ثقافة وفكر

بؤس الراديكالية: «النظافة» بوصفها خطابا سياسيا/ محمد سامي الكيال


يحقق النقد الذي يوجهه «اليسار الاجتماعي» للممارسة السياسية المعاصرة انتصارات لا بأس بها، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد خسارة الحزب الديمقراطي غير المتوقعة للانتخابات الرئاسية، تعالت الأصوات التي تطالب بطرح «المسألة الاجتماعية» وإعادة توزيع الثروات على بساط البحث. ما أدى لتصاعد التيارات التي تُعتبر راديكالية في الحزب الديمقراطي، فضلاً عن بروز تنظيمات سياسية كانت مجهولة ومنبوذة في ما سبق، مثل «الاشتراكيين الديمقراطيين»، إلى درجة تحول فيها لفظ «اشتراكية»، بعد أن كان شتيمة في السياق الأمريكي، إلى موضـــة ثقافـــــية شبابية، وجدت ضمن «المؤسسة» من يساندها ويتعاطف معها. تبدو الصورة واعدة بالنسبة لكثيرين، ولكن لا بد من تقديم قراءة في الخطاب الثقافي والاجتماعي الأمريكي، والبرامج السياسية المطروحة، علّنا نستطيع الإجابة عن بعض الأسئلة: إلى أي درجة استطاع هؤلاء الراديكاليون القطيعة مع الخطاب الهوياتي التقليدي؟ وما هو أسلوب فهمهم لـ«الاجتماعي»؟ وما مدى جدية طرحهم، ومآلاته الممكنة؟

دولة الرعاية العنصرية

كتبت ميلسا ناشيك، الناشطة في حركة الاشتراكيين الديمقراطيين، مقالاً بعنوان «خطأ الهوية» في مجلة «جاكوبين»، إحدى أهم مجلات اليسار الأمريكي، تنتقد فيه إصرار الاشتراكيين الأمريكيين على دمج الصراع الطبقي مع سياسات الهوية. وتصرّ على أن تقسيم الطبقة العاملة إلى وحدات متمايزة عنصرياً هو اعتقاد ليبرالي راسخ، يؤدي إلى فرض العزلة على فئات كاملة من العمال، وعدم معالجة أسباب أزماتهم الفعلية، مثل نزع التصنيع والبطالة الهيكلية وغياب حماية العمل. كما أن الإطار الرأسمالي قادر على استيعاب المطالب الهوياتية، بل تشجيعها وتمويلها أحياناً، لترسيخ اقتصاده السياسي. في حين أن النضال المعادي للرأسمالية يجب أن يتركز بشكل رئيسي على الطبقة، لأن المقاومة الحقيقية للاستغلال تنشأ أساساً في مكان العمل، والعمال هم من يشغلون موقعاً في البنية الاجتماعية يمكّنهم فعلياً من التغيير.

ترفض الكاتبة شعار «أفعلهما معاً»، أي الدعوة لتلازم النضال الاقتصادي مع المطالب الهوياتية، لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار ضرورة حشد كتلة شعبية متماسكة، من كل الأجناس والألوان، توحدها مطالب سياسية واقتصادية مشتركة، بدلاً من التركيز على الخصوصية والاختلاف. كما أنه يتجاهل توازن القوى في المجتمع الأمريكي، فاليساريون لا يحظون إلا بدعم فئات متفرقة ومعزولة من الطبقة العاملة، في حين تملك النيوليبرالية من جهتها الإعلام والثروات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، التي تضغط باتجاه سياسات الهوية، وتمتلك القدرة على ابتلاع أي تمايز يساري في إطار هذه السياسات. يبدو أن المثقفين اليساريين يهتمون بالإرادة التي تنتج التغيير، أكثر من اهتمامهم بالقدرة السياسية الفعلية للكتل الاجتماعية على تحقيقه.

المحاججة التي تقدمها ناشيك، والتي تم رفضها بحدة من معظم ناشطي تنظيمها، ليست سوى استرجاع لمعظم قضايا الخلاف القديم بين الشيوعيين و«اليسار الجديد» منذ الستينيات، إلا أنها أشارت في مقالها لفكرة شديدة الأهمية، وهي الدور الذي لعبته سياسات الدولة الرعائية الأمريكية، منذ عصر «الصفقة الجديد»، في ترسيخ الاحتقان العرقي في المجتمع الأمريكي. مثالها على ذلك قيام إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون باستحداث مشروعات «الحرب على الفقر»، التي استهدفت مجموعات عرقية بعينها، بناء على دراسات رسمية، رأت أن السود مثلاً يتأثرون بالفقر بشكل مغاير ثقافياً للبيض. ما أدى عملياً لترسيخ العزل العنصري، والشعور المتبادل بالحقد والحسد بين مجموعات السكان المختلفة، فالعمال البيض، الذين لم يستفيدوا بشكل متكافئ من هذه البرامج الاجتماعية، رأوا أنهم يدفعون جزءاً كبيراً من دخلهم لتمويل السود العاطلين عن العمل، والأمهات العازبات غير الملتزمات بالإطار الأخلاقي للمجتمع. أما السود والنساء الفقيرات فاعتقدوا أنهم يحصلون على تعويض بخس مقابل «الامتياز الذكوري الأبيض»، وبدلاً من رعاية اجتماعية شاملة، وسياسات تشغيل متوازنة يستفيد منها الجميع، بغض النظر عن العرق والجنس، رسخت سياسات الدولة الرعائية الفصل الاجتماعي والعنصرية، كما نشأت في إطار «الحرب على الفقر» عشرات المنظمات غير الحكومية، التي ساهمت في بناء الإطار الثقافي لهذا الفصل، تحت مصطلح «التمكين».

اليوم يطالب الراديكاليون الأمريكيون بتأمين صحي شامل للجميع، على نمط الدول الإسكندنافية، وهو أمر إيجابي بالتأكيد، بغض النظر عن مدى واقعيته في السياق الأمريكي، إلا أنهم في الوقت نفسه يدعمون المزيد من البرامج الاجتماعية العنصرية، وبعضهم يطالب ببرامج أخرى تهتم بشكل خاص بالبيض، لحل مشكلة «الطبقة العاملة البيضاء» التي انتخبت ترامب. هدفهم السياسي إذن هو دولة رعاية شديدة الضخامة، تدير ما لا حصر له من البرامج الاجتماعية القائمة على العرق والهوية. وبدلاً من تحطيم الأسس العنصرية للدولة، لا يطالبون بأكثر من ترسيخ هذه الأسس وتضخيمها.

اليسار النظيف

إلا أن الآمال التي يعلّقها الراديكاليون الأمريكيون على الدولة الرعائية المتضخمة، لا يقتصر على البرامج الاجتماعية، بل يتجاوزها إلى المجال الاقتصادي، فيصرون أن على الدولة تنفيذ مشاريع عملاقة، توفر ملايين فرص العمل، بغض النظر عن الفائدة الاقتصادية لهذه المشاريع، والإمكانية الفعلية لتمويلها. مشروع «الصفقة الخضراء الجديدة»، الذي طرحته ألكساندريا أوكاسيو كورتيز مؤخراً، يبدو في هذا السياق محاكاة ساخرة للتأويل الخاطئ للكينزية، الذي يرى أن على الدولة تحفيز النمو، حتى لو كان ذلك بواسطة مشاريع عبثية.

تريد أوكاسيو كورتيز تحولا كاملاً نحو الطاقة «النظيفة»، في أكبر مجتمع صناعي في العالم، خلال عشر سنوات فقط، من خلال مشاريع عملاقة تديرها الدولة، تؤمن تشغيلاً شبه كامل، في ما يشبه «الصفقة الجديدة» التي أدارها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات، للخروج من الأزمة الاقتصادية آنذاك، إلا أننا هذه المرة لن نشهد بناء صرح عظيم مثل «سد هوفر»، أحد رموز الصفقة الجديدة والاقتصاد الكينزي، بل تفكيكاً شاملاً للبنية التحتية القائمة على الوقود الأحفوري، وكذلك قطاع الطيران الأمريكي الداخلي بأكمله، لحساب كثير من عنفات الرياح والألواح الشمسية.

بغض النظر عن كون مصادر الطاقة «المستدامة» تتسم بضعفها وتقطّعها وارتفاع تكلفتها، ولا تتمتع بالنجاعة والاعتمادية التي توفرها مصادر الطاقة التقليدية، ولم تستطع أن تغطي إلا جانبا محدوداً من احتياجات الطاقة، حتى في أكثر البلدان تطوراً في هذا المجال مثل ألمانيا (التي يبدو أن مبالغتها في محاولة الاستغناء عن مصادر الطاقة الأخرى، مثل الفحم والمفاعلات النووية، سيساهم في نهاية «سنواتها الاقتصادية السمان»، على حد تعبير وزير المالية الألماني)، إلا أن مصطلح «الطاقة النظيفة» نفسه مثير للتساؤل، لأنه عملياً لا توجد طاقة نظيفة. عمليات التنقيب لاستخراج المواد الأولية الداخلة في إنتاج معدات طاقة الشمس والرياح ليست «نظيفة» على الإطلاق، كما أن عملية تصنيعها ليست صديقة للبيئة، فضلاً عن أن العالم سيواجه قريباً مشكلة «النفايات الشمسية»، أي الخردة الناتجة عن الألواح الشمسية التالفة، وهي أكثر من حيث الكم من النفايات النووية، ويمكن أن تكون أكثر سُمّية منها.

أما عملية إعادة تدويرها فصعبة وغير اقتصادية، رغم كل الجهود المبذولة في هذا المجال.

تبدو «النظافة» هنا مبدأً دينياً أكثر من كونها تصوراً علمياً أو اقتصادياً، يركز على تفوق أخلاقي مزعوم لناشطين يريدون تجاوز «الخطيئة الأصلية»، التي صاحبت التطور والتصنيع: ينذرون البشرية بتصورات آخروية شبيهة بما هو وارد في سفر الرؤيا، إن لم تتخل عما «يلوثها»، ويبشرونها، إن تطهرت، بـ«أورشليم الجديدة» الخضراء.

لاهوت الطهارة والنجاسة

لا يقتصر الأمر على استيهامات دينية خلاصية غير واعية، بل يغرق الراديكاليون الأمريكيون في ثنائيات إيمان/كفر، تمنعهم من رؤية أي شيء إيجابي خارج عقيدتهم «النظيفة»، يمكننا في هذا السياق أن نذكر ردات الفعل الغاضبة في أوساط الاشتراكيين الديمقراطيين على مقال ميليسا ناشيك المذكور أعلاه، والاتهامات الفظيعة التي أمطروها بها.

الأهم هو التحريم المطلق، الذي يفرضه هؤلاء «اليساريون»، على أي محاولة لرؤية ما هو إيجابي في برنامج عدوهم المشيطن دونالد ترامب، رغم أنه استطاع استقطاب قطاعات مهمة من الطبقة العاملة الأمريكية، من خلال إجراءات مثل الحمائية الاقتصادية، وخفض الضرائب لتحفيز الاستثمار، ومنع هروب رؤوس الأموال، ومحاولة إعادة ترميم البنية التحتية الأمريكية من مطارات وطرق ومصادر طاقة. الاكتفاء بنعت هذا البرنامج بالغباء، يتجاهل اتجاه الاقتصاد العالمي نحو المزيد من المحلية والحمائية، وهو اتجاه لم يخترعه ترامب، بل هو ميل لا يمكن تلافيه لمرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية. وبدلاً من محاولة استغلال ما تحويه هذه الإصلاحات من إمكانات، والسعي لحشد الطبقة العاملة الأمريكية في سياقها للمطالبة بمكتسبات أكثر، وحماية أشد لحقوق العمل، وتأمينات اجتماعية للجميع، بما قد ينتج «صفقة جديدة» واقعية حقاً، يغرق «الراديكاليون الأمريكيون» في استيهاماتهم عن «النظافة» و«الهوية» و«تلازم العرق والنوع والطبقة».

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى