أبحاث

الثورة في صيرورتها.. هموم سلامة كيلة الباقية/ مصطفى ديب


كانت سنة 2015 فارقةً في تاريخ الثورة السورية المُقبلة على عامها الثامن بعد شهر ونصف من الآن. مساحاتٍ جغرافية واسعة فقدت المعارضة المسلّحة في تلك السنة السيطرة عليها، أي بعد تدخّل الروس العسكريّ لإنقاذ الأسد من السقوط، مستندةً إلى سياسات الأرض المحروقة والحصار والتجويع والتهجير لقلب الموازين على الأرض لصالح الأسد.

خسارة المعارضة المسلّحة للمناطق المحرّرة لم تكن متوقّعة محليًا أو دوليًا، وذلك وسط خلافاتٍ حادّة بين الفصائل تكلّلت باقتتالٍ بينها أضعف الجبهات وأربك واقع الصراع بينها وبين جيش الأسد. تزامن ذلك مع تخبّطٍ سياسيّ خارجيّ للمعارضة السياسية، وضعف من كُلِّفوا بالمفاوضات، دون تحقيق ما يُذكر. كانت نتيجة ما سبق أنّ وُلد عند بعض السوريين الشعور بأنّ الثورة انتهت، واستعادة الأسد لما تبقّى من المناطق المحرّرة مسألة وقت لا أكثر.

تزامنًا مع المتغيّرات المذكورة أعلاه، أُعيد طرح جُملة من الأسئلة حول الثورة، أو ما تبقّى من الثورة، كمستقبلها، وأخطائها، وواقعها الجديد، ودور التنظيمات الجهادية في تأخّر انتصارها، وتغلغل القاعدة في بُنيتها. الأخيرة تحديدًا أُعيد طرحها مؤخّرًا مع سيطرة هيئة التحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) على أكثر من نصف محافظة إدلب، وبعض من أجزاء ريف حلب الغربي، لترزح هذه المناطق تحت رحمة القاعدة.

الإجابة على هذه الأسئلة ليست أمرًا سهلًا على الاطلاق. ولكنّ الإجابة تظلّ ضرورة بدورِها أيضًا. في هذه المقالة، نستعين بأفكار المفكّر الفلسطينيّ – السوريّ الراحل سلامة كيلة (1955-2018) التي جاءت في كتابه “الصراع الطبقي في سورية: الثورة في صيرورتها” (المتوسّط، 2015) للإجابة على بعض هذه الأسئلة التي تنفتح على أسئلة أخرى بالضرورة.

في مُنجزه الفكري حول الثورة، كاملًا، ظلّ الفقر والواقع المعيشيّ المتردّي للشعب أساسًا عند سلامة كيلة لفهمها، أي الثورة، باعتباره أساسًا للاحتجاجات، إلى جانب القمع وغياب الحريات. فالفقر وارتفاع الأسعار ونسبة البطالة واحتكار رجال الأعمال الجدد لمال وثروات البلاد، دفع بالشعب للانتفاض مُطالبًا بحياة أفضل، لا يُمكن أن يتحقق إلّا بزوال الأسد، باعتباره المسؤول عن الوضع الاقتصادي المتردّي، عبر تحويله اقتصاد البلاد إلى اقتصادٍ ريعي أنهى دور الصناعة ودمّر الزراعة وأفقر العمّال والفلاحين وشرائح كبيرة من الشعب.

وبما أنّ من شارك في الاحتجاجات لتحقيق المطالب السابقة أكثر ممن شاركوا فيها للمطالبة بالديمقراطية والحريات والانفتاح السياسي، برز السؤال عمّا يدفع بعض الطبقات المفقرة الأخرى للوقوف ضدّ الثورة، وتأييد خطاب السلطة، في إشارة إلى الطائفة العلوية التي يعيش أبناؤها فقرًا مدقعًا. فما الذي يدفع بهؤلاء لرفض ثورة تُطالب بتغيير أوضاع الشعب المعيشية دون استثناء؟

الجواب في ترويج النظام لمقولاتٍ تُفيد بأن الثورة عبارة عن حراك طائفي سني يستهدف الأقليات، العلويين تحديدًا. وأنّ ما يحدث مجرّد محاولة للثأر من الأقليات التي انتزعت السلطة من أكثرية الشعب. وبالتالي، إقناع الأقليات بأنّ استمرار الأسد هو استمرار لوجودها أيضًا. هكذا يضمن أن تظلّ الأقليات بمعزلٍ عن الثورة، ويستثمر عدائها لها في إضفاء الطابع الطائفي – الإرهابي على هذه الاحتجاجات. ولكن، هل كان اندماج الأقليات والطبقات الشعبية الأخرى في الانتفاضة أمرًا ممكنًا؟

يُجيب كيلة بالقول إنّ الأمر كان ممكنًا، ويكمن في عاملين، الأوّل: طرْحُ المتظاهرين لمطالب الطبقات المفقرة، والتوضيح بأنّ التغيير المطلوب ليس سياسي فقط، وإنّما اقتصادي يحل المشكلات التي كانت أساس الثورة، والتي تتشاركها كلّ الطبقات الشعبية. الثاني: توضيح طبيعة الدولة الجديدة للطبقات المتخوّفة من الثورة، لا سيما جانبها الديمقراطي والمدني. وبالتالي زوال خوف تلك الطبقات من الأصوليين والإخوان المسلمين مع وضوح ملامح بديل دولة الأسد.

يؤكّد الراحل أنّ تطبيق ما سبق كان من مسؤوليات قيادة الثورة التي لم تر النور لأسباب عدّة. ويشير في هذا السياق إلى أنّ الأحزاب السورية لم تلعب دورًا يُذكر في الثورة، في الوقت التي كانت تحتاج فيه إلى وضع أهدافٍ عامّة، وتحديد شعاراتها، والتواصل مع الفئات الاجتماعية الأخرى من أجل دمجها في الحراك. ومع اكتفاء المعارضة الخارجية بحث الغرب على التدخل العسكري الذي أخّر انتصار الثورة، ظلّت الأخيرة دون قيادة كان من الممكن أن توسّع نشاطها، وتدمج الفئات الأخرى ضمنها، وتوسّع العمل السلميّ ليشمل الاضراب والعصيان المدني. وجود قيادة للثورة إذًا، كان كفيلًا بتطويرها، ونقلها إلى مناطق لم تدخل الصراع بعد، وبلورة رؤية سياسية تنبع من داخلها، وغياب هذه الرؤية ساهم في تأخّر انتصارها.

دفع التأخير الذي كان نتيجة غياب قيادة موحّدة للثورة البعض إلى الاعتقاد بأنّ الحل يكمن في عسكرة الثورة، اقتداءً بالنموذج الليبيّ. ولكنّ العسكرة بحسب كيلة ليست طريقة للتغيير، لأنّ العمل العسكريّ لن يكون بمقدار القوّة العسكرية للسلطة، عدا عن أنّه يُلغي الشعب كأساس للثورة، وهو ما يصبّ في صالح الأسد. وبالتالي، العسكرة ليست بديلًا من الممكن أن يقود إلى تحقيق النصر، إلّا أذ اتّبعت استراتيجيا واضحة تقضي باستهداف وتدمير القوّة العسكرية والأمنية التي تضمن استمرار السلطة، وأيضًا في ظلّ وجود قيادة موحدة لتنظيم الضربات.

من العسكرة حدث الانتقال أو التحوّل نحو أسلمة الثورة، الأمر الذي صبّ بدورهِ في صالح سلطة الأسد التي اشتغلت سابقًا على إضفاء هذا الطابع على الاحتجاجات. تمثّل هذا التحوّل في ظهور نموذجٍ جديد لرجال الدين المعارضين للأسد، والذين حظوا بظهورٍ إعلاميّ مكثّف في بعض القنوات الإخبارية التي ساهمت، بقصدٍ أو دون قصد، في إضفاء هذا اللون على الثورة، حيث أطلقوا من هناك فتاوى متعدّدة ضدّ سلطة الأسد والأقليات، جرى تعميمها في المجتمعات التي تستهدفها بهدف إثبات أنّ هذه الفتاوى ليست إلّا فتاوى الثورة التي يُسيطر عليها الإخوان المسلمين.

يؤكّد مؤلّف “التراجيديا السورية” أنّ ميل الإخوان المسلمين لفرض السيطرة على الثورة، كان أمرًا واقعًا. وكان هناك شعورًا عامًا لفترةٍ من الزمن بأنّ البلاد تسير بعد سقوط الأسد إلى دولة إسلامية، الأمر الذي ضاعف من خوف الأقليات والطبقات الاجتماعية غير المشاركة في الثورة. سرى هذا الشعور في ظلّ غياب ملامح الدولة الجديدة المتزامن مع غياب لقيادة تُحدد تلك الملامح، وفي ظلّ غياب بدائل أخرى، ليبرالية كانت أو يسارية أو قومية. ولكنّ كيلة يؤكّد أنّ لا انتصار للأسلمة في ظلّ وضوح المطالب الأولى للثورة، أي بناء دولة مدنية.

ساهمت العسكرة إذًا في تراجع النشاط السلمي للثورة، وقطع الطريق على المحاولات الهادفة لإيجاد قيادة موحّدة تحلّ مشاكلها وتطوّرها. وعزّزت في الوقت ذاته الأسلمة من رفض الفئات الاجتماعية الأخرى للثورة، وأكّدت مقولات نظام الأسد بأنّ ما يجري هو حراك طائفي – سني يستهدف الأقليات دون استثناء. نقطة التحوّل الأبرز في مسار الثورة كان في دخول التنظيمات المتشدّدة المحسوبة على القاعدة على خطّها، بعد أن كان الأمر مقتصرًا على بعض الفصائل المحسوبة على فكر الإخوان المسلمين فقط. يتحدّث مؤلّف “صور الجهاد” هنا عن جبهة النصرة التي يهدف وجودها إلى إرباك المناطق المحرّرة، ومنعها من التحوّل إلى قاعدة حقيقية للعمل المسلّح ضدّ الأسد، وتدفع الشعب عبر ممارساتها غير السليمة إلى رفض الثورة، ما يؤدّي إلى نشوء حالة فوضى على غرار ما حدث في محافظة إدلب مؤخّرًا، ما يستوجب بالضرورة إنهاء هذه الجبهة قبل أن تثبّت وجودها، وهو ما لم يحدث.

فالجبهة ليست معنية بخدمة الثورة بقدر خلق الفوضى في المناطق المحررة، وتأجيج الصراع الطائفيّ في البلاد، باعتبار أنّ ما تهدف إليه أو تشتغل عليه منذ البداية هو صراع من أجل الدين داخل إطاره. ما يعني أنّ معركة الجبهة ليست معركة الشعب السوريّ الذي حدّد مطالبه منذ التظاهرة الأولى. والمثال الأكبر على ذلك ما يدور الآن في إدلب.

في ضوء كلّ ما سبق ذكرهُ، نقف إزاء السؤال التالي: متى يسقط النظام؟ حددّ سلامة كيلة نجاح الأمر في عدّة عوامل نرى أن ما حدث في السنوات السبع السابقة هو نقيضها تمامًا. تمثّلت هذه العوامل في كسر الخطاب الطائفي للثورة، وهو خطاب خارجي في الأساس، لم ينبع من الثورة ذاتها. وأيضًا، إبعاد القوى الطائفية ليصير تلاقي الفئات الاجتماعية الأخرى مع الثورة أمرًا ممكنًا، سيما وأنّ هذه الفئات لها مصالح في إسقاط الأسد. بالإضافة إلى الانصراف عن السيطرة على المناطق المحررة الذي يُربك الصراع العسكري، وتسليم إدارة هذه المناطق للشعب نفسه. والشروع في إنشاء النقابات باعتبارها ضرورة لانتصار الثورة. والمحافظة على الطابع الشعبيّ للانتفاضة بعد أن كادت العسكرة والأسلمة أن تلغيه. ويؤكّد كيلة بأنّ صراع الشعب مع السلطة سوف يستمر ما لم تتحقق مطالبه الاقتصادية. فالشعب يريد حلًّا لمشكلاته، لا مشاكل النخب السياسية. وهو ما يعني أنّ الثورة، وإن ضعفت، إلّا أن الفشل لن يكون قدرها.

رأى سلامة كيلة في نهاية كتابه هذا أنّ المرحلة المقبلة عليها سوريا، هي مرحلة صراع بين القوى الإقليمية حول العقود الاقتصادية، إعادة الاعمار تحديدًا، والذي يُمكن القول إنّه يدور اليوم بين كلٍّ من روسيا وإيران، في ظلّ وجود تركيّ أيضًا على الخط. وهذا الصراع يُحدده كيلة بالفترة التي تتلو رحيل الأسد، وسوف يدور بمعزلٍ عن الولايات المتّحدة التي سلّمت سوريا إلى روسيا، وانشغلت بمواجهة الخطر الصينيّ.

الترا صةت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى