مراجعات كتب

رحلة حنا دياب إلى باريس: نصوص العامة في حلب القرن الثامن عشر/ محمد تركي الربيعو


مع بدايات القرن الثامن عشر، عرف الفضاء المحيط بكتابة النصوص في إسطنبول وعدد من المدن العربية العثمانية تطوراً جديداً، تمثّل في ولادة نصوص اليوميات، التي عادة ما كتبتها مجموعة من الأفراد العاديين أتوا وعملوا في مهن خارج حلقة العلماء، من بين هذه اليوميات يمكن أن نشير مثلاً إلى يوميات البديري، الأكثر شهرة، التي كُتِبت في منتصف القرن الثامن عشر، أو يوميات حسن آغا العبد (جندي في الإنكشارية في دمشق) ويوميات مزارع شيعي حيدر رضا الركيني وابنه في جبل عامل في لبنان 1749/1832.

وقد حظيت هذه الظاهرة بالدراسة والبحث لدى بعض المؤرخين والباحثين في تاريخ العامة في مدينتي دمشق والقاهرة. فقد توصّلت نيللي حنا عالمة الدراسات العثمانية في مصر، من خلال دراستها لنصوص ابن اياس إلى أن هذه الظاهرة تعود إلى بدايات القرن السادس عشر، إذ أدى انتقال مركز الامبراطورية من القاهرة، بعيد هزيمة المماليك أمام العثمانيين، إلى تحوّل في مجال كتابة الحوليات التي كانت في السابق، وفقاً لما يقوله طريف الخالدي، عبارة عن «حوليات امبراطورية بيروقراطية» تجمع بين المعرفة التاريخية والسلطة، مع تآكل سلطة المماليك في دمشق والقاهرة، أخذت الحوليات تتجه نحو التركيز على الأحداث اليومية للناس العاديين. فها هو شهاب الدين بن طوق (ت 1509) يخبرنا عن شجارات عائلية وعن أوقات زيارة الحمام. وفي مقابل هذه القراءة لانتشار النصوص العامية وكتابة اليوميات في الولايات العثمانية، كان لدانا السجدي استاذة التاريخ في جامعة بوسطن الأمريكية، ومؤلفة كتاب «حلاق دمشق: محدثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني» رأي مختلف بعض الشيء، إذ ترى أن انتشار هذه النصوص لا يعود لانتقال مركز القرار السياسي إلى إسطنبول، وإنما للتحوّلات التي عاشها الفضاء العثماني في القرن الثامن عشر بالأخص. فقد كان القرن الثامن عشر عصرَ التغيير الاجتماعي، وإعادة تنظيم الاقتصاد السياسي داخل مدن مثل إسطنبول ودمشق والقاهرة.

ولم يشتمل هذا التغيير وحسب على صناعة القرار عبر انتقاله مثلاً من قصور السلاطين إلى قصور الوزراء والأعيان (مثل عائلة العظم في دمشق)، بل زحف كذلك إلى الفضاء العام للنص، فأخذت تتراجع معجم السير والطبقات والتراجم، التي كان يكتبها العلماء، لصالح نوع من الكتابة التاريخية الأكثر رواجاً، ومشاركة أفراد عاديين في الخطاب العام المكتوب، الذي كان حكراً على العلماء، ولعل ما وحّد بين هذه النصوص هو أنها كُتِبت بلغة تجمع بين العامية والفصحى.

وربما يعدُّ نص البديري من بين أكثر النصوص في هذا الأدب العامي الذي حظي بإعادة قراءة خلال السنوات الفائتة، أذكر هنا على سبيل المثال كتاب دانا السجدي السابق وأيضاً كتاب سامر عكاش «يوميات شامية». ولعل إعادة الاهتمام بهذه الكتابة، هو ما دفع بعض المؤرخين والمحققين أيضاً إلى إعادة النبش عن هذه النصوص والمخطوطات العامية، كما في حال نص حنا دياب، الذي حُقِّق مؤخراً للعربية، فقد بقي نصاً مهمشاً أو غير معروف لدى المهتمين بتاريخ هذه الفترة.

تروي بعض الأخبار أن أنطوالان غالان، المستشرق الذي قام بترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية استعان بفترة من الفترات براو ماروني من مدينة حلب السورية، يدعى حنا دياب. ومما يذكره غالان في يومياته أن هذا الشخص كان في مرسيليا سنة 1710، مع ذلك بقيت شخصيته غامضة خلال القرون اللاحقة إلى سنة 1993 عندما أعلن المستشرق الفرنسي جيرون لنتان في إطار أبحاثه عن اللغة الدارجة بين العرب، عن وجود مخطوطة مودعة في المكتبة الرسولية في مدينة الفاتيكان كاتبها حنا دياب نفسه، وصف بها رحلته إلى فرنسا، مروراً بمناطق كثيرة (قبرص وتونس وليبيا وإيطاليا وإسطنبول في أوائل القرن الثامن عشر)، بيد أنه رغم هذا الإعلان سننتظر إلى نهاية عام 2017 حتى يقوم باحثان عربيان، هما محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران أستاذا الدراسات الشرقية في جامعة ساوباولو البرازيلية، بتحقيق هذه المخطوطة لتصدر بعنوان «من حلب إلى باريس: رحلة إلى بلاط لويس الرابع عشر» ـ دار الجمل.

يشير الباحثان في مقدمة تحقيقهما إلى أن دياب كان قد ناهز السبعين من عمره عندما بدأ كتابة هذا النص، معتمداً فقط على ذاكرته. كما أن لغة النص ليست بالفصحى وليست بالدارجة، بل هي خليط من الاثنين (جاني مكتوب من حلب منشانك). رغم هذه الملاحظات لا تبين مقدمة التحقيق المشهد الذي كتب فيه دياب يومياته ورحلته بالعامية، إلا أنه من خلال ملاحظات السجدي السابقة، بالإضافة إلى ملاحظات إبراهام ماركوس حول تاريخ العامة في حلب القرن الثامن عشر، الذي درسه في كتابه «الشرق الأوسط عشية الحداثة»، يمكن القول إن المدينة كانت تشهد تغيرات على المستوى الاجتماعي والديني، موازية للتغيرات في إسطنبول ودمشق آنذاك، ما انعكس لاحقاً على الاقتصاد الجديد للنصوص التاريخية وبروز نصوص عامية (كما في حال نص دياب). ولعل ما يحسب هنا للمحققين هو حفاظهما على اللغة العامية للنص، مع شرح للمفردات العامية في هوامش النص، قد يمكّن، الحفاظ على روح المخطوطة، الباحثين والقراء من الاقتراب أكثر من الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي وُلِد فيه النص، بالإضافة إلى التعرّف على التحولات في القيم والمعايير الأخلاقية (كما سنرى لاحقاً) التي كانت تعيشها المدن العثمانية والفرنسية في القرن الثامن عشر، الذي يُعدّ بالنسبة لبعض المؤرخين اليوم قرن انبثاق الحداثة، بدلاً من السردية التقليدية التي تشبك قدوم الحداثة بالقرن التاسع عشر.

من راهب إلى رحالة

يبدأ دياب يومياته بالتطرق إلى ذكرياته مع الرهبنة. فقد «استقمنا ثلاثة أيام في زيارة أحد الأديرة» خارج مدينة حلب. وعند وصوله هو وأربعة من أصدقائه، اُدخِلوا إلى مكان «حوايج الرهبان» (ألبسة الرهبان)، وهناك قُدمّ له «قميص ورفيق وقنباز هام سميك وعباية صوف سوده وزنار ليف وغرقيه سودا ودورين شاش من صوف مسبوق عسلي غامق»، حينئذ أخبره المدبر المذكور: «اشلح يا أخي والبس ثياب التجريد عقبال ما بنلبسك الاسكيم (رداء) الرهباني الملايكي». يذكر دياب أنه حينذاك «شلحت ثيابي وبقيت مثل بياعين الليمون عبابي معببه». ومنذ تلك اللحظة، كما يذكر، نفر قلبه من الرهبنة وندم على ما فعل. قرر دياب، بعدها بأيام، ترك حياة الرهبنة والعودة إلى مدينة حلب. وشاءت الصدف، عند العودة، أن يلتقي في خان الزيت داخل المدينة برجل سايح من سياح سلطان فرنسا يدعى بول لوكا. وكان دياب يتقن الفرنجية، لا يذكر لنا أين تعلمها، بيد أن معرفته باللغة لفتت نظر لوكا إليه، ليسأله إن كان مسلماً؟ فقد كان دياب يضع شاشاً أبيض على رأسه، وهو لباس خاص بالمسلمين آنذاك بينما لم يكن يُسمح كما تنقل بعض المصادر لأبناء الأديان الأخرى بارتداء هذا اللباس، إلا أن ملاحظة لوكا قد تعدل ربما بعض الشيء مما تذكره هذه الأخبار، وتؤكد على ما ذكرناه من أن القرن الثامن عشر كان يشهد تحولات عديدة، وخلافاً لمن ربط السماح للمسيحيين بارتداء لباس مشابه للباس المسلمين إلى إبراهيم باشا وقدومه إلى ولاية سوريا في عام 1831، إذ يذكر كاتب مجهول في يوميات أعدّها في تلك الفترة بعنوان «مذكرات تاريخية عن حملة باشا على سوريا»، أن النصارى شعروا مع قدوم الحاكم الجديد بتحسّن في مكانتهم داخل الفضاء العام وأجهزة الولاية، كما سمح لهم بارتداء اللفّة البيضاء كما يفعل المسلمون المحليون.

بيد أنه من خلال ما يذكره دياب، يبدو أن المسيحيين في حلب القرن الثامن عشر كانوا يرتدون لباساً مشابهاً للمسلمين، وقد نعثر على ما يدعم هذا المشهد في ملاحظات إبراهام ماركوس، إذ يشير إلى أن فرض لباس معين على المسيحيين في المدينة خضع للتفاوض المستمر بين الأهالي والسلطات السياسية المحلية، كما أن هذه الفترة عُرِفت بتفاعل جميع طبقات المجتمع الغنية والفقيرة مع توجهات عالم الأزياء المعاصرة التي كانت تنشأ في إسطنبول أو إيران أو في مناطق أخرى من الإقليم. وربما هذه الحالة شملت مدنا عثمانية قريبة من حلب، حيث يذكر دياب لاحقاً عند وصوله لبيروت، أنه همّ بتغيير اللفة البيضاء بلفة زرقاء كانت تُخصص للمسيحيين، غير أن أحد أبناء المدينة أخبره بعدم ضرورة ذلك «في هل بلد ما في قيد على النصراني أيش ما لبس».

في شوارع مارسيليا وباريس

بعد أن يروي لنا تفاصيل رحلته بين بيروت والإسكندرية وطرابلس الليبية، ينتقل بنا للحديث عن زيارته إلى فرنسا. نعثر على صور شيقة تعكس واقع ما كانت عليه المدن الفرنسية آنذاك على صعيد النظافة والطب وطريقة عقاب المجرمين، والموقف من ظهور النساء في المجال العام الفرنسي. فحين وصل إلى مارسيليا، أراد قضاء «حاجة الطبيعة»، فنزل يفتش على «الأدب خانة، فسألتني واحدة من الخدامات ماذا تريد، فسألتها على مطلوبي السابق، فاجأتني: إصعد إلى فوق بتجد مطلوبك». صعد وأخذ يفتش ليكتشف أن قضاء الحاجة في مرسيليا كانت تتم تحت التخت «هل المدينة مالها جشمات (مرحاض) لأن أرضها قريبة للماء، ولجل هل سبب ما بيقدروا يحفروا في الأرض. وبيقضوا حاجة الطبيعة كل واحد في أوضته… وفي الليل بيكبوها من الشباك على الزقاق. والسوادية (الزبالون) بيلموا ذلك النجس».

وبالانتقال إلى يوميات دياب في شوارع باريس (بهريس كما يذكرها في مؤلفه)، يذكر أنها جرت في سنة 1709، إذ قُدِّر له زيارة الملك لويس الرابع عشر برفقة لوكا. وخلافاً للكتابات الاستشراقية حول العوالم الخفية داخل منازل السلاطين العثمانيين في تلك الفترة، لا نعثر في التفاصيل التي يذكرها دياب في مخدع الملك عن شيء غير مألوف، ربما باستثناء حكاية عشق الملك من زوجته (جاريته سابقاً)، إذ تذكرنا طريقة سرده للحكاية، كما سمعها، بحكايا ألف ليلة وليلة التي كان يحفظها دياب جيداً، اذ تروي الأخبار أن كثيراً من حكاياها، لم يتعرف عليها الفرنسيون إلا عبر حنا دياب (علي بابا والأربعون حرامياً) قبل أن يجمعها ويترجمها على لسان دياب المستشرق الفرنسي انطوان غالان. لا يخفي دياب إعجابه بمحاسن مدينة باريس على صعيد التعامل مع الفقراء. ففي «هل المدينة ثمانماية كنيسة من غير الأديرة الرهبان والراهبات، وفي كل كنيسة جملة سناديق (صناديق)» مخصصة للفقراء والأرامل. وبسبب كثرتها لم يعثر في شوارع المدينة على فقير يتوسل ويطلب حسنة. وعلى مستوى الرعاية الصحية، يشيد بالمارستانات الفرنسية وبتنظيمها، وطريقة التعامل مع المرضى.

بيد أن ما بدا لنا في سياق المشهد الذي رسمه عن الحياة داخل هذه البيمارستانات أن دياب لم ير بعينيه كل شيء، بل اعتمد أيضا ًعلى ما سمعه. ومن بين الأمور التي لفتت اهتمامه ولاقت إعجاباً كبيراً هو النقاش بين الفرنسيين داخل الكنائس أثناء الصلوات، مع ذلك لا يخفي شكوته في هذه الصلوات من «النسا العلاكات (الثرثارات)». قد يعكس دياب في هذا الوصف موقفاً محافظاً، الأهم من ذلك أنه يكشف عن حضور متزايد لهن في الفضاء العام الباريسي. كما أن وصف دياب هنا يذكرنا بآراء البديري الحلاق ومواقفه المحافظة حيال الحضور المتزايد للنساء الدمشقيات في الفترة ذاتها تقريباً داخل الفضاء الدمشقي، حيث لا يتورع البديري عن تفسير هذا الحضور بوصفه يعبر عن انحلال أخلاقي وعن زيادة النساء «الشلكات» في المدينة.

مشاهد فوكوية:

وبالانتقال إلى مشهد معاقبة المجرمين التي رصدها دياب في شوارع باريس، نعثر على تفاصيل ومشاهد عديدة من عالم فوكوي، لا بل يمكن القول إن طقوس الاحتفال العقابي التي رواها لنا فوكو كان دياب شاهداً عليها. أحد هذه المشاهد جرى بينما هو واقف «رأيت الناس تتراكد، فصرت اركد (أركض) معهم» إلى أن وصل لأحد الساحات، حيث كان يُنفّذُ حكم الإعدام بمشلحين «أخذ الجلاد وضرب على الحرامي المربط على الصليب على ساعد الواحد ثلاث ضربات من ذلك الساطور حتى كسر عظامه إرباً إربا حتى كنت اسمع تكسير العظام. وضربه على ساعده الثاني أيضاً ثلاث ضربات وعلى ساقيه كل واحد ثلاث ضربات إلى أن ما بقى فيه عضو صحيح. أخيراً ضربه على صرته ضربة واحدة بقوله له «هذا إنعام من الملك»، حتى يموت بالعجل».

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى