الناس

عن الاعدامات الأخيرة في مصر -مقالات مختارة-


أنا الذي قتل هشام بركات/ عمر قدور

“إدّيني صاعق كهربا وقعّدني مع أي واحد في القاعة وهخلّيه يقولك أنا اللي قتلت السادات.. معانا كهربا تقضي مصر عشرين سنة”. هذه العبارة التي خاطب بها محمود الأحمدي القاضي، في قضية مقتل النائب العام هشام بركات، يجدر بها أن تبقى في الأذهان مطولاً. أي واحد منا، لو شاءت المصادفة أن يولد مصرياً وصاحب موقف، كان عرضة للاتهام في قضية من هذا النوع.

حجم المهزلة الدامية يقول ذلك، قبل نطق الأحمدي به، إذ يكفي القول أن عدد المتهمين في قضية تفجير سيارة النائب العام بلغ 67 متهماً، ثم في الثاني والعشرين من تموز 2017 حكمت محكمة مصرية بإعدام 28 متهماً، ومعاقبة 38 آخرين بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و25 سنة، قبل أن يستقر الأمر على إعدام الشبان التسعة. أقل ما يُقال في هذه الأرقام أنه يجب تخليدها في سجل غينس للأرقام القياسية، فلم يحدث في التاريخ أن شارك عدد مماثل في عملية إرهابية تقتضي الحرص والسرية، ولا تتطلب بطبيعتها هذا العدد من المشاركين تخطيطاً أو تنفيذاً.

خلال مسار القضية، كانت السلطات الأمنية المصرية قد قدّمت العديد من الروايات عن حادثة الاغتيال، وحتى عن مقتل الضالعين فيها ضمن مداهماتها! مهلاً، يبدو تعبير السلطات الأمنية المصرية مضللاً، فالأحرى أن السلطة المصرية برمتها أصبحت سلطة مخابراتية. مثلاً، لقد أصبح من الماضي ذلك الهامش الضيق من الحريات الذي كنا كسوريين نغبط المصريين عليه، وكذلك الهامش الضيق من استقلالية القضاء أو الهامش الممنوح للإعلام. في دولة السيسي لا وجود سوى لـ”سيسيين” صغار، مهمتهم الأسهل هي التصفيق للغو الذي يتفوه به كبيرهم. كان ثمة فكرة شائعة لدى قسم من السوريين المهتمين بالسياسة، مفادها أن مصر تتقدم على سوريا بعشر سنوات، الآن تبدو الأسدية هي الأفق الذي تسعى إليه مصر السيسي.

في العمليات التي نفّذها داعش في أوروبا مؤخراً سنجد في الإعلام الغربي تحليلاً لما يُسمى ظاهرة “الذئاب المنفردة”، وسنجد معلومات عن منفذ الهجوم لا يندر بينها ما يشير إلى بنية نفسية ووضع اجتماعي أهّلا ذلك الانتحاري للوقوع في فخ داعش. طبعاً لا يندر أن نعثر في أوساط اليمين المتطرف على أولئك الذين يتجاهلون كافة العوامل، ليصوبوا على الإسلام وعلى المسلمين بوصفهم دواعش جميعاً. في محاكمة المتهمين باغتيال هشام بركات سنجد القاضي يرد على أحد المتهمين، عندما يتحدث الأخير عن وضعه النفسي، بأن عفريتاً قد ركبه. هذا القاضي، مع الفهم العامّي للموضوع النفسي والفهم اللاأخلاقي حتى للتعامل مع من يُنظر إليهم اجتماعياً كحاملي عفاريت، هو الذي نطق بحكم الإعدام.

المقارنة ذاتها تصحّ مع أولئك “المتنورين” الصامتين على وحشية الإعدام، فهم يقدّمون أنفسهم بوصفهم الأكثر حداثة، والأقرب إلى المعايير الغربية. والحق أننا إذا حكّمنا المعايير الغربية ذاتها فإن أول وصف يمكن أن ينالوه هو العنصرية، جراء تجاهلهم لحقوق الآخرين في التعبير وصولاً إلى حقهم في الحياة. يجوز لهذا النوع من المتنورين أن يقدّم نفسه كامتداد لأكثر نزعات اليمين الأوروبي عنصرية ووضاعة، لكنه سيُقابل بازدراء حتى من قبل اليسار الغربي الذي لم نتوقف عن انتقاد مواقفه من الثورات العربية. ولعل أردأ مفارقة هي التي تجلت بوجود مواقف متضامنة مع الناشر المصري خالد لطفي على خلفية الحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وهو يستحق التضامن بالتأكيد، بينما لم يتضامن أصحابها مع ضحايا الإعدام، ولا يُستبعد أن يكون التضامن مع لطفي مستبطناً ما هو مسموح به في دولة السيسي. على أية حال، إذا تجاوزنا الاعتبار الأخلاقي، وإذا اعتبرنا موقف هذا الصنف يندرج في إطار النكاية السياسية الرخيصة، سنكون إزاء بديهية بسيطة أثبتتها العقود الماضية من حكم العسكر، وهي أن غياب العدالة والديموقراطية ينمّي التطرف ومنطق الثأر.

الذين حكموا على الشبان المصريين وأنصارهم يعرفون ما سبق، وهم يعوّلون على واحد من احتمالين؛ إما تأديب الشعب بحيث لا يحلم بتكرار ثورته على مبارك، أو تغذية التطرف بحيث يُستغل كبديل محتمل لهم، كبديل يتم التخويف به داخلياً وخارجياً. إننا نخطئ عندما لا نؤكد على بنية هذه الأنظمة كمصنع للوحش، سواء أكان الوحش الخاضع لإمرتها، أو ذاك الذي تحرّضه في نفوس خصومها. لقد قيل من قبل، لمناسبة ثورات الربيع العربي، أن النظام القديم نجح إلى حد كبير في استيلاد معارضة تحمل العديد من شوائبه. مع التوحش الذي يرافق عودة النظام القديم، أغلب الظن أن دورة العنف الماضية ستكون بمثابة بروفة متواضعة على حمام الدم المقبل.

لا ننسى في هذا السياق أن الجيل الجديد من النظام القديم هو جيل خارجي تابع بالمطلق، السيسي مثلاً لا يخفي تبعيته لدول في الخليج تملك أموالاً “زيّ الرز”، مثلما لا تخفى تبعية بشار المطلقة للإيراني والروسي، أو تبعية المتصارعين في ليبيا واليمن. التبعية لمصدر القوة الخارجي كشف وسيكشف عن آليات توحش جديدة، لأن هذا النمط من التابعين لن يقيم أدنى وزن لداخل منقطع عنه، ولا يستمد منه أدنى شرعية لبقائه. ربما علينا الاستعانة بأصحاب نظريات المؤامرة ليشرحوا لنا هذا الانحدار المطلق في أحوال بلدان مثل مصر والعراق وسوريا، بلدان كانت في ما مضى تُعدّ مركز ثقل في المنطقة على كافة المستويات، ولا يُستثنى منها لبنان الذي أصبح رهينة حزب الولي الفقيه.

الدمار الذي تسبب النظام القديم بطبعته الأولى، وما يُتوقع من طبعته المستجدة، ينسجم تماماً مع إعدام تسعة شبان مصريين، كدفعة جديدة على الحساب ليس إلا، ولو بدت لا تُقارن بعشرات آلاف المعتقلين السوريين الذين أُعدموا بلا محاكمة. ولا يمكن أن نعزو إلى المصادفة أن البلدان المذكورة راحت تخلو من جيل الشباب، حيث تتوزع نسبة كبيرة منه بين معتقل ومنفي أو مهاجر وراغب في الهجرة، من دون أن ننسى في المقلب الآخر الشبان الذي تحولوا إلى وحوش في خدمة الوحش الكبير. إعدام المستقبل القريب يتم الآن، بما للتعبير من معنى فيزيائي لا معنوي فحسب، أما المستقبل الأبعد فقد لا يكون أفضل مع طفل نبت أول أسنانه وأبوه وراء القضبان قبل إعدامه، وقد يلاحقه مشهد أمه وهي تشير لأبيه بذلك بقية حياته.

المدن

مصر في مواجهة الأبد/ صادق عبد الرحمن

جاء تنفيذ حكم الإعدام بحق تسعة شبان مصريين صباح العشرين من شباط 2019، متزامناً مع ارتفاع حدة النقاشات حول التعديلات الدستورية في مصر. وليس التوقيت وحده هو ما يدفع إلى الربط بين الحدثين، بل قبل ذلك اندراجهما في مساريين متوازيين، الأول هو استمرار صدور أحكام السجن والإعدام بحق عشرات المصريين، في قضايا يبدو واضحاً من ملابسات معظمها أنها كيدية وسياسية؛ أما الثاني فهو مسار التراجع التدريجي عن كل المكتسبات الدستورية والسياسية لثورة يناير، وتمكين السيسي من كل مفاصل السلطة في البلاد.

في المسار الأول، يقف شبانٌ مصريون أمام السلطات القضائية دون أي ضمانات، ويتم تسريب فيديوهات لهم، يقولون فيها أمام القضاة إن الاعترافات قد انتزعت منهم تحت التعذيب، دون أن يؤدي هذا إلى إعادة النظر في الأحكام. وقد تم تنفيذ ما يزيد على أربعين حكم إعدام في مصر منذ العام 2014، كان آخرها إعدام الشباب التسعة المتهمين باغتيال النائب العام هشام بركات، فيما صدرت عشرات أحكام الإعدام الأخرى التي لم يتم تنفيذها بعد، في قضايا تتعلق باغتيالات وهجمات وأحداث عنف متعددة، معظمها ذات صبغة سياسية تتعلق بالصراع بين سلطة المجلس العسكري ومعارضيها، على غرار قضية «فض اعتصام رابعة»، ليكون ذلك كله رسالة مخيفة تجعل جميع المعارضين الجذريين للسلطة يشعرون أنهم مستباحون تماماً، ليس أمام عصابات أو جماعات مسلحة تمارس العنف المنفلت، وإنما أمام مؤسسات الدولة القضائية، المحمية بأجهزة أمنية وعسكرية يمكن أن تقود أي مقاومة لها إلى حبل المشنقة.

أما المسار الثاني الذي يصل إلى ذروته في هذه الأيام، فقد بدأ في أعقاب الإطاحة بحكم الأخوان المسلمين في حزيران 2013، وما تلاه من استيلاء المؤسسة العسكرية على السلطة، وإشرافها على صياغة دستور للبلاد عام 2014، تضمّنَ تراجعاً عن مواد عديدة في دستور 2012، كانت تكفل حداً معقولاً من توازن السلطات، وتنص صراحة على حياد المؤسسة العسكرية. وتم تمرير هذا الدستور في استفتاء أجري في ظل حالة الطوارئ، وفي أجواء من الترهيب والاستقطاب السياسي، الذي يستند أساساً إلى خطاب الحرب على الإرهاب، وإعلاء شروط الأمن والاستقرار على شروط الحرية والديمقراطية.

ورغم أن اللجنة التي أشرفت على صياغة دستور 2014، كانت مشكلة من موالين أو مقربين من المؤسسة العسكرية بشكل رئيسي، وتم إقصاء سائر القوى السياسية الأساسية التي كانت فاعلة في ثورة يناير منها، إلا أن دستور 2014 حافظ على بعض مكتسبات دستور 2012، مثل تحديد مدة الرئاسة في أربع سنوات لدورتين فقط، إذ لم تكن سلطة المجلس العسكري قادرة على التراجع دفعة واحدة عن كل خطاب ثورة يناير ومطالبها، وهي التي عادت للإمساك بالسلطة محمولة على حراك واسع تم اعتباره استمراراً لتلك الثورة.

بعد ذلك تم إجراء الانتخابات البرلمانية عام 2015، وفق قانون انتخابات أصدره السيسي باعتباره يملك سلطة التشريع دستورياً حتى ينعقد برلمان منتخب، وجاءت نتائجها في صالح النظام العسكري، الذي حاز أنصاره على معظم مقاعد البرلمان، في وقت كانت تيارات المعارضة تعيش تخبطاً وضعفاً شديدين تحت وطأة القمع، وغياب إي استراتيجيات واضحة للتعامل مع معطيات المرحلة الجديدة.

خلال الدورة الرئاسية الأولى لعبد الفتاح السيسي، تخلص النظام من أغلب الأصوات الإعلامية والسياسية المطالبة بالحرية والديمقراطية في الداخل، بالاعتماد على الاعتقالات والمحاكمات السياسية والتضييق الأمني وتلفيق التهم، وتم الاشتغال على صياغة خطاب إعلامي يحتل فيه السيسي موقع القائد الاستثنائي الملهم، الذي لا بديل له سوى الخراب والإرهاب، لتضيق يوماً بعد يوم جميع المساحات التي خلقتها ثورة يناير للعمل المدني والإعلامي والسياسي.

في ربيع العام 2018، فاز السيسي بولاية رئاسية ثانية في انتخابات لم تشهد أي منافسة جدية، ولم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 42% وفق الأرقام الرسمية التي أصدرتها السلطات المصرية نفسها آن ذاك. ومنذ اللحظة الأولى التالية لتلك الانتخابات، بدأ الحديث في الأوساط الإعلامية والسياسية الموالية للنظام، عن ضرورة تعديل الدستور بما يكفل ألا تكون الولاية الرئاسية الثانية للسيسي هي الأخيرة، تحت شعار أن مصر تحتاجه منقذاً في مواجهة الإرهاب.

ومنذ أواخر العام الماضي، بدأت الأخبار تتسرب تباعاً عن أن عملاً مكثفاً يجري لإعداد مسودة التعديلات، وعن أن هذا العمل يتم بإشراف جهاز المخابرات العامة المصرية بشكل رئيسي، وبإدارة محمود السيسي نجل الرئيس المصري، الذي بات يتمتع بموقع مميز داخل جهاز المخابرات، ليأتي التقدم رسمياً بطلب إجراء هذه التعديلات مطلع شباط الجاري خالياً من أي مفاجأة، واستكمالاً ضرورياً لمسار كان قد بدأ أصلاً منذ أكثر من أربع سنوات.

كان ائتلاف دعم مصر النيابي، صاحب الأغلبية البرلمانية، قد تقدم بمقترح التعديلات، ووافق عليها 485 نائباً، فيما عارضها 16 نائباً فقط، ليبدو الطريق معبداً أمام استكمال الإجراءات التي تمهد لعرض التعديلات على استفتاء الشعبي. وتنص التعديلات المقترحة على زيادة مدة الولاية الرئاسية إلى ست سنوات بدلاً من أربع، وعلى أن يسمح للرئيس بالترشح لولايتين متتاليتين فقط، مع نص خاص يسمح للرئيس الحالي بالترشح لولايتين جديدتين بعد انتهاء مدة ولايته الحالية عام 2022. كذلك تعطي التعديلات للرئيس حق تسمية رؤساء الهيئات القضائية ورئيس المحكمة الدستورية العليا، وتنص على أن من مهمات القوات المسلحة «صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد».

ثمة معارضة لهذه التعديلات من داخل البرلمان إذن، ورغم أن بعضها جاء عالي النبرة، كما في مداخلة النائب أحمد الطنطاوي، التي قال فيها إن التعديلات باطلة دستورياً، وإن فيها مادة «مفصلة خصيصاً لشخص واحد، ولم يغب عنها إلا أن نفتح قوسين ونذكر اسمه»، إلا أن هذه الاعتراضات كلها تبدو فاقدة لأي قيمة أو تأثير، بل العكس من ذلك، يبدو أنها تدفع إلى مزيد من الإحباط، إذ أن أحداً لا يستطيع أن يجادل في مخالفة التعديلات للمادة 226 من دستور عام 2014، التي تنص على أنه «في جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقاً بالمزيد من الضمانات»، ليكون السير في التعديلات بمثابة رسالة تقول إن السلطة العسكرية قادرة في كل وقت على خرق المواد الدستورية، بما فيها تلك التي توافق على إقرارها بنفسها.

تحاول قوى المعارضة في البرلمان وخارجه جمع شتاتها وتنظيم عملها لمقاومة التعديلات الدستورية، لكن دون أن يكون لديها استراتيجية موحدة لخوض المواجهة، إذ تختلف الآراء بين من يرى ضرورة المشاركة والتصويت بـ«لا»، وبين من يرى ضرورة مقاطعة العملية كلها، باعتبارها مسرحية محسومة النتائج، ولن تفيد المشاركة فيها سوى في منحها شرعية تفتقدها. وبالنظر إلى خريطة تيارات المعارضة، التي تشمل مروحة عريضة تضم قوى إسلامية وليبرالية واشتراكية وناصرية، تختلف فيما بينها حد التناقض في البرامج السياسية والاجتماعية، وفي مدى جذرية الموقف من النظام الحاكم، وفي النظرة إلى الأحداث التي شهدتها مصر بعد ثورة يناير، فإن من المؤكد أنها لن تستطيع الاتفاق على برنامج عمل موحد على المدى المنظور، رغم اتفاقها العام على رفض استفراد السيسي ومن خلفه المجلس العسكري بالسلطة.

كان عبد الفتاح السيسي قد أجاب على سؤال حول رأيه بالقادة الذين يتمسكون بالحكم إلى الأبد، بالقول إنه «لا يوجد أبد، فالأبد ينتهي بعمر الإنسان». هو الموت وحده إذن ما يقف حائلاً بين السيسي والبقاء في السلطة إلى الأبد، وإذ يعلم السيسي أنه ليس في وسعه هزيمة الموت، فإنه يعلم دون شك أيضاً أن الأبد المقصود هنا هو أبد الاستبداد والخوف والنهب، الذي يكشر عن أنيابه في وجه مصر.

موقع الجمهورية

مصر: ذهول ما بعد الإعدام…/ إيمان عادل

بشق الأنفس جاهد محمود الأحمدي كي يُبلغ قاضي التحقيقات أثناء جلسة المحاكمة يوم 16 /8/ 2016 ما تعرض له من تعذيب داخل مقر الأمن الوطني في لاظوغلي، وسط حال من البلبلة من جانب النيابة لمنعه من التحدّث. لكن محمود بدا مصمماً حينها، على رغم احتمالات تعرضه لمزيد من الانتقام في التحقيق، وكشف أمام القاضي والحضور في قاعة المحكمة عن ساقه وذراعه لتظهر آثار التعذيب…

بعد تلعثم، طالب محمود من قاضي التحقيقات عرضه ورفاقه المتهمين في قضية اغتيال النائب العام على الطب الشرعي لإثبات وقائع التعذيب.

كرر محمود جملته على مسامع القاضي، “يا فندم احنا بننطحن من رئيس المباحث ومن المأمور… اتكهربنا كهربا تكفي مصر لمدة عشرين سنة، ولو على الاعترافات، احنا بيتحقق معانا لمدة 20 ساعة كاملة يومياً. أديني يا فندم صاعق كهربائي واخليلك أي حد هنا يعترف أنه هو اللي قتل السادات”.

لم يأخذ القاضي بشهادة محمود ورفاقه، ولم تتم إحالته والمتهمين الآخرين في قضية اغتيال النائب العام للطب الشرعي بناء على طلبهم، بل أحيلت أوراقهم إلى المفتي.

تم تنفيذ حكم الإعدام فيه وثمانية آخرين فجر يوم الأربعاء الماضي. تراوحت أعمار الشبان الذين نفذ فيهم الإعدام ما بين 23 و30 سنة.

ظلّت كلماتهم حول تعرضهم للتعذيب ترن في عقول شرائح واسعة من الرأي العام الذي تداول بكثافة عبر “السوشيال ميديا” الشهادات المسجلة لهم أمام المحكمة.

بدا تنفيذ الإعدام في شبان اشتكوا بحرقة من تعرضهم للتعذيب وانتزاع اعترافات منهم بالقوة حقيقة ثقيلة أرخت بالكثير من التشكيك في نزاهة التحقيقات، وفتحت نقاشاً محتدماً حول ضرورة وقف التعذيب وإلغاء عقوبة الإعدام.

قبل تنفيذ حكم الإعدام توالت الدعوات للمطالبة بوقف الحكم، ووصفت منظمة العفو الدولية في بيانها عقوبة الإعدام بالعقوبة القاسية واللاإنسانية. وطالبت السلطات المصرية بأن توقف جميع عمليات الإعدام وأن تعلن على الفور وقفاً لتنفيذ أحكام الإعدام بهدف إلغاء العقوبة تماماً.

بعد تنفيذ حكم الإعدام أصيب الجميع بالحزن والفجيعة، بخاصة أصدقاء المتهمين التسعة.

يعيش محمود العناني حالة من الصدمة والذهول بعد تلقيه خبر إعدام صديقه أحمد وهدان. محمود صحافي وناشط سياسي وكان صديقاً لوهدان ويكاد لا يصدق أن الإعدام تم تنفيذه حقاً، خصوصاً مع الضعف الظاهر للأدلة التي تم الاستناد إليها في المحاكمة. يقول محمود لـ”درج”، “أحمد تم القبض عليه قبل اغتيال النائب العام بـ45 يوماً وشاب آخر ممن تم تنفيذ حكم الاعدام فيهم كان يمضي خدمته العسكرية أثناء اغتيال النائب العام وخرج من الجيش بعد ذلك بثلاثة أشهر… لم أتوقع تنفيذ حكم الإعدام. كنت أتخيل أنه سيتم وقف تنفيذه مثلما كان يحدث أثناء حكم مبارك”.

يقول محمود، “أعرف أحمد منذ عام 2013 من اعتصام رابعة وتطورت علاقتنا وكنا نشارك في التظاهرات سوياً. كان أحمد من المنادين بالسلمية، ودعا إلى محاكمة مرتكبي مجزرة رابعة. تعرض أحمد للإخفاء القسري، وتم احتجازه في الأمن الوطني. خلال المحاكمات أكد عدم علمه بالتهمة الموجهة إليه، وأنه اضطر للاعتراف أمام الكاميرات أثناء التحقيقات، والفيديوات التي أظهرت اعترافاته تم تصويرها قسراً كي يتوقف التعذيب”.

والإعدامات الأخيرة قد تكون الأكثر صدماً للرأي العام لكنها ليست الوحيدة فقد نفذت سلسلة أحكام إعدام في قضية المنصورة وفي قضية عرب شركس، على رغم أن القضاء الإداري حكم بعدم جواز الحكم أمام القضاء العسكري لكن كان قرار القضاء الإداري متأخراً بعدما تم إعدام المتهمين بالفعل!

عمل محمد العناني على تحقيق صحافي عن أحكام الإعدام في مصر بين عامي 2017 و2018. يقول إن هناك خمس قضايا تم تنفيذ حكم الإعدام فيها، على رغم أن كل قضية فيها ما لا يقل عن أربع إثباتات، تؤكد عدم قانونية حكم الإعدام الصادر وعدم صدقية تحريات المباحث التي تم الاستناد إليها في النيابة كأدلة ضد المتهمين.

“المنظومة نفسها فيها مشكلة إذ لا تتم مراعاة إجراءات الضبط ولا إجراءات التحريات واثباتات الدفاع، تخيلي قضايا المنيا والمنصورة لم يسمح أصلاً للدفاع بأن يدافع عن المتهمين، إذاًً كيف أثق في ضمير هذه المنظومة في إصدار حكم على متهم بإزهاق روحه؟”.

يقول العناني: “منطق عقوبة الإعدام منطق غير إنساني، تمكن معاقبة الإنسان بعقوبة سالبة للحرية، غير سالبة للروح الإنسانية، الإعدام للأسف يقتل روح العقاب ويحوله مجرد انتقام. لنفترض أن بعد سنوات اكتشفنا براءة المتهمين بعد إعدامهم، في هذه الحالة العقوبة لا رجعة فيها لأن المجني عليه مات”.

لم ينس العناني مشهد أصدقائه وهم يطلبون من القاضي إحالتهم للطب الشرعي، والقاضي غير مهتم، يقول العناني: “المتهم يقول اتعذبت والقاضي لا يأخذ اجراءً ولو صورياً فهل هذه منظومة عدالة؟ الإنسان تثبت عليه تهمة في حالتين: أن يعترف بكامل إرادته وقواه العقلية من دون إكراه أو ضغوط أو تعذيب، أو أن يكون هناك دليل مادي ملموس وممسوك تم تحريزه بشكل قانوني… كل دي مبادئ قانونية بسيطة جداً لا تراعى في المحاكم المصرية”.

العناني أشار إلى أن المتهمين في مصر لا يحاكمون أمام قاضي عدل وفق المنظومة التقليدية، فالحاصل اليوم هو أنه يتم تشكيل دوائر معينة تسمى دوائر الإرهاب ويتولاها قضاة محددون، “هذا يقتل فكرة العدالة، لأنه يثبت انحياز القضاة إلى السلطة القائمة. اليوم القضاة لا يعبرون عن مواقفهم السياسية فقط، بل يحكمون بناء على مواقفهم السياسية علناً وهذا صلب اعتراضي على أحكام الإعدام عموماً”.

“ك. ن” كان زميلاً لأحمد وهدان في كلية الهندسة ويقول عنه: “كان أحمد أكبر مني بـ3 سنوات. هو ابن طه وهدان عضو مكتب الإرشاد من الاسماعيلية، ولفترة كان متحدثاً رسمياً باسم شباب الجماعة. كانت تحدث بيننا سجالات ونقاشات فكرية وسياسية… أنا شيوعي وهو اخواني. كنا نتبادل الكتب، أتذكر أنه استعار مني كتاب “الانفجار” لهيكل وحتى الآن ما زالت هناك صفحات طواها بيده داخل الكتاب على حالها معي، أحمد هو من كتب البيان الشهير الذي قال فيه إن شباب الإخوان اخطأوا بالنزول إلى الميدان بعد مئة يوم من تولي مرسي ولم يكن هناك داع للاشتباك مع المتظاهرين. كان ضد الاشتباك. أحمد أصيب في رأسه حينها. في ذلك اليوم التقيته وضحكنا، ثم افترقنا لفترة بسبب تطورات السياسة، ثم هاتفته يوم 3 تموز/ يوليو 2013 وقلت له ممازحاً، يوم ليك ويوم عليك يا حلو، وافترقنا ثانية حتى علمت أن اسمه ضمن الأسماء المتهمة باغتيال النائب العام وصدمت حين وصلني خبر إعدامه، وشعرت بالأسى سواء كان أحمد مظلوماً أو حتى مذنباً”.

المحامية دعاء مصطفى مديرة وحدة العدالة في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، كانت من المحامين الأساسيين في الدفاع عن المتهمين في قضية اغتيال النائب العام. تقول لـ”درج”، “كل المتهمين في قضية النائب العام تعرضوا للإخفاء القسري والتعذيب وأجبروا على الاعترافات، كما تم تعذيبهم بصاعق الكهرباء وبالضرب والتعليق. كل هذه الوقائع تم ذكرها في المحاضر الرسمية، وذكرها المتهمون في المحكمة لكن لم يتم التحقيق فيها أو تحويلهم إلى الطب الشرعي”.

تؤكد دعاء معارضتها عقوبة الإعدام، لأن ما يحصل في المحاكمات في مصر لا يعدو كونه إجراءات معيبة وليس فيها أي ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة. تلفت دعاء إلى أن هناك 143 دولة على مستوى العالم أوقفت عقوبة الإعدام، ما عدا دول قليلة جداً منها مصر والسعودية وإيران، حتى تونس بسبب الثورة تم تجميد تنفيذ عقوبة الإعدام فيها.

كانت دعاء تعمل مع أهالي المتهمين في قضية اغتيال النائب العام على الإجراءات الدولية لوقف تنفيذ الحكم، لكنها فوجئت باتصال يخبرها بنقل المتهمين إلى سجن الاستئناف من أجل تنفيذ الحكم “حاولنا أن نوقف التنفيذ من خلال المراسلات مع أكثر من جهة، لكن للأسف الدولة نفذت حكم الإعدام”.

تقول دعاء: “الجثامين وصلت مشرحة في عربة الترحيلات يوم الأربعاء صباحاً بعد تنفيذ الإعدام بـ3 ساعات مع جثامين جنائيين آخرين تم تنفيذ أحكام الإعدام فيهم. لم يتم تسليم كل جثامين المتهمين في قضية اغتيال النائب العام. يوم الأربعاء تم تسليم جثمانين والخميس تم تسليم أربعة جثامين، وهناك ثلاثة جثامين أخرى لم يتم تسليمها، سيتم تسليمها يوم السبت، تسليم الجثث على مراحل فيه نوع من التعنت وعدم مراعاة للأهالي”.

تم رصد تنفيذ 15 حكماً بالاعدام على 15 متهماً منذ شباط/ فبراير هذا العام، وفي السنة الماضية تم تنفيذ 35 حكماً بإعدام متهمين سياسيين…

تؤكد دعاء مصطفى أن تشكيل دوائر الإرهاب للتحقيق في قضايا سياسية هو، “إجراءات استثنائية تهدف إلى تسييس القضاء واصدار أحكام استثنائية على المتهمين السياسيين. وللأسف حتى المحكمة الإدارية التي أصدرت حكماً ببطلان تنفيذ حكم الإعدام في قضية عرب شركس ليست لديها درجة ملزمة من درجات التقاضي”.

طاهر مختار معتقل سياسي سابق، قال لـ”درج” إنه ضد عقوبة الإعدام، وأوضح سبب ذلك من خلال شهادته التي سمح لنا بالاستعانة بها ونشرها، حيث روى تفاصيل عاشها في السجن، “أي متهم تم سجنه في مصر أو عمل على قضايا معتقلين سابقين بخاصة الإسلاميين يعرف أن التعذيب الوحشي هو القاعدة وليس الاستثناء، من فترة الإخفاء القسري حتى الترحيل إلى أمن الدولة، والتعذيب يكون بوسائل وحشية قد تقتل المتهم إذا لم يعترف، وهذا التعذيب ليست له مدة محددة، والضباط يعلمون أنهم فوق المحاسبة حتى إذا مات المتهم، كما حدث في أكتر من واقعة، كـقتل إسلام عطية أو قتل المحامي كريم حمدي. في النهاية المتهم لا يصمد ويقر باعترافات ظابط أمن الدولة”.

ويضيف طاهر مختار في شهادته: “دور النيابة العامة تخدير المتهم بالقول بوعده بأن يُعرض على الطب الشرعي، لكن ذلك لا يحدث لإثبات آثار إصابات التعذيب”.

في شهر نيسان/ أبريل من العام الماضي أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بياناً بعنوان “القضاء المصري لا يعرف سوى أحكام الإعدام”، قالت فيه إن المحاكم المصرية باتت تصدر أحكاماً مطلقة بالإعدام، من دون محاكمة عادلة ونزيهة للمتهمين في القضايا بسبب انتمائهم السياسي، وصدر في نحو 20 قضية إحالة لمفتي الجمهورية تهميداً للإعدام. ووصلت أوراق 1450 شخصا إلى المفتي، ثبت منها نحو 520 حكماً، و8 أحكام منها نافذة بشكل نهائي بعد تصديق الحكومة المصرية عليها، إضافة إلى تنفيذ الحكم بالإعدام شنقاً بحق مواطن واحد في آذار/ مارس الماضي بينما ينتظر 6 المصير ذاته بعد تصديق رئيس الجمهورية الحالي على إعدامهم.

ورأت المنظمة أن تلك الأحكام بمعظمها لا ترتكز على سند قانوني في صدورها، ولم تُراعِ شروط العدالة والنزاهة، وأثبتت هذه المحاكمات فشل مصر في احترام تعهداتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، وخصوصاً في ما يتعلق بالإجراءات القانونية الواجبة وضمانات المحاكمة العادلة، بخاصة بعد رفض مصر أهم توصيات الاستعراض الدوري الشامل في ما يتعلق بإلغاء أحكام الإعدام.

وقالت المنظمة إن العدد الكلي للإعدامات التي تنفَّذ سنوياً على مستوى العالم يبلغ قرابة 700 حالة، ما يجعل الأحكام المذكورة في مصر أكبر عقوبة إعدام جماعي في التاريخ الحديث.

ومن جانب آخر، فإن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية لم توقف نداءاتها وبياناتها لأعوام متواصلة، في دق جرس الإنذار في موضوع تزايد الحكم بالإعدام في مصر، فمع رصد معدل البيانات التي تصدرها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، نرى أن المبادرة تصدر ما لا يقل عن ثلاثة بيانات شهرياً، لكن هذه البيانات لا يتم الالتفات إليها، ولا تصديرها إعلامياً، على رغم توثيقها عدداً كبيراً من أحكام الإعدام في قضايا سياسية، بناء على محاضر ووثائق من داخل المحاكم المصرية.

المبادرة المصرية أصدرت أيضاً التقرير السنوي الذي تعده بالتعاون مع مركز عدالة للحقوق الشخصية، بعنوان “باسم الشعب… التقرير السنوي عن عقوبة الإعدام في مصر”. رصد التقرير في فصله الثاني أنماط الانتهاكات التي تَعرَّض لها بعض المتهمين المحكوم عليهم بعقوبة الإعدام حضوريّاً أثناء سير القضايا. وتعرض 32 متهماً على الأقل في 8 قضايا إخفاء قسري، بينما باشرت النيابة التحقيق مع 50 متهماً على الأقل، على رغم غياب محاميهم أثناء فترات التحقيق، وتراجع 42 متهماً، حُكِم عليهم بالإعدام على الأقل عن اعترافاتهم السابقة لكونها نتيجة تعذيب، ووثقت المحكمة أثناء مناظرة 13 منهم على الأقل وجود آثار في أجسامهم، كما طلب 22 منهم على الأقل عرضهم على الطب الشرعي. وإضافة إلى هذا، قامت وزارة الداخلية بتصوير مقاطع فيديو تُظهِر 11 متهماً وهم يدلون باعترافات، ونشرها، أثناء فترات التحقيق معهم، وتم توثيق شكاوى 22 متهماً – على الأقل – من سوء الأوضاع في السجون، وحُكم عليهم بالإعدام أمام هيئة المحكمة.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى