نصوص

إلى بُنيّ/ ماي جيا


يا بُنيّ، ستكون على مسافة آلاف الأميال، عندما تقرأ هذه الرسالة، أما أنا فسأكون في الناحية الأخرى من الأرض. إن الأرض شاسعة الاتساع، ونحن صغار جدًا مقارنة بها، لكننا نأبى أن نكون صغارًا، ونتطلع إلى اجتيازها، ومن ثم ننطلق. هذه المرة ستكون رحلتك بعيدة، سَبق التخطيط لها، وقد استغرق الاستعداد لهذا اليوم 18 سنة. إن هذه الرحلة البعيدة مُقدّرة لكَ. فربما تسير حياتك إلى حدود أبعد، بدءًا من هذا اليوم.

أنا لم أذهب إلى فيلادلفيا من قبل، لكن يمكنني أن أرسم صورتها في خيالي: مستحيل أن يكون القمر فيها أكبر من القمر الذي يعتلي سماء مدينة خانغ جو، ولا حتى أصغر منه، وأتخيّل أن هناك أيضًا بنايات من الخرسان المُسلح، والسيارات والبشر الذين لطالما يروحون ويجيئون في الشوارع والأزقة. وبالرغم من أن البشر هناك يختلفون عنا في الملامح واللون، ولكن قد يسكن الألم قلوبهم، وكذلك تخالط مشاعرهم الأفراح والأحزان، وحياتهم فيها مآسٍ ومباهج، وتمتزج بقلوبهم السعادة والكمد. إن العالم ضخم، تكثر فيه التشابهات، وتقل فيه الاختلافات. وربما من صار الأكثر اختلافًا الآن هو أنتَ، فبدءًا من هذه اللحظة، لن يكون عندكَ طاهٍ، ومتسوق شخصي، وعامل نظافة، ومنبه، وسائق، أو طبيب نفسي بالمجان. وسيتحول والداكَ إلى مجرد رسائل، وهاتف جوال، وأشواق. لا بد أن تجتهد وتتعب نفسك في كل شيء، فبدءًا من اليوم، ستضطر إلى الدخول إلى المطبخ، لو شعرت بالجوع. ولو تعبت عليك أن تريح نفسك، وإذا

سالت دموعك، عليك أن تمسحها بنفسكَ، وإذا مرضت عليك أن تذهب وحدك إلى الطبيب. أنتَ لم تعد كما كنت في السابق، وصرت الآن أبًا وأمًا لنفسك، والمسؤول عنها أيضًا. كم أن هذا غريب، كأنك كبرت فجأة وبدون مقدمات.

ولكن هذا ما يبدو وحسب، وليست الحقيقة. إن الحقيقة هي أنكَ في طريقك إلى النضوج، وإن لم تكن نجمة حظك جيدة، فمن المؤكد أن هذا الطريق سيكون طويلًا جدًا، ووعرًا، وممتلئًا بالعواصف والأمطار. أنا أُحبك، وأريد من كل قلبي أن أصير نجمة حظك هذه، أُتوج رأسك، وأعينك على مواجه الصعاب، وكذلك أجعل الهواء العليل والشمس المشرقة يلازمان خطاك الماضية صوب الأمام. لكن هذا مستحيل، وحتى لو كان ممكنًا، أنا آسف يا بُني، لن أستطيع فعل ذلك.

لماذا؟ لأنني أحبك. ولو حدث ذلك، ستكون حياتك حتمًا فارغة، وهزيلة، وهشة، على الأقل لن تتعدى كونها سمكة في برطمان، وزهرة في مزهرية، وجرسًا معلقًا في عنق حيوان أليف. وبهذا سأشعر بالخزي، لأنك ستكون قد فشلت بالفعل. يمكنك أن تفشل، ولكن ليس بهذه الطريقة؛ لا يمكنك أن لا تتحمل حرارة الشمس، وتذوب بفعل مياه البحر المالحة، وتتجمد بسبب الرياح الباردة. لأنك رجل، وبالتالي سيكون هذا خزيًا وعارًا كبيرين!

حسنًا، أترك العواصف تبحر معكَ في السفينة ذاتها، واجعل الأشواك تلازم خطاك التي تخطو بها إلى الأمام. رغم وجود كل من العواصف المطيرة والأشواك، ولكن لا يمكنك أن تتجنب الرعد والبرق الموجودين وسط العواصف المطيرة، ولا الفخاخ المدفونة وسط الأشواك. وطريقتي في حبي لكَ كأب، هي تنبيهك، عليكَ أن تحذر، وتحافظ على نفسك وتعتني بها. حينما أقول تعتني بنفسك، فأقصد أنه لا بد من أن تحافظ جيدًا على حياتك أولًا، وتهتم بصحتك، وأن تدرك صعوبة التجارب التي تمر بها، وتنظم وقتك بين العمل والراحة، والأكثر من ذلك يجب أن تبتعد عن شتى أشكال الصدامات، الشفهية، والجسدية، والفردية والجماعية. إن الشباب جامح وطائش، وأي صدام يمكنه أن يحدث انْشِطارًا، بل وإن الحياة رقيقة وناعمة… أريد أن ألخص هذا الكلام بجملة واحدة: الحياة هي الأعظم، وأمامها يمكنك أن تكون جسورًا وتتخلى عن كل شيء، وأي شيء، فليس هناك اختيار آخر.

ثانيًا: عليك أن تحافظ على قلبك بكل عزمك. فلا تتركه يمرض، بل اجعله قلبًا روحانيًا. لا بد أن يكون طيبًا، ورحيبًا، وصافيًا، ونظيفًا، وغنيًا، ومحبًا للبشر. الطيبة هي أصل الخير، والكرم هو مُحرك التسامح، وإن لمَع الفؤاد، يكون صادقًا وصافيًا، وليس خبيثًا، أو شيطانيًا. ولكن إذا اسوَدَّ القلب، واتسخ، تصير الدنيا جحيمًا، وكذلك الجنة أيضًا، وإن فَرَغ، تصبح المصايد

والمكائد في كل مكان، حتى الذهب يصبح مَصيدة وفخًا. وفي ما يتعلق بالحب، عليكَ أن تصير أنتَ سيده، لا بد أن تحب ذاتك، والأكثر من ذلك تحب الآخرين، وتحب الناس الذين لا يحبونك، وكذلك منافسيك. إن حُب الأقارب والأصدقاء هي مشاعر دارجة بين البشر، أيضًا تعاليم مُقدسة، وفطرة، وشيء عاديّ. أما حب الناس الذين لا تحبهم، بمن فيهم الأعداء، فهو نوع من الخلق، وتهذيب الذات، وهو، كذلك، شيءٌ غير مألوف. يا بني! من فضلك، اعلم أن الحب بمثابة جواز سفر للمرور من أي بوابة طريق جبلي، وحب الآخرين هو من أعظم أنواع حب الذات. دعنا نتحدث حول الجمال، فلو كان الحب نور الشمس، فإن الجمال ضوء القمر. يبدو نور القمر ضعيفًا، وعديم الجدوى، بدونه تنمو ملايين الكائنات ببطء، وكذلك تزدهر الأزهار. ولكن تخيل قليلًا، بدون ضوء القمر، كم كنا نحن البشر سنخسر من المشاعر، والأشواق، والأشعار والموسيقى. إن الجمال هو شيء غير ملموس، ولكنه حقيقي، ينبت في قلبكَ، بل ويضيف لحياتك طعمًا ومذاقًا، ويجعلها ذات مشاعر ومعنى، ويضفي عليها لونًا ورائحة، ويجعلها مفعمة بالحيوية.

هاها، يا بُنيّ، والدك ثرثار حقًا أليس كذلك؟ حسنًا، سأتوقف هنا، أنا لا أشتاق إليكَ، وأتمنى أيضًا أن لا تشتاق إلى البيت. ولو غلبكَ الشوق، اقرأ كتابًا. أنتَ تعلم أن والدك لديه جملة يقولها دائمًا: “القراءة هي عودة إلى الدار، وورق الكتاب هذا أكثر قيمة بكثير من ورق النقود!”. من فضلك، اسمح لي بآخر ثرثرة أقولها لكَ، فكل ما قلته توًا هي أشياء استراتيجية تقريبًا، فاجعل الكتب تُعيدك إلى البيت، وتبث السكينة في قلبك، وتصقل جناحيك، فربما يكون هذا أيضًا هو نوع من التكتيك.

*كاتب صيني

المترجم: مي عاشور

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى