كتب الكترونية

كتاب النوم” انحياز لرهانات الأدب الخاسرة!/ أحمد ندا


لا يقيم هيثم الورداني في إصداره الجديد “كتاب النوم” عن دار الكرمة حساباً لعواقب مغامرة يخوضها مع قارئه، فثمة إصرار من البداية على الدخول إلى أرض جديدة بناءً وموضوعاً في الكتاب، لتكون طبيعة المغامرة رهاناً على الخسارة، باعتبار الموضوع “النوم” لا الأحلام ولا المنامات، ثم البناء المتشظي، خروجاً على المألوف في صنعة الأدب.

لن يجد القارئ تصنيفاً على غلاف الكتاب، عنوانه واسم كاتبه فحسب، ربما يظن للوهلة الأولى أن ذلك التصنيف سقط سهواً من الناشر، لكن سيعرف لا محالة “الورطة” التي دخل إليها، سواء كان المنتظَر كتاباً “علمياً” عن النوم، أو من هو على دراية بالكاتب لينتظر مجموعة قصصية جديدة!

في 130 صفحة، يفتت الورداني قناعات وجماليات ومفاهيم حول ماهية الأدب، باعتباره النقيض السردي للفكر (كما في التعبير باللغة الإنكليزية عن الأدب بلفظة fiction أي خيال، والكتب الفكرية بلفطة nonfiction) هذه الثنائية التي تقود منطقاً فنياً للحكم على النصوص؛ فكثيراً ما يقال في الكتابات النقدية إن الكاتب “أفرط في التنظير/ التجريد/ الذهنية” باعتبرها سمة “معيبة” في النص الأدبي، على الناحية الأخرى كثيراً ما عاب المعنيون بالكتب الفكرية “إغراق كاتبها في التعبيرات الأدبية” كأنها مضلل للمعنى. في المنطقة الإشكالية بين العالمين، يقدم هيثم الورداني نصوصه عن النوم.

في مقال للفيزيائي والشاعر ريموند تاليس “ملاحظات نحو فلسفة للنوم”، يقول “من السهل أن نفهم السبب الذي جعل الفلاسفة ـ إجمالاً ـ يتجنبون الحديث عن النوم. فأولئك الذين يعتبرون الغرض من الفلسفة هو إنماء حالة الصحو والإفاقة هم أجدر الناس باتخاذ النوم عدواً لهم.. لا يقتصر أمر النوم على مجرد تذكرته إيانا بقلة حيلتنا المطلقة، أو حتى بمحدودية المكان الذي يلعبه التفكير أحياناً في حيواتنا، فعلاوة على ذلك هناك الخوف من العدوى، وكأنما الكلام عن النوم يغري به”. عبر تاريخه كان النوم بالنسبة إلى الفلاسفة عدواً للوعي، باعتباره عملية تغييبه، كما في سخرية نيتشه “طوبى للناعسين فما أسرع ما يسقطون”. بخلاف الحلم الذي هو بوابة الخيال الواسعة، ومادة الكتابة الخصبة المتخففة من شروط الواقع ومنطقيته المحكمة. وهو التناقض الذي لم يستوقف الكثيرين، باعتبار أن النوم هو بوابة الحلم، فكيف يمكن خلق وعي عبر تغييبه؟

وعى هيثم الورداني لهذا التجنب التاريخي؛ إذ إن “التاريخ لا ينتظرُ النيامَ حتى يستيقظوا، وإنما يكتبه المستيقظون وحدهم. إذ ما الذي يستحق التسجيل في ساعات النوم لكي يجعل كتب التاريخ تضعها في حُسبانها؟.. وهكذا ظَلّ النوم على مرّ السنين مبثوثاً فوق صفحات التاريخ كهباء منثور. قد يُختَزَل على شكل حلم هنا، أو رؤيةٍ هناك، وما عدا ذلك يبقى خارج تلك الصفحات، روحاً تهيم في كل ما لم يُكتب فيها. الإجابة التي يقدّمها النوم على هذا الاستبعاد هي التكرار.

ما يجعله يطرح تساؤلاً وجودياً كبيراً حول هذه الساعات المهدرة التي تقتطع قسماً كبيراً من عمر الإنسان، وبالتالي الإنسانية، كيف غابت عن التدوين؟: “تُرى ماذا يمكن لإنسان التاريخ أن يفعله أمام هذا الهدر اليومي؟ ماذا يمكن أن يفعل بكل ساعات النوم تلك؟ يقلّصها قدر الإمكان؟ ينساها تماماً فور استيقاظه؟ يكبسها فوق بعضها ويجعل منها رقائق ثم يأكلها؟ يسير وسطها كما يسير وسط أوراق الخريف؟ يترك نفسه لها؟ ماذا يفعل؟!”، ثم يسرد في مقاطع تالية وسابقة، حكايات وأفكار وكتابة برهافة شعرية حول هذا الفعل المنسي؛ أليست واحدة من مميزات الأدب، وقوته، هي التقاط ما يعجز التاريخ عن تدوينه؟

من اللافت في هذا الكتاب اشتباك كاتبه مع الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين على عدة مستويات، منها حضور أفكاره ومفاهيمه حول النوم لا بوصفه فعلاً فردياً، لكن ممارسة جماعية، إذ “إن كل استيقاظ حقيقي هو إعادة تشكيل للواقع. ويصف تقنيةً لهذا الاستيقاظ، وهي استعادة ما مضى لا كمنبع ثابت للمعرفة، ولكن كمادة متفجرة يمكن تفخيخ الحاضر بها”. ثم يشتبك مع الفكرة البنيامينية باعتبار النوم – كمجاز دال – يأتي كنتيجة لا سبب، النوم بمد الخط على استقامته باعتباره فشلاً.

مستوى آخر من الاشتباك مع الفيلسوف الألماني، بتفكيك ثنائية اليقظة والنوم لديه باعتبارهما نقيضين، بطرح احتمالية أنهما تأويلين لفكرة “الواقع” فاليقظة هي “إعادة تشكيل الواقع” والنوم هو “انعكاس لأزمته”، ما يضعنا في أسر السؤال الكاشف للتناقض: أليس الحلم “مادة النوم الهائلة” هي تفكيك لعناصر الواقع لإعادة بنائها عبر ماكينة اللاوعي؛ الذات على مسافة من واقعها بغرض إعادة إنتاجه على هيئة جديدة؟

ولعل حضور بنيامين الأكثر هيمنة في الكتاب، لا في الاشتباك مع أفكاره، لكن في التأثر الواضح ببنائه السردي في كتب، وهو الفيلسوف الذي استطاع أن ينتج نصوصاً تقع في المساحة بين الأدب والفلسفة، نصوصه في “طفولة برلينية” و”شارع ذو اتجاه واحد” ومقالاته عن كافكا وبروست وبريخت وغيرها. يبدو الورداني في هذا الكتاب قد رأى في هذا البناء السردي مساحة وافرة من الأدب لم تستغل.

ليس من المتوقع إمكانية التقاط نسق من نصوص الكتاب، أو “ثيمة” سردية ما، باستثناء الموضوع على الغلاف، فالنصوص تراوح بين الذات الحاضرة في مواجهة نظرية، أو حكايات، انتبه من الفخ، فهذه الحكايات هي منتَج مصنع النوم/ الأحلام على شاكلة نصوص تبحث مثل النائم تماما عن لغة تنزلق فيها المعاني إلى ما لا نهاية؛ وثمة ما يغري بالانزلاق الدائم في لغة المقاطع، مقدرتها على مد خط من الانسجام بين نصوصه المكثفة، وإن اختلفت طبيعة الموضوعات.

ربما ليس على القارئ أن يستقبل نصوص الكتاب بعين واعية لا تستبق النتائج، ربما عليه أن يتعاطى مع الكتاب نفسه بوصفه نائماً، أي أنه منتم إلى جسد اسمه الأدب، لكنه انتماء مفتوح على جسد آخر، نأى به عن التصنيف المسبق، واستعداد لاستقبال جماليات جديدة، رهانها على ما لا يألفه الأدب.

لتحميل الكتاب من الرابط التالي

كتاب النوم/ هيثم الورداني

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى