مقالات

إحدى عشرة قاعدة للطمأنينة/ ناتالي الخوري غريب

قد يبدو هذا النص للوهلة الأولى من خلال التأمل في عتبته، أنه تلك النصائح الجاهزة من باب الرائج اليوم في باب التنمية البشرية، لكنه في الحقيقة عصارة تأملات في إحدى عشرة قاعدة استلخصتها من كتاب «اللاطمأنينة» للكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا، (ترجمة المهدي أخريف في 560 صفحة)، هي يوميات بصيغة تأملات في الحياة، كُتبت على مدى عشرين عامًا (من 1913 إلى وفاته 1935) نشرت بعد خمسين عامًا على وفاته، استخلص منها الجوهر المشترك مع معاناة الإنسان المعاصر، لكل ما عاشه واختبره وعاينه طوال ثلاثة عقــود في مسرى نضجه.

قد يأتينا الاعتراض قبل البدء على شكل استنكار، حول إمكانية استخلاص قواعد في الطمأنينة من كتاب بعنوان اللاطمأنينة، لكاتب ابتكر أنداده في الكتابة، فكتب بأسماء مستعارة تجاوزت الثمانين. ربما لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل إلا بعد القراءة، فلكل قارئ جواب يصله، هذه قاعدة الكتابة والنشر كما ذكر بيسوا: «أنا أكتب لأتسلى بالعيش، وأنشر ما أكتب، لأن تلك هي قاعدة اللعب»، أو ربما تتجه إلى قارئ ينتقل إليه إحساس بيسوا بأنه لا أحد، «هوامش مدينة ليس لها وجود، التعليق المسهب على كتاب لم يكتب. لا أحد. نموذج في رواية ينبغي أن تكتب… بئر بلا حيطان».

القاعدة الأولى:

فلنعش الصباحات كلها، كأنها الصفحة الأولى من كتاب العالم… الوسيلة الوحيدة لامتلاك أحاسيس جديدة، تتمثل في أن نبني روحًا جديدة، تنتقي ما يجب أن تختزنه، وترمي ما يعيق تحليقها.

القاعدة الثانية:

فلنبتعد عن إعطاء النصائح لأحد، وكأننا أصحاب اليقين بالعمل القويم، فلندع الناس لحياتهم وأخطائهم وعثراتهم، فلندع لهم متعة الخطأ وتصحيحه. وحدهم يعرفون كيف يستعيدون حركة أقدامهم على الطرقات، وحدهم يخبئون أمورا يعرفون أسرارها ومفاتيحها.

الثالثة:

الروح الإنسانية هاوية مظلمة في أعماقنا، لا تصلح بمتاهاتها العيش على سطح العالم. العيش مع العالم يستدعي روحا تشبههم. الأرواح لا تتشابه. ما يسري على إحداها لا ينسحب بالضرورة على أخرى. الخواء لبعضنا ضرورة. وهكذا لو لم يكن الخواء موجودا، وهو دم الحياة الروحية، لهلكنا من أنيميا الروح.

الرابعة:

العزلة هي الحرية. من يستطيع أن يعيش وحيدًا هو إنسان حر. إذا كان الآخر جسرا إلى المال والمجد والفضول فلن نعرف الحرية، لن تعرف الطمأنينة، لأن تلك الحاجات لا يمكن أن تجد غذاءها في الصمت والوحدة. تلك الحاجات لا تأتي إلا بمزيد من القلق.

الخامسة:

الحب خيانة لأنفسنا. خيانة لسيادتنا على أنفسنا. في الحب نوع من وعد وارتباط. لا نريد رباطًا مع أحد حتى مع أنفسنا! نريدنا متحررين منا كما من غيرنا، متأملين بلا ذهول، مفكرين بلا نتائج ولا خلاصات ننتهي اليها… فالخداع نوع من الحب، بل هو الحب نفسه. جميعنا نحب بعضنا، والكذب هو القبلة التي نتبادلها! أن نحب معناه أن نتعب من وجودنا وحيدين.

السادسة:

علينا أن نعرف أن الحياة التي نحياها هي لا تفاهم دائم سيال، نصف فرح بين عظمة لا وجود لها وسعادة لا يمكن ان توجد. كل شيء يمكن أن نجده في أحلامنا. لنا أن نكون ملوكًا. وإذا لم تمنحنا الحياة غير صومعة للانعزال، فلنحاول تزيينها بظلال أحلامنا، برسومنا بألواننا.

السابعة:

إذا كان العري وضعًا من أوضاع الروح، فنحن نرتدي الجسد والروح ببدلاتنا، بها نحيا سعداء، أو تعساء، أو حتى غير عارفين حقيقة أنفسنا، نحيا الحيز القصير الذي منحتنا إياه الآلهة لنتلهى به ـ بطمأنينة – مثل أطفال يتلهون بألعاب جادة. الكتابة عري تكشفنا أمام الآخرين. علينا أن نحمي أنفسنا إذن من الإحساس بآرائهم، علينا أن ندثر الروح ضد الضربات الخرساء لوجودنا المتزامن معهم، بالكف عن البوح على الملأ.

الثامنة:

معرفة السعادة تعيسة في وجوهها، لأن معرفتك بأنك سعيد هي أن تعرف أنك تمر بالسعادة، وأن عليك فورًا أن تخلفها وراءك. هل عزل اللحظة كما تعزل الأشياء عن سياقاتها تجعلك سعيدًا؟ ليس الجواب إلا أن تدرك متى تحفز معرفة السعادة ومتى تغض الطرف عنها.

التاسعة:

يجب أن نعتبر كل ما نعيشه من أزمات كحوادث خارجية خالصة، غير قادرة على التأثير في جوهر الروح، كأن نحسبها شيئا مثل آلام الأضراس أو مسامير الأقدام، كأشياء تضايقنا، كأشياء خارجية عنا، على الرغم من أنها جزء منا، أو فلنشتغل بما هو حيوي فينا دون غيره. عندما نصل إلى هذا الموقف، وهو موقف المتصوفين، سوف نجد أننا محميين ليس من العالم فحسب، بل من أنفسنا ذاتها، وإذن سنكون انتصرنا على كل ما هو خارجي فينا.

العاشرة:

تتمثل التجربة الحقيقية في تقليل الاتصال بالواقع أو تقييده، وفي مضاعفة تحليل ذلك الاتصال. هكذا تتوسع الحساسية وتتعمق، فكل شيء في دواخلنا. يكفي أن نبحث ونجيد البحث. إذا لم يكن الانعتاق موجودا فيّ فهو غير موجود بالنسبة إليّ، في أي مكان.

الحادية عشرة:

بين اللاشيء واللاشيء، أو ما بين الكل والكل، ما نحن إلا مسافرون، قسرًا أو اختيارًا، لا فرق، يجب ألا نعطي أهمية زائدة لحوادث المسافة، ولرضوض الطريق. لا أدري إن كنت أتعزى بهذا، لأنني أجد فيه عزائي بالفعل، أو لأنه يحوي ما يبعث على العزاء. في كلا الحالين عزاءاتنا نحن نصنعها. وما العالم إلا تصورنا عنه.

٭ أكاديمية وروائية لبنانية

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى