منوعات

قليلٌ من الضجر ..


“أشعر بالملل”، إنها عبارة صغيرة تافهة، إلا أن لها القدرة على جعل الوالدين يدخلان في سلسلة من الشعور بالقلق والانزعاج والذنب. إن شعر أحد أفراد العائلة بالملل، فالسبب هو أن شخصاً آخر فشل في الإرشاد، أو في إثراء حياتهم، أو في إبقائهم منشغلين. وكيف يمكن لأي شخص -بالغاً كان أو طفلاً- أن يدعي الملل حين يوجد الكثير مما يمكن أو ينبغي فعله في الحال؟

لكن الملل شيء ينبغي عيشه بدلاً من التخلص منه بسرعة، ولكن ليس باعتباره أسلوباً من أساليب التربية الفيكتورية التي يُنصح بأنها مريعة وتجعلك أكثر صلابة. وعلى رغم الدرس الذي تعلمه معظم البالغين أثناء نشأتهم – فالشعور بالملل خاص بالأشخاص المملين- إلا أن الملل مفيد. وهو شعور نافع لك.

وما لم يدرك الأطفال ذلك في مرحلة مبكرة، فهم على موعد مع مفاجأة مزعجة. فالمدرسة مثلاً -لنكن صريحين- قد تكون مضجرة، وليست مهمة المعلم أن يقوم بتسلية الأطفال بقدر تعليمهم. كما أن الحياة ليس حرياً بها أن تكون سلسلة لا متناهية من مواكب التسلية. “بلى”، هكذا قالت الأم لابنتها في رواية ماريا سيمبل التي صدرت عام 2012 بعنوان Where’d You Go, Bernadette، وأكملت “أنت تشعرين بالملل، وسأخبرك بسر صغير عن الحياة. هل تظنين أنك تشعرين بالملل الآن؟ حسناً، سيستمر الملل في التفاقم. وكلما أسرعتِ في إدراك أن جعل الحياة مشوقة هو مهتمك أنتِ، صرت أفضل حالاً”.

كان الناس في ما مضى يتقبلون فكرة أن الحياة مملة في معظمها، والمذكرات التي كُتبت عما قبل القرن الحادي والعشرين حافلة بالملل. وفي غير أوقات مكوثهم في حجرات الرسم، كان أفراد الطبقة المترفة يذهبون في جولات مشي مُطوّلة ويحدقون في الأشجار. ثم صاروا يقودون السيارات ويحدقون في الأشجار. وكان الأمر أشد صعوبة على العاملين، إذ كانت الوظائف الزراعية والصناعية مخدرة للعقول في أغلبها؛ وكانت قلة من الناس فقط هي التي تتطلع إلى إرضاء رغباتها من خلال العمل مدفوع الأجر. كان الأطفال يتوقعون مستقبلاً مشابهاً، وتقبلوا تلك الفكرة منذ سنٍ مبكرة، وكانوا يُتركون وحدهم من دون أي شيء سوى أرفف الكتب وفروع الأشجار، ثم البرامج التلفزيونية المسائية السيئة بعد ذلك بفترة.

بعد ذلك ببضعة عقود فقط، أثناء عصر سابق من قصور التربية، اعتقد البالغون أن شعور الملل بقدر معين هو أمر مقبول. وقدّر الأطفال جداولهم الفارغة. وفي مقابلة مع مجلة GQ، أرجع لين مانويل ميراندا الفضل في تعزيز إلهامه إلى المساءات التي كان يُترك فيها وحده. ويعلل ذلك قائلاً “ليس هناك أفضل من صفحة بيضاء أو حجرة خالية للتحفيز على الإبداع”.

حالياً يُعتبر تعريض الطفل لمثل تلك الحالة من السكون تقصيراً في الواجب الأبوي. وفي مقال صحيفة التايمز The Relentlessness of Modern Parenting، الذي حاز قراءاتٍ كثيرة، استشهدت الكاتبة كلير مين ميلر بدراسة حديثة خلصت إلى أنه بغض النظر عن الطبقة والدخل والعرق، اعتقد الآباء والأمهات أنه “ينبغي إشراك الأطفال الذين يشعرون بالملل بعد المدرسة في نشاطات غير دراسية، وأنه من واجب الآباء المشغولين أن يتركوا مهماتهم ويرسموا مع أطفالهم إذا ما طُلب منهم ذلك”.

تجب الاستفادة من أوقات الفراغ واستغلالها إلى أقصى حد وتوجيهها إلى هدفٍ ما.

عندما لا يكونون تحت أنظار الآباء، يُترك الأطفال مع أجهزتهم الرقمية الخاصة. وصار الآباء الذين يحضّرون لرحلةٍ طويلة بالسيارة أو بالطائرة أشبه بضباط الجيش وهم يخططون لمناورة هبوط مُعقدة. ما هي الأفلام التي يجب أن يضعوها على “آي باد”؟ هل نبدأ متابعة مدونة صوتية ملائمة للعائلة؟ هل هو وقت مناسب للسماح للأطفال بلعب Fortnite إلى أن يتململوا في المقعد الخلفي لكثرة استغراقهم فيها؟ ماذا كان آباء السبعينات يفعلون عندما كان أطفالهم يضجرون أثناء رحلة العودة؟ لا شيء. كانوا يتركونهم يتنفسون عوادم الوقود، أو يعذبون أشقاءهم، أو يلعبون بحزام الأمان المعطل – بما أن أحداً لم يكن يرتديه.

كنتَ إذا اشتكيت من الملل وقتها وكأنك تبحث عن المتاعب. قد تتلقى رداً مثل “اذهب إلى الخارج” أو ما هو أسوأ “نظف غرفتك”، هل كان ذلك ممتعاً؟ لا. لكن هل كان مفيداً؟ أجل.

لأن الأشياء غير المتوقعة تحدث عندما تكون ضجراً. كانت بعض أكثر الوظائف التي شغلتها مللاً هي أيضاً الأكثر إبداعاً. أثناء عملي في أحد مصانع الاستيراد بعد المدرسة، حيث كنتُ أُلصق الصور على كنزات بيورفية (من البيرو) قبيحة على أوراق الإعلانات. كانت يداي تصبحان مغطاتين بالصمغ في حين تبدو الكنزات كتلاً متشابهةً عديمة الملامح. ولسبب غير معلوم كانت رائحة الدبس تفوح من كل شيء. ولم يكن أمامي خيار سوى الانجراف إلى عالم خيالي واسع. القصص تنبثق عندما تكون ضجراً. وأثناء تفقدي أغراض البقالة في المتجر، اخترعتُ قصصاً تتعلق بمشتريات الناس. الرجل الذي يتشري باذنجاناً وعلبة بها 6 زجاجات جعة في الساعة التاسعة مساءً؛ أفكر أيهما كان السلعة التي يجب شراؤها وأيهما كان السلعة الإضافية؟ أو كيف شعرت معلمتي في الصف الخامس حين كنت أراقبها وهي تشتري بسكويت الفول السوداني؟

وبمجرد أن تعتاد جيداً على التأثير المخدر للملل، ستجد نفسك على طريق الاكتشاف. وبرتابة، ستبدأ الفوارق الصغيرة بين تلك الأشجار أو الكنزات بالظهور. وهذا هو السبب في أن كثيراً من الأفكار المفيدة تأتي أثناء الاستحمام، عندما تكون مقيداً بنشاط ممل. حينها تترك عقلك يتجول حراً وتتبعه أينما يذهب.

بالطبع ليس الملل في حد ذاته هو المهم، بل كيف تستخدمه. عندما تصل إلى نقطة الانفجار، يعلمك الملل أن تستجيب بأسلوبٍ بنّاء، وأن تصنع شيئاً لنفسك. لكن ما لم نكن في مواجهة نظام ثابت من الملل المُحبِط، فلن نتعلم الطريقة.

ليست الفكرة هي أن تعاني الضجر المُدمر لأجلٍ غير معلوم مثل نيفيل (N تشير إلى نيفيل الذي مات ضجراً) في كتاب The Gashlycrumb Tinies. بل في أن تتعلم كيف تتغلب عليه، وقد يأتي ذلك في أشكال عدة: قد تتجه إلى داخلك وتبدأ التفكير، وقد تمد يديك إلى كتاب تقرأه، وقد تتخيل انتقالك إلى وظيفة أفضل. يقود الملل إلى رحلات خيالية، لكنه في النهاية يقود إلى تهذيب النفس – إلى أن تصير واسع الحيلة.

ليس مفاجئاً أن القدرة على تحمل الملل مرتبطة بالقدرة على التركيز والتنظيم الذاتي. وقد أظهرت الأبحاث أن من يعانون من اضطرابات في الانتباه معرضون أكثر من غيرهم للملل. ويبدو معقولاً أن ما يبدو آسراً وجذاباً في البداية في عالمٍ مُفرط التحفيز، يبدو الآن أقل جاذبية، وما كان يصرف الانتباه قليلاً في ما سبق، صار الآن شديد الملل.

ويكون الأمر أكثر أهمية أن يُصاب الأطفال بالملل -وأن يسمح لهم باختبار ذلك الشعور- وهم في سنٍ صغيرة. وألا يتم تناول الموضوع باعتباره “مشكلة” ينبغي تجنبها أو علاجها من جانب الكبار، بل شيء يجب أن يتعامل معه الأطفال بأنفسهم.

لقد توقفنا عن تعليم الأطفال ذلك. وبدلاً من تعليمهم استيعاب مواد أكثر مللاً وذات بُعدين، مثل حال الكثير من المعلومات القيّمة، صارت المدارس تستسلم لما تقول إن الأطفال يتوقعونه: المتعة. يقضي المعلمون أوقاتاً أطول في التحضير لطرقٍ لـ “إشراك” التلاميذ من خلال المواد المرئية و”التعليم التفاعلي” (أو بكلماتٍ أخرى: الشاشات والألعاب)، الذي يتلاءم مع نطاق انتباهم الذي لا يتعدى ألعاباً مثل كاندي كراش. لن يستمع الأطفال إلى المحاضرات الطويلة، ولن يحضروا المناقشات، لذا فهو واجبنا نحن أن نقدم التعليم في حصص أصغر يسهل ابتلاعها.

لكن المؤكد هو أن تعليم الأطفال أن يصبروا على الملل بدلاً من زيادة المتعة سيجهّزهم إلى مستقبل أكثر واقعية، مستقبل ليس فيه توقعات زائفة عما ينطويه العمل أو الحياة نفسها. في يومٍ ما، حتى وهم يعملون في وظيفةٍ يحبونها، سيكون على أطفالنا قضاء يوم كامل في الرد على الرسائل الإلكترونية المتبقية من يوم الجمعة. قد يكون عليهم فحص جداول البيانات، أو مساعدة الروبوتات في مستودعات ضخمة مُجهّزة بالإنترنت.

قد تقول إن ذلك يبدو مملاً. لكن هكذا هي الوظائف وهكذا هي الحياة. ربما علينا الاعتياد عليها مجدداً، واستغلالها لصالحنا.  ربما في عالمٍ دؤوب أكثر تطلباً، يمكننا أن نبلي حسناً بمتعةٍ أقل.

الموضوع مترجم عن nytimes.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الموقع التالي.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى