الناس

حول قضية أنور رسلان وإياد الغريب -مقالات تناولت الحدث-


حول قضية أنور رسلان وإياد الغريب/ بكر صدقي

أثار توقيف السلطات الألمانية لاثنين من عناصر أجهزة مخابرات نظام الأسد، جدلاً بين السوريين، فانقسموا بين مهلل للعدالة التي حرم منها السوريون طويلاً، ومدافع عن الرجلين الموقوفين باعتبارهما ممن انشقوا مبكراً عن النظام، ولعدد من المعارضين شهادات حسنة بحقهما.

لدينا، إذن، فرحة صغيرة لم تكتمل. فرحة بأن من أوغلوا في دماء السوريين لن ينجوا من العدالة التي ستلاحقهم أينما حلوا ومهما تأخر الأمر زمنياً. صحيح أنها خطوة صغيرة وحسب، لكنها خطوة لا بد أن تليها خطوات أخرى، مما يمنح بعض العزاء لذوي ضحايا النظام، أو أصحاب الارتكابات الآخرين، ولعموم السوريين الذين تضرروا من النظام وحربه المفتوحة عليهم.

لكنها لم تكتمل. فقد ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي شهادات شخصية تؤكد أن الرجلين، الضابط أنور رسلان وصف الضابط إياد غريب، لا يستحقان المحاكمة أو الإدانة، بسبب انشقاقهما المبكر (عام 2012) ومسلكهما قبل الانشقاق وبعده. في حين احتار بقية السوريين ممن لا يعرفهما، أو لا يعرف شيئاً عنهما، بين الموقفين الحديين.

لا أحد ينكر ضرورة أن تأخذ العدالة مجراها، كشرط لا بد منه لطي صفحة الماضي الدموي والبدء من جديد بمجتمع في سبيله إلى المعافاة من الجروح العميقة التي أصابته. في حالات مثل الصراع السوري لا تطرح مسألة العدالة بصورة مجردة عن بعدها الاجتماعي ـ السياسي، فلا يتعلق الأمر بمجتمع مستقر ارتكب فيه أحد ما جريمة يجب أن يعاقب عليها. بل لدينا مجتمع منقسم على نفسه، رأى فيه كل طرف في الطرف الآخر عدواً يجب قتله أو التنكيل به. فإذا كانت التصورات الإيديولوجية ـ السياسية تختلف على تصنيف جريمة واحدة باختلاف القاتل والضحية، هذا يعني أننا أمام مشكلة كبيرة. ولا تحل هذه المشكلة من خلال دخول طرف ثالث، يفترض أنه محايد كالمحكمة الألمانية في حالتنا، إذ يمكن للمحكمة نفسها أن تدين أشخاصاً من الطرف الآخر أيضاً متهمين بارتكابات معينة. ولا أظن أن ردود الفعل ستكون مماثلة لما رأيناه في حالة أنور رسلان وإياد الغريب.

هل يعني ذلك الامتناع عن اللجوء إلى محاكم لملاحقة أشخاص متهمين بجرائم في إطار الصراع السوري؟ بالتأكيد لا. فهذه فرصة نادرة لا بد من استثمارها لإدانة النظام المجرم الذي يحظى بحماية دولية ندر أن تحظى بها طغمة مجرمة. لكن حالة المتهمين المذكورين تشير إلى أن غياب «التسييس» عن العدالة، في مثل هذه الحالة، له محاذير لا تقل عن محاذير حضوره. فالجهات الحقوقية التي تعمل على ملف الانتهاكات من واجبها أن تدقق في القضايا المطروحة على برنامج عملها، ويكون لها سلم أولويات لن يخلو من «سياسة».

إن قضية ضعيفة كحال القضية موضوع الحديث، بدلالة ردود الفعل المتضاربة في الرأي العام، من شأنها أن تضعف القضية العامة أو استراتيجية محاكمة النظام. لماذا لا تتم ملاحقة مجرمين يحظون بإجماع الرأي العام في إدانتهم، بدلاً من حالات طرفية تدور الشكوك حول الاتهامات الموجهة إليها؟ ألا تقوم بعض الأنظمة القضائية على وجود هيئة محلفين، هم من المواطنين العاديين، يملكون إدانة المتهم أو تبرئته بعد التصويت على ذلك فيما بينهم؟ في الحالة السورية يمكن اعتبار الرأي العام المعبر عنه في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي شكلاً من أشكال هيئة المحلفين، من غير أن ينفي ذلك أن هذه الهيئة ربما تتخذ قرارات خاطئة في بعض الحالات.

لا تحتمل قضية رسلان والغريب تمترس أصحاب الرأيين المتعارضين بشأنها كل برأيه كما لو كانت الغاية هي إثبات صحة الموقف مهما طرأ من حقائق كشفت عنها بعض الشهادات الشخصية. فالأمر يتعدى مصير الشخصين، على أهمية ذلك بحد ذاته، إلى مصداقية القضية التي تمثلها حالتهما. يقول المدافعون عن وجوب محاكمة الرجلين وإدانتهما أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم أو غيره من الأسباب. لن أجادل في صحة ذلك. ولكن إذا كانت الغاية هي تحقيق العدالة، فأين هي العدالة في ملاحقة شخصين واجها مخاطر كبيرة، مع عائلتيهما، في انشقاقهما عن جهاز المخابرات الذي كانا فيه عنصرين ضئيلي الشأن، مقابل إفلات مجرمين أهم وأخطر من الملاحقة؟ أليس في هذه المعادلة ـ وهي متحققة في الواقع ـ نسفاً لأساس مفهوم العدالة؟

في حالات الصراعات الكبيرة، يطرح موضوع «العدالة الانتقالية» التي تكتفي بمحاكمة عدد محدود من رموز الإجرام لتأسيس المرحلة الجديدة. ليست هناك حالة واحدة حوكم فيها جميع المتورطين في الجرائم. فالعدد الهائل من المتورطين لا يسمح بذلك، حتى بالمعنى التقني. مؤكد أن هناك كثيرين سيشعرون بالضيم لأن العدالة لم تنصفهم بالاقتصاص من أشخاص تسببوا بأذى مسهم شخصياً. ولكن لا مفر من الانتقائية في هذه الحالات.

أضف إلى ذلك أن فتح باب ملاحقة أي شخص، من المحتمل أن تؤدي إلى اتهامات كيدية يكون ضحاياها من الأبرياء. فهل هناك آلية موثوقة لحماية الناس من ذلك؟

من المحتمل، بالنظر إلى المحاولات السياسية الدولية الساعية إلى إيجاد حل سياسي، أن العدالة الانتقالية نفسها، على رغم مساوئها البينة، قد لا يكون لها محل في «الحل السياسي» الذي يريده اللاعبون الدوليون لسوريا. في هذه الحالة تكون ملاحقة مجرمي النظام، والمجرمين الآخرين، أمام محاكم في دول أوروبية هو الشكل السوري الخاص بالعدالة الانتقالية. لذلك وجب أن تدرس الحالات بدقة وتقيم آثار كل قضية من قضايا الملاحقات على مستقبل الاجتماع السوري إذا كان له مستقبل.

كاتب سوري

القدس العربي

الخير والشر في سوريا والعدالة في ألمانيا/ يوسف بزي

جاءت المواطنة السورية من ألمانيا، حيث تقيم بصفة لاجئة، إلى بيروت، للقاء زوجها ووالديها، القادمين من سوريا. هذا حال معظم “المنفيين” السوريين مع “الصامدين” في الداخل: اللقاء في بلد ثالث. على الأغلب، هو لبنان أو الأردن.

الحياة السورية التي دخلت عليها تجارب جماعية من هذا النوع، أصابتها بكثير من الصدمات والتحولات الثقافية والأخلاقية. التصورات العامة تجاه الذات والعالم والتي ظلت ثابتة وجامدة لزمن طويل، لم تعد واضحة، خصوصاً للذين خرجوا من سوريا. تجربة الشتات لابد أنها أضفت على الهوية السورية بعداً جديداً. كذلك الحال، من خاض يوميات الثورة والحرب.

السيدة السورية التي عاشت جلّ عمرها في مدينة داخلية، ريفية الطابع، وتقطنها جماعة أهلية نادرة الاختلاط، تقيم اليوم وحيدة في شقة برلينية، باستقلالية تامة. هذا منحها نظرة مختلفة إلى أناها وإلى الآخر. وهي راحت تروي أثناء تعلمها للغة الألمانية، أنها تلقت أيضاً دروساً في التاريخ الألماني، أحداثاً وسياسة وأفكارا ومسارات ثقافية واجتماعية وفلسفة أخلاقية.. وقد عبّرت بكثير من الدهشة عن تشدد الألمان تجاه الحقبة النازية وإصرارهم على “الاعتذار” بوصفه طقساً قومياً ألمانياً، و”الشعور بالذنب” على أنه ليس واجباً وحسب، بل جدارة سياسية.

ورغم حرجها (المستجد طبعاً، والمكتسب من “ألمانيتها”) من القول بصيغة السؤال، هل يا ترى أن بقاء ألمانيا ومعها أوروبا على مشاعر الذنب تجاه “الهولوكوسوت” هو بسبب “نفوذ اللوبي اليهودي”، إلا أنها استدركت قائلة، لا يجوز ربما التساؤل، متذكرة أن القوانين الألمانية والأوروبية تعاقب من ينكر “المحرقة” النازية. حيرتها وارتباكها يدل على تلك المنازعة في دواخلها بين تربية “عربية – بعثية” راسخة، منسجمة مع نفس وكينونة صُنعتا على مدى حياتها، وفق منظومة سياسية وأيديولوجية واعتقادية رعت الشعب السوري كله (ومعظم الشعوب العربية) على مدى أجيال.. وبين تربية ألمانية أوروبية غربية طارئة على الوعي، وتسبب تناقضاً، في الوجدان كما في الروايات والسرديات المتبناة للتاريخ وللسياسة وللأخلاق والثقافة (الحق والباطل، الخير والشر).

وهي إذ راحت تحكي كما لو أنها تخاطب نفسها، ما علمته عن فظاعة حملة الإبادة التي لحقت باليهود، وجدت بسهولة تلقائية المقارنة بين “المحرقة” النازية من ناحية، وكيف تركت أوروبا كلها اليهود لمصيرهم البائس، وبين المحرقة الأسدية التي تسببت بقتل نصف مليون سوري وتشريد حوالى 11 مليوناً، ستة ملايين منهم باتوا في الشتات، وكيف تركت الدول العربية ومعها العالم السوريين للمصير نفسه. التماهي السوري مع الهولوكوست، كما فعلته هذه السيدة، ليس فقط تعريفاً للنفس بأنها “ضحية”، لكنه انقلاب في الوعي السياسي والأخلاقي تجاه الضحية الآخر (اليهودي) من ناحية، ومراجعة أيديولوجية للسرديات التاريخية التي كانت تتبناها، من ناحية أخرى.

التبدل في النظر إلى الذات وإلى العالم، معطوفاً على التغير في معنى الأخلاق والعدالة والحق، ليس يسيراً دوماً. قضية الضابطين السوريين، أنور رسلان وإياد العمر، اللذين اعتقلتهما السلطات الألمانية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فتحت سجالاً سورياً، حقوقياً وسياسياً. فالضابطان منشقان والتحقا بصفوف المعارضة، ولجأا إلى ألمانيا. وعلى هذا، فإن بعض السوريين قد يعتبر الضابطين “بطلين”، أو على الأقل يعتقد هذا البعض أن “انشقاقهما” يمنحهما غفراناً عن أي ارتكاب واقتراف سابق.

يستند هؤلاء، أخلاقياً، إلى واقع تورط شطر كبير من ضباط الجيش والجنود، وسائر عناصر الأجهزة الاستخباراتية، كما أفراد الشرطة، والمخبرين السريين، وأعضاء في حزب البعث.. في جرائم موصوفة ومتكررة طالت أعداداً هائلة من المواطنين، وامتدت على مدى عقود من القسوة والديكتاتورية. ويتشارك مع هؤلاء في تلك الجرائم، عدد كبير من أعضاء الجسم القضائي مثل العاملين في القطاع الطبي ورهط كبير من البيروقراطيين. وإلى المسؤولين المباشرين عن هذه الاقترافات المنظمة والواسعة النطاق، يمكن ضم المسؤولين غير المباشرين فيها، كالدبلوماسيين وأعضاء البرلمان والوزراء وكبار موظفي الدولة والمستشارين والمشرفين على وسائل الإعلام والمثقفين.. وكل من ساهم في تشجيع أو تسهيل أو تبرير أو “تغطية” المجرمين. بمعنى آخر قد يكون هناك ملايين من المذنبين

الذين يعتبرون أن الضابطين المعتقلين الآن في ألمانيا لا يستحقان الإجراء العدلي الألماني، يستندون إلى ظن سياسي، بأن كل المذنبين، كانوا قبل الثورة. وحكم المغفرة والبراءة ينالونه بمجرد التحاقهم بالثورة وانشقاقهم عن النظام. فعل التوبة يحدث لحظة الخروج على النظام، وفعل المغفرة يتحقق لحظة انضمامهم إلى الثورة أو اللجوء إلى خارج سوريا. وهذا يشبه الناموس الديني عن الخطيئة والتوبة لا علاقة له بالعدالة الأرضية.

لكن، هناك دافع آخر لاستهوال ما جرى للضابطين. هو دافع الخوف من محاكمة كل المذنبين، ماقبل الثورة وأثناءها وبعدها. إنه أمر مهول وقد يطال الملايين حرفياً. وهذا مأزق وطني هائل وسؤال أخلاقي بامتياز. والأسوأ أنه معضلة كبرى مع تاريخ سوريا، واستحقاق صعب يهدد المستقبل.

في المقابل، ثمة سوريون يؤيدون ملاحقة كل من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل ويعملون حقوقياً في شتى أرجاء العالم بالتعاون مع منظمات رسمية أو غير حكومية من أجل مطاردة المجرمين، وينظمون الملفات والقضايا ويجمعون الشهادات ويوثقون الأدلة تمهيداً لأي تحقيق جنائي فعال ولأي محاكمة ستقام مستقبلاً. وهم ينحازون لطلب العدالة وتحقيقها من أجل الضحايا أولاً ومن أجل الخروج الفعلي من “سوريا الأسد”. ما يعني، عملياً، عدم تخوفهم أن يكون المذنبون ليسوا فقط بالملايين، بل أن “الأمة السورية” برمتها مذنبة، لا في اقتراف الجرائم وحسب بل في اعتناقها سياسة وأيديولوجيا ومنظمومة أخلاقية وثقافية فاسدة وشريرة.

هؤلاء، خطوا خطوة أبعد من السيدة السورية المقيمة في ألمانيا التي تتلمس وعيها “الجديد”، الألماني. إنهم يقطعون أخلاقياً، بالمعنى “الثوري” للكلمة، مع المنظومة السورية (والعربية)، ويباشرون ما هو في ألمانيا أبعد من ثقافة “الاعتذار”: الإقرار بالذنب التاريخي. ثم واجب: كشف الحقيقة، المصارحة، المراجعة والمحاكمة. هؤلاء، يعتنقون فكرة أن إعادة بناء الأمة مشروطة أولاً بالعدالة.

السوريون اليوم، يراقبون الدناءة التي تتسم بها الأنظمة العربية وهي تسرع نحو تطبيع علاقتها بالنظام السوري، ويشعرون أن هذه الأنظمة ساقطة أخلاقياً. هذا هو تماماً ما نحاول التدليل عليه. فغياب مبدأ العدالة ومبدأ المحاكمة والمحاسبة، هو العطب الذي تعيشه شعوبنا العربية، والذي بسببه تمتد أعمار أنظمة الاستبداد وتتجدد.

تلفزيون سوريا

سوريا: فنجان قهوة عند العقيد أنور رسلان/ محمد فارس

أصدر الادعاء العام الألماني في 13 شباط / فبراير 2019 أمراً بالقبض على سوريَين عملا في المخابرات السورية، موضحاً أن القرار بسبب الاشتباه في ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية.

لفت الادعاء إلى أن المتهم الأكبر سناً، ويدعى أنور ر.، أمر بعمليات تعذيب منهجي ووحشي، خلال توليه منصب رئاسة قسم للتحقيقات والسجن الملحق به، بين نيسان/ أبريل 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012. وكشفت السلطات الألمانية أن أنور ر. يقيم في ألمانيا منذ 2014 وقد وصل إليها عبر الأردن. وكشف المحامي السوري أنور البني، مدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أن المتهم الأول هو العقيد أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في الفرع الداخلي (251) أو فرع الخطيب.

يكتب الصحافي محمد فارس قصة لقاء قصير جمعه بالعقيد رسلان قبل شهر من اندلاع الاحتجاجات المناهضة لنظام الرئيس بشار الأسد منتصف آذار/ مارس 2011.

عصر يوم الجمعة، في الرابع من شباط عام 2011، اعتقدت أن حياتي ستنتهي بشكل مأساوي في أحد سجون سوريا، على رغم أنني لم أرتكب ما يستحق العقوبة. أدخلني عناصر المخابرات مع ثلاثة زملاء صحافيين إلى مبنى ضخم في منطقة الخطيب في دمشق. ثم إلى غرفة إلى يسار المدخل الرئيسي للبناء، حيث استقبلنا شخص طويل القامة بلباس رسمي وربطة عنق كحلية، ورحب بنا بابتسامة لم تفارق وجهه. وحين اقتربت لأصافحه، همس: «أنا بعرفك!» ما زاد خوفي وقلقي. وحتى تلك اللحظة، لم أكن أعرف أنني أقف أمام العقيد أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في الفرع الداخلي (251) أو فرع الخطيب.

ترقبت كغيري احتمال انتقال شرارة التظاهرات في تونس ومصر إلى سوريا. في ذلك اليوم، استبعدت تحركاً شعبياً في ما سُمي على صفحات “فيسبوك”، «يوم الغضب السوري». وصل زميلي الصحافي الهولندي آرين فاندر زيل إلى سوريا في الليلة السابقة من تركيا. كذلك رافقت الصحافية الإنكليزية آبي فيلدينغ-سميث، مراسلة “فاينانشال تايمز”، زميلاً مصوراً أتحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية.

مررت وزميلي الهولندي بالجامع الأموي ثم ترجمت له في جامع الأكرم عند «أوتوستراد المزة» خطبة صلاة الجمعة التي حذر فيها الشيخ ولي الدين الفرفور بشكل موارب من امتداد التظاهرات من تونس ومصر، إذا لم يقم المسؤولون في سوريا بالنظر بجدية في مظالم الناس.

في سيارة الأجرة باتجاه البرلمان، سألني زميلي الهولندي إذا كنت أعتقد أن شيئاً ما سيحدث، فأجبت بالنفي مبرراً ذلك بالخوف المستبد في نفوسنا. لكنني عقّبت بالقول أن ذلك إن حصل، سنرى الدم يغمر الركب، واللحم البشري متطايراً على الجدران. وسقت مثالاً على مجزرة حماة عام 1982 وإجرام المخابرات السورية في لبنان والذي لم يتوقف مع خروج الجيش السوري من هناك، إثر اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005.

في أي حال، اعتبرت حينها أن الصحافي السوري شخصية في مسرح العبث. ربما يمكنه استشراف تفاصيل الخراب الآتي، لكنه، في الغالب، لا يمكنه أن يقول ما يراه بحرية عن حقيقة الوضع العام. ولذلك اتخذت قراراً بأن أساعد الصحافيين الأجانب على تلمّس حقيقة ما بموضوعية وتجرّد. لكنني لزمت شديد الحذر في ذلك. وحين شاهدت لاحقاً الوقفات التضامنية التي نظمها سوريون مع المتظاهرين في مصر وليبيا أمام سفارات البلدين بدمشق، كنت أنتقل إلى الرصيف المقابل، حتى أتجنّب الاقتراب من عناصر الشرطة الذين كانوا يحيطون بالمتضامنين.

مثّل رجل الشرطة عدواً أهرب منه مذ كنت طفلاً يعمل بائعاً متجولاً بدمشق. وبداية حقدي على السلطة بدأت حين شاهدت شرطياً يدوس ثمار المشمش، كان رجل خمسيني يعرضها للبيع في «حي القنوات» بدمشق. حجة الشرطي أن الرجل ارتكب مخالفة بإشغاله الرصيف. وقد سهّل ذلك المشهد عليّ تفهم أسباب إقدام التونسي محمد البوعزيزي على إحراق نفسه إثر مصادرة بضاعته وإهانته من قبل مسؤولي البلدية في كانون الأول/ ديسمبر 2010.

ترجّلت وزميلي الهولندي من سيارة الأجرة أمام مبنى البرلمان. وجدت شارعي «الصالحية» و«العابد» مكتظّين برجال الأمن بملابس مدنية واقفين في مجموعات زوجية وثلاثية متقاربة ويتصنعون اللامبالاة في محاولة مضحكة للتمويه. تلك المرة الأولى والوحيدة التي رأيت فيها محلات «حي الصالحية» مغلفة بشكل كامل.

دخلت وآرين إلى «مقهى الروضة». فوجئت بأن معظم الطاولات مشغولة وعلى كل منها مراسل صحافي أجنبي أو محلي. وحين هممنا بالجلوس في مكان مطل على الشارع، اقترب منا زميلي السوري وزميلتي البريطانية. ولم نكد نتبادل التحية، حتى دخل عناصر الأمن وشرعوا يتحدثون بلهجة السلطة:

«عن شو مَ تحكوا؟!».. «مين هدول؟!».. «شو بتشتغل إنت؟!»..

«عم نستنى مظاهرة،» قال صديقي المصور.

«مظاهرة شو؟!»

«هيك قالوا على فيسبوك..»

«وإنت شو رأيك؟»

«أنا رأيي الناس مو فاضية..»

«طيب تفضّلوا معنا».

نظرت إلى الصحافيين الجالسين يرقبون الموقف. لا يمكن أن يتدخل أحد في هذه اللحظة. أحسست وكأنني تلميذ مذنب ساقه الأستاذ خارج مقعده ليعاقبه بـ«فلقة» على قدميه أمام زملائه الصغار، لأنه لم يكتب فرضه.

صعدت في سيارة أوبل بيضاء مع عنصرين وضابط يرتدي بدلة «أديداس» رياضية، بينما صعد زملائي الثلاثة في سيارة أخرى سوداء اللون. توجهنا إلى فندق في منطقة «الحجاز»، وهناك أحضر آرين جواز سفره بطلب من عناصر الأمن. ثم عبرت السيارتان «شارع الثورة» باتجاه «مشفى الحياة» ثم دخلت «شارع مرشد خاطر» باتجاه «مخبر الخطيب للتحاليل الطبية». صمت العناصر الثلاثة في سيارتي صمت القبور. وحين سألت ضابط «الأديداس» عن الخطأ الذي ارتكبناه، قال بفظاظة من دون أن يلتفت إلي: «هلق منشوف إذا غلطانين أو لا.»

بدت دمشق أشبه بمدينة أشباح. لا أحد في الطرقات سوى سيارات الأمن. قطرات المطر بدأت تهطل ثم تتبخّر، ما إن تلمس الإسفلت الساخن. وفيما بدأت المدينة تغيب خلف البخار الذي غطى زجاج السيارة، أطفأت هاتفي لأنني كنت أتوقع اتصالاً من قناة أميركية لأتحدث عما يحدث في دمشق. وقلت في نفسي إنها النهاية.

لولا حاجز التفتيش الذي عبرته سياراتنا، لم أكن لأشعر بأنني بالقرب من فرع أمني. تكتل أبنية سكنية مربع الشكل دخلناه من الزاوية الشمالية الغربية. تتوسط التكتل حديقة كبيرة كثيفة حولها مواقف للسيارات مسقوفة بالقرميد. وكل بناء في التكتل مكون من 4 أو 5 طبقات، ويحتل الفرع (251) إحداها من جهة الجنوب، مطلاً على الحديقة. وبعيداً من الطراز السوفييتي الممل للأبنية الحكومية والتابعة لـ «حزب البعث» الحاكم، كان بناء الفرع الأمني واحداً من أبنية «حي القصاع» الدمشقي الأنيقة. بلاط الأرضية جديد والجدران مطلية بدهان باللون البيج.

نزلنا من السيارات، واقترب مني زميلي الهولندي وقال بقلق: «لا تغيّر شيئاً مما حدث. قل ما حدث فقط».

لم أكن أعلم أننا في الفرع الداخلي (251)، والذي تعاقب على رئاسته ضباط مرعبون من محمد ناصيف خير بيك إلى وبهجت سليمان، وفؤاد ناصيف خير بيك، وتوفيق يونس؛ وهو المعاقب أوروبياً بتهمة «التورط بارتكاب أعمال عنف ضد المتظاهرين» خلال الانتفاضة السورية.

حين دخلنا مكتب الضابط، صافحنا بحرارة. وبينما جلست على كنبة منفردة في الوسط، قبالة الضابط الذي ظل واقفاً، جلست آبي وآرين على أريكة، وجلس زميلي المصور على كنبة مقابلة.

كانت غرفة صغيرة متواضعة ذات إضاءة خافتة. على الطاولة قرطاسية مكتبية غير لافتة، هاتف ثابت أسود اللون، وفي الزاوية شاشة كمبيوتر صغيرة وطابعة. لا أذكر أنني رأيت صورة رئيس الجمهورية كعادة المكاتب الرسمية في البلاد. توتري وتركيزي في الضابط أنسياني النظر إلى تفاصيل أكثر.

«مين المترجم؟» سأل الضابط مبتسماً وهو يشعل سيجارته المثبّتة على فلتر خشبي أسود بينما اتكأ على طاولة مكتبه قليلاً. قلت: «أنا». «ترجم… أهلاً وسهلاً فيكون بسوريا،» خاطب الرجل الصحافيين الأجانب بصوت قوي واثق. وتابع حديثه عن «سوريا الأمن والأمان» بحيث «يمكن للصحافيين أن يتنقلوا في أية بقعة في سوريا بكل حرية»، وأن اصطحابنا إلى الفرع هو «مجرد إجراء روتيني». حاولت أن أحفظ لهجته وملامح وجهه الحنطي وعينيه الغامقتين. وحيّرني خليط الشامة في أعلى خدّه الأيسر والنظارة الطبية اللامعة والشارب الكث. ثمة تودد أظهره ربما لأننا كنا بصحبة صحافيين أجانب. لكن لماذا همس لي بأنه يعرفني؟ هل حاول أن يطمئنني؟ لست أدري.

ما هذا اللطف؟! يا سلام! إنها «مسيرة التطوير والتحديث» التي سوق لها الأسد تطاول الأجهزة الأمنية! كل ما كان يقوله أقارب لي عن التعذيب في السجون السورية، غير صحيح! لكن لماذا قبضوا علينا و«شحطونا»؟!

في أية حال، بدأ قلقي يزول أثناء الترجمة وبدأت أبتسم وأشعر بحرارة وجهي تنخفض شيئاً فشيئاً. سألت نفسي إن كان الضابط الأربعيني يجرب أسلوب “الشرطي الخيّر / الشرطي السيئ” (Good cop/bad cop) بحيث يكون دوره في أن يتعامل معنا بلطف فيما يترك لعناصره التعامل معنا بأسلوب جلف. لكن لماذا؟ ما هي المعلومات التي سينتزعها منا؟! ما هي جريمتنا؟!

دخل عنصر يحمل «مصب» قهوة عربية وإبريق ماء وبدأ يضيّفنا. قال رسلان بطريقة مرحة: «مد إيدك ع طولها» كانت محاولة الرجل لإضفاء بعض اللطف على الجلسة جلية.

«لماذا نحن هنا؟» سألت الصحفية الإنكليزية.

«إجراء روتيني بسيط،» أجاب الضابط بهدوء مع ابتسامة المتفهّم.

«هل يمكننا أن نغادر الآن؟»

«طبعاً… لوين بدكون تروحو؟»

«محل ما إجينا، ع قهوة الروضة،» قال زميلي المصور مبتسماً.

نادى الضابط أحد العناصر وطلب منه إيصالنا بالسيارة إلى حيث نريد. وحين هممنا بالخروج من المكتب، صافحنا العقيد ثم قال مبتسماً: «الشباب السوريين، إبقوا زورونا.» قلت مازحاً: «شو رقم تلفونك؟». أظهر ابتسامة ربّما أخفى خلفها عبارة: «كم أنت غبي لتسأل رجل أمن عن رقم هاتفه»؛ ثم قال: «وقت بتيجي، قُلهم (أريد) العقيد أنور».

خرجنا من المكتب لنقابل العناصر الذين «ألقوا القبض» علينا في «مقهى الروضة». كانوا جميعاً يبتسمون لنا معتذرين. صعدت وحدي في سيارة بيضاء بمفردي مع سائق، وقال لي: «الله رحمكون. لو كان عليكون شي، ما كنتو طلعتو».

وتوقفت السيارة في «شارع نسيب البكري» قريباً من «ساحة الجسر الأبيض» حيث كان زملائي بانتظارنا مع ضابط «الأديداس» الذي اعتذر منا. قال الضابط إنه وعناصره لم يناموا منذ أربعة أيام. وحين أعاد بطاقاتنا الشخصية التي لا أذكر متى أخذوها منا، صافحوا الزملاء الأجانب وعانقوني وزميلي السوري على طريقة مسلسل «باب الحارة» المثيرة للسخرية.

مشيت وآرين باتجاه «شارع الثورة» حيث اتفقنا على العودة في اليوم التالي إلى «قهوة الروضة». وبالفعل، مررنا في اليوم التالي بالقرب من البرلمان وشاهدنا تجمع عناصر الأمن ذاته وضابط «الأديداس» وعناصره.

تجربة الرابع من شباط 2011 جعلتني متيقّناً إلى أن ثمة تغيراً هائلاً في طريقه إلى سوريا وأن ارتباك الأجهزة الأمنية يعني أنها لا تستطيع التعامل مع المستجد المجهول من دون اللجوء إلى القوة.

وقد علمت لاحقاً من ضحايا، ومنهم أقارب لي، سبق واحتُجزوا في الفرع (251) أن ظروف اعتقالهم كانت قاسية جداً.

عام 2015 احتجز الأمن قريباً لي في الفرع (215) لمدة 15 يوماً نظراً لتشابه اسمه وكنيته مع اسم شخص آخر وكنته، كان يقوم بأنشطة مناهضة للنظام الحاكم. ومن حسن حظ قريبي أنه خرج حياً.

قال قريبي إنه أمضى الأيام الثلاثة الأولى في «المهجع» على رجل واحدة، حيث لم يتمكّن حينها من أن ينزل رجله الأخرى بسبب زحمة السجناء. وعلى حد قوله، كان يسقط شخصان أو ثلاثة على الأقل كل يوم من شدة الإرهاق. ومن يسقط، تكون فرصة نجاته ضئيلة، إذ يغيب عن الوعي وتنتهي حياته تحت أقدام زملائه كما قال قريبي. وفي كل مرة يحضر السجانون، فيحملون الجثث في بطانيات، ويخرجون بها. وهذه الجزئية تحديداً حدثني عنها عنصر خدم في الفرع (251) حتى أواخر عام 2011 على ما أذكر حيث تمكن من الانشقاق ومغادرة البلاد. «لم أستطيع التحمل في البداية. كنت أستفرغ لمجرد رؤية الجثة. لكنني تعودت على المشهد لاحقاً»، قال لي العنصر المنشق.

يتابع ابن قريبي أن الحركة في المهجع كانت أشبه بالمستحيل حيث كان الوصول إلى المرحاض الموجود في إحدى الزوايا أمراً شبه مستحيل. «الإضاءة خافتة والنوم وقوفاً والأكل بالقطارة والسقف ينزّ ماء من أنفاس السجناء،» يردف قريبي.

ظل قريبي يعالج بشكل يومي من أثر جروح في بطنه، لم يعرف سببها. تعفنت الجروح وصار لزاماً عليه أن يخضع لمرحلة استشفاء امتدت لشهرين. ولا تزال آثار الجروح والجراحة على بطن الرجل، تذكّره بأسوأ أيام حياته.

كان مؤلماً لقريبي أنه رأى سقوط شخصين من مدينته ولهما اسمه وكنيته، على أرض المعتقل. كان يرى نفسه مكانهما. كان يفكر بأمه وأطفاله وأحبائه الذين ستنفطر قلوبهم كمداً عليه، حين ينتشر خبر وفاة شخص يحمل اسمه وكنيته. والأقسى من ذلك كله، أنه حين خرج، توافد سكان المدينة للسلام عليه، وكان عليه أن يخبر أمهات الشخصين اللذين توفيا أمامه عن مصيرهما المأساوي.

أثار اعتقال العقيد رسلان تساؤلات كثيرة. لكنني على يقين بأن معاملته الحسنة معي لا تعني بالضرورة أنه تعامل هكذا مع الآلاف وربما مئات الآلاف الذين احتُجزوا في الفرع (251).

أشاد عسكريان تحدثت إليهما سابقاً بـ«مهنية» العقيد رسلان و«سمعته الحسنة». لكن ناشطي حقوق الإنسان شنوا هجوماً لاذعاً عليه مقدّمين شهادات رهيبة لما حدث معهم داخل ذلك الفرع. في النهاية، تختلف معايير «المهنية» ما بين العسكريين والحقوقيين.

من حسن حظ العقيد رسلان، وهو المجاز في الحقوق، أنه يقف أمام القضاء الألماني الذي سيعطيه فرصة الدفاع عن نفسه ويبقيه في مكان تتاح فيه ظروف كريمة لموقوف، وهو ما ليس متاحاً لضحايا ممارسات المخابرات السورية والنظام «القضائي» في «سوريا الأسد».

أعتقد أن موقف رسلان من النظام السوري يعنيه وحده ولا يعني ضحايا الفرع (251) ولا يمنعهم من الوصول إلى حقوقهم. سررت عام 2015 حين علمت من ذلك العنصر المنشق الذي عمل تحت إمرته، بأنه غادر سوريا عام 2012. لكنني لم أستطع أن أخبر ذلك العنصر أنني تناولت فنجان قهوة عند العقيد أنور رسلان.

درج

إلى من تهمّه العدالة/ حسان الأسود

يرى البعضُ أنّ الحقيقة بالنسبة لأيّ منّا، ليست إلّا مقدار معرفتنا بما تبدّى لنا من جوانبها المختلفة، وأنّ قلّة منّا تلتزم حدود التواضع ولا تدّعي الإلمام بكلّ مفرداتها، وثمّة من يعتقد بأنّ الحقيقة أعقدُ كثيراً من أن يدركها أيُّ كان حيّ، لكن بالمقابل، ثمّة من يعتقد بأنّه يمتلك الحقيقة ويضع يده عليها وينطق بها.

أثارَ خبرُ اعتقال الشرطة الألمانيّة قبل أيّام معدودة ضابطاً وصفّ ضابطٍ منشقّين عن قوّات النظام السوري، قريحة من يعرف ومن لا يعرف للحديث عن المسألة، بل والغوص في حيثّيات اعترافات المقبوض عليهما، وتحليل أسبابها وتداعياتها، والتكهّن بما ستصل إليه من نتائج قضائيّة تحقيقات المدّعي العام الألماني معهما. أكثر من ذلك ثمّة من بدأ ينشر معلومات عن اعترافات قدّمها المقبوض عليهما، أدّت بدورها إلى القبضِ على أشخاص آخرين، وكأنّ الناشر كان حاضراً مع النائب العام عند مباشرته إجراءات التحقيق، أو كما نقول بالعاميّة المحليّة (مِتْراكين الوسايد!).

نصف وجهة النظر كانت الأكثر حذراً والأقلّ ثقة في طبيعة ما يجري، وبالتالي الأهدأ صخباً في إطلاق الأحكام والمواقف

طبعاً لا ينسى المرء الكمّ الهائل من الآراء الشخصيّة والتمنّيات التي ملأت فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، كما لا ينسى حجم التشفّي وحجم الإهانات الموجّهة ليس لهما فحسب، بل ولكلّ ضابط أو موظّف انشقّ عن النظام السوري في يوم من الأيام، كذلك حجم الشتائم والمسبّات بأقذع العبارات التي طالت أُسر الموقفين وأعراضهما، والطامّة الكبرى تكمن في أنّ بعضاً من أبطال هذه الملاحم ممن يحسبون أنفسهم مدافعين عن حقوق الإنسان.

بدا للمراقب لمجمل ردود الأفعال الصادرة بشكل عام حول هذا النوع من القضايا، توزّعها بين وجهتي نظر ونصف. وجهة النظر الأولى تعتبر الحدث نصراً للعدالة، باعتبار أنّ أي شيء على طريق محاسبة أحدٍ ممن ارتكب انتهاكات بحقّ أي إنسان، هو أمر جيّد وخطوة في الاتجاه الصحيح. أمّا وجهة النظر الثانية فتعتبر أنّ المقبوض عليهما كانا قد عبّرا عن موقفهما الفعلي من الثورة باكراً بانشقاقهما عن النظام، بل أكثر من ذلك بانحيازهما لثورة الشعب السوري المحقّة والعادلة، وبالتالي فإنّ توقيفهما خطوة في الاتجاه الخاطئ، لأنها تأخذ على أيدي الأشخاص غير المذنبين، بينما يفلت المجرمون الحقيقيون من العقاب.

نصف وجهة النظر كانت الأكثر حذراً والأقلّ ثقة في طبيعة ما يجري، وبالتالي الأهدأ صخباً في إطلاق الأحكام والمواقف. ويزعم كاتب هذه السطور أنه من أصحاب نصف وجهة النظر هذه، وينطلق في تحليل طبيعة هذا الأمر من اعتبارات عدّة، بعضها وأهمّها اعتبارات قانونية، وبعضها اعتبارات أخلاقيّة، وبعضها الآخر سياسيّ الطبيعة.

لاعتبارات السياسة، يجب البقاء على حذر تامّ في اتخاذ مواقف من هذا القبيل، فرئيس جهاز الأمن الوطني السوري علي مملوك – الذي يمكن اعتباره الرجل الثاني في التسلسل الهرمي بالمسؤولية الجنائيّة المحتملة عن الجرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحرب المرتكبة في سوريا بعد بشّار الأسد – كان قد سافر مرّة واحدة على الأقل إلى أوروبا، والتقى العديد من المسؤولين الأوروبيّين والإقليميّن في العديد من المناسبات. إذن ليس من الحكمة في شيء إطلاق تكهّنات من قبيل أنّ قطار العدالة الدولية بات على السكّة لمجرّد اعتقال هذين الشخصين، ولنا في الرئيس السوداني عمر البشير عبرة سيّئة، وهو الذي صدرت بحقّه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائيّة الدوليّة.

للاعتبارات الأخلاقيّة، علينا الحذر أكثر في إطلاق المواقف والآراء، فقد ثبت بالدليل القاطع أنّ كثيراً من المحسوبين على الثورة – بعد عودتهم إلى حضن النظام – كانوا عملاء مخبرين خرجوا لأداء مهامّ محددة، وعند انتهاء مهامهم عادوا إلى مواقعهم الطبيعيّة. كذلك يعرف كثيرون منّا أن نسبة لا بأس بها من العاملين في صفوف النظام حتى الآن، لم يشارك أعضاؤها في سفك الدماء، ولم يقبلوا بما فعله ويفعله بحق السوريين. كذلك علينا أن نتوخّى الحذر في إطلاق التصنيفات على الأفراد، فحقيقة صحّة أحكامنا تتعلّق وتتحدّد بمدى سعة وشمول وكثافة ودقّة معلوماتنا عنهم، والأقلُّ خطراً في مثل هذه الحالات تقييم المواقف لا تقييم الأشخاص، فالمواقف تكون غالباً أكثر وضوحاً وقابليّة للقياس والمحاكمة تبعاً للظروف التي صدرت فيها وتبعاً للسياق الذي حصلت ضمنه، وبالتالي يمكن إطلاق أحكام القيمة عليها بثقة أعلى وباقتراب أكبر من الموضوعية.

للاعتبارات القانونيّة علينا أن نكون أكثر حذراً وأشدّ حرصاً كذلك، وهذا كلّه من مقتضيات العدالة أساساً، ومن مقتضيات احترام حقوق الإنسان التي نتحدّث جميعنا بها، ونعتبر أنفسنا قد قمنا بثورة من أجل الوصول إلى الاحترام الكامل والتطبيق الفعلي لها.

لقد غابت عن ذهن كثير منّا، قاعدةٌ أساسيّة موجودة في كل دساتير العالم، وفي القانون العرفي الدولي، وهي تلك التي تقول بأن كلّ متهم بريء إلى أن يدان بحكم قضائي مبرم.

تنص المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي:

كلُّ شخص متَّهم بجريمة يُعتبَر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابُه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميعُ الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه.

لا يُدان أيُّ شخص بجريمة بسبب أيِّ عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكِّل جُرمًا بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا تُوقَع عليه أيَّةُ عقوبة أشدَّ من تلك التي كانت ساريةً في الوقت الذي ارتُكب فيه الفعل الجُرمي.

يعني مقتضى هذا المبدأ، أنّ أي شخص يتمّ توقيفه أو توجيه تهمة ما له أو الحكم عليه حتى، لن يُصبح مداناً، إلى أن يستنفد طرق الطعن كلّها أمام المحاكم التي تتوفّر على الضمانات الحقيقيّة لإجراء محاكمة عادلة بما فيها العلانية والتقاضي على درجات والحق الكامل في الدفاع عن النفس. فلا مبرّر إذن للعجلة في اتخاذ المواقف وإعلان النتائج وإطلاق الأحكام، يجب أن نترك الأمر لأهله، وبعد ذلك لنا أن ندلي بآرائنا.

بقي أن نقول إنّ العدالة الجزائيّة ليست مطلقة، ولم يصل البشر في أي يوم منذ بدء الخليقة، إلى القناعة التامّة بأنّ ما يقومون به يشكّل العدالة المطلقة، لهذا كانت تتمّ الإحالة دوماً، إلى العدالة الإلهيّة عبر المعتقدات والأديان المختلفة. فعلى سبيل المثال، قد يثبت أمام القضاء الألماني – الذي لا يوجد من يشّك بنزاهته واستقلاليته وحياديّته – أنّ أحد الموقوفين المذكورين أو كلاهما، بريء مما نُسب إليه من تُهم، لكن لا يعني هذا الأمرُ مطلقاً بأنهما لم يرتكبا أيّة انتهاكات بحقّ أحد من السورييّن أثناء فترة عملهما، كما أنّ إدانتهما بالتهم المحددة المنسوبة إليهما، لن تعني أنّهما كانا قد ارتكبا الانتهاكات والجرائم في كلّ عمل أو سلوك أو تصرّف أو قرار اتخذاه من موقع مسؤوليتهما عندما كانا على رأس عملهما قبل الانشقاق عن النظام السوري.

للاعتبارات الأخلاقيّة، علينا الحذر أكثر في إطلاق المواقف والآراء، فقد ثبت بالدليل القاطع أنّ كثيراً من المحسوبين على الثورة – بعد عودتهم إلى حضن النظام – كانوا عملاء مخبرين

ثمّة عبارة يعرفها المحامون والقضاة وأساتذة الحقوق تقول بأنّ: “الأحكام القضائيّة هي عنوان الحقيقة في القضايا التي بتّت فيها بلزوم”. ومقتضى القول إنّ ما يحوز هذه الحجيّة المطلقة في اعتبارات القانون هو ما تمّ البحث به بشكل مفصّل ودقيق ولازم للبتّ بالقضية المعروضة، أمّا ما تتطرّقُ إليه أحياناً بعض الأحكام القضائيّة من مسائل لا لزوم لها للبتّ في المعروض عليها من قضايا، فهي ليست حجّة على الكافّة، ويمكن إثارتها مجدّداً وإعادة البحث فيها. كمثال على ذلك يمكن طرح مسألة التطرّق إلى ملكيّة منزل ما أو متجر ما بشكل عرضي في حكم جنائي ما، فهذا الحكم لا يمكن اعتباره مستنداً نهائياً قاطعاً يحدد ملكية هذا المنزل أو المتجر.

إضافة إلى ذلك كلّه، ثمّة من يشكّك أساساً في مفهوم العدالة ذاته وفي مدى اقتدار الأنظمة الوضعية على تحقيقه، ويسوق أصحاب هذا الرأي لمساندة حججهم بعضاً من تلك الأحكام القضائيّة التي ثبت بعد أعوام على صدورها وتنفيذها أنّها كانت جائرة، أو غير مبنيّة على أسس صحيحة، وبالطبع ما تمّ اكتشافه كان في الدول الديمقراطيّة التي تحتمل أنظمتها السياسية والقانونية إمكانية الكشف عن هكذا أخطاء بشريّة.

قد تكون بعض المسائل التي يمكننا الحديث عنها أو طرحها صادمة للكثيرين بكلّ بساطة، وقد لا يتقبّلها عقل البعض أو قلبه ووجدانه، لكنّها تبقى حوادث ومواقف وقضايا موضوعيّة، شئنا ذلك أم أبينا. من بعض هذه المسائل الهامّة على المستوى الوطني، التدنّي المُخجل في المستوى الاحترافي القانوني – وفق المعايير الدوليّة على الأقلّ – لعمل الغالبيّة العظمى من المنظّمات الحقوقيّة السورية، العاملة في شأن حقوق الإنسان، وجمع الأدلّة على الانتهاكات المرتكبة في سوريا، منذ انطلاق الثورة السوريّة وحتى اليوم. لا يعرف كثير من العاملين في هذا الحقل القانوني الشائك التمييز بين القانون الإنساني الدولي وبين القانون الدولي لحقوق الإنسان، والبعضُ لهم أسماءٌ رنّانة، ومنهم من يُشار إليه بالبنان. لم تستطع عشرات المنظّمات العاملة بهذا الشأن على مدار السنوات الثماني المنصرمة، تأسيس مركز واحد قادر على بناء ملفّ قضيّة جنائيّة وفق معايير المحكمة الجنائيّة الدولية، أو وفق معايير أيّ قانون جنائي في أيّ دولة يأخذ نظامها القانوني والقضائي بمبدأ الولاية القضائيّة العالميّة.

لن يكون إثبات هذا الزعم مدار بحثنا أو نقاشنا الآن، لأنه يحتاج إلى أكثر من مقال وإلى أكثر من وجهة نظر، ومبادئ العدل والمنطق والتواضع أيضاً، تفرض علينا حصر الحديث بحدود معرفتنا في هذا المجال، وتتطلّب منّا عدم الانسياق بعيداً في السبيل الذي سلَكَهُ من ننتقدهم، فيما ذهبوا إليه من تعميم وأحكام مطلقة.

خلاصة القول: ليس كلّ ما يلمعُ ذهباً، فليس كلّ ما نقرؤه أو نسمعه أو نشاهده، أو حتّى ما نقوم به بأنفسنا حقيقيّ بشكل مطلق ودائم. علينا أنّ نتعلّم الإنصات حيث يجب ذلك، علينا أن نتعلّم بذل بعض الجهد لتحرّي الحقائق، علينا ألّا نستسهل إصدار الأحكام وإلقاء التقييمات جزافاً دون معرفة أو دراية بالموضوع الذي نتحدّث به، علينا بكلّ بساطة أن نتواضع بعض الشيء. رحم الله الشيخ المكين ابن العميد إذ قال:

 ملأى السنابل تنحني بتواضع      والفارغات رؤوسهنّ شوامخ.

 تلفزيون سوريا

نافذة لمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة في سورية/  نزار أيوب

محاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة (جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم التعذيب)، بما يحقق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة، مسألة متاحة، متى توفرت الإرادة السياسية لدى الدول. هذا الأمر منوط باستحداث آليات كفيلة بمحاسبة المجرمين، أو تفعيل الآليات المتاحة، تأسيسًا على أن الدولة ملزمة -من حيث المبدأ- بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاسبة مرتكبيها، في نطاق الأراضي الخاضعة لولايتها. وفي حال تقاعس الدول عن تطبيق ولايتها القضائية على مرتكبي الانتهاكات الخطيرة، كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أو تعذر محاسبة الفاعلين، بسبب النزاعات المسلحة أو الكوارث، أو تقاعس المجتمع الدولي عن مساءلة المجرمين؛ يتعيّن حينئذ تفعيل الدول الأخرى للولاية القضائية الجنائية العالمية، بصفتها الآلية الأكثر فاعلية لضمان المساءلة والحد من الإفلات من العقاب.

بعد طول انتظار، يبدو أنه بدأت تلوح في الأفق سياسة أوروبية ودولية جديدة لملاحقة من يشتبه في ارتكابهم للجرائم في سورية، حيث إن اعتقال السلطات الألمانية لعقيد سابق في جهاز المخابرات السورية، كان يعمل تحت إمرة العميد حافظ مخلوف، وضابط آخر، بتهمة ممارسة التعذيب بحق مئات المعتقلين السوريين ما بين 2011 و2012، من شأنه أن يرسي قاعدة لفتح هذا الملف، على صعيد دول الاتحاد الأوروبي على أقل تقدير. وما يعزز هذا الاعتقاد تزامن عملية الاعتقال التي نفذها مكتب المدعي العام الألماني، مع إعلان مكتب الادعاء العام في باريس، في اليوم ذاته، عن توقيف شاب سوري يبلغ من العمر 30 عامًا، يُشتبه في تورطه بجرائم تعذيب وجرائم ضد الإنسانية، إبّان كان يعمل في جهاز المخابرات السورية، بين عامي 2011 و2013.

سياسة الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب ملازمة للنظام السوري منذ عقود، وهي تمارَس في حق كل من يتجرأ على إبداء أي من أشكال المعارضة لهذا النظام، ممثلًا بحافظ الأسد وأبنائه، أي “بيت الأسد”، حيث تعرض حوالي 17 ألف شخص من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين للاختفاء القسري خلال الفترة (1980 – 2000)، معظمهم قضى من جراء التعذيب وإساءة المعاملة. وقد استمرت هذه السياسة المنهجية بعد تولي بشار الأسد (خليفة بيت الأسد أو الوريث) السلطة، وتفاقمت مع بدء الاحتجاجات السلمية في آذار/ مارس 2011، من جراء احتجاز أجهزة أمن الدولة (المخابرات الجوية، المخابرات العسكرية، الأمن السياسي، المخابرات العامة) عشرات ألوف السوريين خلال مداهمة أحيائهم ومنازلهم، أو عند عبورهم للحواجز ونقاط التفتيش، أو اعتقالهم من أماكن العمل والجامعات. وقد استهدفت الاعتقالات بشكل أساسي كافة شرائح المعارضة السلمية ممن شاركوا في الاحتجاجات ضد النظام، وناشطي حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين، إضافة إلى كل من لم يبدِ ولاءه للنظام من صحفيين وأطباء ممن عالجوا المتظاهرين، وعناصر من الجيش وأقارب المطلوبين لأجهزة الأمن. وقد انتهجت الأجهزة الأمنية التابعة لنظام بشار الأسد سياسة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية والحاطة بالكرامة والمهينة، على نحو لم يسبق له مثيل منذ عام 1970، داخل مراكز التوقيف وفي السجون والمشافي العسكرية، بحق عشرات آلاف المدنيين ممن قُبض عليهم. وتشير التقارير الدولية إلى أن وتيرة التعذيب ومدته وشدته قد تسببت في وفاة ما يزيد عن 17 ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال تحت التعذيب منذ عام 2011 في سجن صيدنايا وحده. ولم تقتصر ممارسات التعذيب بحق السوريين على أجهزة النظام، فقد تعرض المدنيون الذين تختطفهم الجماعات المسلحة (المعتدلة والمتشددة والمصنفة إرهابية) لكافة صنوف التعذيب والمعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وكانوا يحتجَزون كرهائن في ظروف صعبة وغير إنسانية، ويعانون خلالها نقص الغذاء والدواء ووسائل للتدفئة. وقد شهدت السّاحات العامة عمليات بتر للأعضاء وجَلد وقتل، من قبل (داعش) استنادًا إلى القانون الديني “الشرعي” بدعوى مخالفة فكر الجماعة.

لم يسبق أن تمت محاسبة أي فرد من أجهزة الأمن السورية، على الرغم من سياسة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية التي تنتهجها هذه الأجهزة منذ عدة عقود، والتي تعبّر عن سياسة حكومية مدروسة ومنهجية. كما أن فشل المجتمع الدولي في اعتماد آلية لمساءلة مرتكبي الجرائم في سورية، تمنح مجلس الأمن صلاحية إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية من جراء الفيتو المتكرر، يفرض تفعيل الدول لمبدأ الولاية الجنائية الدولية داخل نطاق الأراضي الخاضعة لولايتها، لتمكين قضائها المحلي من إجراء تحقيقات بالانتهاكات الجسيمة التي ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والتعذيب المرتكبة في سورية.

في كل الأحوال، لا يمكن التعويل على النظام القضائي الرسمي في سورية لعدم استقلاليته، ولكونه غير محايد وغير نزيه، فضلًا عن أن القضاة غير مؤهلين للنظر في الجرائم الخطرة والبت فيها. وبحكم أن سورية دولة طرف في اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الأول، وفي العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، فإنه يتعين على جميع الدول الأطراف في هذه الاتفاقيات إعمال مبدأ الولاية القضائية العالمية، والبدء بالبحث على المتهمين بارتكاب الجرائم في سورية، أيًا تكن جنسيتهم وخلفيتهم السياسية أو الأيديولوجية، وملاحقتهم والقبض عليهم تمهيدًا لمحاكمتهم أمام قضائها الوطني.

الولاية القضائية الجنائية الدولية منصوص عليها في العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، إذ تلزم قواعد اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977 الدول الأطراف فيها البحث عن مرتكبي المخالفات الجسيمة (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) أو المشتبه في ارتكابهم لهذه المخالفات أو التخطيط لها، أو إعطاء أوامر بارتكابها، بمجرد معرفتها بتواجدهم على أراضيها، بصرف النظر عن جنسيتهم، ومحاكمتهم أمام محاكمها، أو تسليمهم إلى أي دولة طرف معنية بمحاكمتهم.

الدول الأطراف في اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب لعام 1949 ملزمة، بموجب المادة 146، باتخاذ ما يلزم من إجراءات تشريعية لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يأمرون باقتراف مخالفات جسيمة تتمثل بالقتل العمد، وأخذ الرهائن، والاختفاء القسري، وممارسة التعذيب وتدمير الأعيان والممتلكات المدنية، على نحو لا تبرره الضرورة العسكرية (المادة 147)، وبالتالي ملاحقة المتهمين باقتراف هذه المخالفات، أو التخطيط لها أو التغاضي عنها أو الأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمة، أيّا كانت جنسيتهم، ولها أن تسلمهم إلى طرف متعاقد آخر لمحاكمتهم. وتتضمن اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة التعذيب لعام 1984 أحكامًا مشابهة، تُلزم الدول الأطراف بتجريم أفعال التعذيب، واتخاذ الإجراءات اللازمة لإقامة ولايتها القضائية على جرائم التعذيب، واحتجاز مرتكبيها تمهيدًا لمعاقبتهم أو اتخاذ إجراءات لتسليمهم إلى دول أخرى من أجل معاقبتهم.

الواضح أن قيام مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا باعتقال سوريين موجودين على الأراضي الألمانية، قبل عدة أيام، يُعدّ مؤشرًا على توفر الإرادة السياسية لدى السلطات الألمانية، بملاحقة واعتقال سوريين مقيمين على أراضيها، ممن تثار حولهم شكوك في ارتكاب جرائم خطيرة. فهل سنرى مزيدًا من المجرمين خلف القضبان في دول الاتحاد الأوروبي؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى