ثقافة وفكر

العنف الضعيف: ترميم خطاب «الاستقرار» العربي/ محمد سامي الكيال


بنت كثير من أنظمة الحكم العربية «شرعيتها»، خاصة في العقدين الأخيرين، على كونها الجهة الوحيدة القادرة على فرض الاستقرار في مجتمعات تهددها الفوضى من كل الجهات، وسوّقت لنفسها على هذا الأساس داخليا وخارجيا، فهي من يقي رعاياها من أن يصبحوا «زي سوريا والعراق»، حسب العبارة المصرية الشهيرة، وهي وحدها من يلجم كتلها البشرية الهائلة عن التحول إلى سيل من لاجئين وإرهابيين، يجتاحون دول الجوار الأوروبي.

رسوخ خطاب الاستقرار ترافق مع اضمحلال شعار آخر كان ملازما له، هو «الأمن والأمان»، فهذه الدول لم تعد تستطيع أن تعرض على رعاياها الصفقة الشهيرة: «الأمن مقابل الحرية»، خاصة مع انفلات القبضة الأمنية لأجهزتها بعد الربيع العربي، لدرجة لم تعد فيه قادرة حتى على حماية ضباطها ومجنديها، فأصبحت المعادلة: الحرية مقابل الاستقرار، أما الأمن والأمان فعلى الله. الاستقرار الذي لا يضمن الأمن، وهو ليس أكثر من مجرد وعد بألا تؤول الأمور إلى أسوأ مما هي عليه، استطاع رغم كل هذا استقطاب واقناع كثيرين، فكلما بدت الدولة مترنحة أكثر، ازداد ارتباط شرائح واسعة من الناس بها. فترى مواطنين، يعانون الحرب والإرهاب والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، يتمسكون أكثر بدولهم، التي فشلت في تأدية الحد الأدنى من وظائفها. قد يبدو هذا طبيعيا بعد خيبة الأمل من وعود وموجات التغيير التي عرفها العالم العربي، إلا أننا قد نجد له أسبابا أخرى، تتعلق ببنية الدول والمجتمعات العربية نفسها، ونمط الهيمنة القائم فيها.

لا ضريبة، لا هيمنة

ميّز عدد من المؤرخين ودارسي العلوم السياسية، مثل الباحث المصري نزيه الأيوبي، بين عدة أنماط من سلطة الدولة، فهنالك الدول القوية والصلبة والضارية. هذه الصفات ليست مترادفة، فالدولة القوية قد لا تكون صلبة، والدولة الضارية ليست قوية. معيار قوة الدولة هو قدرتها على التغلل في النسيج الاجتماعي، ليس عن طريق قمعه أو فرض الإكراه والقسر عليه، بل من خلال التنسيق مع مراكز القوة فيه أو العمل من خلالها. ويشكّل «المجتمع المدني»، حسب تعبير غرامشي، جزءا أساسيا من تعريف الدولة القوية، فهي تعتمد على هيمنة أجهزتها الأيديولوجية أكثر من اعتمادها على عنف أجهزتها القمعية. ولعل المثال الأبرز للدولة القوية هو بريطانيا. في حين تميل الدولة الصلبة إلى فرض تنظيمات معيارية مركزية على المجتمع والاقتصاد والثقافة، بالاعتماد على وسائل إدارية شديدة البيروقراطية، بدون أن تستغني عن قوتها المبنية على الهيمنة، والمثال الأبرز عليها هو الدولة الفرنسية.

إلا أن من أهم ما يميز الدول الحديثة، القوية والصلبة، هو قدرتها على استخلاص جانب من الفوائض الاقتصادية لمواطنيها، عن طريق نظام ضريبي معروف ومقونن بشكل محكم، وله آليات وضمانات متماسكة، وهو ما يشكل أساس قدرتها على الضبط والتوزيع وإعادة التوزيع، كما أنه يؤسس لديمقراطيتها التمثيلية. الشعار الشهير «لا ضرائب بدون تمثيل» يعبّر عن علاقة تفاوضية بين الدولة والمجتمع، تقوم على حق الدولة في اقتطاع جانب من ثروة الأفراد والجماعات لتأدية وظائفها العمومية، مقابل حق المواطنين بحد أدنى من الرقابة على السياسات العامة للحكومة، وأسلوبها في إنفاق أموالهم.

الدول العربية، حسب هذا المنظور، ليست قوية أو صلبة، بل هي دول ضارية، دموية ومتوحشة، ليس بسبب قوتها، بل بسبب ضعفها الشديد. فهي لا تستطيع فرض خطاب أيديولوجي مهيمن على الناس، بل تعتمد العنف العاري. ولا تملك القدرة على استخلاص الفوائض منهم بطرق اقتصادية، لغياب بنى إنتاجية واستثمارية يمكن فيها فرض أنظمة ضريبية فعالة، فتلجأ للمصادرة وانتهاك الملكية، بطرق عنيفة خارجية عن الاقتصاد، أو تعتمد على توزيع الريع على مواطنيها، ما يجعلها دولة رعاية أبوية. بالحالتين لن تستطيع هذه الدولة، مهما بلغ عنفها، فرض هيمنتها على كامل مساحتها الجغرافية، أو ضبط كامل النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، ما يجعل قطاعات كبيرة من المجتمع خارج سيطرتها. الأمر الذي يدفعها لمحاولة استمالة هذه القطاعات بتوزيع الريوع والرشى، أو تحطيمها تماما بواسطة العنف الدموي والإبادة الجماعية.

تقوم الدولة الضارية عادة على تغلّب عصبة معينة (الجيش أو إحدى الطوائف والعشائر) على بقية العصب الاجتماعية، ثم محاولة إدماج هذه العصب بشكل هرمي في بنية الدولة، بالترغيب أو الترهيب، ما يمنع تشكل أسس صلبة للديمقراطية التمثيلية أو الهيمنة السياسية، وإذا كانت بعض الأنظمة العربية «الراديكالية» (مثل النظام الناصري ونسخه العربية المتعددة) قد استطاعت جزئيا بناء هيمنة شعبوية، من خلال بناء مفهوم للشعب «الأصيل» في مواجهة أعدائه الخارجيين والداخليين، إلا أن هذه الهيمنة تحللت بسرعة مع غياب الزعامة الكارزمية، ونفاد الفوائض الناتجة عن عمليات التأميم ومصادرة الأملاك الأجنبية، أو عقب انخفاض أسعار النفط، وإفلاس الدول بسبب مغامراتها العسكرية المتعددة.

في ظرف تغيب فيه الهيمنة، سواء المرتبطة بالديمقراطية التمثيلية أو الشعبوية الإدماجية، ويتسم المجتمعان المدني والسياسي بضعفهما الشديد، يبدو «الاستقرار»، مهما بلغ اهتزازه، نعمة يجب الحفاظ عليها بأي ثمن، فانهيار الدولة الضارية تماما سيعني الفوضى العارمة والفراغ الذي لا تستطيع ملأه أية جهة، لأنه لا يوجد طرف يحوز أدوات عنف مساوية لما تملكه الجيوش العربية، عماد الدولة، ولا أحد يستطيع فرض الهيمنة الأيديولوجية، الضعيفة أصلا في الوسط العربي.

فشل الإسلاميين

في سياق البحث عن هيمنة عربية عوّل كثيرون على «الإسلام»، بوصفه العقيدة القادرة على فرض خطاب مهيمن، يؤطر المجتمعات العربية ويضمن استقرارها، من هنا أتى رهان بعض «الخبراء الاستراتيجيين» والدول الغربية على إعادة تأهيل قوى «الإسلام المعتدل»، بوصفها البديل الوحيد الممكن عن الأنظمة العربية المتكلسة والمترنحة. وقد كان لهذا التعويل ما يسنده، فجماعات الإسلام السياسي استطاعت، خلال عقود من «الصحوة الإسلامية»، تطويق الدول العربية بهيمنة الخطاب الديني، بواسطة عمليات معقدة من الصراع والتعاون والتواطؤ بين العسكر والإسلاميين، لدرجة أصبحت «الصحوة» فيها ثقافة مهيمنة متغلغة في أعماق الجسم الاجتماعي. لم يبق إذن إلا أن نمنح السلطة السياسية للإسلاميين. إلا أن هذا الرهان لاقى فشلا ذريعا، وأثبتت تجربة الإسلاميين في الحكم، خاصة في مصر، أنهم غير قادرين على فرض هيمنتهم على المجتمع. سنة واحدة في السلطة كانت كافية لتصاعد رفض شعبي وكراهية غير مسبوق للإخوان المسلمين المصريين، رغم تجذرهم الاجتماعي والثقافي من خلال شبكة متكاملة من الجمعيات الخيرية والمؤسسات الدينية والاجتماعية. حدة هذا الرفض وتصاعده بسرعة فائقة يشكل بالنسبة لنا لغزا تاريخيا، يحتاج لمزيد من الدراسة.

لا يعني فشل الإسلاميين أن الخطاب الإسلامي قد فقد حيثيته، ولكنه أثبت سيولته الفائقة، وعدم ارتباطه بمؤسسة أو قوة سياسية ثابتة، وخضوعه لتأويلات متباينة ومتعارضة، تجعله غير صالح لفرض هيمنة اجتماعية متماسكة. يمكنك اليوم أن تجد كثيرين ممن يرددون كل تيمات «الصحوة الإسلامية»، وفي الوقت نفسه يحملون عداء شديدا للإسلاميين، بل يطالبون بإبادتهم أحيانا. في حين يضطر الإسلاميون إلى مراجعة «صحوتهم»، علهم يفهمون سبب عدم قدرتها على فرض هيمنتهم.

إذا كان الدين والشعبوية الوطنية والديمقراطية الثورية قد فشلوا في فرض هيمنة اجتماعية عامة، ما ساهم في تغوّل الدول الفاشلة وسيادة العنف العاري، فإن هذا يحمل، للمفارقة، فرصا غير مسبوقة للحرية الثقافية في الإطار العربي. تتصاعد اليوم في أكثر الديمقراطيات عراقة وترسخا أشكال جديدة من الهيمنة، مترافقة مع عنف مؤسساتي ورمزي ولغوي، تقيّد أي خطاب ممكن بأطر أيديولوجيا الدولة، سواء كانت «ليبرالية» العولمة والتعددية الثقافية في الدول الغربية، أو شعبوية العرق والدين في بعض دول أوروبا الشرقية مثل المجر وبولندا.

الكتابة والإبداع باللغات الأوروبية الرئيسية فقدا الكثير من إمكاناتهما التحررية القديمة، مع تصاعد الرقابة المجتمعية والمؤسساتية والذاتية. في حين يؤدي ضعف الهيمنة في الإطار اللغوي والثقافي العربي، وتحول المقولات الدينية والوطنية والمجتمعية إلى كليشهات مثيرة للملل والسخرية، إلى بروز إمكانية لحرية ثقافية غير مسبوقة لدى العرب.

مازال المثقفون العرب يعانون بالطبع من خطر العنف العاري، الذي تفرضه الدولة والمجتمع، ما يهدد حياتهم وحرياتهم، إلا أننا إذا نظرنا للمسألة من زاوية الإطار الثقافي واللغوي العام، غير المرتبط بعنف موضعي لصيق بمكان معين، فلن نجد مؤسسات أو بنى أو خطابات قادرة على فرض نفسها بشكل مسبق على ضمير المثقف، أو تشكيله بصورة كاملة.

إنها مجرد فرصة، قد يستطيع المثقفون العرب والأجيال الجديدة استغلالها، وقد لا يستطيعون، فعندما تنهار المؤسسة تسود الهامشية الثقافية، والهامشية قد تكون مدخلا لأعظم الإبداعات، وتأسيسا للمستقبل، أو مجرد لغو وثرثرة، في الوقت الضائع الذي لا ينتهي.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى