ثقافة وفكر

“الدولة المستحيلة” إلى حروب أهلية في الحروب الأهلية/ وضاح شرارة


حين أرَّخ جاك بيرك، “المغربي” (الهوى) – الفرنسي، للقرن المصري الذي سبق الثورة على أسرة محمد علي (في مصر، الإمبريالية والثورة، 1967، باريس)، انتهى إلى أن مصر عشية الثورة، أو الانقلاب، كانت حبلى بنذر حرب أهلية تحت الرماد أو “خلَلَه” على قول نصر بن سيار قبيل استيلاء بني عباس على الملك/الخلافة. وطرفا الحرب المزمعة والمحتملة التي تدب في طوايا المجتمع المصري وثناياه هما حزب “الأصولية” الإسلامية، وحواشيه وضواحيه، على ما سماه أنور عبدالملك، المصري الشيوعي في 1962. ولم يخلص في كتابه مصر مجتمعاً عسكرياً إلى ما خلص إليه المؤرخ الاجتماعي الفرنسي. فشخص أحوال مصر السياسية والاجتماعية والثقافية في ذلك الوقت على مثال تحليلي “بونابرتي” شاع في بعض الأدبيات الماركسية، وذهب إلى أن الانقلاب العسكري هو ثمرة “انسداد” الصراع السياسي بين قوتين قريبتين من التعادل والمساواة، وتسليم “الطبقات الحاكمة” بانتداب قوة “إدارية – تقنية”، شأن الجيش الوطني، إلى الحكم.

وكان عبدالملك، في 1963، غداة التأميمات الناصرية، أشد تفاؤلاً منه في 1961، تاريخ كتابته مصنفه الأول. فزعم في أطروحته الجامعية، الإيديولوجية، أن الناصرية دمجت في كيان فكري ومركَّب “الأصولية” الإسلامية والحداثوية الليبيرالية. وجمع في الباب هذا التيارات الليبرالية الوطنية، ومثَّل عليها بأحمد لطفي السيد وطلعت حرب وغيرهما. وأدخل فيها، إلى صحافيين مصريين ولبنانيين، رفاعة رافع الطهطاوي. وأرجع الأصولية المفترضة إلى أعلام الفكر الإسلامي “النهضوي”، محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. فحذف من التاريخين، التاريخ السياسي الاجتماعي والتاريخ الفكري، طيف الحرب الأهلية الأسود وغاشيته المدمرة. والاحتجاج، اليوم، غداة نيف ونصف قرن، لجاك بيرك على أنور عبدالملك، والانتصار الأول على الثاني، تمرين “فكري” سخيف إذا اقتصر على المقارنة والمفاضلة المجردتين، وتجنب تناول مدار الخلاف والتباين.

ويرجع الفرق بين التشخيصين والوصفين إلى اعتقاد الكاتب المصري مجاراةَ النزاعات السياسية والاجتماعية مثالات عامة واحتذاء النزاعات على هذه المثالات. وهذا ما سماه التقدميون الستالينيون- والنسبتان مترادفتان تقريباً إلى اليوم في السياسات والأفكار العربية – “قوانين الصراع الطبقي” (عطفاً على مقال الكاتب: قيام الساعة على باب مصرف أميركي في بيروت). والحرب الأهلية، وهي “ذروة الصراع الطبقي” في المعتقد التقدمي والثوري المدرسي نفسه، ينبغي أن تؤذن بـ”الثورة الأخيرة”. وهذه تمهد الطريق إلى “ديكتاتورية شعبية” على أضعف تقدير، في انتظار اشتداد عود طبقة عاملة عريضة كانت مقدمة الثورة الضرورية، ثم أمست وليدة انتصارها المرجأة والبعيدة وربما الممتنعة.

وعلى رغم تنبه أنور عبد الملك إلى احتساب دور الأفكار وأصحابها الرسميين (“المثقفين”) في النزاعات السياسية والاجتماعية- وهو مُدح على هذا الاحتساب وتابعه عليه كثرٌ من بعده، جعلوا منه عاملاً تاريخياً نافذاً-، أهمل أو قلل تقدير قوة  النزعات “الأصولية” الفاعلة في الأبنية الاجتماعية، وأغفل ما يترتب على تخللها الحركات والسكنات والألفاظ والمعاملات والتربية والهيئات والروايات وملابستها إياها. وراهن على قوة “سنة النشوء والترقي”، أي الحداثة الرأسمالية والتقنية في صيغها التقدمية والإيديولوجية، على قول الألماني يورغين هابيرماس.

وعلى خلاف عبد الملك “البنيوي”، وحمله الحوادث والوقائع على نتاج المواقع والمصالح وعلاقاتها، غلّب جاك بيرك “المقاصد” والروايات والرؤى المشتركة، و”مفاوضتها” المتجددة العواملَ الطارئة، على ما عداها. وذلك بمعزل من صيغ “قانونية” وعمومية. وجاءت علامات في الطريق (1961)، ودعوة صاحبها سيد قطب إلى التكفير والمفاصلة والهجرة، رداً على “جاهلية” (المجتمع) والدولة الوطنية وبرلمانيتها وتشريعاتها “الوضعية” وحزبها الواحد واستخباراتها وتأميماتها، وإيذاناً حاداً بقوة “الأصولية” على الانبعاث، وتحديث مناهجها الفكرية والعملية، وعلى تحريكها موارد الثورة (“الخروج”) على مركزة السلطان واجتراحها معنى موجباً ومبتدِعاً للسياسة، وإحاطته بمرافق الاجتماع ونفاذه إلى مقومات الأفراد، وتغليبها أهل المرافق المحدثة والمبتدعة على أهل المرافق المعروفة (الجند والدوواين والأسواق والأصناف والطرق)، وتقطيعها “الأمة” وهيئتها الجامعة “دولاً”. وجُمعت “البدع” كلها في باب “الدهرية” و”الكفر” و”الردة”. وجمع علاجها في باب “الحاكمية”. ولعل هوى بعض الكتاب الأوروبيين من أصول إسلامية وعربية، وتيار من الكتّاب والصحافيين “الخمينيين”، بالحداثة النقدية و”تفكيكها” التراث الغربي، وببعض حركاتها السياسية “الانتفاضية”، اليمينية واليسارية على حد سواء، لعله فرع على الأصل القطبي هذا، وعلى مضمراته ومترتباته.

فما تنكره القطبية- وهي لا تقتصر على “ملة” الرجل و”نحلته” بل تلخص آراء ومواقف ترجع صيغتها الأولى من التاسع عشر (قبيل “التنظيمات” العثمانية وفي فصلها الأول) ولا تنتهي عند الخميني وأصحابه- على “الغرب” هو الانعطافة التي أسلمت تدبير الأرض والزمن إلى أهل الأرض. فأجلت “السماء” عن المحل الأرفع المادي والمعنوي الذي كان لها في كون بطليموس و”جغرافيته”، وملأت المحل بحسابات كوبرنيكوس. وأخرجت الإيمان والحقيقة من عهدة الكنيسة والامبراطورية وأودعتهما الوجدان واختباراته، وقوضت الجماعات والمراتب وناطت بالأفراد الآحاد إنشاء لحماتهم، واستئناف هذا الإنشاء جيلاً بعد جيل. فـ”الجاهلية”، أو “الدهرية” في مصطلح الأفغاني، أو “الردة”، على قول أبو بكر ناجي (صاحب إدارة التوحش، 2005)، هي هذا كله في “جسد” التوسع الأطلسي، وسيطرة دولة الرأسمالية الليبرالية والديموقراطية. وأول ما طعن عليه عبد الرحمن الجبرتي المصري، الشاهد على الحملة الفرنسية وعلى استيلاء محمد علي باشا على مصر ومؤرخ يوميات الحادثين إلى حين وفاته في 1825، ليس الاحتلال، ولا تحطيم حكم “المصرلية” المماليك بالقوة، بل إعمال الغزاة الآتين من البحر “عقولهم” في أمور الشرع و”وطأهم” ما قدروا عليه من النساء، وما شاكل.

فبدا أن صورة السيطرة الجديدة تخير أهل المجتمعات المغلوبة ين التحاق مستحيل بها، وعلة استحالته اقتضاؤه عوامل لا تملكها المجتمعات وتخالف شروط امتلاكها أركانها ولا يرغب الفاتحون في امتلاكها إياها، وبين تخل عن مقومات تماسكها يودي بها إلى التصدع والتفتت. والحق أن المجتمعات جمعت، على مقادير شديدة الاختلاف وفي أوقات وظروف متباينة، ومضطرة، الأمرين معاً. ولا تزال على هذا، فتلتحق ما وسعها الالتحاق بمثالاتها، ومقدار ما تحتاج مثالاتها إلى التحاقها، وفي الدوائر التي تحتاجها. وتداري، على الوجه الآخر، صدوعها. فتحاول معالجتها من طريق طبابة سياسية إرادوية. وتحملها هذه تدريجاً على محاكاة المثال الذي تريد مقاومته وتثور عليه، وتنشئه إنشاءً هوامياً: فهو في الخارج وفي الداخل عنف وتوحش خالصان، وعدوان من غير قيد، واستغلال مدوٍ، واحتيال وتشبيه مقيمان. وغالباً ما يقود مزيج الأمرين، الالتحاق والإرادوية، إلى محاكاة المثال على صورته المتوهمة، اطراح أضداده الداخلية. فتنتزع “الدولة” إلى التهام المجتمع وجماعاته على نحو ما صور سلمان رشدي الخميني في “آياته”. وتبطل تنوعه وكثرته وفروقه المركبة في قومية كليانية ومرصوصة لا تبلغ ولا تدرك، وتُعمل تمزيقاً في الجماعات. 

 المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى