سياسة

التنف والكوريدور الإيراني/ إياد الجعفري

 

 

لا نعرف بعد إذا اقتربت لحظة تفكيك قاعدة التنف العسكرية، وانسحاب الأمريكيين منها، حسبما روّج الإعلام الروسي مجدداً. لكن ما يبدو جلياً للغاية، أن حديث أمريكا عن أحد الأهداف الرئيسية لوجودها في سوريا، والذي يتعلق بإخراج إيران، هو أمر غير مفهوم، إن علمنا بأن الأمريكيين يراقبون من قاعدة التنف، نشاط الميليشيات المدعومة إيرانياً، عبر الحدود العراقية – السورية، في ما بات يُدعى إعلامياً بـ “الكوريدور الإيراني”. وذلك من دون أي تدخل أمريكي.

قاعدة التنف العسكرية الأمريكية القابعة عند مثلث الحدود السورية – العراقية – الأردنية، باتت محاصرة بشكل شبه كامل، من الجانبين السوري والعراقي، بميليشيات موالية لإيران (الحشد الشعبي في العراق، وميليشيات شيعية وأخرى تتبع لنظام الأسد في سوريا). وباستثناء نقطة الحدود مع الأردن، يبدو أن الهدف الروسي الذي عملت عليه موسكو، لأكثر من سنة، لتطويق النفوذ الأمريكي في البادية السورية، وحصره في قاعدة التنف، قد تحقق. لكن هل كان ذلك دون رغبة أمريكية؟ يجادل بعض المراقبين بأن “التنف” ذات أهمية استخباراتية، تتعلق بمراقبة نقل الأسلحة والذخائر، ونوعية هذه الأسلحة والذخائر، المنقولة بين إيران والعراق إلى سوريا، ووصولاً إلى حزب الله في لبنان. وهذا يعني ببساطة، أن دور الولايات المتحدة الأمريكية في مكافحة الوجود الإيراني في سوريا، وامتداداته إلى حزب الله في جنوب لبنان، على الحدود مع إسرائيل، ينحصر فقط، بالمراقبة.

تسيطر إيران اليوم على خط الحدود من جنوب البوكمال وحتى ما قبل دائرة الـ 55 كيلومتر، عند التنف. وتدير عبره معبراً عسكرياً، يمر بالقرب من محطة الكم النفطية جنوب البوكمال، حسب مصادر ميدانية من المنطقة. وعبر هذا المعبر العسكري، تمرر إيران ما تريد من ذخائر وأسلحة، إلى ميليشياتها المقاتلة في سوريا، ومن دون شك، إلى حزب الله في لبنان. وهذه المعادلة الميدانية قائمة في البادية السورية منذ أكثر من سنة. ولم تقم الولايات المتحدة بأي تحرك جدّي حيالها، بل على العكس، أجهضت، قبيل سنة وبضعة أشهر، وفي اللحظات الأخيرة، تحركاً لفصائل معارضة سورية، كانت في طريقها للقتال في دير الزور، ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. حينها، أُشيع عن صفقة أمريكية – روسية تم بموجبها تقسيم الجزيرة السورية، بالاعتماد على خط نهر الفرات، كفاصل بين شرق، يكون من نصيب الأمريكيين، وغرب من نصيب الروس والإيرانيين. وبموجب تلك الصفقة، التي لم ينكرها أي من الطرفين، الأمريكي والروسي، أوقفت واشنطن تحرك فصائل المعارضة التي ينحدر الكثير من مقاتليها من دير الزور، والتي تُركت بدورها للميليشيات الإيرانية والأسدية، بغطاء جوي روسي. وقبل بضعة أشهر، وفيما كان دونالد ترامب يفعّل حزمة أولى من العقوبات ضد إيران، كان في الوقت نفسه، ينجز اتفاقاً بتسليم الجنوب السوري للروس، وفق شروط، تبعد الإيرانيين لمسافة محددة عن الحدود مع إسرائيل والأردن، وليس أكثر من ذلك.

اليوم، تحوّل مخيم الركبان، إلى أسوأ مخيم للنازحين السوريين. أولئك النازحون التجأوا إلى المنطقة الصحراوية القاحلة، متأملين في حماية القاعدة العسكرية الأمريكية القريبة في التنف، وبالقرب من الحدود الأردنية. لكن ذلك لم يمنع عنهم تداعيات حصار اشتدت وطأته في الأشهر الأخيرة. وتُظهر حكومة الأردن بالذات، الجار الحليف للأمريكيين، لامبالاة واضحة حيال ما يحدث في المخيم، الأمر الذي يذكّر بسيناريوهات ما قبل التسليم للنظام السوري، والتي كانت تعيشها المناطق المحاصرة، في أكثر من بقعة سورية. وهو ما يوحي بوجود إرادة أمريكية بالتخلي عن القاعدة، وعن الفصائل المعارضة التي رهنت مصيرها بالإرادة الأمريكية داخل القاعدة، وكذلك التخلي عن مدنيين محاصرين في المنطقة، وتركهم لمصيرهم المشؤوم تحت قبضة النظام بتعهدات روسية أثبتت هشاشتها في حالات مشابهة.

يفسر مراقبون التهاون الأمريكي في الدفاع عن التنف، وتوسيع نطاق المنطقة المحيطة به، وفق سيناريوهات كانت مطروحة سابقة، بأنه نتاج عدم رغبة الإدارة الأمريكية في التورط بحروب وصراعات خارجية، وحصر نشاطها العسكري الخارجي بالحدود الضرورية الدنيا. لكن ذلك لا يفسر الرعاية الأمريكية الحثيثة للأكراد في شرق الفرات، والدفاع المستقر عنهم، وحالة التحالف المتينة معهم، التي نمت باضطراد، حتى توضحت ملامح كيان شبه مستقل يقبع على أغنى بقعة من سوريا.

ما سبق يدفع لقناعة مفادها أن مكافحة الوجود الإيراني في سوريا مجرد تكتيك، وأن الاستراتيجية الرئيسية للأمريكيين في سوريا هي رعاية كيان كردي يقوم على الثلث الغني من سوريا، ويشكل ورقة رابحة للأمريكيين في المشهد السوري.

وفيما يراقب الأمريكيون نشاطات إيران التسليحية لمليشياتها، عبر الحدود السورية – العراقية، انطلاقاً من قاعدة التنف المحاصرة، يبدو جلياً أن الحديث الأمريكي عن إخراج الإيرانيين من سوريا مجرد سقفٍ مرتفعٍ هدفه التفاوض والمساومة، وصولاً إلى تنازلات ومكاسب من المحور الروسي – الإيراني. قد يكون غايته النهائية إقرار ذلك المحور، بشرق الفرات، بوصفه منطقة نفوذ أمريكية.

المدن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى