مقالات

بومبيو يجنّد نجيب محفوظ/ صبحي حديدي


في الأهداف المعلنة لجولة وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، إلى الأردن ومصر والبحرين والإمارات وقطر والسعودية وعُمان (وغابت زيارة الكويت لأسباب جنائزية، كما قيل)؛ تكاثرت عبارات مثل “مكافحة الإرهاب”، و”مناقشة مجالات التعاون الثنائي”، و”توسيع الشراكة الستراتيجية”، و”استعراض القضايا الإقليمية الحاسمة”، و”بحث الأولويات الثنائية والإقليمية الرئيسية”… وحضرت، في باطن هذه الصياغات الفضفاضة، ملفات إقليمية شتى، من سوريا ولبنان إلى غزّة واليمن؛ لكنّ القاسم الأكبر المشترك كان اللافتة التي رفعها بومبيو مراراً وتكراراً، أثناء جولته بصفة عامة، وخلال خطبته في الجامعة الأمريكية بالقاهرة خصوصاً: “أنّ أمريكا قوّة للخير في الشرق الأوسط”.

ولكي يجمّل الأكذوبة، كان الوزير ــ القادم إلى هرم الدبلوماسية الأمريكية من إدارة وكالة المخابرات المركزية، سيدة الانقلابات والمؤامرات والاغتيالات والشرور جمعاء، بلا منازع على وجه الأرض ــ قد اختار اللجوء إلى الأدب العربي، وإلى الروائي الراحل نجيب محفوظ، فاقتبس منه هذه العبارة، حسب الترجمة الرسمية التي اعتمدتها وزارة الخارجية الأمريكية: “الخير ينتصر في كلّ يوم، ولعلّ الشرّ أضعف مما نظنّ”. وبصرف النظر عن سوء التصرف في الأصل (محفوظ يقول التالي، في النصّ الذي أًلقي باسمه خلال حفل تسليم جائزة نوبل: “لا أقول مع الفيلسوف كانط إنّ الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصراً كل يوم. بل لعل الشرّ أضعف مما نتصور بكثير”)؛ فإنّ تجنيد محفوظ، تحديداً، لخدمة هذه الشهادة المزورة عن خير أمريكا، بدا أشبه بتسخير الشاعر الأمريكي والت ويتمان لامتداح العمّ سام!

غير أنّ الذروة الفضائحية القصوى في خطبة بومبيو كانت، في يقيني الشخصي، سخرية وزير خارجية أمريكي من رئيس أمريكي سابق؛ يحدث أنه ــ لأهمية التفصيل، هنا ــ أوّل رجل أفرو ــ أمريكي يرتقي إلى سدّة البيت الأبيض. ثمة حدّ أدنى من التقاليد البروتوكولية الأمريكية تقتضي احترام الموقع، والمنصب، أياً كانت درجة الاختلافات بين إدارة وأخرى؛ إلا إذا كان الساخر من طراز بومبيو، لا يجيد التطبيل إلا لربّ البيت الضارب أصلاً بالطبل إياه! صحيح أنّ بومبيو لم يذكر باراك أوباما بالاسم (وهذا جانب آخر في انحطاط السلوك)، إلا أنه اقتبس كلمات الأخير على نحو انتقائي انعدمت فيه الكياسة وطفح بقلّة الذوق.

ولا غرو في هذا، ما دام الأمر يتعلق بقراءة أوباما لجذور الإرهاب، وصلة ذلك بالإسلام والمسلمين. وهكذا خطب بومبيو: “تذكروا: لقد وقف أمامكم في هذه المدينة بالذات قبلي أمريكي آخر، وأخبركم أن الإرهاب الإسلامي المتطرف لا ينبع من أيديولوجية. وأخبركم أن 11 أيلول/ سبتمبر قد قاد بلدي للتخلي عن مثلها العليا، ولا سيما في الشرق الأوسط. وقال لكم إن الولايات المتحدة والعالم الإسلامي احتاجوا إلى – وأقتبس هنا – ‘بداية جديدة’، انتهى الاقتباس”. لكنه تناسى أنّ نظرية جورج بوش الابن، السلف الجمهوري للخَلَف دونالد ترامب، كان قد مضى أبعد وابتدع نظرية في أدلجة الإرهاب أسماها “الفاشية الإسلامية”، فما نفعت؛ بل كانت بعض الزرع الأمريكي الذي أنبت “داعش” في سوريا والعراق، وقبلها “قاعدة” مصعب الزرقاوي في “بلاد الرافدين”.

والحال أنّ خطبة أوباما القاهرية، مطلع صيف 2009، ورغم إطراء التسامح في الإسلام، وامتداح الشعر العربي والعمارة الإسلامية؛ لم تصنع أيّ فارق بالقياس إلى ما قال وفعل سابقوه من رؤساء أمريكا، في الأحقاب الراهنة تحديداً. كذلك فإنّ حرص أوباما على طيّ صفحة مبدأ “المحافظين الجدد” في إدارة بوش الابن، حول فرض الديمقراطية عن طريق التدخّل في شؤون الأمم الأخرى؛ كان تحصيل حاصل الفشل الذريع للمبدأ، ولم يكن انقلاباً سياسياً أو عقائدياً يُشار له بالبنان كإنجاز لإدارة أوباما.

فلا تجنيد محفوظ عند بومبيو، ولا الوله بالموسيقى العربية عند أوباما، ولا الكثير سواهما هنا وهناك، جدير بإحداث أدنى تحوّل في انحياز الإدارات المتعاقبة الأعمى لكيان الاحتلال الإسرائيلي؛ وهنا المعيار والفيصل.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى