مقالات

مشهدية الشعر العربي: تفاهة وعبثية وكُمون تحت رماد الزمن/ محمد حجيري


من دون شك، انّ ترهل الصحف والمطبوعات الورقية، خصوصاً في بيروت، وغياب أبرز الصفحات والملاحق الثقافية، واندثار معظم “مقاهي المثقفين”، وتهرّب الكثير من الناشرين من طباعة دواوين الشعر، وأحياناً تقاضي ثمن طباعتها مسبقاً، وتحوّل الذائقة الاجتماعية نحو الثقافة البصرية (الانترنت وعوالمه)، كل هذه الأمور زادت من تهميش الشعر وكتبه والكتابة عنه وقلصت مشاريعه وحركاته. وإذا كان “فايسبوك” قد أعطى فسحة مطلقة لأي كلام يمكن أن يقال أو يكتب، لكنه في الوقت نفسه يبدو كلاماً بلا شرعية، أو مفتقداً إلى المعايير و”المرجعية” والهالة، فالفايسبوك مجرد وسيط ولا يصنع عبقرية…

وخلال الأسابيع الأخيرة، ومع الحديث عن “طوفان الرواية”، ظهرت بعض البوادر التي تتحدث عن طيف ما في الشعر، فعدا بعض الآراء التي نشرتها “المدن”، وشارك فيها مجموعة من الشعراء الجدد، تسعى مجلة “الجديد” اللندنية لإصدار عدد خاص، يتضمن قصائد ونصوصاً شبابية. وقبل ذلك، نشرت دار “المتوسط” بياناً عن موعد اطلاق مجلة شعرية بعنوان “براءات”، يشارك في تحريرها شعراء من العالم العربي من مشارب ومواقع مختلفة، وعزت إدارة المجلة سبب السعي إلى إصدار المجلة “أن هناك الكثير من التفاهة تكتب باسم الشعر”.

وكلمة تفاهة تقتضي التوقف عندها. فقد جاء في “لسان العرب” لابن منظور: تَفِهَ الشيءُ يَتْفَهُ تَفَهاً وتُفوهاً وتَفاهةً: قَلَّ وخَسَّ، فهو تَفِهٌ وتافِهٌ. ورجل تافِهُ العقْل أَي قليلُه. والتافِهُ: الحقير اليسير، وقيل: الخسيس القليلُ. و”التفاهة تشجع المرء على أن يبقى وفياً لقضيته لمجرد أن خصومه لا يغيرون تفاهتهم”، بحسب نيتشه. يقول ميلان كونديرا، على لسان إحدى شخصيات رواية “حفلة التفاهة”: “تتبدى لي التفاهة الآن تحت ضوء مختلف تمامًا عن ذلك الحين، إنها تحت نور أسطع وأكثـر كشفًا. التفاهة يا صديقي هي جوهـر الوجود”.

براءات

لم يدخل بيان “براءات” في شرح لمقصده بالتفاهة، لكنه قال “لا بدّ أن يكون للشعر مجلة تدافع عن شرف الاسم”، ويشير الى أن الاستسهال في النشر جرّ استسهالاً في الكتابة، وتوفّر جمهورٍ جاهز خلق أوهاماً كثيرة لدى الشاعر عن نفسه وعن الشعر أيضاً، فانتشرَ في الأرجاء شعرٌ يباشر اللغة في حدّها الأدنى والخيال في أفقه الأقرب، ما أنتج ركاماً من النصوص المتشابهة لشعراء كثر متشابهين”. و”في منعطف كهذا، لا بدّ لكلّ من تستعر في وجدانه جذوة الشعر أن يسائل نفسه عن قدرته على إيقاف هذا التنميط، وإنقاذ ما هو جوهريّ في الشعر، دون ادعاء ولا بطولة زائفة”.

من غير المستحب التكهن المسبق لمجلة شعرية في طور التأسيس، خصوصاً أنها شعرية، ويلزمها الكثير من التدبير والأفكار الجديدة للخرق والاستمرارية وإحداث الصدى، مع التذكير بأنه كان يمكن اختيار عنوان للمجلة نقيض البراءة، فالشعر قرين الأبالسة واللعنة والقلق. على أن “دار المتوسط” أيضاً أصدرت بياناً صحافياً يقول إن “براءات”، “مجلة عربية فصلية خاصة بالشعر، ستصدر ورقية على رأس كل فصل من فصول العام. كما وستكون إلكترونية بنشاط شبه يومي” و”تأتي في زمنٍ مليء بالثقوب السوداء التي تبتلع المشاريع الشعرية الجادة، أمام خلوّ الثقافة العربية بشكل يكاد يكون تاماً من مطبوعٍ شعريّ ذي هوية عربية عابرة للبلدان. ويؤكد، رغم ما يُضيِّقُ الخناق، أنَّ الشعر موجود، وإن غاب وسط الرؤية المحدودة والضبابية للشعرية العربية وتجاربها الراهنة. هذا ما جعل المتوسط منذ انطلاقتها، تراهن على الشعر وإن كانَ رهاناً خاسراً”…

و”الرهان الدونكيشوتي” لا يقتصر على دار المتوسط، فموقع “أضواء المدينة للشعر ودراسته” الذي أُطلقَ مؤخراً، وقيل إنه “مخصص للشعر”، قال في بيانه “نعرف مدى صعوبة تحصيل حضور–جمهور لمثل هكذا منبر الآن، في قمّة الصراع السّياسي في المنطقة العربيّة، لكن الحضور لموقع متخصص غير تابع لجهة سياسيّة بهويته وأفكاره ومقترحاته، نعتقد أنه حلم مئات الأصوات الإبداعيّة”، والقضية بالنسبة إلى إدارة الموقع تتعلق بـ”فوضى المنابر الإلكترونية والورقية الّتي تعيش استقطاباً سياسياً راهناً تُحتّم البحث عن متنفس”، فـ”الرعاية الثقافيّة اليوم تدخل في شروط وحسابات ترمي بالكثير من المواهب العربية إلى النهاية إمّا تحت كنف التّدجين الرسمي في بلادهم أو إلى جانب مؤسسة ثقافيّة تفاضل على الأسماء والمحسوبيات لا على نوعيّة ما يقدم من منجز فنّي شعري”. ويأتي هذا الموقع بعد أشهر على قفل موقع “جهة الشعر” الذي أداره لسنوات الشاعر البحريني قاسم حداد، وكان سبب الاقفال مادياً.

أمة شعر

والكلام عن الشعر لا يقتصر على المشاريع الشعرية وأزمة النشر، ثمة حضور هنا وضمور هنا، والأمور يتعلق ربما بالموروث أو التقليد. الكاتب والشاعر العراقي، فاضل السلطاني، في مقاله “زمن الشعر وليس الرواية… بريطانياً على الأقل”  في جريدة “الشرق الأوسط”، لم يتحدث عن النشر واستسهاله أو الشعر وبراءته، أو منطق التدجين كما أوحى موقع “أضواء المدينة”، بل انطلاقاً من معيار “هل نحن في زمن الشعر أم في زمن الرواية؟!” استنتج أن “الإنجليز أمة شعر”، و”لا يزال الشعراء في هذا البلد أكثر شعبية من أهم روائي، ولا تزال قاعات الشعر في لندن تمتلئ بمحبيه”، و”كأن الشعر كان كامناً تحت رماد الزمن”، و”بكلمة أخرى: هناك ناس تقرأ”. وهو يسلط الضوء على الشعر البريطاني وكأنه يغض النظر عن أسماء روائية بريطانية رائدة، أتت من العالم الثالث واشتهرت في لندن لتعم العالم، من نايبول إلى سلمان رشدي، ومن نور الدين فارح إلى أهداف سويف وحنيف قريشي، وصحيح أن بريطانيا فيها شعراء لهم حضورهم العالمي وتحتفي بالشعر، لكن فيها أيضا جيمس جويس المهم جداً والذي دائما يشكو حتى كتاب الرواية من صعوبة قراءته، وهناك جين اوستن التي لا تغيب وجورج أورويل الذي تتوفر كتبة في كل مكتبة وبسطة

صورة أخرى عن الشعر، نقيض تلك التي كتبها فاضل السلطاني، تجلّت في مقال للروائي الجزائري سعيد خطيبي في “القدس العربي” بعنوان “الحالة الحرجة للشعراء في الجزائر  

وفيها الكثير من التشاؤم حول الشعر. يقول في مقدمها “يحصل أن نقف أمام واجهة مكتبة، وسط عاصمة البلد، أو غيرها من مدن أخرى، نجد فيها كتباً من تخصصات مختلفة، عدا الشعر”، “كما أن أمسيات الشعر، على قلتها، بات لا يحضرها سوى عابرين أو نمامين أو مُخبرين أو صائدي شاعرات أو متقاعدين داهمهم ضجر أو بعض من معطوبي الإبداع. فهل هي هزيمة الشعر في الجزائر؟” و”من الشجاعة أن نقر بأن الجزائر لم تكن ـ يوماً ـ بلداً للشعر الفصيح”… و”أحياناً الشاعر نفسه لا يُعيد قراءة ما يكتب، وفي هذه الحالة، لا ننتظر من القارئ أن يبذل جهداً في شراء ومطالعة ديوان شعر لا يفهم منه الكثير”. و”كلمة شاعر تبدو كلمة عبثية، في عقول الناس، يدركون معاني كلمتي مداح أو زجال، وما ينبغي لهما أن يكتباه أو يقولاه، لكنهم يجدون صعوبة في تفسير معنى شاعر”… باختصار، تبدو الصورة التي يرسمها خطيبي للشعر في الجزائر وكأنه فن غريب أو منقرض ويعاني حالة انكماش حاد.

المدن

زمن الشعر وليس الرواية… بريطانياً على الأقل/ فاضل السلطاني

الإنجليز أمة شعر. هكذا كان الأمر منذ شكسبير حتى عصرنا الحالي. وقلما تجد روائياً، مهما بلغت إنجازاته، ينافس شعبية شعرائها، من روائيهم الأكبر تشارلز ديكنز إلى أيان ماكوين، أشهر روائييهم المعاصرين. والحقيقة، أنك لا تستطيع أن تضع ديكنز وأحفاده في قائمة واحدة مع الروسيين تولستوي ودوستويفسكي، مثلاً، والفرنسيين ستندال وبلزاك، وأن تضع ماكوين، إذا تحدثنا عن المعاصرين، جنباً إلى جنب مع الأميركيين فيليب روث ودون دليلو، بينما تستطيع وبكل اطمئنان أن تضع الشعراء الإنجليز – والبريطانيين عموماً – في أعلى أي قائمة شعرية، منذ قرن شكسبير حتى قرننا الحالي. وبالطبع، لا أحد يعرف لماذا الإنجليز أمة شعر، والألمان أمة فلسفة، قبل أي شيء آخر – رغم غوته – وفرنسا أمة فلسفة ورواية – وثورات أيضاً بالطبع – وإيطاليا أمة نحت وأوبرا، رغم دانتي.

لا يزال الشعراء في هذا البلد أكثر شعبية من أهم روائي، ولا تزال قاعات الشعر في لندن تمتلئ بمحبيه، على عكس كثير من العواصم الأوروبية، ولم تتوقف دور النشر يوماً عن طبع الشعر، وتربح، وبعضها مقتصر على طبع الشعر وحده.

بكلمة أخرى: هناك ناس تقرأ. والأرقام الأخيرة التي نشرها موقع «نيلسن بوكسكان»، الذي يعنى برصد أرقام وإحصائيات مبيعات الكتاب في بريطانيا، والذي نشرته جريدة «الغارديان» البريطانية يوم الثلاثاء الماضي، تشير إلى أن المبيعات من المجموعات الشعرية عام 2018 تجاوزت المليون نسخة، محققة أرباحاً تجاوزت 12 مليون جنيه إسترليني، بزيادة 1.3 مليون نسخة عن مبيعات 2017. وهي أرقام غير مسبوقة في أي مدينة أوروبية.

ومن المفرح أن أغلب الشعراء الذين عرفت مجموعاتهم انتشاراً، هم من الشباب، ولكن كان إلى جنبهم أيضاً الإغريقي هوميروس، وشعراء معاصرون مثل شيموس هيني وكارول آن دوفي وكوبر كلارك، وأن الشباب، دون 34 عاماً، يشكلون ثلاثة أرباع المشترين، 40 في المائة منهم ما بين 13 – 22 عاماً، ونسبة الفتيات منهم هي الأكبر؛ لأنهنَّ الأرق قلوباً وأرواحاً.

نعم، خبر مفرح أخيراً للشعراء في أكثر من مكان، بعد أن بلغ اليأس منتهاه، وكثر الحديث عن موت الشعر، وهو حديث يتكرر منذ عصر هيغل؛ بل هو الذي أطلقه، حتى عصرنا الحالي للسبب نفسه الذي دفع هيغل لإطلاق نبوءته الرهيبة، بعد أن بلغت التكنولوجيا درجة لم يتصورها الخيال الإنساني في أقصى جموحه، ثم أضاف عصرنا الحالي سبباً آخر: الرواية. لكن لم يتحقق من ذلك شيء، وكأن الشعر كان كامناً تحت رماد الزمن، منتظراً الفرصة المناسبة التي تأخرت كثيراً، ربما أكثر مما يجب، حتى ظنناه قد لفظ أنفاسه حقاً، ليتوهج بريقه من جديد، وليطل علينا برأسه الذي لا يزال أبيض كالثلج.

ما السر وراء هذه الحاجة للشعر، في بلد أوروبي يديره الكومبيوتر أكثر من اليد الإنسانية، وعرفت فيه ثورة الاتصالات تحققها الأقصى؟

هو السر نفسه الذي يدفع البشر لقراءة الشعر منذ فجر البشرية، حين تضيع بوصلة الروح، وتسكن الوحشة في الأعماق منها، ويضيق العالم حتى يصبح بحجم الكف، وحين تتعثر الخطوات في أزقة لا تسكنها سوى الأشباح، وتدور في أرجاء الكون المكائن الجبارة فلا تكاد ترى عيناً بشرية ترمقك، ولا يداً تشير إليك، وحين يرتدي الكذب والنفاق أجنحة تخفق في السماء، مغلقة عليك كل الآفاق. هنا «يتجه الناس للشعر لإضفاء معنى على هذا العالم»، كما يقول أندري برديت، من موقع «بوكسكان»، أو كما تقول سوزانا هيربرت، مديرة مؤسسة «فورورد آرت فوانديشن» التي تشرف على الجائزة الشعرية المعروفة بالاسم نفسه: «إن الناس الآن، في هذه اللحظات من الأزمة الوطنية، تقرأ وتتبادل القصائد حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الكلمات التي تنتشر، والكلمات التي تسمع هي ليست كلمات السياسيين؛ بل كلمات الشعراء».

ماذا عن أمة العرب التي تقول – أو كانت – إن الشعر ديوانها؟

الشرق الأوسط

الحالة الحرجة للشعراء في الجزائر/ سعيد خطيبي

يحصل أن نقف أمام واجهة مكتبة، وسط عاصمة البلد، أو غيرها من مدن أخرى، نجد فيها كتباً من تخصصات مختلفة، عدا الشعر. وإن تجرأنا ودفعنا الباب ودخلنا، فلن نجد الشعر سوى في رف أو رفين بعيدين، تبلغهم أضواء خافتة، ولا تصل إليهم أصابع الزبائن أو المارة. وفي معارض الكتاب المحلية، يبحث الناس عن كتب كثيرة، بما في ذلك كتب تفسير الأحلام وأخبار الجن، ونادراً ما يسألون عن شعر، وإن حصل وسألوا عنه، فلن يخرج عن طلب دواوين لشعراء مشرقيين. كما أن أمسيات الشعر، على قلتها، بات لا يحضرها سوى عابرين أو نمامين أو مُخبرين أو صائدي شاعرات أو متقاعدين داهمهم ضجر أو بعض من معطوبي الإبداع. فهل هي هزيمة الشعر في الجزائر؟

من الشجاعة أن نقر بأن الجزائر لم تكن ـ يوماً ـ بلداً للشعر الفصيح، لأسباب كثيرة؛ فقد ضيعنا وقتاً في مناقشة حجج تغيب الشعر، بدون أن نكتب شعراً، ثم إن شعراء الجزائر المعاصرين يكتبون، وهم لا يعلمون لمن يكتبون، ولا لمن يقرؤون ومن يقرأ لهم. وأحياناً الشاعر نفسه لا يُعيد قراءة ما يكتب، وفي هذه الحالة، لا ننتظر من القارئ أن يبذل جهداً في شراء ومطالعة ديوان شعر لا يفهم منه الكثير. قد يقول أحدهم أن الشاعر ليس ملزماً بشرح ما يكتب، وأن الشعر لا يتوجه إلى عامة الناس، لكن في المقابل، لم يتكيف الشعر في الجزائر مع المرحلة التي يعيشها، ما يزال ماضوياً، غريباً عن الجغرافيا، التي يدور فيها وحولها. لكي نقرأ شعراً نحتاج تفرغاً، وقتاً، ونحن اليوم نُصارع نظاماً اجتماعياً مضاد لقراءة الشعر وللتفرغ، فهل نرضى بهزيمة الشعر أم نُعيد تكييفه مع متطلبات المرحلة؟

لقد طُرحت، في الماضي، أسئلة عن الشعر، وقليلاً ما طُرحت أسئلة على الشاعر في حد ذاته، الذي يدرك أن كتابته لم تتغير ولم تتعدل، ومع ذلك يشتكي من قلة القراء، وضعف منافسته لضروب كتابية أخرى. من الطبيعي أن تُباع رواية ما بالمئات، مع أن الجزائر من أضعف أسواق الرواية عربياً، لكن هذا لا يعني أن يحس شاعر بكبت، وبأن هناك مؤامرة على الشعر، لأنه لا يبيع بالكمية ذاتها. أن يوجد قراء للشعر، على قلتهم، فهم ليسوا بالضرورة قراء لشعراء جزائريين، وأن يعجز شاعر على تحويل بصرهم إليه، فالأولى له أن يطرح أسئلة على نفسه، قبل إطلاق سخطه على القراء، الذين يبتاعون سنوياً نسخاً لشعراء من سوريا وفلسطين ومصر، ويتجاهلون كتاب بلدهم، ولهم في ذلك أعذارهم.

إذا فشلنا في امتلاك شعر فصيح، ذلك لأننا امتلكنا شعراً آخر، يتداوله الناس ويحفظونه، ويتراشقون بكلماته، وهم ينسون أو يجهلون أسماء مؤلفيه، ونقصد هنا الشعر الملحون في الجزائر، أو ما يصطلح عليه ـ أحياناً ـ ﺑ»القصيد» أو شعر العامية، الذي استوعب العربية، وفتحها على الأمازيغية، وعلى تأثيرات لغوية أجنبية، وهو شعر لم يتوقف عن تجديد نفسه، وتنويع شكله ومضمونه، خصوصاً في اقترابه وتماسه مع الناس مباشرة، حيث تكاد تكون لكل مدينة شخصية «قوال»، ذلك الذي يلقي شعراً ويرتجل، في الأمكنة العامة، ثم إن سجلاً واسعاً من الأغنية الجزائرية يقتنص كلماته من الشعر الملحون، الذي يكتب، في الغالب، على إيقاع موسيقي، ما يسهل تلقيه، وانتشاره بين الناس. ويشبه الباحث عبد القادر عزة شخصية «القوال» الذي ينظم «القصيد»، ويحفظ قصائد الملحون، يشبهه بشعراء الجاهلية، باعتبارهم متحدثين عن قبائلهم، بينما القوال، هو الناطق باسم المنطقة التي ينشط فيها، ما يكسبه مكانة معنوية، ويجعل من الشعر الملحون نصاً ينصت إليه الناس، ويغنيهم عن الالتفات إلى الشعر الفصيح، في الجزائر.

بما أن الشعر الفصيح فشل في أن يُقيم مزاراً له، وعجز عن منافسة الشعر الملحون، كما أن الجامعات تكاد تصرف النظر عنه، وقليلاً ما نُصادف رسالة جامعية عن ديوان شعر فصيح، كما أنه لم يقدر على رفع صوته أمام «القوال»، فهل يصح أن يطلق أحدهم على نفسه «شاعراً» في الجزائر؟ كلمة شاعر تبدو كلمة عبثية، في عقول الناس، يدركون معاني كلمتي مداح أو زجال، وما ينبغي لهما أن يكتبا أو يقولا، لكنهم يجدون صعوبة في تفسير معنى شاعر، والأمر لا يتوقف عند تواري الشعر الفصيح، بقدر ما يتعلق بسير الشعراء أنفسهم، فمنذ جيل مفدي زكرياء، ونهاية ثورة التحرير، بالكاد نجد شاعراً واحداً متورطاً في قضايا يومه، وقريباً من السجالات والنقاشات، التي تحدث في بلده، فقد كون الشعراء صورة مغبرة عن أنفسهم، حياديين، صامتين، في اللحظات الحاسمة، ولا ينطقون سوى عندما يؤذن لهم بذلك، في أمسيات أو في مناسبات يختلط فيه الشعر بالولاء السياسي.

وعندما تستضيف تلفزيونات محلية شاعراً، فالأمر ليس مغريا ولا يجذب مشاهدين، مثل تقديم مدون أو ناشط أو خبير في أمر ما، حتى إن كان خبيراً في الشعوذة، على العكس تماماً مما يحصل، على الجهة المقابلة، في الشعر الملحون، المشتبك مع كل ما يحصل، والمستمسك بجرأته في التعليق والنقد والمدح والذم، أحياناً بكلام فظ، غير مبالٍ بالأخلاقيات اللزجة، ولا قوانين الدبلوماسية المتحولة.

من السهل أن يرد واحد من الشعراء بالقول إن فارلين لم يكن يبيع في وقته أكثر من 8 نسخ، من دواوينه، وكذا الحال مع رامبو، أو بودلير، ولكن أولئك وغيرهم عاشوا شعراء، في اشتباكهم مع راهنهم ومحاورته جمالياً، فقد خاضوا حياة شعر، والشعر ليس بالضرورة ما يُكتب، بل هو ـ قبلاً ـ تجربة حياة، بينما في الجزائر ما يزال الشعر هو فقط حين تنشر قصيدة، أو يصدر ديوان، مع أن الشعر يوجد في الكلام اليومي، في ومضات إعلانية على تلفزيون، في أغنية، في فيلم، أو في مسرحية.

ما سبق لا يعني أن الأمر حسم، وأن الشعر لن يقف على رجليه، في الجزائر، بل هي معاينة عما حصل، في وقت سابق، بينما اليوم توجد وسائل لتغير الوضع، باستغلال وساط التواصل، مع ما توفره من نشر وانتشار وسهولة في تلقي الشعر، تنظيم لقاءات تخص فقط الشعر، بالخروج من القاعات المهجورة إلى الشارع، ربط الشعر بالموسيقى، فعندما ينتقل الشعر إلى الأغنية سيجد جمهورا له. عدا ذلك، سيظل متكئاً على هزيمته التاريخية.

٭ روائي جزائري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى