرة السورية إلا في إطار هذه الأهداف وجزءا من هذه السياسة وتكملة لها.

بالمقابل أظهرت أوروبا في الملف السوري، كما كان حالها في أزمة البوسنة والهرسك من قبل، أنها عالة على واشنطن في سياستها الشرق أوسطية، وليس لديها أي مبادرة مستقلة، لأنها لا تملك أيضا القوى العسكرية والاستراتيجية المستقلة التي تمكنها من اتباع سياسة خاصة بها في أي أزمة دولية تنخرط فيها قوى كبرى، كروسيا أو الصين وغيرهما. ولا يتجاوز دورها في سوريا اليوم أيضا تقديم الدعم للميليشيات الكردية التي لا تعرف ماذا سيكون دورها في المستقبل، ولا تفكر في كيفية إدماجها في النسيج الوطني السوري، وتطلب منها، بعد أن أصبحت دولة داخل الدولة، بجيش وعلم وأجهزة أمنية وإدارة ذاتية وموارد استثنائية، مشاركة السلطة مع أكثرية هجرت الحروب المتواصلة معظم إن لم يكن جميع نخبها السياسية والثقافية والاقتصادية ودمرت مؤسساتها وبنياتها الاجتماعية بما فيها القبيلة والعشيرة والعائلة.

4-عطفاً على السؤال السابق، كيف يُمكن قراءة المواقف العربية والتركية، وماذا عن الموقف القطري والسعودي؟

العرب، أعني الحكومات العربية، ينقصهم التنسيق والمتابعة حتى عندما يتعلق الأمر بمصالح وطنية خاصة بهم. بالإضافة إلى التخبط السياسي والإيديولوجي والافتقار لرؤية واضحة استراتيجية ولخطط مدروسة وعقلانية. ولذلك تبدلت مواقفهم وتنوعت: من الدعم إلى الانكفاء إلى محاولة العودة إلى النظام. أما تركيا فتصرفت كدولة تعرف بوضوح مصالحها الوطنية وتدافع عنها، وتحدد أهدافها في المواجهة السورية بما يخدم هذه المصالح، وتعيد صياغة استراتيجيتها وخططها حسب تغير الواقع الميداني والسياسي. وهي القطر الوحيد الإقليمي الذي نجح في البقاء إلى نهاية الشوط ليشارك الكبار في مناقشة التسوية النهائية للأزمة السورية وربما الإقليمية. على الأقل كما يبدو حتى هذه اللحظة وبعد تسع سنوات من الصراع.

وفيما يتعلق بالدول العربية الأخرى يمكن القول إنه لم يبدر عنها “لا حس ولا إنس”، باستثناء الفترة الانتقالية التي عرفتها مصر بعد ثورة يناير 2011، والتي انتهت بانتخاب محمد مرسي رئيسا للجمهورية، وتنظيم القاهرة في عهده مؤتمرا لدعم الثورة السورية توج بالنداء لنصرة المجاهدين وترسيخ الفكرة الخاطئة عن القضية السورية بوصفها قضية دفاع عن الإسلام والأمة الإسلامية. بعد استعادة الجيش للسلطة بقيادة عبد الفتاح السيسي جنحت مصر إلى موقف المهادنة للنظام ثم دعوة الدول العربية لإلغاء قرار تعليق عضويته في جامعة الدول العربية.

5- تصف في إحدى مقالاتك أوجه الشبه بين نظامي القذافي والأسد. لماذا سقط الأول ولم يسقط الثاني بعد؟ ألم يكن من المُفترض أن تقود أوجه الشبه الاستبدادين إلى نفس المآل؟

يتشابه النظامان في كونهما اعتمدا الترويع وتفتيت المجتمع وتحطيم أضلاعه وإلغاء السياسة وتفتيت المجتمع المدني وإخضاع جميع المؤسسات لسلطة ميليشياوية: وهي في سوريا المخابرات التابعة مباشرة للرئيس والتي تعمل من خارج القانون، وفي ليبيا ميليشيا اللجان الشعبية التي يقودها القذافي مباشرة، والتي حلت محل مؤسسات الدولة وسحقتها. وكلا النظامين اشتركا في المزاج الدموي والاستعداد لاغتيال المعارضين والمحتجين أو تغييبهم، ونظروا إليهم كفئران وحشرات ومتآمرين، ولاحقوهم أينما كانوا “زنغة زنغة ودار دار”، كما قال القذافي في إنشاده الأخير، باختصار كلاهما راهنا على بث الفوضى وحكما من خلال نشرها والتحكم بإدارتها والتعليق الدائم للدستور ولحكم القانون.

الفارق الأكبر لم يكن في منهج الحكم ولكن في أمرين: موقع القطرين الجيوسياسي الإقليمي خاصة، والطريقة التي تم فيها إسقاط النظام والقوى التي دفعت إليه وشاركت فيه. وقد ذكرت لك للتو المعضلة الجيوسياسية الكبرى التي وقعت فيها الثورة في سوريا في تقاطع نيران عدوة، وحيثيات الصراع فيها وعليها، من قبل الدول الإقليمية والعالمية، وتناقض المصالح الذي بدأ يظهر منذ البداية. أما ليبيا فقد شهدت تدخلا عسكريا مباشرا أسقط النظام بالقوة منذ البداية بمبادرة فرنسية ثم أوروبية أميركية، وقضى على معمر القذافي شخصيا، وسلم الحكم إلى مجلس انتقالي قبل أن تتفجر أزمة النظام الجديد نتيجة التدخلات المتقاطعة والمتناقضة للدول المتنازعة على اقتسام المصالح والسيطرة على منابع الطاقة الكبرى والموقع الاستراتيجي الليبي هناك.

يمكن القول إن المقارنة بين الحالتين تظهر حالة متشابهة لكن معكوسة تماما. فالتدخل الأجنبي جاء مبكرا جدا في ليبيا، لكن لغير صالح النظام ولقطف ثمرة الثورة الشعبية، وحرم القذافي من متعة قتل الليبيين وتدمير مدنهم على رؤوسهم، بينما جاء في سوريا مبكرا أيضا لكن لصالح النظام الحليف، وبقوة ومن دون شروط، للدفع نحو الحرب الأهلية وقطف ثمارها وتفكيك سوريا، مما سمح للأسد أن يفتك بشعبه ويحرق البلد كما هدد من قبل. لكن يمكن القول إن النتيجة ستكون متشابهة: يعيش القطران العربيان اليوم حالة أصبح فيها كلاهما ساحة للصراع بين الدول الإقليمية والعالمية، وغنيمة حرب تتغذى منها وعليها جميع القوى المحلية والأجنبية التي تتنازع على تقاسم أشلائها. ويبقى أن المسار الليبي قد وفر على ليبيا ما شهدته سوريا على يد الأسد وحلفائه من إبادة جماعية وتدمير منهجي للمدن والبنية التحتية ومن تهجير وتشريد لا سابق له في التاريخ لأكثر من 12 مليون إنسان.

6- يبدو الكفاح العسكري في سوريا اليوم ذا هوية إسلامية. لماذا صارت هذه الهوية شبه وحيدة في منطقتنا منذ أواخر الثمانينات؟

هذا صحيح. فالشعارات والأفكار والأهداف التي تحتل أو يبدو أنها تحتل واجهة مسرح الأحداث التي تشهدها المجتمعات العربية اليوم تكاد تكون إسلامية أو إسلاموية، أي مرتبطة بالإسلام. لكن ليس لهذا في نظري علاقة بوجود أي مشروع إسلامي منظم قابل للحياة. يملأ الجو أو المناخ الإسلامي بأشكاله المختلفة والمتناثرة والمتناقضة أيضا، الدينية وغير الدينية، جملة من الفراغات التي نجمت عن إفلاس النظم والمشاريع التحديثية العربية التي أصبح نموذجها الأعلى والأوضح نظام الأسد الذي انتهى إلى وضع الدولة في خدمة الإبادة الجماعية للشعب ذاته ولم يتردد في التصريح بنواياه وأهدافه.

الفراغ الأول هو الذي نجم عن انهيار الإيديولوجية القومية العربية وتراجع صدقيتها بعد فشل أو إجهاض مشروع الوحدة العربية السورية المصرية بعد انفصال عام 1961، وهزيمة حزيران/يونيو 1967 الكارثية. وبانهيارهما فقدت الشعوب العربية أو الجمهور الشعبي الواسع الإيديولوجية التي كانت تغذي مخيلة الجمهور العربي وتجعله يحلم، وتوجه الأفراد وتنظم التفكير والوعي السياسي والاجتماعي، وتعطي للجمهور الواسع رؤية وهدفا واضحا للمستقبل. فلا يوجد شك في أن الشعوب العربية راهنت، منذ الخمسينيات، على الفكرة القومية كمرشد للعمل المجزي والناجع في مواجهة التحديات الكبرى التي كانت تواجهها، وأعني بها التوسع الاستيطاني اليهودي في فلسطين وتوجيهه أكثر فأكثر تحديات وجودية لأمن الدول العربية واستقرارها وصدقيتها السياسية، وتفاقم الضغوط والتدخلات الغربية في المنطقة وتهديدها سيادة الدول الحديثة واستقلالها، وتعثر التنمية الاقتصادية وخسارة الثورة الصناعية التي كانت وحدها كفيلة بخلق فرص العمل الضرورية للأجيال الجديدة الصاعدة، والتي تتجاوز نسبتها من السكان 60 بالمئة، واستعادة الكرامة القومية التي هدرها الخضوع للاستعمار وتشوش أو اختلاط الشعور بالهوية تحت حكم السلطنة العثمانية الكسموبوليتي المديد.

والثاني كان نتيجة صعود أنظمة حكم تفتقر لأي شرعية سياسية ورأت في استخدام الورقة الدينية وعلماء الدين أيضا ستارا لإخفاء هذا الفراغ والتستر عليه. ولا يوجد شك هنا أيضا في أن النظم العربية التي جاءت بعد خسارة حربين وفشل ناجز في تحقيق أي هدف من الأهداف التي أعلنتها، لا الوحدة ولا الحرية ولا الاشتراكية أو التنمية، والنظام السوري في مقدمتها، قامت بجهد استثنائي لترسيخ قيم الثقافة الموروثة أو التراثية وعنيت بتمويل بناء المساجد والجوامع، وتشجيع الجمعيات الدينية، الصوفية والنسوية وتمويل ما سمي في سوريا بمكاتب تحفيظ القرآن التي قدمت تعليما دينيا معلبا تحت إشراف المخابرات والأجهزة الأمنية.

وكان الهدف من ذلك التعويض عن إفلاسها التاريخي وإشغال الشباب عن رؤية هذا الإفلاس أو التفكير فيه وعن العمل الاجتماعي والسياسي، وتوجيههم نحو ثقافة دينية تتمحور حول التقى والعبادة الفردية والتزود بالحسنات استعدادا ليوم الحساب. ولم يكن الدافع إلى ذلك حرص النظم على الدين أو المتدينين وإنما لحجب أنظارهم عن المسائل الاجتماعية وإبعادهم عن قنوات التواصل والتفاعل مع قيم ومبادئ المجتمع الحديث ومعاني المواطنة والمسؤولية العمومية والحرية والحق والقانون والتضامن الوطني، من وراء التعدد الطائفي والأقوامي. وهذا هو الدافع أيضا لحرص النظم على شراء ذمم القسم الأكبر من أصحاب المناصب “الدينية” أو الشرعية، واستخدام جميع هؤلاء صمام أمان لضبط المجتمع الشعبي والأجيال الشابة والتحكم بها، رجالا ونساء وإبعادها عن السياسة والتفكير في السلطة وطرق ممارستها.

فالواقع أنه لم يكن أمام النخب الحاكمة المفلسة سوى طريقين للتغطية على حكم القوة وكسب خضوع أو عدم اعتراض الجمهور والشعب، الأول هو مشاركته الشكلية والانفتاح عليه فيما يشبه العودة إلى حياة ديمقراطية بالحد الأدنى، لكن بمخاطر أن تتحول اللعبة إلى واقع حقيقي مع الوقت، ويتعلم الناس السياسة، أو الخيار الثاني التلاعب بالمشاعر والعواطف الدينية وكسب ولاء رجال الدين والطرق الصوفية والجمعيات الدينية والظهور بمظهر المدافع عن الدين والمقدسات والقيم الذاتية والهوية. ولنتذكر أنه في الفترة ذاتها ظهر أيضا لقب خادم الحرمين وحرص رؤساء دول أقوياء على وضع اسم محمد قبل اسمهم الأصلي وصار معظمهم يؤودون صلاة الجمعة في الجوامع مع المؤمنين الأتقياء.

من دون استثناء اختارت النظم السياسية العربية الطريق الثاني، ما عدا ربما بعض الانفتاحات في المغرب الأقصى، مع حكومة التناوب التي رأسها وعمل من أجلها المرحوم عبد الرحمن اليوسفي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض. وجميعها عوضت الإيديولوجية القومية ثم الاشتراكية بثقافة تقليدية محافظة دينية، وبعضها عزز من نفوذ هذه الثقافة بإحياء النعرة المذهبية والطائفية والقبلية، وأضاف إليها عبادة الشخصية العبقرية والملهمة، كما فعل حافظ الأسد، فضمنوا بذلك ألا تكون هناك حاجة للتفكير في السياسة، ولا حتى حاجة للسياسة نفسها. وفي سوريا تبنى النظام شعار: “سوريا الله حاميها”، وهذا يعني أنها ليست بحاجة لتفكير أحد والله كفيل بحمايتها وإدارة شؤونها. وبهذا سدت الطرق على ظهور أي أفكار نقدية أو على تطور أي تيارات معارضة حديثة سواء أكانت يسارية أو ليبرالية أو ديمقراطية. هذه كانت خطط النخب الحاكمة لمحاربة الشعب ومحاصرة الجمهور وتغييبه، حتى لا يفكر بما تفعله به وحتى تفعل به ما تشاء بمباركة كبار رجال الدين.

وهكذا سادت “ثقافة جديدة” بطابع ديني أو إسلامي، هي مزيج متنوع ومتعدد الأشكال والغايات والمشارب والمجالات من المشاعر والأفكار والرغبات والمهارب، لدى الجمهور العريض ولا تزال في معظم البلاد العربية. وهي اللغة الوحيدة التي يتداولها العرب ويتعرفون على بعضهم ومجتمعهم وعالمهم من خلالها ولا يزالون. ومن لا يعرفها ولا يتمثلها يصبح غريبا عليهم حتى لو كان أخا شقيقا أو ابن الأسرة والعائلة.

أما النقص الثالث الذي استدعى بعث الإسلاموية أو استنفار تراث الدين فقد كان افتقار النظام الإيراني المحاصر من قبل الغرب لقضية يبرر بها سياسة التوسع والانقضاض على المشرق العربي المتأزم لتوسيع نفوذ طهران وفك العزلة عنها وفرضها قوة إقليمية عظمى لا مهرب للتكتل الغربي والأطلسي من الحوار والتفاهم معها على شؤون المشرق بكامله. فكانت القدس ثم الدفاع عن الإسلام والعمل باسم الإسلام القضية الكبرى التي تبرر وتشرعن حروب توسع تستدعي الزج بمئات آلاف الشباب وحرقهم في أتونها.

وفي هذا السياق تبنى الحكم الإيراني استراتيجية الحرب الدينية أو الطائفية وعمل على تغذيتها بتوتير الأجواء بين السنية والشيعية، وإطلاق مئات الجهاديين السلفيين من السجون السورية، ومن سجن أبو غريب في العراق، لتنظيم ميليشيات طائفية سنية تبرر إنشاء الميليشيات الطائفية الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية والعربية وغيرها.

والرابع خواء القوى الديمقراطية عموما، بجميع تياراتها الفكرية، والقطيعة البنيوية التي رعتها النظرة العلمانوية القاصرة للعلمانية بين النخبة المثقفة والجمهور الشعبي، ونزعة الاستعلاء والترفع الذي وسم موقف هذه النخبة إزاء الثقافة الشعبية المحلية. فقد عزل توجس النخبة الحديثة من الانخراط مع الشعب المثقفين أنفسهم، وأبقى الثقافة الحديثة ومفاهيمها ومعانيها قشرة رقيقة على سطح ثقافة دينية مشوشة ومفرغة من محتواها، في الوقت الذي كان النظام يعمل لإفساد هذه الثقافة نفسها بتحويلها إلى ثقافة طائفية تقوض استقرار المجتمع ووحدته من الداخل، وتمكنه من استخدامها لتحييد الشعب وتوجيه نقمته بعضه لبعض، وترك النظام بعيدا عن المشكلات والاحتجاجات، حتى اعتقد أصحابه بالفعل أنهم أصبحوا مؤبدين ومؤلهين، ولا شيء يمكن أن يزحزحهم عن عروشهم، وأنهم نجحوا في وضع الشعب بكاملها كالصراصير في زجاجة وصار بإمكانهم أن يلعبوا به ويدفعونه إلى الدوار والإغماء متى أرادوا.

 سياسات “أسلمة الفضاء العام” الموجهة هذه كانت جزءا لا يتجزأ من سياسات التعقيم الفكري والسياسي التي مارسها النظام الاستبدادي، والتي لم تترك للشعب الذي قطعته، ثقافيا وعمليا، عن العالم لأكثر من نصف قرن، مرجعية فكرية يستند إليها في كفاحه الدموي بل في تعرفه على ذاته وأصدقائه وخصومه سوى ما يقوله الزعيم الملهم أو المفتي أو الشيخ المعمم السلطان.

وأخيرا، ينبغي أن ندرك أن “الإسلام” لم يعد يقتصر كاصطلاح على مفهوم ديني فحسب، أي يشير إلى منظومة عبادات، ولكنه بسبب ارتباطه بحضارة عريقة تحول إلى ثقافة متعددة الجوانب والمجالات، هي الوحيدة التي لا يحتاج الفرد كي يمتلكها ويستخدمها لبناء مواقفه الوجودية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية إلى جهد استثنائي، أو استثمارات مادية وزمنية كبيرة لتحصيلها. إنها متوفرة مجانا لمن يريد وفي كل مكان. بينما يحتاج تملك الثقافة الحديثة إلى موارد وجهد كبير وعمل على الذات، وأنماط تثقف وتفكير وقراءات في الكتب والصحافة لا تكاد معظم المجتمعات الفقيرة توفر منها شيئا لأفرادها. الثقافة الحديثة مكلفة ولها ثمن، بينما الثقافة الدينية والتقليدية عموما متاحة للجميع ومن دون ثمن وجاهزة للاستخدام في كل المجتمعات.

7- هناك من يريد أن يطيح بتسمية “الثورة” واستبدالها بمسمّى “حرب أهلية” في توصيفه لما يجري في سوريا. ما هي أسباب ذلك وما هي نتائجه إن تعمّم؟

هناك مصدران لهذه التسمية. الأول بريء نابع من التقاليد الفكرية اليسارية، والماركسية بشكل خاص، الذي يرى في الحرب الأهلية مدخلا ضروريا للتغيير باعتباره انقلابا تاريخيا تقضي فيه طبقة صاعدة وحاملة لقوة الزخم والتقدم التاريخي على طبقة سائدة تجاوزها التاريخ ولم يعد لوجودها مبررا ولكنها من المستحيل أن تتخلى عن موقعها من دون قتال. وهذا هو السبب في إطلاق ماركس عنوان الحرب الأهلية في فرنسا على ثورة كومونة باريس وما رافقها من قمع عام 1871.  فالثورة الاشتراكية هي حرب طبقة ضد طبقة. وبهذا المعنى استخدمها بعض المحللين من اليسار الرديكالي العربي والعالمي.

والمصدر الثاني هو نقيض ذلك، أي وصف أحداث الثورة السورية بالحرب الأهلية على سبيل رفض الاعتراف بهويتها بوصفها ثورة شعب من أجل قيم إنسانية ومن ثم مطالب عادلة وشرعية، أي استخدم المصطلح من أجل التشكيك في رسالتها التحررية. فالمقصود بوصفها بالحرب الأهلية أنها حربا طائفية ومن ثم نزع الشرعية عنها، وإلحاقها بأنواع الفتن ما قبل الحديثة التي وسمت الحروب الدموية في بعض بلدان المشرق مثل لبنان والعراق واليمن وغيره.

والواقع  أن الثورة السورية، مثلها مثل ثورات الربيع العربي، لم تكن بأي حال حربا طائفية أو قبلية، وإنما كانت بوضوح لا يحتاج إلى كثير أدلة ثورة شعبية شاركت فيها مختلف قطاعات الرأي العام والطوائف والقوميات، ورفعت في مسيراتها الحاشدة الشعارات السياسية والوطنية والإنسانية، وهدفت بوسائلها ومناهج عملها وتحالفاتها إلى تغيير قواعد الحكم الأبوي نظام العنف والاحتراب الدائم والفساد، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية لا تختلف عما تعرفه المجتمعات الحديثة في كل بقاع العالم، تسمح بمشاركتها في تقرير شؤونها بعد ما عرفه نظام الحكم المطلق والفردي من إفلاس وفساد. بالمقابل كان دفعها إلى مهاوي الطائفية والقبلية، كما ذكرت أكثر من مرة، استراتيجية النظم القائمة، لتقسيم الشعب وكسر تضامنه وتشتيت انتباهه عن الهدف المشترك، ولكسب تعاطف الدول الأجنبية التي وجدت في هذا الانحراف ذريعة لتبرير تقاعسها والتخلي عن مسؤولياتها السياسية والأخلاقية في وقف المذابح والانتهاكات.

8- منذ انطلاق الثورة يُؤثِر كثير من اليساريّين الصمت، في حين ينحاز بعضهم إلى النظام الأسدي. كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل السبب هو تعلّقهم بما يُسمّى “ممانعة”.

ليس هناك موقف موحد للمثقفين لا في الثورة السورية ولا في أي ثورة أخرى. المثقفون ليسوا طبقة ولا عصبة ولا طائفة. يمكن للمثقف أن يكون مثالا للشرف والوفاء والتضحية ونكران الذات كما يمكن أن يكون مثالا للعهر يبيع صوته وقلمه لمن يدفع له. والأكثرية بين بين، ليسوا نموذجا للنبالة ولا مثالا للخسة والنذالة. لكن ما يميز علاقات المثقفين في مجتمعات يضيق المجال فيها كثيرا عليهم، وتشح موارد الشهرة والسمعة والاعتبار، هو التنافس الشديد وضيق العين وعداوة الكار وبروز النرجسية وحب الذات. وقد عكس موقف أكثريتهم من الثورة السورية شكهم العميق في وعي الجمهور، وعداوتهم التلقائية له، وقلقهم من أي تحركات عفوية لا يتحكم بها قائد أو زعيم أو جهاز أمن، وتمثلهم فكرة جهل الجمهور وميله للفوضى والطائفية، ورفض التحرر والانعتاق.

والحال أن تجربة العقد الماضي، عقد الثورات العربية، لم تظهر خطأ هذه الأفكار فحسب ولكنها أكدت أن المستهلك والمستخدم الأول للطائفية لم يكن الجمهور الشعبي البسيط وإنما النخب السياسية والثقافية المتنازعة على السلطة، وأولها النخبة الإيرانية، وما بالك بنظام الأسد المتأله، وأن من آثر الإبقاء على النظام القديم، نظام القهر والسلطة المستبدة والفساد والمحسوبية والتعبير الثقافي والفكري والإيديولوجي، هم المثقفون الذين كانوا يدعون أكثر من أي أحد آخر العفة والنزاهة والشرف والتحرر والدفاع عن الحرية والعدالة للشعب.

لكن لا ينبغي هنا أيضا أن نخلط الأمور ونلجأ إلى التعميم السريع. معظم اليساريين العرب الذين كانوا يدعون الراديكالية وقفوا ضد ثورات شعبية واضحة الهوية لأنهم نظروا إليها على أنها حركات رجعية، إن لم تكن سلفية، أكثر خطرا على نمط حياتهم وامتيازاتهم الاجتماعية من النظم القائمة. لكن قلة منهم لعبوا أيضا دورا مبدعا ومؤثرا في توجيه عقيدة الثورة وتوضيح رسالتها الإنسانية التحررية. وهذا ما ينطبق أيضا على بعض المثقفين المحافظين، والإسلاميين منهم بشكل خاص، لكن بنسب متعاكسة. ففي أوساط هؤلاء واكبت الأغلبية مسيرة الثورة وتفاعلت معها لأنها كانت في الأصل قريبة من الجمهور الشعبي، لكن كان لقلة منها دور استثنائي في التخريب والانحراف والتعبير ساهم في دفع الرأي العام العالمي إلى سحب تعاطفه معها.

في المحصلة، ليس اليسار ولا اليمين ولا الإسلاموية ولا العلمانية هم المسؤولون عن مواقف الأفراد، مثقفين وغير مثقفين، ولكن مصالح كل من هؤلاء الأفراد وموقعهم الاجتماعي وعلاقتهم بالسلطة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أشكال وعيهم، بدرجة أكبر، وجدانهم وأخلاقهم الفردية. فالضمير أو الوجدان عامل لا ينبغي أبدا الاستهانة به في تحديد مواقف الأفراد ونمط تفكيرهم وسلوكهم.

تلفزيون سوريا

————————————–

برهان غليون: “خلاف الأسد ومخلوف صراع بين عصابة نهب منظّم

نسرين أنابلي

برز اسم السياسي السوري، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، برهان غليون (مواليد حمص 1945)، كأحد أهم المعارضين للنظام السوري، وكان أحد الموقعين على “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” عام 2005. ظل غليون متمسكًا بقرار عدم الانضمام إلى أي تيار سياسي، إلى أن اندلعت الثورة في آذار/ مارس 2011، فانضم عندئذ إلى كتلة المستقلين الليبراليين، وبعد انتخابه رئيسًا للمجلس الوطني السوري، في تشرين الأول/ أكتوبر2011، شدد على أهمية الاعتراف بالمجلس الوطني السوري ممثلًا للشعب السوري، لكنه سرعان ما قدّم استقالته من رئاسة المجلس، احتجاجًا على تنازع قوى المعارضة وانقسامها الذي شلّ نشاطه، وعاد إلى العمل في صفوف النشطاء السياسيين، لتنسيق الجهود والمبادرات من أجل مواجهة الانقلاب الدموي على الشرعية الشعبية، والعمل على وضع مراجعة نقدية لتجربة الثورة السورية، والثورات العربية عمومًا، واستخلاص دروسها التاريخية التي تحتاج إليها الشعوب. كتب غليون العديد من المؤلفات، كان آخرها كتاب “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 2011-2012″، حيث أدخلنا بكتابه هذا إلى المطبخ الثوري، ليرينا كيف كانت تصدر القرارات، وهو يكشف بصراحة بالغة ما كان يجري من مكائد وعداوات داخل الصف الثوري، واستعرض فيه أيضًا بدايات الثورة السورية، وكيف تكوّن المجلس الوطني، والظروف التي أحاطت بقيامه وتفاصيل رئاسته، كأول رئيس للمجلس، ثم استقالته بعد ذلك، والأسباب التي أدت إلى الاستقالة. وقد لاقى كتابه هذا كثيرًا من الانتقادات وردّات الأفعال في أوساط المعارضة السورية.

المفكر والأكاديمي السوري برهان غليون خصّ “مركز حرمون للدراسات المعاصرة” بهذا الحوار، الذي تطرق فيه إلى المشكلات الأخيرة الحاصلة في عائلة الأسد، وتغير الموقف الروسي من النظام السوري، وملامح سورية في مرحلة ما بعد الأسد.

س – دعنا نبدأ من المتغيرات الأخيرة التي حصلت على الساحة السورية، بخصوص الخلاف القائم بين بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف الذي يسيطر على الاقتصاد السوري، كيف تنظر إلى ما يجري الآن؟ هل هو خلاف اقتصادي؟ أم إعادة تقسيم أدوار؟ وإلى أين ستسير الأمور في المرحلة القادمة؟

ج: الخلاف الذي نشأ بين أفراد الأسرة الحاكمة كان انعكاسًا لتزايد الضغوط الاقتصادية على “النظام”، نظامها، وانحسار الموارد التي كان يعتمد عليها، مع تفاقم الأزمة اللبنانية والمقاطعة الاقتصادية، وشح القروض الإيرانية، وتزايد إلحاح موسكو على التعويضات بسبب الأزمة التي تعيشها أيضًا، ومن ثم اضطراره إلى فرض الخوّة على أثرياء الحرب وأمرائها، كما حصل منذ أشهر، واليوم مع تفاقم الضغوط، يضطر إلى تشليح المقربين منه أو أبناء العائلة ذاتها.

يضاف إلى ذلك، أنه لا الأسد ولا الأسرة “المالكة” كانت ترى في ما جمعه مخلوف، أو سطا عليه، خلال الأعوام العشرين الماضية، ثروةً شخصيةً، بل تراه المصرف المركزي الموازي للسلطة العائلية التي تستخدمه لتمويل عملياتها السرية وميليشياتها المدافعة عن سلطتها، والآن لسد العجز المالي لديها، وربّما حلم رامي مخلوف بالهرب بأمواله والانفراد بملكيتها وحده. بالنتيجة هو صراع بين أعضاء عصابة نهب منظم للخزينة السورية، تفجّر بمناسبة الأزمة المستعصية التي يواجهها النظام، واضطراره إلى أن يأكل من لحمه ليمرر الأيام الصعبة القادمة، ويرضي أيضًا حلفاءه الروس الذين لا يريدون دفع أي كلفة لاحتلالهم، ويصرون على تمويله من حساب سورية، وإذا لم يمكن ذلك فمن حساب منهوبات عائلة الأسد.

س – هل تعتقد أن ظهور هذه الخلافات للعلن، والحديث عن فساد النظام من قبل أحد رموزه، سيساهم في تراجع شعبية بشار الأسد لدى مواليه؟ ونحن نعلم أن الوضع الاقتصادي والمعيشي في سورية سيئ للغاية، حتى من قبل أن تطفو هذه الخلافات على السطح، ما التأثير الذي يمكن أن تُحدثه هذه الخلافات في الموالين للنظام؟

ج: بالتأكيد، لن يحسّن نشر الأسرة المالكة غسيلها الوسخ صورتَها التي كانت سوداء كالفحم قبل ذلك، وسوف يزيد من دون شك من الضغط النفسي على الموالين للنظام، ويشعرهم بمزيد من القلق على وجود النظام ومستقبله، وربما بالنقمة عليه واليأس من إصلاحه، لكن لا ينبغي لذلك أن يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الوسط الاجتماعي والأهلي الذي شارك في معارك النظام وضحّى من أجل بقائه سوف يتخلى عنه بسهولة، سيحاول هؤلاء، مع الأسف، خاصة أولئك الذين فقدوا أكثر من ابن أو ابنة في معاركه الانتحارية، أن يفدوه بكل شيء وبأي ثمن، أملًا بإنقاذ استثماراتهم السياسية والعاطفية الهائلة التي وظفوها فيه. هذه هي حال المقامر الذي لا يعرف كيف ينسحب أو يتنازل عن بعض خسائره، فيقامر بكل شيء على أمل استرجاع ما فقده.

س – في الآونة الأخيرة، برزت ملامح تغيّر واضح في الموقف الروسي من نظام بشار، وظهر ذلك جليًا في العديد من التقارير الصادرة أخيرًا عن وسائل إعلام روسية وعن المجلس الروسي للشؤون الداخلية، حيث وصفت بشار الأسد بالشخص الضعيف، وبأنه مسؤول عن الوضع الاقتصادي الكارثي في سورية، وتحدثت بأن مسألة تعافي الاقتصاد السوري لن تكون ممكنة، الأمر الذي يتعارض مع أهداف التدخل الروسي في سورية. برأيك، هل أصبحت روسيا جاهزة لعقد صفقة للتخلي عن الأسد، على قاعدة حفظ مصالحها في سورية؟

ج: روسيا تبحث عن صفقة مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا، في سورية وحولها، منذ اللحظة التي وضعت فيها سلاحها الجوي ومستشاريها في خدمة النظام. والآن، مع تعفن الوضع السوري واشتداد مخاطر الانهيار الاقتصادي، وتردي الأوضاع الاجتماعية في سورية، وازدياد ضغط الأزمة الصحية والاقتصادية الناجمة عن وباء كوفيد 19 في روسيا نفسها، أصبح البحث عن هذه الصفقة أكثر الحاحًا في موسكو بالطبع. وهذا الاستعداد للصفقة هو الهدف من تسريبات الصحافة الروسية لمعلومات عن فساد أسرة الأسد وعدم أهليته هو بالذات للقيادة.

لكن المشكلة أن الولايات المتحدة ليست مستعجلة على مثل هذه الصفقة، لأن الوقت لا يداهمها، ولديها أجندة مليئة للأشهر القادمة، وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية، واحتواء أزمة كورونا أيضًا. كما أن من مصلحتها، كي تدفع روسيا إلى تقديم تنازلات أكثر في ما يتعلق بصيغة الحل النهائية في سورية، وإجبارها على التخلي عن فكرة تأهيل النظام ورجالاتها المتّهمين بجرائم ضد الإنسانية، انتظارَ نتائج تطبيق قانون قيصر وعقوباته الجديدة التي ستضاعف من اختناق النظام وحاجة روسيا إلى الحل. ثم إن هذا الحل لن يكون ممكنًا قبل أن يتمّ القضاء على النفوذ الإيراني العسكري والسياسي الواسع في النظام، أو على الأقل تحييده، وبالتالي إظهار روسيا تعاونًا أكبر في هذا المجال.

س – كونك تطرقت إلى قانون قيصر، هل تعتقد أن تغير الموقف الروسي له علاقة بتخوف موسكو من هذا القانون الذي سيدخل حيز التنفيذ في حزيران/ يونيو المقبل، والتداعيات التي سيتركها على بنية النظام الاقتصادية، إضافة إلى تداعيات وباء كورونا على الاقتصاد الروسي وانخفاض أسعار النفط؟ وهل ترون أن هذه الحسابات دفعت موسكو إلى تغيير موقفها من نظام بشار الأسد؟

ج: بالتأكيد. كل هذه العوامل تزيد من الضغط على موسكو للتوصل إلى صفقة مع واشنطن. لكن لا ينبغي أن نُخدع بما تسرّبه اليوم الصحافة الروسية. لم تكن موسكو في أي وقت مخدوعة بالأسد، وكانت تعرف فساده وهمجيته منذ اليوم الأول من تدخلها، وهذا ما شجعها على التدخل. وهذا ما كانت تريد للغرب أن يفهمه من خلال حرصها على إذلاله في كثير من المناسبات ووضعه في مواقف حرجة أمام جمهوره. ما تغير هو استعدادها اليوم، بسبب تطور الأمور في عكس ما كانت تأمل به، ومنها عجز الأسد عن القيام بأي إصلاح وتدهور نظامه، كما لم يحصل في أي وقت، لمقايضة نظامه بثمن أقل، ومن ثم بروز فرص أفضل لتفاهم روسي أميركي لم يعد بعيد المنال، فما كانت روسيا تطمح إليه لم يكن يقتصر على الإبقاء على النظام ورئيسه “الشرعي”، وإنما أكثر من ذلك وهو الاحتفاظ بأجهزته ورجالات حكمه الحالي الذين يرتبط معظمهم بعلاقات أحيانًا عائلية مع الروس، وبالإضافة إلى ذلك جعل التفاهم على حل الأزمة السورية جزءًا من مفاوضات أوسع، تشمل جميع ملفاتها العالقة مع الغرب، وفي مقدمها العقوبات المفروضة عليها قبل وبعد ضمها منطقة القرم عام 2014.

س – في حال حصول تغيّر كامل في الموقف الروسي من نظام الأسد؛ كيف من الممكن أن تستفيد المعارضة السورية من هذا الأمر؟ وقد شهدنا أخيرًا تصريحات لمصطفى سيجري القيادي في الجيش الوطني، يدعو فيها إلى فتح صفحة جديدة مع روسيا، كيف ستكون المعارضة قادرة على التوفيق بين جرائم روسيا في سورية وبين مصلحتها؟

ج: روسيا بوتين لا تولي أي أهمية لوجود المعارضة السورية ولا لتصريحاتها، العسكرية منها والسياسية، ولا تتعامل معها كطرف مفاوض أو محاور. ولكنها تنظر إليها كأدوات تستخدمها الولايات المتحدة والغرب لتبرير تدخلها وفرض شروطها على الروس والنظام. وهي لم توفر مناسبة من دون أن تضع هذه المعارضة أمام هذه الحقيقة. فهي التي جرجرتها من ساحة إلى أخرى، وفرضت عليها شروطًا مذلة، من أجل حوار لم يحصل مع النظام، وأجبرتها على توقيع تصريحات وإعلانات ووثائق هزيلة، تتناقض مع قرارات مجلس الأمن الواضحة والالتزام بمؤتمر جنيف للتفاوض تحت إشراف الأمم المتحدة. ولا تستثني موسكو من نظرتها هذه المعارضة السورية التابعة كليًا لها والمؤيدة لسياساتها. والواقع أنها لا ترى حتى في المعارضة الروسية داخل بلادها غير أداة في يد الدول الغربية. ولا تختلف نظرتها للثورة السورية وكل الثورات الشعبية عن ذلك. فهي ترى أنها “أحداث مصطنعة من قبل العواصم الغربية، لتقويض النظم الشرعية ووضع نظم قريبة للغرب مكانها”.

س – أود هنا أن أعرّج على الموقفين الأوروبي والأميركي، تجاه سياسة موسكو الجديدة من نظام الأسد، خاصة بعد تداول أنباء تتحدث عن اتفاق شبه دولي على تنحية الأسد، وهل لديك توقعات عن الأسماء المتداولة لرئاسة سورية بعد بشار الأسد؟

 ج: في اعتقادي، إن تنحية الأسد لم تعد موضوع نقاش في الأوساط الدبلوماسية الدولية جميعًا، حتى لو لم يتم الاتفاق رسميًا بين الأطراف. لقد اكتشف العالم في السنوات الماضية حجمًا من الجرائم الجماعية والممارسات الوحشية والاستهانة بأبسط المشاعر الإنسانية، بشكل مهول إلى درجة أصبح فيها اعتبار الأسد خارج النقاش من باب البداهة. النقاش يمكن أن يجري في مسألة المثول أمام العدالة: هل سيُحاكم أم سيُرتب له خروج آمن!

مع ذلك، لا أعتقد أن الاتفاق على التنحي قد حصل، أو أن البديل أصبح جاهزًا. ففي نظري، بسبب الظروف المعقدة والصعبة التي تعاني منها جميع الأطراف، ومن ضمنها واشنطن وموسكو، لا تزال الجهود المبذولة في هذا المجال بطيئة ومتعثرة. وكثير مما تكتبه الصحف هو بالونات إعلامية لأهداف متعددة، بعضها للتشويش على الخصم أو المنافس أو التغطية على الوقت الضائع، أو كسب الوقت، وليس لمعظمها أي قيمة سياسية. جهاز الحكم البديل أو الجديد هو جزء أساسي من التفاهم أو الصفقة المنتظرة، والاتفاق حوله وحول المشاركين فيه لن يحصل قبل الاتفاق والتفاهم على نمط الحكم القادم، وكيفية تمثيل القوى والمناطق وتوزيع السلطات ومهام هذا الحكم وغاياته، وكل ذلك لم يتم التفاهم عليه بعد. كل ما هو قائم في نظري لا يتجاوز التفاهم المبدئي على التعاون بين روسيا والولايات المتحدة على ايجاد حلّ، ربما قبل موعد الانتخابات الرئاسية السورية منتصف العام القادم، وعلى الدور المحوري لموسكو في الصيغة الجديدة المتوقعة للحكم في دمشق. الإعداد لما بعد الأسد عنوان مرحلة لا نهاية للتفاوض عليها، ويمكن أن تشهد صراعات جديدة، وعقبات، وقرارات، وقرارات مضادة، وتبادل رؤى، وكذلك ضربات من تحت الطاولة، وخطوات إلى الأمام وأخرى الى الوراء.

س – في منتصف الشهر الماضي، قام وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بزيارة مفاجئة لدمشق رغم الظروف التي فرضتها جائحة كورونا، برأيك ما هي أسباب هذه الزيارة خاصة في هذا التوقيت؟ وما الرسائل التي تريد طهران إيصالها إلى موسكو والمجتمع الدولي عمومًا؟ وما مصير الوجود الإيراني في سورية؛ إذا تم الاتفاق على تسوية سياسية لتنحية بشار؟

ج: لم يعد خافيًا على أحد، خاصة طهران، أن هناك اتفاقًا مبدئيًا بين القوى الدولية الرئيسية والقوى الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل، لوضع حد لمشروع الإمبراطورية الإيرانية التي تمتد من قُم إلى ضفاف المتوسط، والتي أصبحت بؤرة للتهديد وتفجير الحروب ومنع الاستقرار في المنطقة. والحقيقة أن معركة إجبار ميليشيات طهران على الخروج من سورية معركة مركزية وحاسمة في تقرير مصير هذا المشروع، والأسد هو الورقة الرابحة الرئيسية لإيران في هذه المعركة، ولن تتخلى عنه. هذه هي الرسالة، وهذا هو الهدف أيضًا من الزيارة في اعتقادي، أي التباحث في تأمين شروط بقاء الأسد، وتطمين فريق حكمه وتعزيز موقفه تجاه خصومه في الداخل والخارج. بالنسبة إلى النظام الايراني الذي أنفق معظم موارد بلاده وثرواتها على هذا المشروع التوسعي، منذ أكثر من ثلاثة عقود، أصبح الطريق إلى طهران يمرّ حتمًا من دمشق.

س – ضربت إسرائيل العديد من الأهداف العسكرية التابعة لميليشيات إيرانية في سورية، وغضت روسيا الطرف عن ذلك، برأيك هل تسعى إسرائيل للاستفادة من تبدل الموقف الروسي من بشار الأسد، خاصة مع وجود صراع نفوذ روسي – إيراني في سورية، ومحاولة روسيا إبعاد إيران عن موضوع استثمارات إعادة إعمار سورية، وسعي إسرائيل إلى إبعاد إيران من سورية خلال الأشهر الـ 12 المقبلة، بحسب تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي نفتالي بينيت، مطلع العام الحالي؟

ج: إسرائيل ليست بحاجة إلى استغلال أي تبدل في الموقف الروسي، لتتعقب الحضور الإيراني العسكري الكثيف في سورية. فهذا من مصلحتها الاستراتيجية أولًا، وهو أحد التزاماتها الرئيسية مع حلفائها، وهي تقوم به في الواقع منذ وقت طويل من دون أن تخفيه عن أحد، أو أن يعترض عليه أحد من الروس أو الأمريكان. لكن منذ انعقاد ما سمّي “اللقاء الأمني الروسي الأميركي الإسرائيلي في القدس”، في 25-24 حزيران/ يونيو 2019، الذي ضم إلى جانب سكرتير مجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف، نظيريه الأميركي جون بولتون، والإسرائيلي مئير بن شبات؛ تحوّل قصف الإسرائيليين مواقع إيرانية في سورية إلى جزء من تقسيم العمل بين الأطراف الثلاثة، ومساهمة إسرائيلية أساسية في تحقيق الهدف المشترك. وأعني به، وهذا ما فهمه الإيرانيون أيضًا، ردع طهران وإجبارها على وقف سياستها التوسعية التي تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله. وفي إطار هذا المشروع الثلاثي للضغط عليها وإجبارها على سحب ميليشياتها، يدخل هجوم تل أبيب على المواقع الإيرانية في سورية وتدمير الكثير منها.

 س – في حال الإطاحة بنظام بشار الأسد؛ كيف سينعكس ذلك على دول الجوار تحديدًا (لبنان، العراق، تركيا)، وعلى دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام التي تواجه أزمة تتعلق بملف اللاجئين؟

ج: سيكون وقعه مثل وقع انفجار دمل أصاب بالالتهاب منطقة بأكملها بل قتلها، أي ستكون لحظة انفراج عام ولحظة تنفّس الصعداء وعودة الأمل للسوريين ولشعوب المنطقة بأكملها، حتى الشعب الإيراني المقهور. لكن مع الأسف، لن يعني هذا نهاية المأساة، ولن تكون معركة تصفية أنقاضه، والتحكم في فلوله من القتلة والمجرمين، ولا تجاوز الدمار النفسي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي خلفه وإعادة الثقة والتفاهم والتعاون بين الأفراد وخارج حدود الغيتوات أو المعازل الطائفية والمناطقية والقومية والفئوية التي أجبر الناس على الانكفاء عليها، معركةً سهلةً ولا مستقيمةً، وستكون الحاجة إلى التنسيق والتعاون بين السوريين والقوى التي ذكرتها ملحّة وكبيرة، من أجل احتواء ردة فعل الوحش الخرافي المتهاوي لإمبراطورية ولاية الفقيه، التي لا يختلف مصيرها كثيرًا عن مصير الفاشية الألمانية التي كلفت هزيمتها وتفكيكها، في منتصف القرن الماضي، الإنسانية عشرات ملايين الضحايا ودمار قارة بأكملها.

س – انتقدت كثيرًا أداء المعارضة السياسية السورية، خاصة في كتابك الأخير “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل”، وأود هنا أن أسألك عن مدى قدرة المعارضة السورية على مواجهة تحديات المرحلة القادمة، ألا تتطلب المرحلة القادمة إعادة ترتيب البيت الداخلي للمعارضة التي شهدت انقسامات وخلافات كثيرة خلال السنوات الماضية؟

ج: بالتأكيد، لم تكن المعارضة في أي وقت على مستوى التحديات التي أطلقتها ثورة السوريين، لسبب بسيط هو أنها لم تكن موجودة، وما كان من الممكن أن توجد في ظلّ نظام حُكمٍ يقتل على الكلمة، تحكّم في رقاب السوريين لنصف قرن. وقد توزع مصير المعارضين السوريين خلال هذه الفترة بين الاغتيالات والإقامة الأبدية في السجون أو المسالخ البشرية، والتشرد في المنافي، أو الاختباء في الأقبية السرية، تجنبًا للملاحقة والاعتقال أو الاغتيال.

وكما ذكرت في كتابي، لم تحصل المعجزة التي كنت آمل فيها، في استعادة المعارضة المثخنة بجراحها اختراع نفسها، في لهيب ثورة شعب حوّل أبناءه جميعًا إلى فدائيين، للفوز بمعركة الحرية. ولم يسعفها الحظ وضعف الخبرة والثقة، لتجديد نفسها وتوحيد قواها ووضع نفسها في الخطوط الأولى للقيادة. ولذلك ذهبت الثورة في اتجاهات، لم تكن أغلب القوى التي شاركت فيها تريدها أو تتوقعها. لكن الثورة السورية، والتحديات التي طرحتها على النظام القائم، وعلى المجتمع الدولي معًا، لا ترتبط ولم ترتبط بالمعارضة، وليست بالتأكيد من صنعها. بالعكس إن قدومها جاء بالضبط نتيجة خنق المعارضة وحرمان الشعب من أي إمكانية لتنظيم قواه وتوصيل صوته إلى دوائر القرار، ومن ثم انعدام أي فرصة للإصلاح والتغيير السياسي والقانوني. والمشكلة التي واجهناها، وواجهها المعارضون “الناجون” من الموت السياسي أو المادي، هو أن المجتمع الدولي، بدلًا من أن يكون عونًا لهم وللشعب لدفع النظام إلى الحوار الجدي او الإصلاح، ولو الجزئي، لامتصاص النقمة العارمة وفتح قنوات لتصريف الغضب والعنف والقهر المتراكم؛ ربّت على كتف القتلة والمتجبرين، وشجعهم على الصمود، وأغراهم بشن حرب إبادة حقيقية على الشعب بكل الأسلحة والوسائل المحرمة.

وفي انتظار أن يتمكّن الشعب السوري من التقاط أنفاسه وبناء قواه الذاتية التي دمّرها الاستبداد والاحتلال، أرى أن مسؤولية المجتمع الدولي، وعلى رأسه القوتان الكبريان روسيا والولايات المتحدة، أساسيةٌ وحاسمةٌ في التعاون، لإنقاذ مستقبل الشعب السوري الغارق في مستنقع العنف والموت والدمار والانتقام، الذي خلفته حرب الإبادة الوحشية التي فرضت عليه لعقد كامل، ولإنقاذ مستقبل شعوب المنطقة بأكملها من مصير مظلم. ومن دون ذلك؛ لن يكون هناك مخرج سهل ولا سريع، من الحالة الكارثية التي أُوصلت إليها شعوب المنطقة، حتى لو كان من الصحيح، بالمقابل، أنه من دون سعي السوريين إلى الاستفادة من الحرية التي انتزعوها بانفراط عقد نظام القتل الجماعي والإرهاب، لبناء طبقة سياسية جديدة افتقر السوريون إليها لأكثر من نصف قرن، لن يكون هناك أمل أيضًا في إعادة إعمار سورية وبنائها وطنًا حقيقيًا وحرًا لجميع السوريين.

__________

ولد برهان غليون في حمص سورية، وتلقى فيها دراساته الابتدائية والإعدادية، ثم انتقل إلى دمشق لمتابعة دراساته في دار المعلمين، وبعدها في جامعة دمشق، حيث تخرج فيها عام 1969 بإجازة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية ودبلوم في التربية العامة، وانتقل إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا، وحصل على شهادة دكتوراه الحلقة الثالثة في علم الاجتماع السياسي 1974، من جامعة باريس الثامنة، على رسالة حول الدولة والصراع الطبقي في سورية 1945 – 1970 تحت إشراف نيكوس بولانتزاس. له العديد من المؤلفات منها: “بيان من أجل الديمقراطية”، “اغتيال العقل” “مجتمع النخبة”، “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 2011-2012”.

مركز حرمون

————————————-

==============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى