سياسة

اللجنة الدستورية وسؤال الدستور في سورية -مقالات مختارة-


الدستور في خدمة التزوير؟/ صادق عبد الرحمن

خلال سنوات حكمه الأولى، كان حافظ الأسد يحتاج دستوراً جديداً يساعده في فرض هيمنته على سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، في بلاد كان لا يزال فيها مراكز قوى عديدة داخل مؤسسات الدولة وخارجها، فكان دستور العام 1973، الذي نصَّ على جمع السلطات كلها في قبضة رئيس الجمهورية، ونصَّ على قيادة حزب البعث الذي يتزعمه رئيس الجمهورية للدولة والمجتمع في سوريا.

أما بشار الأسد، فلم يحتج بعد موت والده عام 2000 سوى إلى تغيير المادة التي تنص على سنّ الترشح لرئاسة الجمهورية، ولم يجد حرجاً في التراجع بعدها عن كل ملامح الاشتراكية، دون الحاجة إلى تعديل مواد الدستور التي تنص على اشتراكية اقتصاد الدولة، ليكون هذا واحداً من علامات كثيرة على أن الدستور قد بات خرقة بالية لا تصلح لشيء، وأن السلطة كلها قد باتت في يد عصبة لا تلتزم بأي دستور.

ومع ثورة السوريين عام 2011، وجد بشار الأسد نفسه مضطراً لتغيير الدستور، لكن ليس من أجل استخدامه في مواجهة مراكز قوى داخلية هذه المرة، ولا من أجل تدعيم شرعيته الداخلية المتهالكة. وقد كان التغيير النظري في دستور العام 2012 هائلاً، إذ باتت سوريا بموجبه دولة تعددية سياسياً، ولم يعد هناك حزب قائد للدولة والمجتمع فيها، كما تم حذف كل إشارة إلى الاشتراكية من مواد الدستور، وتم النص على سائر الحريات والحقوق المدنية التي تقرّها دساتير الدول الديمقراطية في العالم، لكن هذا لم يترك أي أثر على حياة السوريين، لا على مستوى الحياة اليومية، ولا على مستوى علاقة مؤسسات الدولة بالسكان الذين تحكمهم وتدير حياتهم.

لم يتغير شيء في آليات ممارسة الحكم ولا في بنية النظام الحاكم بتغير الدستور عام 2012، وهذا لوحده دليلٌ كاف على أنه لم يكن لذاك التغيير الدستوري أي وظيفة داخلية، بل إن وظيفته كانت خارجية بالكامل، تتعلق بتحسين شكل النظام أمام المجتمع الدولي، تمهيداً لإنقاذه واستكمال الشروط اللازمة لإعادة تثبيته. وليس بين أيدينا ما يشير إلى أن هذا قد تغيّر اليوم، بل على العكس من ذلك، يسير نظام الأسد خطوات أبعد في احتقار كل النصوص الدستورية والقانونية، بما فيها تلك التي أقرها بنفسه لنفسه، ويواصل قتل شرائح واسعة من السوريين وإذلالهم وتحطيم حياتهم في سجونه وخارجها، دون أي ضوابط من أي نوع، بما يجعل الحديث عن الذهاب إلى حلول عن طريق تغيير الدستور مجرد مزحة سمجة.

لا يستند النظام في أسلوب حكمه على مواد الدستور الحالي، وهذا يعني تلقائياً أن تغيير مواد الدستور لن يقود إلى تغيير أسلوب الحكم، وقد كانت هذه الخلاصة البديهية حاضرةً في صياغة المجتمع الدولي لبيان جنيف عام 2012، الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي في القرار 2254 لاحقاً، وفيه يبدو واضحاً أن الخطوة الأولى على طريق أي حل سياسي للمسألة السورية، هي «إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية»، وعلى هذا الأساس «يمكن أن يعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية. وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام»، حسب نص بيان جنيف نفسه.

وهكذا فإن الإقرار الأممي بضرورة إنشاء هيئة حكم انتقالي، يمكن في ظلها الذهاب إلى إجراءات أخرى كتعديل الدستور وإجراء انتخابات، هو مكتسب راسخٌ أنتجته تضحيات السوريين، يتضمن فهماً واضحاً لحقيقة أن كل الدساتير والانتخابات في الدنيا لن تعني شيئاً طالما أن السلطة في قبضة الأسد وأجهزته الأمنية، لكن الأمم المتحدة تتصرف اليوم خلافاً لهذه الحقيقة، إذ تقوم بتسويق التقدم في مسار اللجنة الدستورية على أنه تقدم في مسار الحل السياسي، في تزوير مشهود للمسألة السورية كلها.

تسير الأمم المتحدة في عملية التزوير تلك، ومعها سائر الأطراف الإقليمية والدولية بما فيها تلك التي يفترض أنها حليفة للمعارضة السورية، ويقبل الجميع بالقفز فوق شرط إقامة هيئة الحكم الانتقالي، بما في ذلك قوى المعارضة الممثلة في الهيئة العليا للمفاوضات، التي تخضع لإملاءات داعميها وحلفائها الإقليميين والدوليين، وتمضي إلى الاشتراك في عملية التزوير دون أن تهتم حتى بشرح الأسباب التي تدفعها إلى القبول بهذا.

تكفي سيرة النظام السابقة للقول إن الشراكة معه في صياغة دستور جديد، دون أي إجراءات جدية تمسّ قدرته غير المحدودة على قتل السوريين وإخضاعهم، ودون انتزاع إقرار عملي أو حتى لفظي منه بأننا نسير على طريق انتقال سياسي، هي مساعدة في إعادة تأهيله دولياً، سواء قصد المعارضون المشاركون تقديم هذه المساعدة أم لم يقصدوا.

إذا كان ثمة معطيات لا نعرفها تقود إلى خلاصات مغايرة، فإن من حق السوريين أن يعرفوها، أما إذا لم يكن ثمة معطيات كهذه، فإن المسار السياسي الراهن في حقيقته هو مسار لتأهيل النظام دولياً وليس لتغييره، فلماذا يشارك معارضون في مسار كهذا؟ ولماذا يقبلون أن يكونوا شهود زور على عملية كهذه؟ وما هي المكاسب التي قد تتحقق منها، أو على الأقل، ما هي عواقب عدم مشاركتهم فيها؟ في وقت يبدو واضحاً فيه أن عمليات النظام وحلفائه العسكرية لا ترتبط بالمسار السياسي ولا تتأثر به، وأن سياسة النظام في القمع والترهيب والقتل تحت التعذيب، لا ترتبط بالمسار السياسي ولا تتأثر به أيضاً.

ربما يبقى الأسد وعصبته ممسكين بخناق البلاد وأهلها عقوداً طويلة قادمة، وربما يُجبرون على الرحيل أو التنازل عن جزء من سلطتهم إذا كانوا قد صاروا عبئاً على حلفائهم قبل خصومهم، لكن صياغة دستور جديد لسوريا لا تلعب دوراً في الدفع باتجاه أي من المصيرين، بل لعلها قد تساهم قليلاً أو كثيراً في تمهيد الطريق أمام الخيار الأول. هذا ما تقوله المعطيات التي بين أيدينا، ويقع على عاتق من لديه معطيات غيرها أن يشرحها لنا.

 موقع الجمهورية

في شروط فعالية اللجنة الدستورية/ مازن غريبة

منذ أيام قليلة، تداول السوريون قائمة مُسرّبة للأسماء المقترحة لعضوية اللجنة الدستورية التي يتم العمل على تشكيلها برعاية الأمم المتحدة، وبالتوافق بين الدول المؤثرة في الشأن السوري، وعلى رأسها روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة. ولمّا كان اسمي مدرجاً ضمن تلك اللائحة الأولية، تحت قائمة «لائحة الأمم المتحدة» التي قد تتغير خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فقد وجدت أنه من واجبي توضيح بعض النقاط المتعلّقة بهذه القائمة، وتقديم رؤيتي الخاصة لمحددّات عمل اللجنة، وللشروط الأساسية التي يتوجب على الأمم المتحدة مراعاتها وضمان تحقيقها، والتي من دونها لن يكون لهذه اللجنة أي أثر حقيقي على مجريات الواقع السوري، بل ستتحول إلى هيئة شكلية وتجميلية معيقة للحل السياسي.

وهنا أودّ التأكيد على أنه لم يتم التواصل معي بشكل رسمي إلى الآن بخصوص وجودي في هذه اللجنة، ولم أُسأل بعد، وبشكل رسميّ، عن قبولي أو رفضي الانضمام إليها. وكنتُ قد علمت بورود اسمي فيها مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، من قبل جهات غير رسمية قريبة من المباحثات المتعلقة باللجنة. وإنّ قرار قبولي للعمل في هذه اللجنة أو عدمه، في حال تمت دعوتي رسمياً للمشاركة أساساً، يرتبط بمجموعة عوامل وشروط أساسية، سأحاول طرح أهمها في هذا المقال.

كما أودّ أن أنوّه إلى أن القائمة المتداولة حالياً، وبحسب عدد من المصادر المقربة من عملية تشكيل اللجنة الدستورية، هي ليست القائمة النهائية، وإنما هي القائمة الأولية التي طرحت للتداول في اجتماع وزراء خارجية الدول الضامنة لأستانا، روسيا وتركيا وإيران، مع المبعوث الأممي الخاص لسوريا، والذي عُقد في جنيف في 18 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ونتج عنه استبدال عدد كبير من أسماء اللائحة الثالثة، التي يُطلق عليها اسم لائحة الأمم المتحدة أو لائحة المجتمع المدني، بأسماء أخرى لم يتم التوافق عليها بعد.

مع تسريب هذه القائمة، عاد النقاش حول العملية الدستورية ليحتل حيزاً كبيراً من الفضاء السوري العام، خصوصاً بعد أن كان المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، قد أعطى الأولوية لهذا الملف خلال الفترة الأخيرة من مهمته. وعلى الرغم من أن العملية الدستورية هي من المحاور الأساسية لاتفاق جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، إلا أنها ظلت محوراً ثانوياً حتى قامت موسكو بالدعوة لما عُرف بـمؤتمر سوتشي في كانون الثاني (يناير) من العام الماضي، حيث تم الإعلان عن تشكيل «لجنة دستورية عليا» تحت رعاية روسية، وتم تقديم مقترح دستوريّ روسيّ كنقطة انطلاق لعمل تلك اللجنة، وهو ما دفع المبعوث الخاص السابق لتكثيف جهوده لإنشاء لجنة دستورية تحت رعاية أممية، تكسر إلى حد ما الاحتكار الروسي لهذا الملف، وتعطي للأمم المتحدة والدول ذات التأثير المباشر على الوضع السوري، دوراً أساسياً في هذه العملية. ذلك إضافة إلى رغبة دي ميستورا في ترك علامة فارقة ما، بعد أن فشلت كل مساعيه الأخرى في تفعيل بقية «السلال» التي تم الاتفاق عليها في الجولة الرابعة لمحادثات جنيف، كسلّة الانتقال السياسي والإصلاح الأمني والانتخابات.

وبعد سلسلة من المباحثات والزيارات المكوكية للمبعوث الخاص وفريقه، تم إرسال لائحة أوليّة لأعضاء اللجنة الدستورية مصنّفة ضمن ثلاث قوائم: قائمة النظام السوري، وقائمة المعارضة المعينة بشكل رئيسي من قبل هيئة المفاوضات السورية، وقائمة الأمم المتحدة أو المجتمع المدني، التي لا تزال أسماء أعضائها وآلياتها ومرجعيتها موضع تجاذبات ومفاوضات إقليمية ودولية.

وبالطبع، لا يمكن لهذه اللجنة أن تكون ذات معنى أو تأثير حقيقي على العملية السياسية، إن لم تتوافر جملة من المحددات والمقومات الأساسية، والضمانات الرسمية، التي ينبغي أن يقدمها المبعوث الأممي الخاص الجديد غير بيديرسون وفريقه قبل الإعلان الرسمي عن تشكيل اللجنة، وقبل البدء بأي لقاءات رسمية لأعضائها. ومن أهم تلك المحددات:

ـ أن يكون للمشاركين في اللجنة الدستورية الدور الرئيسي في حوكمة عمل هذه اللجنة، وتحديد أهدافها وطرق اتخاذ القرار فيها وآليات انعقادها، ورفض أي آليات «معلّبة» تُفرض عليها. وأن تكون الأمم المتحدة هي المرجعية الأساسية، والوحيدة، لهذه اللجنة، بعيداً عن تأثير اللجنة الدستورية المنبثقة عن مؤتمر سوتشي.

ـ ألّا تُختزَل عملية الانتقال السياسي في هذه اللجنة، خصوصاً أن انعقادها وسيرها في عملها شرط لازم لكنه غير كافٍ لتحقيق الانتقال السياسي، وبالتالي فإنه يجب أن يُنظر إليها كأحد حوامل الحلّ السياسي، وليس بوصفها الغاية النهائية منه.

ـ ألّا تكون نقاشات اللجنة الدستورية مساراً بديلاً للمفاوضات السياسية التي تتم تحت رعاية الأمم المتحدة، فمن غير المنطقي أن تعمل هذه اللجنة بمعزل عن بقية «السلال» الأساسية المتفق عليها في جنيف، وعلى رأسها تشكيل هيئة الحكم الانتقالي. إذ لا يمكن، ومن غير الأخلاقي أساساً، النظر إلى ما يجري في سوريا اليوم على أنه «خلاف دستوري» بين المعارضة والنظام، خصوصاً وأن الدساتير السورية التي كُتبت تحت ظلّ حكم البعث، سواء كان دستور 1973 أو دستور 2012، ورغم كل المشاكل العميقة والكارثيّة التي تحملها نصوصها، لا تسمح، نظرياً، للنظام السوريّ بارتكاب هذا الكم الهائل من انتهاكات حقوق الإنسان، من الاعتقال التعسفي والتهجير والتغييب القسري، إلى قصف المدن والأحياء السكنية بمختلف أنواع الأسلحة، كالأسلحة الكيماوية والباليستية.

ـ إنّ العملية الدستورية يجب أن تضمن مشاركة شعبية واسعة لكل مكونات المجتمع السوري، بمن فيهم النازحون واللاجئون، وبما أن الظروف الحالية تجعل من المستحيل القيام باستفتاء شعبي واسع، حر ونزيه، فيجب إذن أن يقتصر عمل اللجنة الدستورية على الاتفاق على «إعلان دستوري مؤقت» أو «مسوّدة دستورية»، يتم الاعتماد عليها في مرحلة الانتقال السياسي لصياغة دستور تفصيلي للبلاد من قبل هيئة مُنتخبة، يُطرح بعدها لاستفتاء شعبي عام ضمن مناخ سياسي يضمن المشاركة الحرة والنزيهة لكل السوريين، تحت إشراف ورقابة الأمم المتحدة.

أخيراً، وبعيداً عن الضمانات الأممية السابقة التي ينبغي أن تتوافر، وبما أنّ الهدف الأساسي للثلث الثالث من اللجنة الدستورية هو إعطاء دور فعّال لمنظمات المجتمع المدني السورية، فإنه يتوجب بالتالي على أعضاء هذه القائمة توسيع دائرة النقاش والحوار مع المنظمات والتحالفات المدنية السورية. إضافةً إلى ذلك، ونظراً لأن نسبة المشاركة النسائية لا تتجاوز 25٪ من مجموع كل القوائم، فإنه يجب خلق قنوات تواصل فعّالة مع المبادرات النسائية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال تمكين المرأة، لضمان إيصال صوتها وترسيخ دورها في العملية الدستورية ومرحلة الانتقال السياسي.

لا شكّ أن سوريا المستقبلية بحاجة إلى دستور يحدّ من الصلاحيات المطلقة المعطاة للسلطة التنفيذية، ويخلقُ آليات واضحة للعدالة الانتقالية، ويرى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو أحد مصادر التشريع في الدولة، ويؤكد على أن مبدأ فصل السلطات هو شرط مقدس لا يجوز المساس به، وأن استقلال القضاء هو أهم أسس الدولة الديمقراطية الحديثة، وأن توسيع مفهوم اللامركزية هو شرط أساسي لتمكين المجتمعات المحلية في الفضاء العام. إلّا أن هذه القيم ستبقى حبراً على ورق إن لم يتم تطبيقها ضمن مرحلة انتقال ديمقراطي حقيقية، تضفي شرعية مجتمعية على النص الدستوري.

في مرحلة الاستعصاء السياسي التي يمر بها السوريون، حيث لا دور حقيقياً لهم في تقرير مصيرهم، تتلاشى فرص المجتمع المدني السوري في خلق مساحة عمل مستقبلية تضمن الحد الأدنى من الحريات العامة والمشاركة المجتمعية. ومع ذلك، لا بدّ أن نحاول فرض واقع جديد بكل الوسائل المتاحة لنا اليوم، بما قد يهيّئ لنشوء تربة خصبة للمجتمع المدني في المستقبل، البعيد والبعيد جداً. وربما تكون هذه العملية الدستورية فرصة للمضي قدماً في تحقيق تلك الغاية، خصوصاً إذا نجح أعضاء اللجنة في خلق كتلة حرجة، عابرة للقوائم، قادرة على فرض تلك الشروط والدفاع عن قيم انتفاضة الحرية والكرامة السورية. وفي حال فشلهم، ستتتحول تلك العملية برمّتها إلى مصدر إحباط جديد، يُضاف إلى سلسلة الإخفاقات المتتالية للعملية السياسية السورية.

موقع الجمهورية

سورية.. مفارقات الهيئة والدستور/ ميشيل كيلو

لا يتوقف بعض ممثلي المعارضة السورية في “الهيئة العليا للتفاوض” عن المطالبة بتشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة “، والتي أقرها بيان جنيف، واشترط لتشكيلها موافقة السلطة والمعارضة عليها، ليكون باستطاعتها القيام بالتدابير الضرورية لنقل سورية من الاستبداد الأسدي إلى الديمقراطية، بنص قرار مجلس الأمن رقم 2118، الصادر بإجماع أعضائه الخمسة الذي يقول “إن الحل السياسي يبدأ بتشكيلها”، ويربط بالتالي الحل بها. يربط بيان جنيف صياغة الدستور السوري الذي سيحدّد نمط الدولة الديمقراطية، بجمعيةٍ تأسيسيةٍ تشكلها “الهيئة الحاكمة”، ولا يربطه، هو أو أي قرار دولي، ب”لجنة دستورية” من النظام والمعارضة، والمجتمع المدني، تشكل بتوافق إيراني/ تركي/ روسي مع الأمم المتحدة.

تخالف “لجنة المعارضة الدستورية” بندي تشكيل “الهيئة الحاكمة” وصلاحياتها، البديلة لصلاحيات الأسد ورئيس وزرائه، بنص القرار 262/67، الصادر بتاريخ 15 مايو/ أيار 2013، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما تخالف النص على تشكيل “جمعية تأسيسية” تضع الدستور، تختار “الهيئة الحاكمة” أعضاءها من النظام والمعارضة وأطرافٍ أخرى، وتشترط لعضويتهم فيها موافقتهم على الانتقال إلى الديمقراطية، بوصفها مرجعيةً وحيدة للدستور، ولمؤسسات مرحلة الانتقال الأخرى، فهل نالت “هيئة التفاوض” موافقة جماعة النظام على الانتقال الديمقراطي مرجعيةً للدستور الذي سيتم وضعه؟، وهل لديها موافقة الأمم المتحدة على ذلك أيضا؟. وإذا كانت “الهيئة” متمسكة حقا ب”الهيئة الحاكمة”، لماذا تخالف بيان جنيف والقرارين 2118 و262/67، وتقبل تشكيل لجنة دستورية لم تشكّلها، ليست جمعية تأسيسية يؤيد أعضاؤها الانتقال الديمقراطي؟.

أخيرا، هل لدى “هيئة التفاوض” ضماناتٌ دوليةٌ من الخمسة الكبار الذين أصدروا بيان جنيف، بشـأن الانتقال الديمقراطي مرجعية لعمل لجنة الدستور؟ وهل يستطيعون تقديم ضمانة قطعية بأن ما ستصدره سيكون دستورا جديدا، وليس مجرد تعديل للدستور الأسدي لعام 2012. هذا إن هم نجحوا في إصدار أي شيء، في ظل خلافاتهم الجذرية مع وفد النظام، وربما مع الأمم المتحدة حول الانتقال الديمقراطي، وما يقال عن الميل إلى تعديل دستور عام 2012 الأسدي الذي وضع للمحافظة على نظام الاستبداد، والالتفاف على  ثورة الحرية والانتقال الديمقراطي؟.

تطالب هيئة التفاوض بتشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، وهي تعلم أن أحدا لن يستجيب لها. لذلك تقبل الذهاب إلى مسار يختلف عن المسار الذي حدّده  “بيان جنيف” قبل ستة أعوام،  وتعلم أن تشكيل “الهيئة الحاكمة” كان مستحيلا بنص قرار تشكيلها الذي اشترط “قبول الطرفين” المتحاربين بها. لذلك، ما أن رفضها الطرف الأسدي، حتى استحال تشكيلها الذي أدّى إلى جعل الحل السياسي وفق الوصفة التي اعتمدها البيان، والآلية التي رسمها القرار 2118 مستحيلا تماما.

هذا هو الواقع منذ نهاية عام 2012، وما لم يغيره مستحيل آخر، هو بناء المعارضة ميزان قوى يستطيع إجبار روسيا وإيران والأسد على القبول بتشكيل “الهيئة الحاكمة” بمرجعية الانتقال الديمقراطي، ستمتثل كل خطوة تقوم “هيئة التفاوض” بها لقراراتٍ دوليةٍ مخالفةٍ لبيان جنيف، ولن تكون غير إسهام في الالتفاف الروسي عليه، وبحثٍ عن طريق آخر إلى الحل. ولأن أعضاء “هيئة التفاوض” يدركون ذلك، فإنهم يتجاوزون مطالبتهم اللفظية ب”الهيئة الحاكمة”، وينخرطون في مسارٍ يعلمون تماما أنه لن يُفضي إلى تشكيل “هيئة حاكمة”، ولا تشبه محطّاته مسار الحل الذي كان يمكن لها اعتماده، وصولا إلى الانتقال الديمقراطي الذي يرفضه اليوم كل من ستفاوضهم المعارضة في وفد الأسد، وعدد غير قليل من أعضاء “لجنة المعارضة الدستورية” الذين يطالبون بتطبيق بيان جنيف. ومن واجبهم مصارحة الشعب بالحقائق، والتوقف عن المطالبة اللفظية بشيء، والتخلي العملي عنه، في الوقت نفسه، إذا كان هؤلاء يريدون حقا أن يساندهم الشعب ويساند جهودهم.

العربي الجديد

الهزيمة “الوطنية” في اللجنة الدستورية السورية/ سميرة المسالمة

تختصر تصريحاتٌ متتاليةٌ بشأن نتائج قمة سوتشي بين الرؤساء، التركي أردوغان والإيراني روحاني والروسي بوتين، حقيقة الهزيمة السورية لكل الأطراف المحليين الذين يحاولون تضليل جمهورهم الموالي لهم، بأن أحداَ منهم حظي بانتصاره على الآخر، على الرغم من أن مبرّرات النظام السوري تكاد تكون أكثر قوةً بحجتها من المعارضة التي تنتقل بخسائرها من العسكري إلى السياسي، إلا أن ذلك لا يعني أن الأسد بواقع التسويات القائمة بقي حاكما لسورية بشكلها السابق ما قبل 2011، وهو لا يعرف شكل سورية التي يقول وزير خارجية بريطانيا، جيرمي هنت، “أنه سيبقى يحكمها خلال المستقبل القريب والأبعد منه. ما يستلزم أن تقدّم روسيا حلاً صالحاً للسوريين”، كما أنه لا يعني هزيمة الثورة بما خرجت من أجله من مطالب التغيير الذي سيكون، شاء أطراف الحل أم تعنتوا، المآل الحقيقي لحرب التصفية الوطنية المستمرة منذ ثمانية أعوام. ففي حين يقول الرئيس التركي إنه بدأ يتكون لدى سلطات بلاده انطباع عن النظام الذي سيتم تشكيله في سورية مستقبلاً، وكان تقرير لوكالة الأناضول، الناطقة باسم الحكومة التركية، سبق التصريح، ورد فيه أن “أنقرة لا تريد إسقاط الرئيس الأسد، بل تسعى إلى إشراك المعارضة في حكم سورية”. تغيب تصريحات النظام السوري عن آلية تشكيل النظام الجديد، بينما تصمت المعارضة التي هي شريكة النظام في صناعة ما يسمّى دستورا يضبط كيفية الوصول إلى ما تتصوره تركيا لشكل النظام الجديد الذي يبدو أنه لا يختلف عمّا تريده روسيا، حيث بقاء رأس النظام ساكنا في مكانه، بينما تصنع هي مؤسساتٍ موازيةً لما تعتبره مؤسساتٌ مواليةٌ لإيران في سورية، ما يعني أن الحل الذي ينتظره العالم من روسيا هو تسكين الصراع المسلح، وتقاسم المصالح مع دول الصراع على سورية، بما يضمن أمن إسرائيل، ويبدّد 

مخاوف تركيا، ويبعد شبح الهيمنة الإيرانية.

أي لا جديد يذكر في معادلة التسوية التي تدخل ضمن الخطوط الأميركية المسموح بها في حل الصراع السوري على أساس خسارة الأطراف السورية جميعها بالتساوي، القائم على نسب السيطرة الفعلية الشعبية والجغرافية للدول الضامنة، بما فيها إيران التي تكاد الحرب الأميركية الإعلامية عليها تتحوّل إلى مسلسل فكاهي فاقد لفعاليته، على الرغم من التصريحات الرنّانة والمؤتمرات الطنانة التي لم تثمر عن أي انزياح لقوات القتل الإيرانية في سورية.

وتبتلع المعارضة هزيمتها، بإعلان أسماء اللجنة الدستورية، آخر معاقل الوجود “المعارضاتي” في الصراع السوري – السوري، حيث تُمسك قيادة المعارضة بما سمّته معركتها الدبلوماسية في الحل السياسي، من دون أن تحدّد لجمهورها من السوريين (إن وجدوا) أين انتصارها المرتقب، وكيف يمكن تقييمه على ميزان الربح والخسارة، فحيث رضيت لنفسها أن تكون أداةً لترقيع عباءة الحل المقترح دولياً، وأن تتعايش مع جملة التنازلات المفروضة عليها، بدءاً من القبول بمنتجات أستانة، وصولاً إلى اختصار الثورة بما يمنح لهم من حصةٍ في عضوية اللجنة الدستورية، مبتعدين عن آلية وميكانيكية الحل السياسي الذي فرضته القرارات الدولية، وخاضعين لإرادة التسويات الدولية البينية التي أقرّتها تركيا عنهم، باعتبارها جهة داعمة لهم، مع روسيا وإيران، جهتين تحلان مكان النظام بوصفهما دولتي احتلال له قراراتياً ومكانياً، على حساب مجلس الأمن 2254 الذي ينص على مرجعية بيان جنيف1، وتسلسل تطور الحل، بدءاً من إجراءات الثقة التي رفض النظام السوري تنفيذها، مروراً بالمرحلة الانتقالية التي نعاها رئيس وفد معارضة أستانة، أحمد طعمة، لمصلحة إعادة إنتاج النظام، بالشراكة مع بعض المعارضة.

وهذا يعني أننا أمام حالةٍ من اختصار الثورة في عموميات أهدافها وبرنامجها التغييري، على المسارين القانوني والتنفيذي، إلى تعديلاتٍ دستورية لم تكن، وفق المضامين المسرّبة، تحتاج 

ثورةً تخسر فيها سورية أكثر من مليون شهيد، وتدمر بنيتها التحتية، ويهجّر من أجلها نصف سكان سورية تحت الحصار المفروض عليهم، سواء من النظام، أو أدوات القمع التي تبنّتها المعارضة لاحقاً، كأذرع عسكرية لها من فصائل ذات أيديولوجيات إسلامية متطرّفة، تصب في فكر “القاعدة” وقريباتها، ما يعني اختصار مطالب قيادة المعارضة إلى مجرّد حفظ أدوار لهم في حكومةٍ يشكّلها النظام، بعد أن تخلص من مؤيدي الثورة، ونقل سلطة “تمثيلها” إلى طامحين، ليكونوا معه شركاء للسلطة.

لا يمكن للسوريين على ضفة المعارضة أن يراهنوا على “موقف وطني” يبعد شرعنة الدستور المفترض تصديره لهم، تحت غطاء اللجنة الدستورية، فحيث لا يمكن التعويل على شخصياتٍ تعوّدت القفز من موقع إلى آخر أن تنسحب لمصلحة إبقاء فرصة السوريين ممكنةً في صياغة دستور وطني، يختارون فيه مستقبلهم حسب الشرائع القانونية الدولية، والقرارات الدولية ذات الشأن في قضية الصراع السوري التي تجمع مضامينها على مرحلةٍ انتقالية يُصاغ خلالها دستور لسورية جديدة، على الرغم مما أعلنه ممثل وفد أستانة، أحمد طعمة، وصمت عليه رواد نادي الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذين زرعوا أسماءهم ضمن قائمة اللجنة الدستورية، على الرغم من غياب الصلاحية العلمية والكفاءة السياسية والحس بالمسؤولية الوطنية، تجاه قضية صراعٍ لم تكن مواد الدستور قادرة ذات يوم على نزع توغل القوى الأمنية على حقوق السوريين بكل جوانبها.

العربي الجديد

تجميد اللجنة الدستورية/ عبد الرحمن الحاج

في بيان قمة سوتشي أول أمس قال المجتمعون إن الرؤساء فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وحسن روحاني شددوا “على ضرورة تكثيف الجهود لإطلاق عمل اللجنة الدستورية في سوريا في أقرب وقت”. ومن الواضح في هذا التعبير أن اللائحة النهائية لم تنجز بعد، وما زال الخلاف قائما حول أسماء الثلث الثالث (المجتمع المدني والخبراء)، وبالتالي ليس من المتوقع أن يكون تشكيل اللجنة قريباً.

لنتذكر أن الضغط الأمريكي عبر المبعوث الأمريكي المتحمس (جيمس جيفري) على الروس في شهر كانون الأول/ديسمبر بلغ حد التهديد بإنهاء مسار أستانا إذا لم يتم تشكيل اللجنة الدستورية المفترضة قبل نهاية الشهر، وسمعنا تصريحات وخطوات متسارعة من قبل الروس (خصوصاً لافروف وبوتين)  وشركائهم في أستانا عن وصول تشكيل اللجنة إلى مراحله الأخيرة، وأنها ستشكل قبل نهاية العام. وما إن فجر ترامب مفاجأته بإعلان الانسحاب “الفوري” من سوريا حتى أطفئت جميع محركات العمل على اللجنة الدستورية، وتم تأجيلها إلى موعد غير معروف، كانت هذه نتيجة متوقعة ريثما يتضح ملامح إعلان ترامب ودراسة تداعياته (انظر مقال : بعد قرار ترامب هل نُودِّع اللجنة الدستورية؟ )

يبدو أنه من الضروري في البداية التذكير بأن اللجنة الدستورية فرضها الروس وأريد بها الإطاحة بمسار الأمم المتحدة السياسي والقرارات التي بني (بيان جنيف1 والقرار 2254) ونقل الحل السياسي إلى مسار أستانة وفقاً لتصور جديد للحل يخدم كلياً إعادة تأهيل نظام الأسد. ولأن روسيا ليست الفاعل الوحيد فقد تعرقل تشكيل اللجنة على النحو الذي يريده الروس وحلفائهم وما تبقى من نظام الأسد، إذ لم ينعقد مؤتمر سوتشي – كما هو معلوم – إلا بعد مجموعة شروط أهمها أن يكون تشكيل اللجنة تحت إشراف الأمم المتحدة. لكن قبول الأمم المتحدة باللجنة كان فعلياً إطاحة بمبدأ هيئة الحكم الانتقالي وقبول الحل الروسي معدلاً، وإنهاء عملي لجميع القرارات الأممية.

كان الضغط الأمريكي قبيل إعلان الانسحاب من شرق الفرات يقوم على عمل اللجنة وفقاً للقرارات الدولية وبإشراف مطلق للأمم المتحدة، لكن  تحقيق ذلك مستحيل مع الإطاحة بمبدأ هيئة الحكم الانتقالي؟!  كان البديل الأمريكي يقوم على أساس أن يؤدي الدستور والانتخابات التي تليه إلى ما سموه “تغييرا حقيقيا وجذريا” كما كرره جيفري بأكثر من صيغة، ولكن كيف يمكن لدستور أن يحدث تغييراً ديمقراطياً وانتقالاً سياسياً حقيقياً بدون “بيئة آمنة ومحايدة”؟ من يستطيع توفير تلك البيئة؟ وكيف؟ لقد كان الأمر على الأرجح بدون جواب عند الأمريكيين، فليس هنالك استراتيجية أمريكية تجاه سوريا.

لقد سبق واختصر السفير الأمريكي السابق لسوريا روبرت فورد مؤدى اختصار الحل السياسي باللجنة الدستورية بالقول : “وصياغة الدستور الجديد لن تفيد في شيء. إن المشكلة السورية الحقيقية تكمن في الدولة الأمنية البوليسية التي لا تقبل المساءلة، وتغتال أو تعتقل كل من يطالب بالتغيير الحقيقي بصرف النظر تماماً عن وجود الدستور من عدمه. إن الدولة الأمنية السورية ستخرق وتنتهك مواد الدستور الذي يمكن أن يكون رائعاً على الورق. المشكلة السورية ليست مشكلة دستورية. بل إنها مشكلة تتعلق بحكم وسيادة القانون. وروسيا، التي هي أيضاً دولة بوليسية أمنية، تدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. فهي تفضل الحلول الأمنية المتلفعة بثياب الحلول السياسية. لذا؛ فإن الخطة الروسية المعنية بالحوار الموسع وإجراء الانتخابات الجديدة ليست إلا قصة مثيرة لكل من السخافة والسخرية” (آذار/مارس 2018).

الآن وفي ظل وضع يشعر جميع أطراف أستانة أنه يمكن لكل منهم أن يحقق مكسبا لم تتضح معالمه بعد، ولم يتضح الدور الأمريكي بعد الانسحاب وشكله، ومن سيملأ الفراغ وكيف، فإنه ليس من مصلحة أحد أن يدفع بالحل السياسي ريثما تتضح حظوظه والوقائع التي تكتسب شيئا من الصلابة يمكن البناء عليها، فبالنسبة للروس ثمة أمل وعمل أن تؤدي مساعيهم إلى تغيير في الوقائع بحيث تدفع جميع الأطراف  للاستسلام لها، في حين أن الأتراك يأملون أن تحسن الوقائع الجديدة موقعهم وتزيد من فرص تأثيرهم على الحل السياسي بما يحقق مصالحهم المبنية بالدرجة الأولى على “الأمن القومي”. فيما الإيرانيون يأملون أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى مزيد من ترسيخ وجودهم في سوريا وبالتالي تمكنهم من فرض شروط على الحل السياسي تسمح بشرعنة هذا الوجود وتمده بأسباب البقاء إلى أمد طويل.

وعلى ذلك ولأن الانسحاب لم يحدث بعد، والبدائل لم تتبلور بعد، فإنه بالتأكيد لن تشكل اللجنة الدستورية قريباً. ما تعنيه خلاصة قمة سوتشي بين شركاء أستانا بخصوص اللجنة هو ترحيل لها ريثما تتضح الصورة وتستقر مواقع الأطراف الدولية والإقليمية على الأراضي السورية، وإذا حصل ذلك فعلى الأرجح لن يكون هنالك حاجة إلى لجنة دستورية بالأساس وإنما إلى صفقة سياسية، وربما وقتها تستعيض الأطراف الفاعلة والمؤثرة في سوريا بـ”مؤتمر وطني” ثانٍ على غرار سوتشي يحقق مصالح تلك الأطراف وينهي أي أمل بالتغيير. وقتها سيخرج علنا من يقول بكل صفاقة “انسوا اللجنة الدستورية، فقد أكل الدهر عليها وشرب!”

تلفزيون سوريا

غير بيدرسن الداهية المحنك مهندس اتفاق أوسلو يحضّر خطته الجديدة/ إبراهيم الجبين

ما الذي يدور تحت الطاولات في الملف السوري؟

الجولات المكوكية للمبعوث الأممي الجديد للملف السوري النرويجي غير بيدرسن تنبئ أن هناك ما يجري التحضير له على الأقل في ذهن الرجل. وقد طاف بيدرسن على كل من برلين وباريس وقبلهما طهران وأنقرة والقاهرة وموسكو والرياض، بهدف الحصول على دعم تلك العواصم لجهوده لإحداث انطلاقة جديدة في عملية تسوية الملف السوري الذي يوشك أن يدخل عامه الثامن دون التوصل إلى حل ينهي النزاع، رغم تعاقب أربعة مبعوثين دوليين عليه، كان أولهم السوداني محمد الدابي ثم الراحل كوفي عنان الذي خلفه الأخضر الإبراهيمي وستيفان دي ميستورا قبل أن يصل بيدرسن أخيرا.

وفي برلين عقد بيدرسن هذا الأسبوع اجتماعات مع وزير الخارجية الألماني هيكو ماس الذي أكد أن بلاده ترى أن “تكوين لجنة دستورية متوازنة وشاملة شرط أساسي لنجاحها” بينما قال بيدرسن إن “انطلاق عمل اللجنة الدستورية سيؤدي دورا رئيسا في دفع العملية السياسية”، مضيفا أنه “لا تزال هناك بعض القضايا التي يجب حلها”.

كيف ترك دي ميستورا سوريا

سيصعب على متابعي الشأن السوري نسيان المبعوث الأممي المستقيل دي ميستورا. فالرجل تغلغل في المسألة السورية بصورة كبيرة، وعبر بقائه لفترة طويلة امتدت لأربع سنوات ونصف السنة، بحيث أن آثاره باتت في كل مكان، سواء في الجانب السياسي، وما آلت إليه حكاية سلاله الشهيرة التي لم يبق منها سوى اللجنة الدستورية المتعثرة التشكيل اليوم، أو ما يتصل بالجوانب الإنسانية والإنمائية أو ملف المعتقلين المغلق أو ملف المهجرين المعقد. ما يضع خلفه بيدرسن في حيرة كبيرة، هل يبدأ في كل تلك الخرائط من جديد، أم يواصل خطة دي ميستورا التي لن تفضي إلى شيء؟

في العام 1993 كان بيدرسن عضوا في الفريق النرويجي في مفاوضات أوسلو السريّة، التي انتهت بتوقيع إعلان المبادئ والاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ليعمل بعدها سفيرا للنرويج في رام الله. غير أن معرفة بيدرسن بالشرق الأوسط وقضاياه توثقت أكثر من خلال عمله منسقا خاصا للبنان ووكيلا للأمين العام للأمم المتحدة بين العامين 2005 و2008.

وفيما تنتهي أعمال قمتين تبدوان كحجري رحى، يدور أحدهما في سوتشي، والآخر في وارسو، بوضع خطوط عمل ما بين جميع المحاور الفاعلة في القضية السورية حتى الآن، بما فيها الإيراني الذي تم عقد قمة وارسو من أجل مواجهته، يبدو بيدرسن كمن ينتظر عودة المسافرين من كبار المسؤولين في القمتين إلى ديارهم كي يقلع في مشروعه.

لكن الوقت يمر، وفي تلك الأثناء يحاول طرفان تغيير الواقع في خطوط الاشتباك، جيش نظام الأسد الذي يقصف يوميا حدود المناطق المتفق على وقف إطلاق النار فيها موقعا المزيد من القتلى والجرحى، وأبومحمد الجولاني زعيم جبهة النصرة الذي تسيطر قواته على مناطق في إدلب وليس على كافة المناطق في الشمال السوري، والذي يحاول بسط نفوذه على أكبر مساحة ممكنة حتى يفرض نفسه في الحل القادم أو في الحرب القادمة.

كل ما سبق يؤشر على أن أي تقدم لا يحدث منذ خريف العام الماضي 2018، باستثناء مساعي بيدرسن لسبر مواقف كل من النظام والهيئة العليا للمفاوضات المعارضة.

يقول بيدرسن إن “المشاورات المكثفة والخطوات الملموسة والدعم الدولي عوامل ضرورية. وفي ضوء المشاورات مع الطرفين السوريين، سأعمل على تعزيز القواسم المشتركة وبناء الثقة ودفع العملية السياسية في جنيف”، لكن هذا لا يختلف كثيرا عن نغم دي ميستورا الذي ترك سوريا بالفعل، كما يرى كثيرون، عبارة عن مناطق نفوذ متقاسمة ما بين الأطراف الدولية والإقليمية المتنازعة عليها.

وصفة الدستور

المعارضة السورية بدورها أعلنت استعداد هيئة المفاوضات لمتابعة التفاعل الإيجابي مع المبعوث الدولي الجديد، بالإضافة إلى العمل، برعاية الأمم المتحدة ووفق بيان جنيف 1 وكافة القرارات والبيانات الدولية ذات الصلة بالمسألة السورية، لاسيما القرار الدولي 2254 الذي يعتبر برنامج العمل المتفق عليه لإنتاج الحل السياسي.

حكاية اللجنة الدستورية باختصار هي أن تنشئ الأمم المتحدة فريق عمل مشترك من سوريين موالين للنظام ومعارضين له يضعون مسودة للدستور ثم تتم مناقشتها والتصويت عليها في مجلس الشعب السوري الذي يدين بالولاء الكامل للأسد، ويتم اختيار أعضائه حسب مؤهلاتهم التي تسمح لهم باجتياز حواجز المخابرات السورية، وبعد أن يعدّل هؤلاء مسودة الدستور تعتمد وتصبح دستورا سوريا ينظم الحل السياسي للمستقبل السوري.

ولكن ومع أن هذه الوصفة تعتبر حتى الآن في صالح الأسد، إلا أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم أبلغ بيدرسن أن دمشق لا ترى أن الأمم المتحدة يجب أن تتدخل في صياغة دستور للسوريين، وأن هذه المسألة مسألة محلية ينجزها السوريون بأنفسهم.

المعلم ذاته هو صاحب نظرية “سنغرقهم في التفاصيل”. وبالتالي تصبح المرحلة الحالية مرحلة تفاصيل لتزجية الوقت ريثما يتم إنهاء المهمات العسكرية في الشمال والشمال الشرقي. من تلك التفاصيل الخلاف القائم اليوم على تشكيل اللجنة الدستورية، وأسماء أعضائها، ومواعيد انطلاق أعمالها. وفي الوقت الذي يبحث فيه بيدرسن عن مساعدة من الروس في الضغط على النظام لدفع مهمة اللجنة الدستورية، تبدو دمشق غير مستعجلة على ذلك.

لكن بيدرسن يدرك هذا جيدا. ويدرك معه أنه لا بد من خرق على مستوى بعيد عن الأيدي العابثة يمكنه من تحريك الملف قدما.

نصائح روسية وسورية

بيدرسن الذي لا تنقصه الحنكة يفاجأ برسائل تصله باستمرار من دمشق وموسكو ناصحة إياه بالتعقل وعدم السير على خطى من سبقه من المبعوثين الأممين إلى الملف السوري. المعلم يقول له بالحرف الواحد “إن سوريا، وكما تعاونت مع المبعوثين الخاصين السابقين، ستتعاون مع بيدرسن، بشرط أن يبتعد عن أساليب من سبقه، وأن يعلن ولاءه لوحدة أرض وشعب سوريا، وألا يقف إلى جانب الإرهابيين كما وقف سلفه، وأن يدافع عن المثل والقيم العليا التي يتبناها ميثاق الأمم المتحدة من أجل حرية الشعوب في إطار مكافحة الإرهاب”.

العديد من العقبات تواجه بيدرسن، ومن خلال تجاوزه لها سيكون قد أعاد المفاوضات إلى جنيف. وعليه أن يواجه من أجل ذلك التعنت الروسي الإيراني الذي يصر على مسارات أستانة وسوتشي ليبقي مسار جنيف في الثلاجة

أما فاسيلي نيبينزيا مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فقد نصح هو الآخر بيدرسن بالاعتماد على الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقا، وبعدم التخلي عن أي أمر تم تحقيقه. وقال نيبينزيا “أعتقد أن بيدرسن لا ينبغي أن يتخلى عن أي شيء تم تحقيقه قبل تعيينه، لدينا القرار 2254 الذي هو أساس التسوية السياسية، ولدينا عملية أستانة، وسوتشي، وإنجازات لإنشاء اللجنة الدستورية. ومن غير المهم ما نفكر به بشأن المبعوث الجديد، المهم أن الحكومة السورية مستعدة للعمل معه، وأن يكون محايدا ونزيها، وموضوعيا، ودبلوماسيا، وأن يحاول الدفع قدما بعملية السلام”.

على الأرجح فإن بيدرسن لا يعير كبير اهتمام لتلك النصائح، فهو من خلال تجربته في اتفاقية أوسلو كان يبقي نفسه دوما في الصف الخلفي من الفرق العاملة على إنضاج الاتفاق، وفي الوقت الذي حصلت فيه منى يول سفيرة النرويج بإسرائيل لاحقا وزوجها تيري رود لارسن اللذان كانا من أبرز أعضاء الفريق النرويجي في محادثات أوسلو، على جائزة بمئة ألف دولار من معهد بيريز للسلام عام 1996 نظرا لجهودهما لصالح الإسرائيليين، وتحملهما لتوبيخ رسمي صدر بحقهما بسبب قبولهما لتلك الهبة، فإن بيدرسن بقي بعيدا عن الأنظار، بعيدا عن أي تورط شخصي، ما يعكس طبيعة شخصيته الحذرة.

الناطق الرسمي باسم هيئة المفاوضات السورية المعارضة يحيى العريضي يقول لـ“العرب” إن بيدرسن، وبعد تجربة طويلة مع كثير من القضايا الحساسة والحامية في العالم “يبدو شخصية مختلفة عن كل المبعوثين الدوليين السابقين المكلفين بالمسألة السورية”.

ويضيف العريضي “بيدرسن في أوسلو الصراع العربي الصهيوني المستعصي كانت له يد فاعلة جدا، هذا من جانب، ومن جانب آخر، أثبت الرجل في قضايا عالمية حساسة أخرى، أنه غاية في العمق والعمل بالعقل البارد، بالنسبة للقضية السورية هو لا يتحدث كثيراً حتى الآن إلا ما ندر. وأعتقد أن هذا ملمح يوحي بأنه يؤمن بالعمل أكثر من  الاستعراضات، شأن دي ميستورا الذي لعب بالقضية السورية بمهارة شديدة، ليس لصالح القضية وجوهرها، وإنما لصالح دي ميستورا ذاته، مستغلاً رغبة روسيا وإيران ومعهما نظام الأسد، كي تطول مهمته، ما تسبب بأذى كبير للسوريين”.

كيف يفكر بيدرسن

خمسة ملفات تواجه بيدرسن اليوم، تبدأ بإنهاء عقبة اللجنة الدستورية، ومن خلال نجاحه في ذلك سيكون قد أعاد عملية المفاوضات إلى جنيف وهي المهمة الثانية. وسيكون عليه أن يواجه من أجلها التعنت الروسي الإيراني الذي يرغب بالمحافظة على مسارات أستانة وسوتشي ويبقي مسار جنيف في الثلاجة، لكن المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يصر على جنيف كمسار رئيسي ووحيد.

أما المهمة الثالثة فستكون أصعب، وتتجسد بإخراج القوات الأجنبية من سوريا، وستشمل القوات الروسية والإيرانية والميليشيات العراقية وميليشيات حزب الله اللبناني، فضلا عن القوات التركية والمجموعات الفرنسية والبريطانية دون الحديث عن القوات الأميركية التي قرر الرئيس دونالد ترامب إخراجها من سوريا وهي عمليا بدأت بالاستعداد للرحيل، لكن الأتراك يصرون على ملء الفراغ بعد خروجها بالزج بجيشهم ومعه قوات من الجيش السوري الحر.

هذا عدا عن قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل عمادها قوات  الحماية الكردية وهي ميليشيات عقائدية متعددة الجنسيات، تدار عمليا من جبال قنديل عبر قيادة حزب العمال الكردستاني الموالية لإيران.

المهمة الرابعة في أجندة بيدرسن هي منع تقسيم سوريا، وهو أمر قائم اليوم لكن بشكل غير رسمي، إذ تتوازع النفوذ على الخارطة السورية كل من إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة والأكراد والمعارضة. ما يجعل احتمالات تصادم تلك القوى وتحول خطوط الفصل الحالية الهادئة إلى حدود نهائية أمرا قابلا للحدوث في أي لحظة. فكيف سيعيد بيدرسن تلصيق الأجزاء السورية وتحت أي سيادة ستعود تلك الأجزاء في المستقبل؟

وستكون مهمة إعادة الإعمار في ذيل قائمة مهمات بيدرسن، وهو الملف الذي يسيل لعاب العديد من الجهات الإقليمية والدولية التي ترى أن حجم الاستثمارات المتوفرة على الطاولة السورية لا يمكن أن يذهب بعيدا.

ملف إعادة الإعمار هو ما تعمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معها على توظيفه لبرمجة المهمات السابقة، من خلال ربطه بحصول اتفاق سياسي وانتقال تام للسلطة وفق قرارات الأمم المتحدة. وقد رسم الطرفان حدود الحركة في هذا الملف من خلال زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو إلى الشرق الأوسط يناير الماضي، ومن خلال الاجتماع الوزاري المشترك ما بين دول عربية وأوروبية يوم 4 من فبراير الجاري.

وبالتالي سيكون على أي طرف يحاول التواصل مع نظام الأسد سياسيا بهدف المشاركة في إعادة إعمار سوريا، أن يمر قبل ذلك من خلال النسق الأممي الخاص بقرارات الأمم المتحدة. وهذا لا يمكن حصوله دون تغيير النظام في دمشق بنظام جديد. ما يجعل الطريق شبه ممهد أمام بيدرسن للانطلاق.

أي صفقة ممكنة

تبدو بعض القضايا مغلقة تماما، بحيث يصعب العثور على ثغرات تمكّن من إيجاد بصيص أمل فيها، وتبرز المسألة السورية كواحدة من تلك القضايا، لكنها ليست معقدة بدرجة تعقيد القضية الفلسطينية، التي كان نقلها من طور الجمود التام إلى طور مفاوضات بلا نهاية إنجازا بحد ذاته، لكنه تكلّف منح الفلسطينيين سلطة حكم ذاتي واعترافا دوليا والكثير مما كان يعد ضربا من الأحلام. فما الذي يمكن أن يقدمه بيدرسن للمعارضة السورية في ظل الشبكة القائمة من التعقيدات السياسية والأمنية التي تطوق الملف السوري؟

يدور في الأروقة حديث عن “غزة ثانية” في إدلب السورية، وعن مناطق حكم ذاتي كردية في الشمال ما بين منطقة تركيا الآمنة التي تبدو أنقرة مصرة على اتنزاعها لمنع ظهور كيان كردي يعزلها عن العالم العربي ويهدد جنوبها ويصبح كردستان عراق جديد في شمال سوريا، لكن هذا لا يبدو كافيا فالأسد بحاجة لبسط سلطته بشكل كامل حتى يتمكن من فرض عودته إلى الأسرة الدولية بشروط جديدة، وهو ما تقف أمامه دول عربية وغربية تقودها الولايات المتحدة.

ويفتقر بيدرسن إلى أطراف سورية، سواء كانت معارضة أو حاكمة، ذات شعبية كافية لفرض إرادتها على الشعب السوري، مثلما كان الحال مع الرئيس ياسر عرفات وقت محادثات أوسلو. صحيح أن كثيرين حينها رفضوا الاتفاقية وأن عددا من الشخصيات الفلسطينية المرموقة استقالت من المجلس الوطني الفلسطيني إثر إعلان الاتفاقية، لكن كاريزما عرفات كانت كفيلة بإقناع الفلسطينيين بها، سيما وأنه كان سيحصل على قطعة من أرض فلسطين. الأمر الذي لا يتوافر أيضا في اللعبة السورية، فالخلاف ليس على الأرض هذه المرة بل على المستقبل السياسي للبلاد.

يملك المبعوث الدولي أن يطرح تشاركا في الحكم، بمثابة تقدمة تحاول إطفاء الحرائق السورية، لكن حتى هذه التقدمة ستكون عصية على القبول لدى الإيرانيين المهيمنين على قرار الأسد والذين رفضوا مثل هذه الحلول في اليمن وبعده لبنان كما رأى الجميع أخيرا مع حكومة سعد الحريري.

فأي تشارك في حكومة وحدة وطنية لن تعتبره الأطراف السورية ذا قيمة، والمسافة لا تزال بعيدة جدا ما بين النظام والمعارضة التي لا تزال تصفه بالنظام المجرم، وهو لا يزال يصفها بالإرهابية. وقائمة الإرهاب التي أصدرتها وزارة الداخلية السورية مؤخرا خير دليل على ذلك.

وربما يكون على بيدرسن أن يبتدع “اتفاق طائف” جديد للسوريين، يطبخ على نار هادئة بعيدا عن الأضواء، ليرسّخ ديمقراطية توافقية تنهي عهد الاستبداد وتنهي مطالبة المعارضة السورية بديمقراطية موسعة. وتطوي صفحة الاتهامات المتبادلة. وربما يخرج منها الجميع كما خرج زعماء الميليشيات اللبنانية قادة سياسيين نظيفي الأيدي سرعان ما وصل من تبقى منهم إلى طريق مسدود.

كاتب سوري

العرب

بيدرسن:اللجنة الدستورية باب محتمل للتسوية..لكنه ليس الوحيد/ دينا أبي صعب

حدد المبعوث الدولي الرابع إلى سوريا غير بيدرسن سقف مهامه بالقرار الدولي 2254 كاملاً، وشدد في لقاء مع الصحافيين المعتمدين في الأمم المتحدة في جنيف، حضرته “المدن”، على ضرورة العمل على بناء الثقة بين أطراف الأزمة السورية وعلى الدعم الدولي للملف، آملا ان يختتم مهامه بمصافحة تنهي الازمة المستمرة منذ ثمانية اعوام.

بيدرسن الذي تسلم مهامه بداية العام الحالي، عقد اجتماعات حول الملف السوري بدأها في دمشق ثم مع المعارضة السورية في الرياض، ومع الاطراف الاقليميين والدوليين المعنيين بالملف السوري، وضح خلالها رؤيته المستقبلية للحل في سوريا، استناداً إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254  “من جميع جوانبه”، وأكد على ما ينص عليه القرار من “احترام الوحدة والسلامة الإقليمية وسيادة سوريا”، وعلى ضرورة احترام وقف إطلاق النار، ومواصلة العمل على “محاربة الإرهاب”.

وعلى عكس سلفه، ستيفان دي ميستورا، الذي تفرغ في نهاية مهامه لمحاولات فشلت في الاعالن عن تشكيل اللجنة المعنية بصياغة أو تعديل الدستور، يرى بيدرسن ان القضايا المتعلقة بالحوكمة، والعملية الدستورية، والحاجة إلى انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة مازالت في صلب اهتماماته، يضاف اليها قضية اللاجئين، والمشردين داخلياً، والتحديات الإنسانية التي تواجه سوريا وإعادة الإعمار؛ هذه الملفات يحاول بيدرسن العمل عليها بالتوازي مع البناء على ما انجزه دي ميستورا، بشكل خاص في ملف اللجنة الدستورية.

ويؤكد بيدرسن ان “اللجنة الدستورية هي باب محتمل للعملية السياسية، ولكن في موازاة ذلك نحتاج أيضًا إلى العمل على قضايا أخرى”، لن يكون بمقدوره حلحلتها من دون الانطلاق من بناء ثقة بين الاطراف، تؤدي الى تفاوض مباشر ومجدٍ. ويعي المبعث الدولي الجديد مدى حساسية موقعه كوسيط او ميسر بين شطرين سوريين متناقضين سياسياً، ولذا وعد بالعمل على تحديد الاختلافات والبحث عن قواسم مشتركة تشكل قاعدة للبناء عليها، والنظر الى القضايا كافة، وابرها الانسانية كملف المخفيين قسراً والمعتقلين.

وبينما تستبعد مصادر في الأمم المتحدة أي تحرك في الملف السوري في جنيف قبل نهاية الانتخابات المحلية التركية في آذار/مارس المقبل، يأمل بيدرسن بعقد اجتماع للجنة الدستورية في اقرب وقت في جنيف، ويضيف: “أجرينا مناقشات جيدة مع الأطراف المعنية، وأعتقد أننا حددنا التحديات واتفقنا على كيفية المضي قدماً”.

وتشير مصادر مطلعة في جنيف الى ان زيارة بيدرسن الاخيرة الى موسكو ناقشت جملة من العقبات امام تشكيل اللجنة، من بينها شكل اللجنة، وكيفية تفعيل عمل عدد المئة وخمسين شخصاً الذين رشحوا للعمل ضمنها، وكيفية تفادي الخلافات ضمن هذه المجموعة، وطرح تقسيمها الى مجموعات عمل مصغرة، ومن بينها 30 او 45 إسما تقسم بالتساوي بين الحكومة والمعارضة وفئة المجتمع المدني للعمل على الصياغة النهائية للدستور.

وترى هذه المصادر ان ملف ادلب يبقى الاولوية القصوى حالياً بالنسبة للحكومة السورية، وروسيا، وأيضاً لتركيا. فهو سيحسم امر امساك الحكومة بزمام كامل التراب السوري، بعد الانسحاب الأميركي والقضاء على جيوب داعش شرقاً، وبالتالي “استئثار دمشق بمفاصل الحل”، وسينهي ملف المجموعات “المصنفة ارهابية” بالنسبة لروسيا، وسيعطي الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعض الدعم في الانتخابات المحلية.

ويرى بيدرسن انه من المبكر الحديث عن تبعات الانسحاب الاميركي شمالاً: “سيساعدنا المستقبل على فهم ذلك اكثر”، اما الاتفاق بين روسيا وتركيا حول ادلب الذي تم في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فيقول بيدرسن انه “ساعدنا على تجنب كارثة إنسانية”، وان البلدين يواصلان التركيز على  إيجاد حل سلمي للأزمة، لكنه امر “لن يكون من السهل الحفاظ عليه للمستقبل”.

بيدرسن الذي بدا متفائلاً بحل قريب يختم حرب السنوات الثمانية، رأى ان سوريا تحتاج لنهج شامل في الحل، يشمل قدرة النازحين واللاجئين على العودة الطوعية إلى ديارهم، مشيراً الى إن الأمم المتحدة ستساهم بالاعتماد على الدول المانحة في إعادة إعمار سوريا، وختم قائلاً “إذا توفرت لديك اتفاقية سلام، فأنت بحاجة أيضًا الى وظائف، وبحاجة إلى الأمن وتحتاج إلى العدالة ، هذا إذا ما أردت أن تكون لديك عملية مستدامة”.

المدن

التسوية والدستور/  عبد الرحمن مطر

عادت قضية الدستور إلى الواجهة مجددًا، وبقوة هذه المرة، مع إعلان الأطراف المعنية اقتراب موعد الانتهاء من تسمية الثلث المتبقي من أعضاء اللجنة الدستورية، والتوجه إلى تجاوز الخلافات التي تعوق إطلاقها، في ظل تعطل مسارات التفاوض بين المعارضة السورية والنظام الأسدي، وانسداد أفق العمل السياسي، سواء بشأن وقف كامل لإطلاق النار في الأراضي السورية، أو في دفع الاتفاقات التي نجمت عن مسار سوتشي إلى حيز التطبيق بشكل حاسم، تتغير بموجبه معطيات الصراعات على الأرض، وفي مقدمها استمرار ملف إدلب، والمنطقة العازلة منزوعة السلاح، وأخيرًا إعادة إطلاق التسوية السياسية، كما تشاء موسكو، خارج إطار الأمم المتحدة.

أثار ذلك نقاشًا غنيًّا ومهمًا، وبالطبع أسئلة جوهرية، ما فتئ مجتمع الثورة السورية يطرحها، منذ أن بدأت تتكشف عن مفاوضات جنيف، التدخلات الروسية المباشرة الرامية لتحجيم دور الأمم المتحدة في القضية السورية، لمصلحة موسكو التي أخذت بتجميع معظم الخيوط والملفات بيديها، بمباركة البيت الأبيض. كانت سلال دي ميستورا الأربع هي المعبر الأساس نحو إيقاف مفاوضات جنيف، ومن ثم الذهاب إلى سوتشي، بتغليب المنهج الروسي لإدارة “الأزمة” وتصورات تسويتها، قبل أن يعيدها الكريملن إلى الأمم المتحدة (مستقبلًا) للمصادقة على ما تم إنجازه (الاتفاق أو التوافق عليه) وشرعنته.

تُوّجت جهود المبعوث الدولي السابق دي ميستورا، في جنيف، بانتزاع قبول هيئة التفاوض، بسلال دي ميستورا، واعتبار ذلك إنجازًا تتأسس عليه أرضية الحل السياسي. لكن المبعوث الدولي كان أمينًا في تبني الأفكار الروسية، في إعطاء تشكيل لجنة دستورية أولويةً على السلال/ الملفات الأخرى، ولم يكن ذلك انحيازًا واضحًا إلى طرف دون آخر، لا ينبغي للمبعوث الدولي أن يقع فيه، فحسب، بل كان تجاوزًا متعمدًا لخطوات الحل السياسي التي انطوى عليها القرار 2254.

وبدءًا من كانون الأول/ ديسمبر 2015، أحدثَ التصويت على القرار 2254، منعطفًا مهمًا في المسألة السورية. باعتباره مؤسسًا لأرضية ملائمة لإطلاق حل سياسي متكامل الجوانب. ووقفت المجموعة الدولية عاجزة عن فرض تطبيقه، لأنه وُلد دونما آليات مُلزمة، ولم يكن صادرًا بموجب الفصل السابع، على الرغم من أن الحرب الطاحنة التي يشنّها نظام الأسد وحلفاؤه، ضد المدنيين، تستوجب أن يكون القرار مُلزمًا لجميع الأطراف، بوقف العمليات العسكرية (وفقًا لبيان فيينا) والذهاب إلى عملية سياسية وفقًا لمبادئ جنيف واحد. وبدلًا من أن يساعد هذا القرار في تهدئة الأوضاع، فإنه تعرّض للتهميش التام، وأضحت الجهود الروسية منصبة على إيجاد منصة عمل تحمل أفكارها. وهكذا وجدت فكرة هيئة الحكم الانتقالي طريقها إلى الزوال، بعد أن نجح دي ميستورا في إبعاد بنود القرار، واستبداله بالسلال الأربع، ثم لاحقًا لتأخذ قضية الإرهاب مكانة مهمة، في النقاش العام بهدف الابتعاد من القضايا الأساسية للتفاوض: انتقال الحكم، وقضية المعتقلين والمفقودين، ومحاسبة مجرمي الحرب.

كفِلَ القرار بوضوح لا لبس فيه “عملية الانتقال السياسي” ودعم مجلس الأمن لمسار سياسي تشرف عليه الأمم المتحدة، ويشتمل على “تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية”، وتشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسورية.

تمّ نسف كل شيء يتعلق بذلك، وأحيلت كل الأوراق إلى سوتشي، وأضحى دور الأمم المتحدة ثانويًا، ولا قيمة له على الإطلاق، وتراجعت الجهود السياسية، لمصلحة الملف الأمني والعسكري. وتعزّز استبعاد احتمالات الذهاب إلى إنشاء هيئة حكم انتقالي، مع بدء التدخل الروسي المباشر في سورية، كقوة احتلال منذ أيلول/ سبتمبر 2015. ومع تنامي عودة المناطق المحررة إلى كنف النظام الأسدي، بموجب العمليات العسكرية الروسية ودعم إيران والميليشيات الأخرى؛ توقف الحديث عن تشكيل “حكومة وحدة وطنية” تشارك فيها المعارضة السورية بقيادة الأسد، كبديل عن هيئة الحكم الانتقالي.

تضمنت ردات الفعل اعتراضات محددة، يمكن الإشارة إليها بثلاث نقاط أساسية: أولاها أن طرح قضية الدستور أولًا، على ما سواها من قضايا مهمة أخرى، إنما يستهدف طي مسألة إنشاء هيئة الحكم الانتقالي، وفقًا للقرار الدولي 2254، وهذا يعني بقاء النظام الأسدي، بمنظومته الأمنية وبصلاحياته الواسعة، والاستئثار بالقرار الوطني والتحكم فيه بعيدًا من المؤسسات الدستورية، يمنح الوضع القائم قدرة الاستمرار، بدعم القوى الدولية.

والثاني أن التضحيات الجسام التي قدّمها السوريون، لم تكن من أجل إعادة كتابة الدستور، خاصة بعد جرائم الإبادة المنظمة التي ارتكبها النظام ضد السوريين. قضية التغيير، وإنهاء الاستبداد، وبناء دولة القانون، هي الهدف الأساس للثورة السورية، وهي الغاية التي يجب أن تندرج في خدمتها كل المسارات التي تأخذ بها المعارضة السورية، المتمثلة اليوم بهيئة التفاوض بشكل رئيس، بحكم وظيفتها ومسببات وجودها.

أما النقطة الثالثة، فتتصل بشرعية تشكيل لجنة دستورية، من قبل الأمم المتحدة، أو/ وأطراف دولية وإقليمية، هي جزء منتج لإشكالات الوضع الأمني والعسكري والسياسي المعقد في سورية. خاصة أن القرار الأممي 2254 يشدد على دور أساس للسوريين في العملية السياسية قبل غيرهم. وتنسحب تساؤلات السوريين حول “الشرعية” في ما يتعلق بتسمية أعضاء اللجنة، الذين يجب أن تتوفر لاختيارهم معاييرُ تتصل بصدقية التمثيل (الانتخاب) وليس المحاصصة ذات الأبعاد السياسية والطائفية والدينية وغيرها، كما تتصل بالثقة بهم، وبخبراتهم، ومقدرتهم المعرفية، خاصة في مجال القانون الدستوري، كمثال.

هذه مسائل تتصل بالجوهر، وليست مجرد نقاش عام يدور بين الناس. وتلك تحمل أفكارًا بشأن المستقبل، وتنطوي على مخاوف المجتمع السوري، وتتلمس همومه بوضوح، لتبرز في السياق العام أسئلة عميقة أخرى، حول دور اللجنة الدستورية المرتقب، الذي لن يخرج عن إطار شكلاني، لا قيمة له، في النقاش العام وصوغ مواد الدستور بشكل حقيقي. كما يطرح السؤال الدائم نفسه، في كل مرة، عن مدى استقلالية القرار في المعارضة السورية، ودورها الممكن في رفض أو قبول ما تُساق إليه اليوم، بما في ذلك المشاركة في تجاوز بنود القرار 2254. القوى السياسية والاجتماعية السورية معطلّة اليوم، لا قدرة لديها على مواجهة التطورات التي تنجم عن توافقات القوى الإقليمية والدولية.

اعتراضاتنا لم تخرج بعدُ من إطار البيانات ووسائل التواصل الاجتماعي، وصوتنا -في هذه الحالة- لن يسمعه أحد، في ظلّ استمرار غياب آليات العمل المؤثر على الساحة الدولية، كيف يعرف اللاعبون الأساسيون -في الحدّ الأدنى- أننا ما زلنا هنا، ولو عبر الشتات، وأن انتفاضة السوريين اندلعت من أجل الحرية والتغيير، وليس لكتابة دستور جديد فحسب، يمكن تغييره في أي وقت بقوة السلاح!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى