الناس

عن تحدّي العشر سنوات وذاكرة صور مدينة الرقّة/ ملكة العائد


أزاحت الطائرة وجودنا العضوي، المادي، وصورته اللاعضوية. في هذه الأشكال المسطّحة حفرنا تاريخنا الأسري، ووضعنا في الصور نقاطاً وخطوطاً عريضة لعمل الذاكرة للاحتفاظ بشكلنا الماضي. يتحدث البعض بسخرية عن المقارنة التي يقوم بها هؤلاء الأشخاص على “فيسبوك”، أي مقارنة أشكالهم خلال عشر سنين، واصفين ذلك بأنه اختراع من باب التهكّم. ولكنني، مثل كثيرين، يرون في ذلك ما يشبه المعجزة، معجزة الخروج حياً أنت، أو صورتك، من الحرب.

ليس سهلاً أن تكون مُنظَّم التفكير في فوضى الحرب، لدرجة أن تحتفظ بصورك، أو أن تتذكر في لحظة بدء القصف وهروبك أن تحمل الحقيبة التي جهزتها مراراً واحتفظت فيها بأهم أوراقك وصورك، وخطّطت لأمر حملها معك في ذهنك حالما تبدأ الطائرة تحوم.

لكن للقصف منطقه الخاص، يفرضه على الحواس والعقل والجسم. حتى المسافات والأمكنة تتغير، تكبر، أو تصغر، تدور حولك لتنقذك لحظة المصادفة التي تلقي بك في زاوية ما من الزمان والمكان تبعد أمتاراً، أو دقائق قليلة، عن موتك، فتحيا. في مثل تلك اللحظات تحرّكك غريزة البقاء. لا دور للعقل هنا، ولا دور حتى للمشاعر. تتحوّل إلى حيوان خائف يريد أي جحر ليحشر نفسه فيه.

أنْ تعرض صورتك قبل عشر سنوات، أو أكثر، أو أقل، أو صورة أحد أفراد عائلتك، حياً كان، أو ميتاً، بفعل الحرب، أو غيرها، أو صورة الأماكن التي أمضيت فيها سنوات عمرك، مدرستك، أو متنزهك، أو حتى شارع بيتك القديم. كيف لم ننتبه أن كل ذلك يمكن أن يزول في لحظة؟ لماذا لم ندارِ وجودنا الموثق، ماضينا الذي سننقله إلى أبنائنا وأحفادنا؟ كيف لم نجد طريقة ننقل فيها صورنا العائلية خارج سوريا؟ لماذا لم نفكر أن “نهجِّرها” لنحتفظ بحياتنا القديمة؟ شغلتنا الحرب، وشغلنا الخوف عن رفاهية هذا التفكير الرومانسي، عن الاحتفاظ بالذكريات.

استثنتنا الحرب من تحدّي “العشر سنوات”، الأم التي اعتُقل ابنها، أو قتل في هذه الحرب، أو لم يكبر أصلاً ليبلغ العشر سنوات، ربما ترى ملامحه في أقرانه، وتحاول في ذهنها أن تركّب صورة جديدة له، لأنه لو كان هنا لكان في عمر فلان. وتتساءل بلا وعي كيف سيكون شكله لو عاش، لو عاد. تضيف لطوله القليل من الأشبار، وتنذر له ما تبقّى من شيبها. لا أعرف أين قرأت اعتقاداً أنه كلما التقطت صورة لنفسك يذهب القليل من روحك. هذا الاعتقاد، وإن كان ساذجاً، لكنه يحمل معنى كبيراً، ربما يفترض أن القليل من روح الشخص يذهب ليحل في الصورة. تعكس الخرافة هنا بعداً رمزياً لفكرة الخلود التي ينفيها الدين، ويُحرِّم التفكير فيها، لأنها صفة للإلهي. أليست الصورة هي لحظة التقاط انعكاس الضوء على الجسد، أليست هي اتحاد النور بالعضوي، أليست في هذه الحالة شيئاً يشبه المعجزة، كتجلي الإله في بشر.

في زمن الحرب يُسقِط تحدي المقارنة كثيراً من الناس، وكثيراً من البيوت والأماكن، بل وكثيراً من انفعالاتنا التي انزاحت ليبقى الخوف سيد المكان والزمان. وحتى هذا السيد تجاوزه كثيرون، في حرق لكثير من المراحل الإنسانية في شخصياتهم، ليتماهوا مع ضجيج الحرب وصورته، والصرير المستمر للشقوق التي ملأت ذاكرتهم وذكرياتهم. في المقابل، هناك كثيرون يمتلكون خوض هذا التحدّي، لأنهم خرجوا من سوريا، أو من الحرب، وكان في استطاعتهم حمل بعض صورهم، إن كانت فوتوغرافية، أو حتى رقمية.

في وقت ما، كنا أطفالاً، والأم العجوز كانت شابة بلا تجاعيد، بقوام معتدل، ونظرة قوية، وإن كانت حنوناً. كانت زوايا البيت تحتل خلفيات الصور. أذكر أني عندما عدت إلى الرقة بعد النزوح وقفت في الزاوية التي خبأت فيها الصور. كنت قد جمعت صورنا العائلية الكثيرة في صندوق كرتوني كبير، ووضعت معها دواء يبعد منها الفئران، أو الحشرات، وغلفتها جيداً، وخبأتها في زاوية لا تصل إليها يد “داعش”، أو يد من سيخلفونه من الجنود المحررين، فهم ليسوا فرساناً نبلاء، وستكون هذه الصور موضوع سهرة ماجنة وسخرية تريح المحارب من حربه الخيالية. فعلت هذا لأنني لا أستطيع أن أخرجها معي من المدينة، فالصور يمكن أن تصادر في الطريق وتحرق، وربما تكون سبباً في الاعتقال إذا احتوت شيئاً يخالف شريعة “الأخوة”. أذكر أن أحدهم اعتقل امرأة لأنه وجد في جوالها صورة لقالب حلوى كانت صورته في احتفال بسيط بعيد ميلاد أحد أفراد أسرتها. لذلك فضلت أن أخبئ الصور بعيداً من يد “الأخوة”، لكنني لم أحسب حساب أن تذهب هذه الصور في قصف طائرة ما بيتنا، الذي تحول ركاماً نثر ذكرياتنا. ولا أدري هل بقي ذلك الصندوق تحت ركام البيت، أم تناثرت الصور وذهبت كل ذكرى في اتجاه. لم نستطع حتى الاحتفاظ بالصور على “موبايلاتنا” خوفاً من التفتيش المفاجئ. وحتى بطاقة الذاكرة التي كنت أحتفظ فيها ببعض الصور ضاعت أثناء رحلة النزوح. وهكذا بقيت ذاكرتنا على قوتها وضعفها المكان الوحيد الذي يحتوي ذكرياتنا وحياتنا الماضية.

الآن، لا دليل عندي على أنني عشت في هذه المدينة، لا منزل، ولا صور، حتى خطواتي محتها حفر الصواريخ. كل المدارس التي درست فيها دُمِّرت نهائياً، والمكان الذي عملت فيه لاحقاً، أيضاً دمره الفاتح الأول، والثاني… بقيت حكايات أمي وذاكراتنا على ضعفها وقوتها بمثابة ألبوم ذهني يحتوي صوراً بحسب خيال كل منا وتصوراته عن لحظات بعيدة عشناها، وهيئاتنا قبل سنين.

الصورة تحوّلت بفعل الثورة إلى وثيقة استثنائية، والصور التي حملت مشاعر السوريين وحياتهم وتحولاتهم، تحولت من الثورة إلى الحرب، على دفعات، عبر 8 سنين.

الصورة كانت سبباً في إعدام كثيرين في الرقة على يد “داعش”. وكثرٌ من سكان الرقة يذكرون صراخ تلك السيدة التي أعدمت رمياً بالرصاص في وسط الشارع، صوت الرصاصة قطع صراخها المتوسّل بأنها ستتوب، وأنها لن تكررها. أخذوها من الشارع بعد مشادة كلامية حصلت بينها وبين عناصر الحسبة الذين تصادف مرورهم مع نزولها إلى الشارع بلا جاربين. أكّدت لهم أنها نزلت لتتسوّق من محل تحت بيتها، وأنها لا تمشي في الشارع، فكانت النتيجة جرّها إلى الحسبة. “الذنب الصغير” جرَّها إلى ذنب أكبر عندما تم تفتيش هاتفها ووجدوا فيه صوراً لم تعجبهم، فقرّروا إعدامها بسبب صور لزوجها الذي كان يلبس لباس الجيش الحر، كما قيل. اختلفت وقتها روايات الناس، وكثرت الأقاويل، كعادتنا في إعادة قتل الضحية معنوياً، ربما لنصل إلى تبرير لقتلها يجعلنا نصدق أننا فعلنا الصواب بسكوت كل من في الشارع، وعدم التفوه بكلمة للدفاع عن تلك السيدة التي سجنت أسبوعاً، وهي مهلة لفطام ابنتها الرضيعة قبل إعدامها.

مدينة الرقّة

أليست الصور ملاذنا الوحيد حين يشتد بنا الحنين إلى غائب. أليس استبدال صورنا بصور الأحبّة الغائبين، على صفحاتنا، هو تعويض عن غيابهم؟

هناك من يملك صورة منذ عشر سنين، أو أقل، أو أكثر، لأي فرد من الأهل، أو الأصحاب، لكنه لا يملك صورة الحاضر. صورة لذلك الذي غاب، ميتاً أو معتقلاً. يظل ينظر إلى آخر صورة بين يديه، ولو بعد سنين، ومهما طال الغياب تبقى ملامحه التي وقفت عند هذا الحد، فهي حدود ذاكرتنا عن آخر هيئة له.

الطفل الذي ولد في المخيّم لا يعرف مدينته، قريته أو الكلمة التي تمر على مسمعه “وطن”، إلا بصور مجزأة، علاقته بالوطن نظرية، وشكل البيت مسطح كما في الصور، وطرقات المخيم لا تؤدي إلى بيته، وخطواته مهما ابتعدت، لن تصل إلا إلى السياج الحديدي الشائك الذي يشكل حدود وطنه، فهل تصل به السنين إلى مكان خارج المخيم وداخل شكل جديد للمقارنة.

“سلام” التي لم تبلغ بعد العامين من عمرها ولدت في بيتها، ومذ بلغت الثلاثة أشهر بدأت رحلة لا يبدو أنها ستنتهي، فخلال هذه الفترة القصيرة جداً من عمرها سكنت في 9 بيوت تقريباً، وفي كل بيت لها صورة في فترات تتراوح بين أسبوع، شهور، أو سنة. وربما بدأت الآن تعي البيت، البيت بالنسبة إليها هو وجوه من يحيطون بها، صورهم الحية التي اعتادت وجودها في كل مكان نزحت إليه. وهذا ما تعبر عنه بفرحها الطفولي وعناقها وضحكها لأحد من رفاق النزوح، عندما يغيب فترة قصيرة لا تتعدى الساعات ويعود. أتساءل كيف سيكون شكل المقارنة بعد عشر سنوات بالنسبة إلى سلام، وهل سيكون البيت قد أخذ معنى آخر بالنسبة إليها، وهل ستكون خلفية صورها هي لأماكن عاشت فيها سنين طويلة، فشكلت أجزاء المكان اتجاهاً آخر لمشاعرها، غير صور الوجوه التي اعتادتها. بيتها الذي ولدت فيه دُمِّر، ولا تعرف منه إلا حائط الغرفة الذي يظهر في خلفية بضع صور التقطت لها بعد ولادتها، كيف لم نفطن أن نلتقط صورة للبيت قبل نزوحنا على الأقل. لم يخطر ببالنا زوال البيت.

يتحوّل الأهل والأصدقاء إلى صورة عندما تكون مقيّداً بحدود المكان، وقد يحدث أن تلامس أصابعك شاشة الموبايل بلا وعي وأنت تحاول أن تلمس ملامح من تحب، تحاول أن تشم رائحة المكان، ودفء يد أمك. الجدة تقبّل صورة الحفيد على الموبايل، الحفيد الذي ولد وكبر خارج سوريا. لم تمسح بيدها المسنة على شعره، ولم تقبّل أطراف أصابعه الصغيرة عند ولادته. هنا، تصبح الصورة المسطحة أرض العجائب التي تحتوي ملامح الحفيد الحبيبة، وتأخذها إلى طفولة أبيه، أو أمه، وتحاول تحديد الشبه الكبير الذي يميل في كل مرة نحو فرد من العائلة، لتكتشف أنه يحمل ملامح الجميع، ففي صورة من نحب، كل الذين نحبهم يحضرون.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى