سياسة

عن مصرع البغدادي -مقالات مختارة –

تصفية البغدادي: حقيقة واحدة وثلاث نظريات مؤامرة/ صبحي حديدي

كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أحدث المنضمين إلى نظرية المؤامرة الشهيرة التي تقول إن البغدادي، رأس “داعش” و”خليفة” هذا الزمان، هو صنيعة الولايات المتحدة؛ لأنّ التنظيم الإرهابي انبثق “بعد الغزو الأمريكي للعراق وإفراج الأمريكيين عن المتطرفين”، و”لهذا فإنهم، بدرجة ما، أقدموا على تصفية الرجل الذي خلقوه، إذا صحّ أنهم تمكنوا منه فعلاً”. ضمن التصريح ذاته، لقناة 24 الإخبارية الروسية، شدّد لافروف على أنّ القوات الروسية، المنتشرة على مقربة من الموقع الذي قُتل فيه البغدادي حسب رواية واشنطن، تواصل “دراسة حقائق إضافية، ولا تستطيع حتى الآن تأكيد معظم ما قالته الولايات المتحدة”.

قبل لافروف كان بشار الأسد قد أدلى بدلوه فاعتبر أنّ لا علاقة لنظامه بالعملية، ولم يسمع بها “إلا من الإعلام”، و”الأهم من ذلك” أنه لا يعرف إذا كانت العملية حصلت أم لا؛ لأنّ “السيناريو” الذي نشرته الولايات المتحدة هو “جزء من الخدع الأمريكية وعلينا ألا نصدق كل ما يقولونه إلا إذا أتوا بالدليل”. وإذا جاز أنّ لافروف يداري حرجاً عسكرياً ودبلوماسياً، جرّاء استباحة الحوامات الأمريكية لأجواء سيطرة الطيران الحربي الروسي؛ فإنّ الأسد، في المقابل، ينطق بالحقيقة من حيث لا يتقصد قول الصدق، لأنه بالفعل آخر من يعلم أو يُعلم!

نظرية مؤامرة ثانية تقول إن قوى قيادية داخل “داعش”، فاعلة وصاعدة، مكّنت البنتاغون من تصفية البغدادي ضمن الافتراض ذاته الذي يقول إنّ التنظيم صنيعة أمريكا؛ وذلك لأنّ “الخليفة” بات عبئاً ثقيلاً ومربكاً وسلبيّ الحضور والآثار، ليس فقط لأنه أوغل أكثر مما ينبغي في العنف وأراق الكثير من الدماء (في أوساط السنّة تحديداً، أكثر من سواهم)، فحسب؛ بل كذلك لأنه صار قعيداً ومريضاً ومشلول الحركة، وهذا أمر يناقض موقعه الرمزي ورصيده المعنوي لدى المؤمنين برضوان الله عليه وعلى خلافته. في عبارة أخرى: لقد توجّب أن يصفّيه صانعه، كي يأتي ببديل له أكثر ملاءمة للوظائف المناطة بالأصل، الـ”صنيعة” في أوّل الأمر وآخره.

نظرية ثالثة، لعلها الأكثر طرافة واقتناعاً بالقدرات التخطيطية الهائلة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، تقول إن توقيت تصفية البغدادي يخدم غرضاً خارجياً يتجاوز سوريا والعراق، منطقة عمليات “داعش” الكبرى، ليشمل آسيا وأفريقيا وأوروبا. ذلك لأنّ انحسار حركة “الخليفة” شرق الفرات، أو حيثما تبقى له من نفوذ لدى خلاياه النائمة وشبه العلنية، لا يعني انحساراً مماثلاً في مكانته لدى أنصاره وأتباعه هنا وهناك في العالم؛ بل قد يكون العكس هو الصحيح، إذ توطدت أكثر أسباب تمثيلاته كضحية لـ”قوى الكفر” و”الاستكبار” و”الصليبية المعاصرة”. لا بدّ، إذن، من تهشيم هذه الصورة المستجدة، بالطريقة الجذرية الوحيدة، أي تصفية صاحبها وحاملها وموضوعها.

ثمة، إلى هذا، نظريات مؤامرة أخرى رابعة وخامسة وعاشرة… لا تخرج، أغلب الظنّ، عن محاور النظريات الثلاث سالفة الذكر؛ لكنّ كلّ هذا التنظير التآمري، سواء حول استيلاد “داعش” أو استئصال “الخليفة”، لا يمسّ جوهر الحقائق الكبرى التي تتقرى جذور صعود هذا التنظيم الإرهابي، وتتوغل في عمق التربة التي أعطت هذا النبت الشيطاني. وبدل التلهي في ترجيح نظرية أو أخرى، الأجدى تقليب الأرض ذاتها والتيقّظ على العوامل المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أتاحت صعود “داعش”، ومهدت الدروب إلى ما تعرّض له الاجتماع الإنساني والوطني في سوريا والعراق من تخريب رهيب.

ولا يتوجب أن تُنسى معادلات التجنيد والتعبئة وحشد الأنصار والمتطوعين على هامش، ومن حول، العمليات الإرهابية الخارجية، في أوروبا بصفة خاصة؛ وكذلك توظيف موجات الرهاب ضد الإسلام، بغرض إعادة إنتاج الوحوش البشرية التي نفّذت أشدّ أعمال الإرهاب دموية. فالتجنيد المباشر جزء لا يتجزأ من الفلسفة التنظيمية للمنظمة الإرهابية، يتمّمه تجنيد غير مباشر لا يحتاج إلا إلى سلوك بغضاء مجاني ضدّ المسلمين؛ وما أكثره، في مجتمعات الغرب هذه الأيام!

القدس العربي

سرّ البغدادي/ بشير البكر

رحل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أبو بكر البغدادي، وأخذ معه كمية كبيرة من الأسرار التي تتعلق بمسار التنظيم الإرهابي الذي وُلد من رحم تنظيم القاعدة، ومن ثم تشعب وتمدّد في اتجاهات عديدة، حتى صار بمثابة مظلةٍ أمنيةٍ واسعة. وقد تكون الولايات المتحدة عثرت على ملفات مهمةٍ في البيت الذي شهد مصرعه ليل الأحد الماضي في قرية باريشا السورية القريبة من الحدود التركية، ولكن لن يصل أحد إلى إجابةٍ على السؤال الذي لا يزال يشغل بال العالم، ويتعلق بالصعود والسقوط السريعيْن لما سمّي بدولة الخلافة في العراق والشام التي بسطت سلطتها على قرابة 40% من مساحة العراق و30% من مساحة سورية، وامتلكت من أسباب القوة ما جعلها تقوم بعمليات إرهابية على امتداد العالم، ذهب ضحيتها آلاف.

وقبل أن تقرّر الولايات المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 شن معركة الموصل من أجل القضاء على “داعش”، كان العالم يعيش على وقع هذا الكابوس، ويستعد لمواجهة موجاتٍ من الإرهاب ذات كلفة عالية، وكانت تقديرات الأجهزة الأميركية والأوروبية تتحدّث عن مهلة عقدين لمحاربة التنظيم وهزيمته. وبدا أن تلك التقديرات متفائلة، نظرا لأنه في وقتٍ كان “داعش” يثير الرعب في عواصم محصنة أمنيا، مثل لندن وباريس وبروكسيل، لم تكن هناك استراتيجيات دولية وخطط لمواجهة هذا الوحش الفتاك. وحين بدأت الولايات المتحدة التحضيرات لمعركة الموصل لم يأخذها كثيرون على محمل الجد، بسبب استحكام “داعش” في العراق وسورية.

لم تكن هزيمة “داعش” في الموصل والرّقة سهلة، بل كانت عملية عسكرية صعبة وبالغة التعقيد، وكلفت أرواحا بشرية كثيرة، كما ألحقت دمارا هائلا بالمدينتين، وصل إلى نسبة الثلثين من العمران. وعلى الرغم من أن “داعش” تكبّد خسائر كبيرة في المكانين، وتم أسر عدة آلاف من مقاتليه، فإنه لا توجد رواية كاملة للمعركتين، وكل ما تم نشره لا يشكّل إلا النذر اليسير، ولا يقدّم صورة كاملة عن التنظيم الذي استطاع أن يبثّ الرعب في العالم. ومن أكثر القضايا غموضا هو مصير النسبة الكبيرة من مقاتلي “داعش” الذين تحصّنوا في الموصل والرّقة. وهناك أسئلة كثيرة مطروحة، وبقيت من دون إجابات، باعتبار أن أعداد أسرى التنظيم لدى السلطات العراقية وقوات سوريا الديموقراطية غير معروفة، وهناك تضاربٌ في الأرقام، فبعضهم يتحدّث عن مئات الأسرى، وهناك من يجزم بوجود آلاف.

ومن شأن التحقيق مع الأسرى تكوين روايةٍ عن الجهات التي اشتغلت داخل هذا التنظيم الذي يعد بيئةً خصبةً لعمل أجهزة المخابرات الدولية، ولكن السر الأكبر يظل عند البغدادي، بخصوص الجهات التي استغلت التنظيم، ولعبت به من أجل أغراضٍ محدّدة، أهمها حرف الثورة السورية عن مسارها. ولا يمكن، في أي حال، اعتبار الدور الذي لعبه “داعش” في سورية محض عمل نابع من أجندة خاصة لدى التنظيم، بقدر ما هو عمل تخريبي منظّم، جرى بإشراف أجهزة استخبارت مختصة، غير بعيدة عن الأجهزة الروسية والإيرانية والسورية. ويكشف تعامل النظام مع قيادات التنظيمات الأصولية وعناصرها عن منهجٍ محكمٍ لتوظيف هؤلاء للعمل وفق خطة المخابرات السورية. ويعود هذا العمل إلى فترة الاحتلال الأميركي للعراق، حيث عملت الأجهزة السورية على تجنيد الأصوليين لاستهداف الحضور العسكري الأميركي في العراق. ويتضح من خلال استراتيجية “داعش” أنه كان غير بعيد عن أساليب عمل مخابرات النظام السوري وإيران.

كان السوريون يأملون أن تنتهي المعركة مع هذا التنظيم على نحو مختلفٍ يسمح لهم بأن يحاكموه على أرضهم، ويقتصّوا منه على ما اقترفه من جرائم ضدهم، وعلى رأسها تخريب الثورة السلمية. ولذا كان مقتل زعيمه، أبو بكر البغدادي، على الأرض السورية عزاء لغالبية السوريين.

العربي الجديد

————————-

بين الجوكر والخليفة/ بكر صدقي

بميتة تليق به قتل الخليفة أبو بكر البغدادي نفسه، بعدما حشر في النفق، وجنود القوات الخاصة الأمريكية تطارده، إذ لم تعد النجاة ممكنة، ففضل الانتحار على القتل أو الأسر الذي سيكون أشد قسوة عليه من الموت.

ليس مصرع البغدادي تحصيل حاصل، بعدما فرط عقد دولته، بل من شأنه إضعاف وهج وجاذبية الجهاد العدمي ضد العالم، بما يفوق ما مثله مقتل أسامة بن لادن، أو أبو مصعب الزرقاوي، قبله بسنوات. فجهادية البغدادي اكتسبت أرضاً أقامت عليها دولة دامت أربع سنوات، فتسنى لها أن تمارس الحكم والحرب، الانتصارات والهزائم، إضافة إلى اجتذابها لمتطوعين من أربع جهات الأرض، وأسست بناها البيروقراطية، وفرضت قيمها ومدونة سلوكها على السكان المحكومين، فخرجت من كونها مجرد استعادة لماضٍ متخيل، لتتحول إلى دولة حديثة بكل مقوماتها، باستثناء الاعتراف الأممي بها كعضو في «المجتمع الدولي». وما كانت تسعى أصلاً وراء اعتراف مماثل، بل سعت، بدأب، إلى الاعتراف بوحشيتها واستثنائيتها. بهذا المعنى كانت دولة البغدادي دولة ضد الدولة، أو لا ـ دولة، أو الثورة الدائمة، أو الفوضى جميعاً.

ونجح البغدادي وتنظيمه ودولته في إعادة رسم خريطة المنطقة، باقتطاعهم قسمين متصلين من الأراضي العراقية والسورية، وفي الحث على تشكيل تحالف دولي ضم أكثر من ستين دولة لمحاربة دولتهم التي تمكنت من الصمود أربع سنوات ونيّف، ثم قضت الدولة وبقي التنظيم ورأسه، إلى حين مقتله أخيراً. كما نجحت «الدولة» في تغيير أولويات دول إقليمية وأخرى قوية على مستوى كوني، فاحتلت صدارة اهتماماتها، كاسرةً، إلى حين، مسارات ثورات الشعوب المختلفة تمام الاختلاف عن الثورة الجهادية.

كان من سوء «حظ» ثورات الربيع العربي أن تأسيس دولة الخلافة تزامنت معها. وضعنا الحظ بين قوسين للإشارة إلى أن هذا التزامن لم يكن مصادفةً مشؤومة، بل أشبه بالمصير القدري، باعتبار أن الخراب الناجم عن طريقة مواجهة أنظمة الماضي لثورات الربيع العربي قد شكّل البيئة المثالية لاجتذاب مجاهدي «إدارة التوحش» كاجتذاب الفراغ الهواء.

لا يتوقع أحد أن يؤدي مصرع البغدادي إلى اضمحلال مباشر وفوري لتنظيم «الدولة» الذي عرف إعلامياً باسم «داعش»، والأحرى إلى نهاية التيار الجهادي الذي سيبقى يتغذى على وقائع اللاعدالة وتجبر الأقوياء وفساد السياسة وانعدام آفاق التغيير. ربما يضعف «داعش» إلى حد كبير، في الفترة المقبلة، ويفقد وهجه الجذاب في عيون أولئك الجهاديين الناقمين على مجتمعاتهم في الدول القريبة والبعيدة، لكن التيار الجهادي سيكون قادراً على ابتكار أطر جديدة ووسائل جديدة تواظب على إقلاق راحة العالم.

أما «الحرب على الإرهاب» كما يمارسها «المجتمع الدولي» فهي قد تزيد من صعوبات الجهاديين في الحركة والتمويل والإعلام، لكنها ليست مرشحة للقضاء عليهم، بل من شأنها فقط مزيد من التضييق على الحريات الفردية والعامة داخل مجتمعات الدول المحاربة للإرهاب (وهذا من سلة أهداف الجهاديين أنفسهم) وتصعيد العسكرة والعدوانية في العلاقات الدولية، وإهدار المزيد من الموارد على هذا وذاك، بدلاً من إنفاقها العقلاني على الأسباب الحقيقية التي يتغذى عليها الإرهاب.

فتلك الأسباب هي نفسها، غالباً، التي أدت إلى اندلاع ثورات الشعوب. وإذا كان صعود «داعش»، والتيار الجهادي بصورة أعم، قد نجح في قطع سلسلة ثورات الربيع العربي، فها هي تعود مجدداً، بعد سقوط دولة البغدادي، من الجزائر إلى السودان إلى العراق ولبنان. ثورات متجددة على فساد الحكم وانحطاطه، وما ينتج عن ذلك من خراب عام لا علاج له إلا بتغيير كبير يشمل كل شيء. ولا يقتصر الأمر على المنطقة العربية، فهناك ثورات شعبية متشابهة في دول عدة (هونغ كونغ، بوليفيا، الشيلي، فرنسا..)، يجمع بينها نزول كتل شعبية كبيرة إلى الساحات والشوارع، لا تطالب بمطالب إصلاحية محددة، بل تستهدف النظام أو «السيستم» ككل، بحثاً عن العدالة والكرامة والحرية، وغالباً ما لا تكون لها قيادة واضحة.

فيلم «الجوكر» للمخرج تود فيليبس لامس هذه الأحوال بطريقته، فقدم شخصية تسحقها الشروط المحيطة بها، وهي شروط عامة أي سياسية في نهاية المطاف، فتدفعه إلى يأس مطلق حوّله إلى إرهابي. لكن الإرهابي هذا هو، في الوقت نفسه، بطل شعبي أشعل نار الغضب في الجمهور. لذلك اتخذت السلطات الأمنية في الولايات المتحدة إجراءات مشددة حول صالات العرض التي عرض فيها الفيلم، احتساباً لتأثيره المباشر على الجمهور. الحساسيات الغربية لا تسمح بتصور ثورات شعبية على طريقة ثورات عالمنا الثالث، بل تربطها بالإرهاب الفردي والعدمية. هكذا كانت ثورة «فانديتا» وهكذا هي ثورة «الجوكر». أما عندنا فهي تظهر في مسارين مختلفين ومستقلين، كلاهما لا يعبأ بدور مميز للفرد، هما الثورات الشعبية السلمية وثورات الجهاديين.

كاتب سوري

القدس العربي

————————————–

مصرع آخر الخلفاء/ عمر قدور

لم يغرز عدو سيفاً في صدره، ولا أصابه رمح في معركة، ولا ابتلع سمّاً كان يحتفظ به في خاتمه تحسباً لهذه اللحظة حسبما يحيل إليه المخيال عن معارك الخلفاء ونهاياتهم. بحسب الرواية الأمريكية، فجّر “الخليفة” أبو بكر البغدادي السترة الناسفة التي كان يرتديها، بعدما حاصرته مجموعة كوماندوس أمريكية في نفق المجمع السكني الذي كان يختبئ فيه، لنصل إلى النهاية المتوقعة لأحد أغرب فصول الإرهاب منذ نشأة تنظيم القاعدة وتفرعاته.

نهاية البغدادي كانت قدراً معروفاً للجميع مثل نهاية دولته، وسيكون من المستغرب حقاً لشخص على شاكلته ألا يعرف خاتمة مغامرته، وأن يكون قد مضى بها عن قناعة وإخلاص. على الأقل من المستغرب ألا يكون قد قدّر عواقب ذبح جيمس فولي على الرأي العام الأمريكي والغربي، وكيف أن معركة الجيش الأمريكي ضد داعش في شمال العراق ستتحول إلى معركة شاملة لا قدرة لتنظيمه على مجابهتها.

لو قُتل البغدادي قبل خمس سنوات لكان ذلك حدثاً مدوياً، أما مقتله بعد انهيار مغامرته فلم يعد له ذلك الوقع القديم رغم محاولة ترامب تفخيم الحدث على طريقته. رأينا مصرعاً مشابهاً قبل نحو ثمانية سنوات ونصف، عندما قُتل أسامة بن لادن بعملية مشابهة، وأيضاً بعد انهيار إمارة طالبان وتحوله من قائد وملهم للإرهاب إلى متوارٍ عن الأنظار يتدبر أمر نجاته يوماً بيوم. القدر المحتوم يربط بين الواقعتين، لا على الصعيد الشخصي فحسب وإنما أيضاً على صعيد تكرار المآل البائس للمشروع ذاته الأشبه بأسطورة سيزيف إذا أخذنا جانب حسن الظن.

لذا سنحظى اليوم بوفرة من التحليلات التي لا ترى في مقتل البغدادي نهاية لمشروع، والمؤسف فيها ما تحتمله من صواب. قبل التحليلات، سارعت جهات رسمية غربية إلى القول أن مقتل البغدادي لا يعني نهاية داعش، ولا يعني نهاية الإرهاب، وهي قراءة باتت معتادة من دون أن تُستأنف بتقديرات غربية تتعلق بالحرب عليه ومتى تنتهي، ومن دون جديد في ما يتعلق بأسبابه المباشرة وغير المباشرة. أهم من ذلك أننا، خارج إلقاء مسؤولية الإرهاب على الطرف الآخر، لا نحظى بروايات موثوقة عن الاستثمار فيه والاستثمار في الحرب عليه، ليبقى الشرق بطبيعته من وجهة نظر غربية مولّداً للإرهاب بحكم الثقافة الإسلامية، وليبقى الغرب من وجهة نظر مشرقية مولّداً للإرهاب بسياساته غير العادلة.

في الجانب المتعلق بنا، ثمة تفريق مغيَّب بين غضب قد يكون محقاً من سياسات غربية وطرق التعبير عن ذلك الغضب، فالغضب المشروع يفقد أحقيته وأخلاقيته عندما يسلك طريق الإرهاب الأعمى الذي يذهب ضحيته مدنيون ليسوا أصحاب قرار في مجتمعاتهم. هذا ما رأيناه في التفجيرات الانتحارية في أوروبا، حيث لم يحقق داعش أي نتيجة سوى ترويع الأبرياء، وبينما كان يتلقى الضربات الأقسى من القوات الأمريكية لم يتمكن حتى من ترويع المدنيين في الولايات المتحدة على النحو الذي فعله في أوروبا. وإذا أخذنا الحصيلة الكلية للضحايا في الجانبين، لا شك في أن الضحايا المحليين في الحرب على تنظيم القاعدة ومن ثم داعش، في أفغانستان والعراق وسوريا، أعلى بكثير جداً من مجموع الضحايا الغربيين، وكلفة هذه المواجهة غير المتكافئة على المنطقة واضحة جداً.

الواقع أن حرب التنظيمات الجهادية على المجتمعات المحلية لا تقل شراسة عن “الحرب على الإرهاب”، فحيثما تحكمت هذه التنظيمات أتت بمشروعها الخاص للهندسة الاجتماعية، ولم تجد طريقها إلى فرضه بـ”الحسنى” بل فرضته بممارسة أبشع أنواع القمع والإرهاب الداخليين. ذلك ينقض فكرة كونها تعبيراً عن حاضنة اجتماعية إسلامية، وحتى إذا كانت من قبل تلقى شعبية في بعض الأوساط فإن استلامها السلطة وممارستها الإرهاب ضد المجتمع يكشفان عن كون تلك الشعبية السابقة تعبيراً عن غضب من واقع سياسي سابق أكثر مما هو تعبير عن قناعة بالمشروع الجهادي.

في كافة التجارب أثبت الإسلام الراديكالي أنه لا يمكن إلا أن يكون ديكتاتورياً أو توتاليتارياً، ومن المعتاد في المقابل أن يقوى في ظل أنظمة ديكتاتورية أو توتاليتارية من نوع آخر. التجربة الوحيدة التي كُتب لها عمر مديد هي تجربة حكم الملالي في إيران، ويجوز لنا اعتبار ولاية الفقيه المعادل الشيعي لفكرة الخلافة، وكانت قوة الملالي قد انتعشت وتعيشت على ديكتاتورية الشاه وفساد حكمه قبل تسلم السلطة وتكرار أساليب القمع التي كان يمارسها مع تدخلات أشد عنفاً في الحياة الاجتماعية، فضلاً عن عسكرة أوسع للمجتمع عبر تنظيمات الحرس الثوري وغيره. من المحتمل جداً أن “نجاح” ثورة الملالي قد أعطى جرعة أمل للتنظيمات الجهادية التي تكاثرت في العقود الأربعة الماضية، وإذا كان يُحسب للأولى انضباطها فقد دلّ سلوكها اللاحق على أن النزعة التوسعية العابرة للحدود مشتركة بين الإسلاميين الذين لا يكنون احتراماً للدول القائمة، أو لمفهوم الدولة نفسه.

أن تتولى الميليشيات الشيعية والتنظيمات الجهادية، فضلاً عن الأنظمة الديكتاتورية، مهمة الإجهاز على المطالب الديموقراطية لثورات الربيع العربي أمر أبعد من المصادفة، من دون ردّه مباشرة إلى مؤامرة تجمع هذه الأطراف. تقاطع المصالح، والعداء الأصيل للديموقراطية، يكفيان ليعمل الثلاثي المذكور بتناغم تام، وتبدو التيارات الجهادية هي الأقل حنكة بسبب نشاطها الإرهابي الخارجي، لا بسبب إرهابها المحلي الذي يجمعها مع الطرفين الآخريْن. في الميزان السياسي، تظهر الجهادية السنية أكثر عدمية إذ تخوض ضد الغرب حرباً خاسرة، بينما تكتفي نظيرتها الشيعية بالشعارات المناوئة للغرب ما لم يضطرها الأخير إلى الدفاع عن نفسها.

أبعد من المصادفة أيضاً أن تنكشف في السنوات الأخيرة التنظيمات الإسلامية “بشقيها السني والشيعي” مع انكشاف الأنظمة، لأن قوى الماضي تبرز بكل قوتها في لحظات التغيير الكبرى. وبخلاف الفكرة التي تخلط بين الثورات والانقلابات فإن الثورات تجنح عادةً وبدايةً إلى السلم، على عكس قوى الماضي التي تقابلها فوراً بمختلف أشكال العنف. إن الحفاظ على الحاضر أو استعادة الماضي غير ممكنين إلا باستخدام المزيد من العنف تجاه المجتمع، وهذا ما رأيناه خلال السنوات الأخيرة حيث لم يكن العنف يُمارَس فقط، وإنما يُصوّر ويُوثّق من قبل ممارسيه كعتبة إضافية من الإرهاب.

لقد كان الفكر القومي العربي يصور الوحدة العربية قابلة للتحقيق لولا الإرادات الاستعمارية التي تعيق مشروعه، وكذلك هو الحال مع التنظيمات الجهادية التي تعتبر استعادة الخلافة ممكنة لولا تآمر الغرب “المسيحي-الصليبي” المعادي للإسلام. كانت التكلفة باهظة جداً باختبار مآل الفكر القومي مع الصدامية والأسدية، كذلك كانت التكلفة باهظة باختبار فكرة الخلافة مع البغدادي، والقول أن صدام والأسد لا يمثلان الفكر العروبي من طينة الظن بإمكانية ظهور خليفة جديد ينجح فيما فشل فيه البغدادي. إذا لم يكن لدى البعض قناعة من قبل بأن عصر الخلافة قد انتهى مع مقتل عبدالله بن المستنصر بالله على أيدي التتار، القادمين من الشرق لا من الغرب، فلعل قسماً من هذا البعض يرى في مقتل البغدادي نهاية لعصر الخلافة حيث لا يشفع للخليفة أن يلبس سترة ناسفة بدل العباءة.    

المدن

———————–

الخليفة والكلب/ أحمد عمر

فتح عينيه، فلم يجد زوجته وأمّ ابنه وحبّه!

كانت القناة الإخبارية ما زالت تبثُّ أخبار مقتل “الخليفة”، الذي آثر ترامب أن يبشّر به جمهوره الأمريكي بنفسه، ويروي الحكاية المشوِّقة لقتل أشرس إرهابي على كوكب الأرض، كما يدّعي الإعلام الأمريكي والعالمي، وقد اضطرت أمريكا إلى قتله في غير يوم العيد، ليس كما فعل قتلة صدام، فجعلوا عيد سنّة العراق مأتماً، وعيد خصومهم عيدين، والسبب لأن ترامب يريد أن يسحب القوات الأمريكية والوفاء بوعده لناخبيه، ولن يفي به، وما مواعيد عرقوب إلا الأباطيل، ثم تبيّن أنه سيعيد انتشارها بعد رفض الدولة الأمريكية العميقة، فأمريكا لا تخرج إلا بالشوكة من أرض دخلتها بالشوكة والسكين. ولم يذكر أحد أن ترامب أعلن يوم مقتل الخليفة عيداً قومياً مثل عيد الشكر.

كانت الساعة الثانية عشرة ليلاً، بعد دقيقة يبدأ يوم آخر، ولم يعد للأيام وتواليها معنى، استوت عنده الأنوار والظلم.

الشقة صغيرة، ولا أثر لها، سمع صوت الباب الخارجي، قفز من الأريكة التي كان قد غفا فوقها من شدة التعب إلى النافذة، فوجد زوجته بزينة الخروج، تغلق باب الحديقة وتغادر، أين ستذهب في هذه المدينة الألمانية الموحشة؟ وليس لهما صديق أو نديم. نظر إلى طفله النائم، وقال: مجنونة، حقاً إنها مجنونة، أمّ تترك طفلها في منتصف الليل وتخرج. النساء لهن أمور عجيبة يعجز الفلاسفة عن فهمها، أو أنها تجعل الناس فلاسفة؛ مثل شهوات الوحام، وحمّى الغضب، والحب بلا حدود، والبغض بلا حدود، قرّر أن يلحق بها رغم تعبه وميله إلى النوم الذي أطاح به خروجها. نظر إلى طفله النائم، وأمل في أن يبقى نائماً، فلو استيقظ لن يجد أحداً في البيت.

 لعل تعبه وانشغاله بالعمل الذي سلبه حياته سبّبا خروجها عليه، فهو يعمل في سوبر ماركت، لم يعد بشراً سوياً، صار شبه آلة، يعود منهكاً كل مساء، فيأكل ثم يتابع بعض الأخبار، ويغفو، من غير حتى أن يكلِّمها. ارتدى ثيابه بسرعة، ركب السيارة، ولحق بها، وجد زوجته تنتظر الباص، ركبت، فلحق بها، وصل الباص إلى مركز المدينة، نزلت، فأوقف سيارته، وتوارى خلف الشجر، كان شاب ينتظرها، تعانقا عناق التحية الألمانية، زوجتي وأمّ ولدي المرضع لها عشيق! يبدو أنها تعرفت إليه من خلال الفيسبوك، أو من خلال إحدى الألعاب على الشبكة العنكبوتية، زوجتي تخونني! أمّ تخون زوجها وابنها الرضيع الذي لم يفطم بعد! هذا لم يُسمع به في زبر الأولين، إنها ضريبة الغربة وإتاوة الجمال، هي جميلة، ولا تشبع من الإطراء والمديح، وكانت في حصن منيع في الوطن، فحولها الأهل، تزور وتزار، لم تكن تجد لزوجها وقتاً من كثرة الزيارات، كانت في منعة من أهلها وبهم، وهي الآن وحيدة، وسوى ذلك بثّتْ فيها دورة التأهيل اللغوي والإعداد الاجتماعي أفكار الحداثة الأوروبية، فهي امرأة ولها حقوق، وحقوقها أكثر من حقوق الرجل، والدولة تنصرها على الرجل ظالماً أو مظلوماً، الحق مع المرأة دائماً في محاكم الغرب، وإذا كانت شرقية ناصرتها الدولة أكثر، الدولة الأوروبية ضد الأسرة.

 ماذا يفعل الآن، وهو مشغول بطفله الذي تركه وحيداً، هل يحضر من صندوق السيارة مفتاح الصليب ويقتلها مثلما قتل أبو مروان زوجته، فيصير السوري خبراً عالمياً في شرائط الأخبار، ويجعل الناس تذكر دكتاتور سوريا بالخير لأنه كان يُخضع المتوحشين السوريين لقوة القانون، أم يتصرف بحكمة؟ أي حكمة تنفع مع الخيانة الزوجية. اتجهت مع عشيقها إلى شارع مظلم، فلحق بهما، لعلهما سيقصدان مكاناً يجلسان به، مقهى مثلاً، لم يتحمّل أكثر، فاقتحم خلوتهما في الظلمة وبرز أمامهما شاخصاً يضبطها بالجرم المشهود. فوجئ الرجل، ملامحه شرقية، لعله تركي أو باكستاني، فوجئتْ زوجته أيضاً، تلعثمت، وهذا يعني أنها تحسُّ بالذنب، وقالت ببرود تعرّفهما ببعض: زوجي، صديقي.. ارتبك الرجل، وخاف، لو كان ألمانياً ما خاف، قال صديقها معتذراً مستغفراً: نحن نتمشى…

 قال وعيناه تقدحان شرراً: تتنزّه مع زوجتي في منتصف الليل!

 سأله وهو يشير إليه بإصبعه وكأنها سنان رمح: من أي جنسية؟

 قال صاحبها: تركي.

 الرجل ليس عليه ذنب، لعله لا يعرف أنها متزوجة، الخطأ خطأ الزوجة.

 قال لها وهو يكتم غضبه: ابنكِ نائم وما زال يرضع، وهو يرضع كل ساعتين، تركتِ طفلك من أجل عشيقك يا خائنة!!

 قرأ التركي سورة الغضب وتراجع وهمَّ بالهرب، جرائم الشرف منتشرة في ألمانيا، وكل مرتكبيها وافدون. كانت الساعة قد ناهزت الثانية عشرة والنصف من شيخوخة ذلك اليوم الذي بدا وكأنه الأخير في التاريخ.

 يعرف أن زوجته جميلة وتحبُّ المديح، لا تشبع من الثناء، والغانيات يغرهنّ الثناء، ولا تردّ يد لامس، وتفرح بكل غزل، لم يعد يثني عليها منذ أن عمل، مع أنه يحبها، كان ما يزال يظن أنه في شهر العسل الذي يطول سنتين في بلادنا أو ثلاثاً، لكن مشكلة زوجته هي جمالها، وهي تقبل الثناء من أي أحد، من كل أحد. سأل نفسه، ماذا لو صاحت، ماذا لو اشتكته إلى الشرطة، ماذا لو قتلها؟ سيفقد الولاية على الطفل، ويؤول إلى جمعيات ألمانية، ربما لن يرى طفله بعد الآن، وسيفقد زوجته الجميلة، فهو يحبها وهي حسناء، تشبه الألمانيات، وإن قتلها سيكون قاتلاً ووحيداً وحدة مطلقة، فهو لا يعرف أحداً في هذه المدينة سوى زوجته وابنه، لن يزوره أحد في السجن.

 وقف الثلاثة، التركي متقهقر من الخوف، ويتحسّب للفرار خوفاً من البطش به، وهو يرى الغضب في عيني خصمه، والزوج حائر، قلبه ما زال مشغولاً بطفله، ويخشى أن يكون قد استيقظ، زوجته عنيدة، وتحبُّ الغزل ولا تشبع من الحب والمديح، ولا تردّ يد لامس.

 عاد الثلاثة إلى مركز المدينة المضيء، زوجته والتركي في المقدمة، وهو وراءهما، كأنه يقودهما معتقلين بغير سلاسل مرئية، التركي ما زال مرتبكاً، ولا يتكلم مقراً بذنبه. وجد أنه لن يستطيع أن يقنعها بالعودة، فقد حطّم كبرياءها، وأحرجها أمام صديقها الجديد، فهي غاضبة ولن تعود، وهو لا بد أن يعود، فطفله وحيد في البيت. اقترب من التركي، وهو يفكر في اللجوء إلى التهديد، لكنه نكص، وقال له بألمانية ركيكة فوجئ العشيق التركي من نبرتها اللينة التوسلية: زوجتي تحبني وأنا أحبها، ولدينا طفل رضيع، زوجتي مجنونة، أنصحك بإقناعها بالعودة إلى زوجها وطفلها، أنت تركي وتفهم، ثم قال له: أرجوك، وانحنى وقبَّل يد عشيق زوجته!

 ركب السيارة وعاد، وصل إلى البيت، كان طفله نائماً، وترامب ما زال يخطب ويذكر بطولاته، ذكر أن كلاباً شاركت في عملية الاغتيال الناجحة التي شاركت فيها خمس دول، وكأنها حرب عالمية، وأبرزت الفضائية الإخبارية راعياً سورياً شاهداً أنكر أنَّ المقتول هو البغدادي، وخرج محللون يحللون تغريدة ترامب عن الكلب الذي شارك في العملية وجُرح.

 جلس ينتظر زوجته، كيف ستعود، بسيارة أجرة؟ كان متعباً وضائعاً، ولا يعرف هل يبكي، أم يعود إلى جوار طفله وينام، كيف سينام؟ وراح يفكر، هل يذهب غداً إلى العمل، أم يعتذر، أم ينتحر؟ أيقن أنّ شيئاً كبيراً قد تغيّر في حياته، وأنه اندمج، وصار ألمانياً تام الاندماج، وأن الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات. لعل السبب في كل هذه المصائب هو لحم الخنزير وشحمه الذي يدخل في كل الأطعمة، حتى الهواء فيه ريح الخنزير.

 استرخى بجانب طفله وقبّله، واعترف لنفسه أن خصمه، وعشيق زوجته أوسم منه وأجمل، وأن حلاقته كانت حديثة الطراز، وأنه يشعر بالعار، وأنَّ:

 شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ

 وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

 ذكر المذيع أنَّ ترامب قال في التغريدة إنه قد يبثُّ قسماً من فيلم الاغتيال، وإنه لن يكشف هوية الكلب البطل الجريح الذي شارك في عملية اغتيال الخليفة، وقال محلل سياسي: إن الكلب الأول صنع خلافة، وإن الكلب الثاني سمح لها بالنشوء، وقد دُمّرنا مرتين، مرّة من الكلب الأول، ومرّة من الكلب الثاني.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى