الناس

النكتة السياسية في سوريا.. تراث مضاد للاستبداد/ مصطفى ديب


طالما كان لغياب الديمقراطية ومصادرة حقّ الإنسان في المشاركة، والإفصاح عن رأيه من خلال إغلاق وحظر المنابر والفضاءات كافة أمامه، أثر كبير على بنية المجتمع السوري وآليات التعبير فيه. غير أن الأمر اشتد وأخذ يبلغ أقصاه مع بدء بناء الدولة الأمنية والاشتغال على تصدير الحكايات المروّعة عن سجون النظام وما يحلّ بالبشر داخلها، لغرض تخويف وإرهاب من هم في الخارج، ومنعهم من أي عمل أو نشاط سياسي.

في ذلك الوقت، وبينما كان نظام الأسد تحديدًا سائرًا في تثبيت ركائز دولته الجديدة، كان السوريون يبحثون عمّا يُعبّر عن غضبهم وحنقهم ورفضهم لهذا الوضع، ولكن بعيدًا عن التظاهرات أو الصحافة والإعلام، ذلك أنّ أمورًا كهذه كان مصير من يُقدم عليها معروفًا، ومرعبًا كذلك. ويُمكن القول إن الأمر كان ضرورة، أي البحث عن وسائل تعبير أخرى، تُجاري حالة الغليان التي يعيشها المجتمع السوريّ، وعدم الاستقرار الذي يشهده، وتكذّب في الوقت نفسه مقولات النظام عن الاستقرار والهدوء وتأييد الشعب للحكم.

هكذا، بدأ توجّه المواطن السوريّ نحو النكتة السياسية الساخرة كتعويضٍ عن الوسائل الأخرى المفقودة، والتي من الممكن أن تودي بمن يتجرأ لاستخدامها إلى الهلاك، نظرًا لمدى بطش النظام القائم. وبالتالي، أصبح للسوريين بذلك مساحة جديدة ومُغايرة يستطيعون فيها أن يسخروا من النظام بالشكل الذي يريدونه، وإن كان ذلك يحدث بأدنى درجات الحريّة، وبأقصى درجات الخوف. وكانت النكتة آنذاك، كما هي الآن، وكما ستظلّ دائمًا، تضمن لمن يبتكرها الانتشار السريع بين عموم الشعب، وتساهم أيضًا في تكوين حالة من الرفض السري عند السوريين للنظام، وتستطيع حشد أكبر عددٍ من الأصوات المُعارضة ضدّه، بغضّ النظر إن كان ذلك يحدث علنًا أو سرًّا، عدا عن أنّها كانت أقرب إلى وسيلة لنقل الأخبار، لا سيما تلك التي تظلّ دفينة المكان التي حدثت به.

وعدا عن الانتشار السريع والمساهمة في حشد رأي عام مُعارض ورافض للنظام القائم، كان من الأمور الأخرى التي ميّزت النكتة السياسية أيضًا أنّها كانت تتناول أحداثًا عنيفة ودموية إجرامية بأساليب ساخرة، إذ كانت تُعيد صياغة حدث ما ليُعاد طرحه وتناوله بأسلوبٍ آخر يلقى انتشارًا ورواجًا أسرع. نستعيد هنا نكتة شهدت رواجًا واسعًا في أوج الصراع بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت الأسد على السلطة، وتغلّب الأخير على الأوّل لجهة ولاء بعض قيادات وجنود الجيش له.

تقول النكتة إنّ حافظ الأسد “تجاوز بالخطأ إشارة مرور أثناء قيادته لسيارته بمفرده، الأمر الذي استدعى تدخّل شرطي طالب الرئيس بأوراقه الخاصّة، وسط ذهول الأخير الذي ظنّ أنّ الشرطي لم يعرفه، فسارع إلى تعريف نفسه بالقول “أنا الرئيس حافظ الأسد يا ابني”، دون أن يكترث الشرطي بالأمر أو يحيد عن مطالبته بالأوراق، في الوقت الذي كان فيه الأسد يحاول فرض نفسه كشخصية قوية ومرعبة ومخيفة باعتبار أنّه رئيس البلاد. علت أصوات الأسد والشرطي ليتدخّل الضابط المسؤول الذي رأى حافظ في السيارة، فسارع إلى الاعتذار منه وصرفه، ثمّ التفت إلى الشرطي بغضب وقال: بدك تخرب بيتنا إنت؟ ما بتعرف انه هاد أخوه لرفعت الأسد؟”. كان لهذه النكتة القدرة على تناول هذا الحدث الفارق في تاريخ النظام السوري بأبسط صورة وشكل، وتفسيره بأسلوب ساخر يُغني الإنسان عن مئات الأحاديث التي تتناول الصراع الذي حدث بين الأخوين على تولّي زمام الحكم، ومحاولة تفسيره.

ينطبق ما سبق ذكره على مواضيع أخرى متعدّدة اشتهر بها نظام عائلة الأسد، وتناولها السوريون بسخرية لاذعة وحادّة. من بين هذه الأمور، ودون شك، الخوف الذي سعى الأسد الأب ومن بعده الابن إلى تصديره للمواطنين، عبر حكايات تخرج من سجونه إلى عموم الشعب. وبطبيعة الحال، كان التخويف والإرهاب هما أكثر ما اشتهر به نظام الأسد. يشعر المتلقي لبعض من هذه النكات التي تناولت الموضوع السابق، أنّها ابتُكرت في لحظات يأس حادّة بفعل الرمزية والدلالات التي تحملها كلّ نكتة بين كلماتها. نستعرض واحدة هنا كان المغزى منها وصف مدى عنف وقسوة النظام: “يُقال بأنّ الله طلب من ملك الموت عزرائيل أن ينزل إلى الأرض ويقبض روح حافظ الأسد، فاحتجّ عزرائيل مُذكرًا الله بقوة حافظ الأسد وبطشه، قبل أن ينصاع لأوامر ربه وينزل إلى الأرض لتنفيذها. وعند باب القصر، اعتقلوه عناصر المخابرات وأشبعوه ضربًا وتعذيبًا ليعود إلى الله مدمّى. سأله الله عمّا حدث، ليجيب عزرائيل: شوفة عينك، لقطوني المخابرات. ردّ عليه الله قائلًا: اوعك تقول أنا يلي بعتك” وهذا النص الحرفي للنكتة الشعبية كما تم تداولها في الشارع السوري.

إنّ الجوع والفقر والتهميش الذي شَهدهُ السوريون في عهد الأسد الأب، كان دون شك سببًا آخر لابتكار نُكاتٍ تتناول هذا الأمر بأسلوبٍ أو بآخر، وكالعادة، أسلوب ساخر يعبر عن مجتمعٍ شديد الغليان. اختار من ابتكرالنكتة التي تناولت الفقر والجوع في عهد الأسد الذي جاء بشعاراتٍ عدّة توهم الشعب بأنّ جوعهم وفقرهم سوف ينتهي، أن يكون بطلَها جندي من الجيش، في إشارة إلى الكيفية التي يُعامل الجنود بها، أي الذين يضمن الأسد بقاءه في سدّة الحكم من خلالهم. تقول النكتة: “هناك جندي جاء فرزه إلى الحدود السورية – الإسرائيلية في الجولان المحتل. هناك، وقف أمام مجموعة من الجنود الإسرائيليين الذين دعوه إلى تناول الطعام معهم، فرفض قائلًا: لدينا أسد، هل لديكم أنتم أسد؟ فانصرف الإسرائيليون ليعودوا الكرّة مرّة أخرى في اليوم الثاني، ليرفض مُعيدًا ما قاله في اليوم السابق: لدينا أسد، هل لديكم أسد؟ في اليوم الثالث حدث الأمر نفسه، ما دفع الجنود الإسرائيليين للمجيء بأسد وضعوه إلى جانبهم، ومن ثمّ دعوه إلى تناول الطعام معهم، فردّ الجندي السوريّ: لدينا أسد، هل لديكم أسد؟ فأجاب الإسرائيليون بالموافقة وأشاروا إلى الأسد، ليجيب السوريّ: اي ما عاد تشبعوا الأكل من اليوم ورايح”.

عهد الأسد الابن

مات الدكتاتور، كما انتشر بين أوساط السوريين بعد وفاة حافظ الأسد، وتولّي بشار الأسد حكم البلاد، وسط موجة من التفاؤل بين السوريين بالرئيس الشاب الجديد الذي صعد إلى الحكم بشعارات ووعود بالإصلاح وتفعيل الانفتاح السياسيّ في البلاد، وتحسين الواقع المعيشي للمواطنين. ولكن سرعان ما خاب أمل الشعب، وأدركوا أنّ “الولد سرّ أبيه”، وأنّ الابن نسخة أشدّ سوءًا وأكثر فسادًا من الأب. هنا، عاد السوريون إلى النكتة للسخرية من الواقع الجديد، ومن الأسد الابن. وللتعبير عن غضبهم مما حلّ بهم، انتشرت بين السوريين آنذاك النكتة التالية: “دخل بشار الأسد إلى أحد حمامات دمشق القديمة ليستحمّ فيها، وعند خروجه سأل الحمّامي: كم الأجرة؟ ردّ الحمّامي: 200 ليرة. بشار: لماذا؟ والدي كان يأتي ليستحمّ عندك وكنت تأخذ منه 100 ليرة فقط! الحمّامي: إي بس انت أوسخ من أبوك”.

استمرّت النكتة إذًا، لا سيما بعد اشتداد القبضة الأمنية في عهد الأسد الابن، وتحوّل البلاد إلى جهازٍ أمني كبير. لا حقوق ولا حريّات ولا وسائل تعبير. في هذا الوقت، كانت النُكات الساخرة لا تزال تُطبخ على مهل، ولا تزال تنتشر بين السوريين، إلى أن قامت الثورة التي أفردت مساحات كبيرة لتداول النكات القديمة بحريّة، وابتكار أخرى جديدة. حالة من السخرية الشديدة سادت في الأشهر الأولى من الثورة، فبات عند السوريين في مدينة حمص مغسل ومشحم دوليّ للدبابات. وإن سألت عن منزلٍ أحد الأشخاص، فقد يكون “بعد ثالث دبابة على إيدك اليمين”.

من أكثر النكات تداولًا في تلك الفترة، أنّ شخصًا كان عالقًا في زحمة السير، فجاء شخص آخر يخبط بيده على نافذة السيارة. فتح السائق وسأله عمّا يريد. فأخبره أنّ الثوار تمكّنوا من خطف الرئيس بشار الأسد، ويطلبون فدية مالية كبيرة لإطلاق سراحه، أو أنّهم سيقومون بحرقه بالبنزين، وأنّه الآن يقوم بجمع تبرعّات. سأله السائق عن الحد الأدنى للتبرعات. فردّ قائلًا: من 3 إلى 5 لتر بنزين.

في ضوء كلّ ما سبق، وفي سياق الحديث عن النكتة السياسية الساخرة، كشكلٍ من أشكال المقاومة والثورة، لا بدّ من المجيء على ذكر بلدة “كفرنبل” الواقعة في محافظة إدلب، شمال سوريا، والتي شكّلت من خلال لافتاتٍ بعباراتٍ تنتقد النظام، علامةً فارقةً في مقاومة الأخير بالأساليب السلمية، وجسّدت المعنى والشكل الحقيقي لمقولة المقاومة الساخرة، الأمر الذي كان كفيلًا بأن تلقى حصّة كبيرة من براميل الأسد المتفجّرة.

الحديث هنا عن لافتات حملت من الرمزية ما يكفي للمحافظة على الثورة بوجهها المدنيّ الرافض لكلّ ما يُرتكب خارج إطار أهدافها ومطالبها الأولى، وغير المنحازة إلى أي طرفٍ مُعارض مسلّح شذّ عن الأساس والأصل، واتّخذ طرقًا أخرى متعدّدة لا تتقاطع مع طريق الثورة. هكذا، صانت لافتات كفرنبل الصورة النبيلة للثورة، وأصّرت على أخذ موقفٍ معارض لكلّ التنظيمات المتشدّدة التي سعت بشكلٍ دؤوبٍ لضرب الثورة، وكلّ الأشكال السلمية لها، وإن اضطّر الأمر إلى اغتيال أبرز رموزها، كاغتيال رائد الفارس وحمود جنيد على يد مجهولين يجزم الشارع السوريّ انتمائهم إلى هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) قبل عدّة أسابيع من الآن، علمًا أنّ الفارس كان هو مهندس لافتات كفرنيل الشهيرة، بعباراتها التي تحمل أبعادًا كثيرة، تدلّ وتشير إلى ثورةٍ شعبية لا تزال مستمرّة، وغير معنية بكلّ ما طرأ عليها من تحوّلات ومحاولات لجرّها، وإلى وفرض تبعيتها لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر. وبالتالي، كانت لافتات كفرنيل المتنفّس الوحيد والأخير للسوريين، الذي أتاح لهم التعبير عمّا يجول في صدورهم، وانتقاد النظام والمعارضة معًا، وجهات سياسية كالائتلاف، وأخرى عسكرية كالفصائل المسلّحة، وتلك المتشدّدة أيضًا.

في النهاية، من المفيد القول إنّ النكات التي أطلقها السوريون، بعد الثورة تحديدًا، لم تقتصر على النظام فقط، وإنّما شملت جميع الأطراف المشاركة بما يدور على الأرض، كتأكيدٍ على أنّ نكاتٍ كهذه لا تخرج إلّا من رحم ثورة سلمية لا علاقة لها بفصيل متشدّد وآخر إرهابي، ويقوم بالعمل على تأليفها أشخاص ولاؤهم الأوّل والأخير للثورة، دون الفصائلية أو الأحزاب. ولعلّ أكثر من طالتهم النكتة السياسية الساخرة في المشهد السوريّ هما، دون شك، النظام وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، والذي يروى أنّ: “محشش وقّف داعشي ونزل فيه ضرب وتعذيب. الداعشي سأل المحشش شو المطلوب مني بعد كل هالضرب. فحكالوا المحشش: اعترف كم مرّة فجرت نفسك”.

الترا صوت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى