سياسة

عن بقاء أميركا وخروجها/ مروان قبلان


على الرغم من الفوضى التي تعم العاصمة الأميركية واشنطن، نتيجة احتدام الصراع بين الرئيس ترامب وخصومه الديموقراطيين، خصوصا مع تزايد التسريبات عن التحقيقات الجارية بشأن علاقة حملة ترامب مع روسيا، وعلى الرغم من التصريحات المتضاربة بين مسؤولي الإدارة بشأن توجهات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تحديدًا، إلا أنه بات واضحا أن قرارا بالانسحاب من صراعات المنطقة قد تم اتخاذه بالفعل، وأن واشنطن فقدت الرغبة في الاستمرار بلعب دور الشرطي فيها، كما استقر عليه الحال منذ حرب تحرير الكويت عام 1991. وقد بات هذا الأمر يلقى إجماعا في واشنطن، ويكاد يكون الوحيد الذي يحظى بهذه الصفة بين كل ألوان الطيف السياسي الأميركي، من جماعة حزب الشاي (Tea Party) في أقصى يمين الحزب الجمهوري إلى متشددي اليسار الذين يمثلهم بيرني ساندرز في الحزب الديموقراطي، وأن تنفيذه يجري على كل المستويات، ولا يلقى اعتراضا من أي جهة، بما فيها الإعلام، ولو من باب المناكفة أو المصالح الحزبية الضيقة، فالجيش الأميركي بدأ فعليا إجراءات الانسحاب من شرق سورية، وإنْ بوتيرةٍ أبطأ مما أعلن عنه سابقا، على أمل التوصل إلى اتفاق تضمن بموجبه واشنطن عدم حصول صراع في معسكر حلفائها (الترك والكرد) وعدم استفادة معسكر خصومها من خروجها لملء الفراغ. وقد ذهب الرئيس ترامب إلى أبعد من ذلك، عندما تساءل عما إذا كانت واشنطن تخدم معسكر الأعداء بقتالها تنظيم الدولة الإسلامية، العدو الرئيس لروسيا وإيران.

في أفغانستان أيضاً، بات واضحا مقدار الاستعجال الأميركي للخروج وإنهاء الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة (منذ العام 2001). وقد تبين من تسريبات اليومين الماضيين أن اختراقا كبيرا تحقق في المحادثات التي استضافتها الدوحة أخيرا بين واشنطن وممثلين عن حركة طالبان، لا بل بات هناك على ما يبدو مسودة اتفاق، تظهر حجم التنازلات الكبيرة التي قدمتها واشنطن، في سبيل الخروج من المستنقع الأفغاني، إلى درجة تثير شكوكا بشأن قدرة واشنطن على تسويقها لدى حكومة كابول.

سياسة الانسحاب من المنطقة بدأها الرئيس السابق أوباما بقراره الخروج من العراق، ولو بدون اتفاق (cut and run)، وهو ما حصل فعليا في نهاية عام 2011، كما وعد بسحب كامل القوات الأميركية من أفغانستان بحلول نهاية العام 2014، لكنه لم يستطع الوفاء بتعهّده ذاك بسبب تدهور الوضع الأمني هناك، واعتراض المؤسسة العسكرية التي خشيت من تكرار سيناريو العراق، وعودة الجماعات الجهادية إلى السيطرة، كما حصل مع تنظيم الدولة الإسلامية. وفي مقابلته أخيرا، بصفته رئيسا مع مجلة الأتلانتيك في إبريل/ نيسان 2016، أبدى أوباما ندمه على التدخل في ليبيا، ودافع عن موقفه الرافض التدخل في سورية. وعلى الرغم من الخصومة الشخصية التي تطبع علاقته مع أوباما، إلا ان ترامب في هذا الأمر ينفذ بأمانة رؤية سلفه وسياساته بخصوص الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط.

هل يُحدث الانسحاب الأميركي مشكلة؟ نعم إذا حصل من دون ترتيبات، ومن دون ضمان عدم حصول فراغ يفتح بابًا للصراع بين قوى إقليمية طامحة لوراثة النفوذ الأميركي. ما حصل في العراق بعد عام 2011 يؤكد أن الانسحاب الأميركي لم يحل المشكلة التي نتجت، في المقام الأول، عن الغزو والاحتلال، بل زادها سوءًا مع محاولة إيران تكريس نفوذها في العراق، ورد الفعل على ذلك، والمتمثل بصعود تنظيم الدولة الإسلامية. وفي سورية، بدأ التنافس على ملء الفراغ في مناطق شرق الفرات حتى قبل أن ينفذ الأميركيون انسحابهم، وإذا تم الانسحاب من دون اتفاق، ووفق مبدأ “دعها تحترق”، فالأرجح أن الصراع الذي ستشهده المنطقة لن يقلّ حدة عن الذي نشب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وينطبق الشيء نفسه على أفغانستان، حيث تتهيأ القوى الإقليمية المتنافسة للحصول على حصتها من مخلفات الأميركيين. ولن يؤدي الخروج الأميركي فقط إلى احتدام التنافس في ساحات الصراع المفتوحة على امتداد المنطقة، بل قد يؤدي أيضا إلى بروز صراعاتٍ جديدة، لا يمنع تفجرها حاليا إلا الوجود الأميركي.

هكذا هي أميركا، وجودها مشكلة، وخروجها مشكلة أكبر، ولا حل لها إلا أن نتراضى على التعايش مع بعضنا، من دون الحاجة إلى العصا الأميركية لتفصل بيننا.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى