الناس

الوضع في شرق سورية وعودة الجهاديين: معضلة القانون والأمن -مقالات مختارة-متجدد


بعد الهزائم العسكرية المتعاقبة التي مُني بها تنظيم “الدولة الإسلامية” في منطقة حوض الفرات السورية كان أمراً طبيعياً أن يقرر الآلاف من حملة الجنسيات الغربية، الذين تطوعوا للقتال في صفوف التنظيم، العودة إلى بلدانهم في أوروبا وأمريكا واستراليا وكندا وسواها. وخلق هذا التطور معضلة شائكة أمام الحكومات الغربية، وطُرحت حلول تتراوح بين سحب الجنسية أو الإحالة إلى القضاء أو حتى رفض استقبال العائدين. وفي كل هذه الحلول برزت مشكلات قانونية عويصة، إلى جانب الابتعاد عن جوهر المعضلة المتمثل في الأسباب الأصلية التي قادت هؤلاء إلى التطرف والتشدد، وما إذا كان المستقبل يعد بعلاج جذور الظاهرة.

جهاديو الغرب: معضلة السطح بدل الباطن/ صبحي حديدي

بين مفارقات ما ستشهده معضلة استقبال المواطنين الغربيين، الذين تطوعوا للجهاد مع “داعش” وهم حملة جنسيات أوروبية وأسترالية وكندية وأمريكية، أن يجد المشرّع الألماني ضرورة، بل حاجة وفائدة، في تصنيف “خلافة” البغدادي تحت مسمّى الدولة، وليس التنظيم الإرهابي فقط. ذلك لأنّ القانون الأساسي في ألمانيا، وهو بمثابة دستور البلاد، يحظر إسقاط الجنسية الألمانية تفادياً لتكرار التجربة النازية المريرة في هذا الصدد. لكنه يتيح، طبقاً للمادتين 25 و28، إمكانية فقدان الجنسية أو التخلي الطوعي عنها ضمن حالات محددة، بينها أن يخدم الألماني المتجنس في جيش دولة ثانية. وهكذا، إذا اعتبر المشرّع الألماني أنّ “داعش” هي أوّلاً “الدولة الإسلامية”، فالحال عندئذ يمكن أن تبيح فقدان الجنسية للدواعش حملة الجنسية المزدوجة.

مفارقة أخرى، لها صفة السابقة القانونية، مفادها أنّ قرابة 7366 من هؤلاء الجهاديين عادوا بالفعل، خلال السنة الماضية، إلى البلدان الغربية التي يحملون جوازات سفرها؛ وبعضهم خضع للمحاكمة، وحُكم عليه بالسجن، في أستراليا وكندا مثلاً، وبالتالي بات القياس القانوني متوفراً أمام كلّ راغب في طعن أو استئناف أمام القضاء. هنالك، إلى هذا، حكم قضائي لن يتردد محامو الدفاع في اقتباسه والسعي إلى الاحتذاء به، خاصة وأنه من طراز مختلف يشمل حملة الجنسية الأصلية، الوحيدة وليس المكتسبة؛ كما في مثال المواطن النمساوي أوليفر ن.، الذي عاد من تلقاء نفسه وحكم عليه القضاء بالسجن سنتين ونصف السنة.

الراغبون، من المشرّعين الغربيين، في إعلاء شأن القانون أوّلاً، وضمن حقوق الإنسان بصفة عامة، ومراعاة الحالات الإنسانية التي تخصّ آلاف النساء وأطفالهنّ على وجه التحديد، يقترحون ثلاث ركائز كبرى: 1) الإحالة إلى القضاء وتطبيق الأحكام التي تنصّ عليها القوانين المرعية، لكلّ حالة على حدة؛ و2) إحكام الرقابة على العائدين، ممّن صدرت فيهم أحكام أو ينتظرون؛ و3) تطوير ما بات يعرف باسم “العلاج من التطرف”، وفق طرائق أكثر تعمقاً في الجذور النفسية والتربوية والثقافية، التي دفعت هذا أو تلك إلى الالتحاق بالمنظمات الجهادية المتشددة في العراق وسوريا وأمكنة أخرى.

هيهات، في المقابل، أن يكون هذا رأي السلطات الأمنية في الغالبية الساحقة من بلدان الغرب؛ ليس اتكاءً على العقلية البوليسية التي تفضّل طرائق القمع والمنع والحظر والقسر، على العلاج العميق لباطن الظاهرة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الكثير من أجهزة السلطات السياسية تفضّل هذه الطرائق أيضاً لأنها تتماشى مع، وكذلك تدغدغ، رغائب شرائح لا بأس بها من رأي عامّ، شعبي أو حزبي، صار يعتمد رؤى عنصرية وانعزالية ويمينية متطرفة تُقيم الكثير من عقائدها على الربط بين الجهاد والهجرة.

وثمة، في هذا الربط كلام حقّ يُراد من ورائه الباطل؛ إذْ من الصحيح أنّ سياسات الهجرة، التي اعتمدتها وتعتمدها غالبية الدول الغربية، أخفقت في تحصين أبناء المهاجرين ضدّ نزوعات التطرف والتشدد والاغتراب وضعف الاندماج واعتناق العنف. وبهذا المعنى فإنّ الهجرة المضادة نحو التنظيمات الجهادية مشكلة غربية أيضاً، وليست شرق ـ أوسطية حصرياً. وليس المسلم وحده، بصرف النظر عن الجيل المهاجر الذي يتحدر منه، هو الذي تصيبه هستيريا الهجرة للقتال من أجل إحياء “الخلافة” في العراق أو الشام؛ إذْ توفّر متطوعون غربيون من أبناء الديانة المسيحية، وهؤلاء عيّنة هائلة الأهمية وبالغة الدلالة في دراسة جذور الظاهرة وتشخيص دوافعها.

فالثابت، الذي لا يجوز غضّ النظر عنه، هو أنّ أبناء الغرب الذين تقاطروا للقتال في أصقاع بعيدة عن بلدان إقامتهم، وجنسياتهم، لم يتطرفوا أو يتشددوا في الشرق الأوسط أو في بلد مسلم، بل في أماكن مثل لندن وباريس وبرلين ونيويورك وملبورن وتورنتو. ومعضلة هذه العواصم في أمر استقبال هؤلاء، اليوم، ينبغي أن تتجاوز السطح لكي تحفر في الباطن، بحثاً عن الجذور الأولى والأصلية.

يتامى داعش الحقيقيين/ عمر قدور

القلّة المتبقية في الجيب الداعشي الأخير تضعنا أمام المآل التراجيدي لدولة الخلافة المزعومة، وهو إذا كان متوقعاً منذ البداية فإن تحققه على هذا النحو يخالف صورة التنظيم الذي شغل البروباغندا العالمية خلال سنوات. رأينا شيئاً مشابهاً من قبل، عندما نفخ الإعلام العالمي في قوة صدام حسين، والتهديد الذي تمثّله على الأمن الدولي، ثم في لحظة النهاية ظهرت ركاكة القوة المزعومة وانهارت قوات صدام، قبل إسدال الستار بالمشهد الشهير للقبض عليه.

لا نعلم كيف وردت فكرة إعلان الخلافة في أذهان قيادة التنظيم، لكننا نعلم جميعاً التسهيلات التي حظي بها أعضاؤه بدءاً من عراق المالكي، بهروبهم من السجن وبعدها باستيلائهم السهل جداً على عتاد وأسلحة وأموال تابعين للحكومة، ما مكّن التنظيم من اجتياح مناطق واسعة في سوريا. نذكر أيضاً حادثة إعدام الأمريكي جيمس فولي التي عجّلت باتخاذ موقف أمريكي أشد حزماً، وحينها لم تكن الغارات الأمريكية قد استهدفت داعش سوى أثناء تمدده في اتجاه إقليم كردستان العراق. قرار إعدام فولي أتى حينها بمثابة استفزاز واضح، ومن المستبعد ألا تعرف قيادة التنظيم تبعاته التي وصلت إلى نهاياتها الآن.

لا يمكن لعاقل إلا اعتبار هذه المغامرة باهظة الثمن نوعاً من العبث السياسي الذي يفضي إلى الانتحار، قد يحلو للبعض تصوير أصحابها كجهاديين أعمتهم الأيديولوجيا عن مقتضيات السياسية، وقد يصحّ ذلك على نسبة من العناصر دون القيادة. لقد شهدنا خلال سنوات صفقات صغيرة تكذّب رواية العمى الأيديولوجي، وشهدنا نقل عناصر التنظيم من مكان إلى آخر خدمة لأجندات صديقه اللدود تنظيم الأسد، فضلاً عن صفقات النفط التي تورطت بها جهات عديدة معه، بمعنى أن استثمار داعش من قبل قادته ومن قبل أجهزة استخبارات أتى بحنكة سياسية مغايرة للصورة العقائدية الصماء.

ستنكشف الحقائق كلها بعد فوات زمن كافٍ، والأهم أن الظاهرة برمتها أدت دوراً مشبوهاً في غاية الأهمية، من حيث المغزى والتوقيت. بصرف النظر عن النوايا الأصلية، الحكم في السياسة هو على النهج والنتائج، ولا شك في أن الاثنين كانا على الضد من الثورات التي انطلقت في المنطقة، والنسبة العظمى من سيطرة داعش على الأراضي أتت على حساب المناطق غير الموالية لعضوي التحالف الإيراني في سوريا والعراق. سكان هذه المناطق هم ضحايا الدرجة الأولى، قتلاً وتهجيراً وقسراً على نمط قاس من التدين، ثم قتلاً وتهجيراً بسبب عمليات التحالف الدولي التي اتبعت سياسة الأرض المحروقة.

باستثناء عناصر قليلة تابعة للتنظيم، خرج أهالي المناطق التي تم تحريرها على التوالي كأنهم خارجون من الجحيم، وبطريقة لا تخفي القمع والإذلال الذي تعرضوا له، ما يؤكد أن بقاءهم لم يكن اختيارياً أو محبة به. ذلك يدحض فكرة “الحاضنة الشعبية” التي جرى تداولها على نطاق واسع، وبررت إلى حد ما استهداف تلك المناطق عشوائياً، من دون اتهام أصحابها العرب بالتأثير على مراكز القرار الدولي. مثلاً، من يعرف نوع التدين السائد في الرقة، عاصمة الخلافة المزعومة، يدرك المسافة التي تفصل الأهالي عن نوعية التدين التي فُرضت عليهم.

إلقاء الكلام اعتباطاً عن “الحاضنة الشعبية” لم يتوقف عند الجغرافيا التي احتلها التنظيم، فقد اتسع مجالها الحيوي مع النفخ في قوته لترويج مقولات من نوع أن كلاً منا فيه شيء من داعش! من أجل إطلاق تلك الأحكام كان يكفي قليل من المعرفة شبه العامّية بعناوين من علم النفس وعلم الاجتماع، على نحو خاص؛ كان يكفي اعتبار تلك الكليشيهات إطلاقية، بحيث يصبح من يجادل فيها محل شبهة فوراً، إذ ما دام في كل شخص ذلك الداعشي الصغير لا يجوز له التبرؤ من هذه الحقيقة، وإلا أتى التبرؤ منه كمن ينكر ذاته!

رغم ما يستحقه الجانب الثقافي والاجتماعي لظهور التنظيمات الجهادية من اهتمام فقد تحول ليكون العامل الطاغي، مع عدم الاكتراث أو الانتباه جيداً إلى العوامل الثقافية والمجتمعية التي أتت بعشرات آلاف الجهاديين من الغرب والشرق، وتالياً عدم التوقف عند العوامل التي صنّعت جهاديين ممن عاشوا في الغرب، بمن فيهم غير المسلمين. من دون إطلاق اتهامات مباشرة، هذا النوع من التحليلات كان يذهب طوال الوقت ليصب في مصلحة أنظمة الاستبداد “ما قبل الثورات وما بعدها”، لأن التركيز على فكرة الحاضنة الشعبية المطلقة يجعل من تلك الأنظمة في موقع أهون الشرين.

المغالطة الأساسية في فكرة الحاضنة الشعبية هي عدم التفريق بين المؤثرات الاجتماعية النابعة من مجتمع حر، وتلك المحكومة أساساً بالقهر والكبت طوال عقود. التركيز على الإسلام كعامل ثقافي، مع إهمال عقود من القمع التام العسكري والمخابراتي، يفتقر إلى الموضوعية “وإلى النزاهة أحياناً”، لا لأن الاستبداد يولد التطرف وفق تبسيط معروف، وإنما لأن المجتمع نفسه لم تتح له الفرصة أصلاً للتعبير عن نفسه، والوقت المستقطع الوحيد كان من خلال المظاهرات التي انطلقت في بلدان الثورات، بما فيها البداية التي وئِدت سريعاً في العراق، وقد رأينا مطالب المتظاهرين التي تصدّرتها فكرة الحرية.

مع كل ما قد ينكشف لاحقاً من ألعاب استخباراتية استثمرت في داعش، يبقى الانتصار عليه وإقفال ملفه بشرى سارة لمتضرري الدرجة الأولى أولاً، حتى إذا كان الإقفال جراء تحقيق الهدف المنشود من المشغّلين. قد تُرى هذه النتيجة ملازمة لتكريس النظام العربي القديم وإعادة تدويره، الأمر الذي إن حمل قسطاً من الصحة يتعين معه ملاحظة الركاكة والضعف في حال الأنظمة التي يُعاد تدويرها، وركاكة وضعف بلدانها بما يبقي فكرة الاستقرار بعيدة المنال. أي أن المنتصر، في لحظة انتصاره، يفقد الخصم الذي ساعده على البقاء، ولن يكون متاحاً في المدى القريب اصطناع بعبع من العيار ذاته.

ربما يأتي الإسلاميون في ترتيب متأخر من يتامى داعش، وهم جميعاً على أية حال قد خسروا رهاناتهم بما يوازي الأذى الذي تسببوا به للتيار الديموقراطي. الصدارة في يتامى داعش هي على الأرجح لتنظيمات السلطة الأسدية ومثيلاتها، إذ أثبتت في الجولة المنقضية أن المفاضلة المطروحة هي بين تنظيمات، لا بين تنظيمات وأنظمة حقاً، وهذا الانحدار يصعب إيقافه. اليتامى الذين يأتون بعدها في الترتيب هم أصحاب مقولة “الداعشي الصغير في كلّ منا”، فغياب المعيار على الأرض يفقد الفكرة إكزوتيكيتها، والإصرار عليها بعد الهزيمة أشبه بنكتة صارت كالحة من كثرة الاستخدام، أما “الداعشي الصغير في كلّ منا” فمن حقه الآن أن يحظى بإجازة من كل هؤلاء! 

المدن

صورة داعش الأخيرة/ بشير البكر

ترحيل المدنيين من الجيب الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الباغوز كان صيدا ثمينا للمصوّرين الذين وجدوا أمامهم فرائس تصلح لأن تكون مادة لنشرات الأخبار والصفحات الأولى في الصحف عبر العالم. فرصة لن تتكرر لمصورين كثيرين يبحثون عن صورةٍ ثمينةٍ من دون احترام، أو مراعاة، للخصوصية، وحق البشر في رفض الوقوف أمام الكاميرا. كانت تعابير الغضب باديةً على وجوه نساءٍ كثيراتٍ كن أكثر عرضة لتحرّش المصوّرين.

كانت الشاحنات تغادر قرية الباغوز في ريف البوكمال في اتجاهاتٍ متعدّدة. بعضها يحمل نساء وأطفالا، والبعض الآخر رجالا. الجميع يخرجون من الجيب الأخير ل”داعش”. ولذلك يبدو اللباس شبه موحد للجنسين. النساء بالبراقع السوداء، وفئة قليلة منهن كانت لا تُخفي العيون، والرجال ملفعون بكوفياتٍ حمراء، ويرتدون اللباس الشعبي في ريف سورية والعراق.

الشاحنات هي تلك المخصّصة، عادة، لنقل المواشي، ويبدو أن اختيارها لم يكن محض مصادفة، بل عملية مدروسة، فهي مصمّمة كي تمنع الدواب من القفز منها، وقادرةٌ على أن تحمل عدداً كبيراً من الناس الذين يتم حشرهم فيها كالمواشي. وبدت كأنها جزءٌ من المشهد العام الذي يليق بنهاية وحوش “داعش” في الصورة الأخيرة التي تجاوزت في حمولتها كل  التحقيقات التي كتبتها الصحافة من الميدان، لأنها لم تكتف بقول ما فيها فقط، وإنما ما ليس فيها أيضاً.

“داعش” خيمة كبيرة. يقف في ظلها عربٌ وأجانب، محاربون وقتلة ولصوص ومخدوعون مغرّر بهم، رجال مخابرات ودين، دجّالون وتجار ومرتزقة، أغنياء وفقراء، أمراء حربٍ وجواسيس، نساء من مختلف الأعمار، مراهقات في سن 15 وحتى الخمسينيات، ومن شتى البلدان، من الشرق والغرب، من العالم العربي والإسلامي، وحتى أميركا وأوروبا.. إلخ. وهناك من ذهب كي يحارب من أجل الشهادة، بغض النظر عن العدو، وآخر توجه لقتال أميركا، سواء وجدها أمامه أم لم يجدها، وبعضٌ وظفته أجهزة المخابرات الأميركية أو الروسية أو السعودية أو الإيرانية وحتى الصينية ليسجل ويدرس ويصور ويرسل التقارير. تعايش هذا الخليط غير المتجانس عدة سنوات داخل جسم غريب، وأنتج مؤسسةً إرهابيةً خطيرة، هدّدت الأمن الدولي.

في المواجهات التي دارت أخيرا في ريف دير الزور، يبدو أن الباقين من الدواعش في الميدان هم حثالة الحالة الداعشية التي تقهقرت، بعد خسارة الموصل والرقة، ومع الوقت لم يبق في الميدان سوى فراطة العناقيد الكبرى. وبالمختصر المفيد، هؤلاء من تقطعت بهم السبل، ولا مخرج أمامهم، وهم غالبا ممّن التحقوا بالتنظيم من دون أن تكون لديهم تبعية لأحد، وهذا يعني أن الدواعش البقية إما سقطوا في أرض المعركة أو أنهم هربوا. والملاحظة التي تستحق الاهتمام هي أنه لم تقدم “داعش” إلى الواجهة سوى أبو بكر البغدادي الذي ظهر في مرات قليلة. وعلى الرغم من أنها سيطرت في فترة على مساحة كبيرة من العراق وسورية، فإنها بقيت تعمل في الظل، وكأنها كانت تدرك أنها ستختفي من المشهد في وقت من الأوقات، وبالتالي لا يمكن اعتبار هذا السلوك الملتبس عاديا.

ليس هناك إحداثيات ولا أرقام ولا معلومات ولا تفاصيل تخص “داعش” في الموصل والرقة، وفي المعارك التي دارت أخيرا في محيط دير الزور. لم تعلن السلطات العراقية حتى اليوم عن الدواعش الذين سقطوا في المعارك، والذين فروا من ساحة المواجهة، والأمر ذاته ينطبق على مدينة الرقة. لا أحد يعرف عدد القتلى. كيف استطاع البغدادي أن يبني دولةً تدير مساحة شاسعة، واختفى بعد ذلك هو وجهازه، من دون أن يقدّم إلى أنصاره حصيلة يلخص فيها معارك الموصل والرقة؟

العربي الجدبد

ماذا نفعل بـ”عرائس داعش”: الانتهازية السياسية الغربية والعرق والتظاهر بعدم وجودهن/ إبراهيم درويش

حسب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد تم القضاء على تنظيم “الدولة” الإسلامية 100 في المئة. وقال في تعليق له أمام القوات الأمريكية في ألاسكا “ظللتم تسمعون أن 90 في المئة، 92 في المئة من الخلافة في سوريا والآن سيطرنا على 100 في المئة”. وسارع مسؤولان أمريكيان بالرد على ترامب وقال أحدهما حسبما نقلت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” (28/2/2019) إن كلام الرئيس “غير صائب   100 في المئة” فيما قال آخر “المعركة لا تزال جارية والبيان عار عن الصحة”. صحيح أن التنظيم فقد معظم إن لم يكن كل مناطقه في سوريا إلا أنه لا يزال يحتفظ بجيوب في مناطق بوادي الفرات، حيث قال المسؤولون في الخارجية إنهم يعدون لنهاية العمليات العسكرية ولكنهم حذروا من وجود مئات المقاتلين وضرورة تنظيف المناطق التي تمت السيطرة عليها من المفخخات وغيرها من المواد المتفجرة. ويمكن فهم تصريحات ترامب العائد من قمته الفاشلة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ-أون على أنها واحدة من الإعلانات المتضاربة التي تصدر عن الإدارة. فقبل أسبوعين قال نائب الرئيس مايك بنس أمام مؤتمر ميونيخ للأمن أن الخلافة ستنتهي “عمليا في ساعات أو أيام، ولن تكون هناك خلافة” و “لم يتبق أمامنا إلا ميل واحد للسيطرة عليه”. وتأتي في ظل الجدل حول سحب القوات الأمريكية البالغ عددها ألفي جندي ثم العودة للحديث عن الاحتفاظ بحوالي 400 جندي للعمل مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال-شرق سوريا.

الجاذبية باقية

 وبعيدا عن رسائل واشنطن يجمع المحللون في الشأن الجهادي أن تنظيم “الدولة” الذي سيطر في ذروة قوته على مساحة مساوية لمساحة بريطانيا وحكم 10 ملايين نسمة في إنجاز تجاوز كل الجماعات الجهادية بما فيها القاعدة وتحول في ممارساته البشعة إلى بعبع للمؤسسة السياسية في الغرب وجذب عشرات الآلاف من المقاتلين حول العالم. ولا ريب أن الخوف من التهديد الجهادي أسهم كما يقول الباحث دانيال بيمان من جامعة جورج تاون في انتخاب ترامب عام 2016. وبعد خمسة أعوام تعلم التنظيم أن السيطرة على أراض وإدارة دولة هي نعمة ونقمة في وقت واحد. فمن ناحية يقول بيمان في “فورين بوليسي”(22/2/2019) “كانت الخلافة أغنية ساحرة للجهاديين المحتملين حيث جذبت عشرات آلاف المتطوعين من العالم العربي ومن أوروبا ومن وسط آسيا. وكان بإمكانهم الحصول على ضرائب من المزارعين بالإضافة لبيع النفط من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها وتجنيد الشباب تحت حكمهم. هذه الإمكانات ساعدت في بناء جيش أقوى وجمع ملايين الدولارات شهريا”. ومن أرض الخلافة خطط عناصر تنظيم “الدولة” لهجمات في الغرب مثل باريس عام 2015 والذي قتل فيه 130 شخصا. ولكن قادة التنظيم يعرفون اليوم مثل “القاعدة” التي تحدت أمريكا في عقر دارها وتسببت باحتلال وتدمير دولتين مسلمتين، أنهم لم يستطيعوا الوقوف أمام القوة الأمريكية مهما كانت شجاعة مقاتليهم. فقد استفاد التنظيم على خلاف المناطق الأخرى من فراغ الحرب الأهلية في سوريا وتردد واشنطن في التدخل ضد بشار الأسد. وعندما دخلت أمريكا اللعبة تقلص حكم الجهاديين ولم تنته جاذبيتهم بعد، وفقدوا القدرة على الزعم بأنهم قادرين على إقامة الدولة وتطبيق الشريعة. وأصبح المجندون الغربيون مثل البريطانية شميما بيجوم والأمريكية هدى مثنى في مخيمات اللجوء السورية أو في أسر قوات سوريا الديمقراطية. وكما أظهرت التقارير الصحافية منذ العثور على بيجوم في مخيم الهول، شمال سوريا صار معظمهم يناشد ويتضرع للعودة إلى بلادهم، بشكل أثاروا النقاش السياسي حول خطرهم وصلاحيتهم للعيش من جديد في المجتمعات الديمقراطية. وفي الوقت الذي سارعت فيه الحكومة البريطانية لقطع الطريق أمام عودة بيجوم بتجريدها من الجنسية البريطانية بالادعاء أن والدتها تحمل الجنسية البنغلاديشية سارع القانونيون والمعلقون الصحافيون للإشارة إلى ان بيجوم ولدت وتربت وتعرفت على أيديولوجية التنظيم في بريطانيا ومن حقها العودة ومواجهة عواقب اختيارها، أي محاكمة عادلة. واتهم البعض وزير الداخلية البريطانية ساجد جاويد السماح لصحافة اليمين بإملاء الأجندة المتعلقة بالجهاديين أو ما يطلق عليها “العرائس الجهاديات الغربيات”.

قيم

وواجهت الحكومات الغربية ضغوطا من الرئيس ترامب الذي دعا الحكومات الغربية لإعادة تأهيل المقاتلين الأجانب واستعادتهم في أسرع وقت ممكن. لكنه رفض ووزير خارجيته السماح لهدى مثنى التي تركت جامعتها في ألاباما العودة إلى بلدها، فهي ببساطة لم تعد أمريكية. وهو ما دعا والدها الدبلوماسي اليمني السابق لتقديم دعوى قضائية يدعم عودتها ومواجهتها المسؤولية. وكتب محامي العائلة حسن شبلي، مقالا في مجلة “نيوزويك” (26/2/2019) ناقش فيه أهمية السماح لها بالعودة، وقال إن قضيتها “ليست عن حجم كرهنا لتنظيم الدولة، فهذا أمر مفروغ منه ولكنها عن كوننا أفضل منه، وعن حكم القانون والإجراءات المتعلقة بالعدالة”.  وأكد أن الدستور الأمريكي يكفل لها الحق بمحاكمة عادلة مذكرا بما قام به جون أدامز، الذي وقع على إعلان الاستقلال، وكان محاميا وأصبح الرئيس الثاني للولايات المتحدة ومثل عددا من الجنود البريطانيين الذين اشتركوا في مذبحة بوسطن. وكانت هذه الحادثة الأهم التي أدت بالثورة على إنكلترا، إلا أن أدامز اعتبر تمثيله للجنود البريطانيين “واحدا من أفضل الخدمات التي قدمتها لوطني” وهذا لأن حكم القانون والإجراءات القانونية هي قيمة جوهرية للأمريكيين. وحذر شبلي من مخاطر تجريد شخص من جنسيته بناء على الكراهية لأنك قد تضطر يوما لحرمان شخص تحبه من جنسيته.

تذكروا الفوضويين

وفي قلب النقاش السياسي الذي يحاول الاستجابة للرأي العام فكرة أن الجهاديين الذين خانوا وطنهم لا يمكن التعاطف معهم وهم بالضرورة اجتازوا مرحلة الإصلاح والاندماج في المجتمعات التي جاءوا منها. إلا أن هناك من سارع لتذكير الغرب بالمقاتلين الدوليين الذين دعموا حروبا لم تدعمهم دولهم مثل من قاتلوا في الحرب الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي. وكما أشارت نبيلة جعفر في “فورين بوليسي” (28/1/2019) فإن الإرهابيين الشباب ليسوا بالضرورة قضية خاسرة وللأبد، مشيرة للفرق بين المقاتل الملتزم وبين من قدم الخدمات العادية للتنظيم. وفي حالة “عرائس الجهاديات” فقلة شاركت منهن في القتال، ومعظمهن تزوجن أكثر من مرة بسبب مقتل أزواجهن الجهاديين. وتعلق جعفر أن قضية بيجوم هي صورة عن إشكالية التعامل مع الجهاديين والجهاديات، فرغم اختيار جاويد الحل الأسهل وهو منع الفتاة من العودة إلا أن غالبية المقاتلين والجهاديات الغربيات هم من البيض الذين اعتنقوا الإسلام وانتقلوا للعيش في ظل “الدولة” ولهذا لا يمكن حرف مشكلتهم وتركها للآخرين. فهناك مخاطر بأن يتحول الذين حرموا من جنسياتهم لسلاح ضد دولهم. ويمكن للإرهابي أن يجد طريقه إلى بلده وتنفيذ هجوم فيه. وبدلا من ارضاء الرأي العام مقابل منافع سياسية وقتية، على المؤسسات الغربية التفكير بعقلانية، فبيجوم ليست الوحيدة التي تريد العودة كما أن هناك عددا من المقاتلين عادوا من سوريا وتمت محاكمتهم أو وضعهم ضمن برامج تبعدهم عن التشدد وفي غالب الأحيان تحت رقابة الأمن. وأشار تقرير للبرلمان الأوروبي إلى أن نسبة 30 في المئة من المقاتلين عادوا إلى بلادهم خاصة العام الماضي. وتشير التجربة التاريخية الأوروبية وبرامج الدول الحالية إلى إمكانية تأهيل الجهاديين من جديد وإعادة دمجهم في الحياة العامة. فبعد كل هذا ليست هي المرة الأولى التي تتعامل فيها أوروبا مع رجال ونساء غاضبين، فمن الفوضويين في القرن التاسع عشر الذين صورهم هنري جيمس في روايته “الأميرة كاسماسيما” إلى عنف القوميين الايرلنديين وحركة النظام الجديد في إيطاليا. وفي معظم الحالات ترك الإرهابيون العنف وراء ظهورهم وعادوا إلى المجتمع. وكما ورد في تصريحات مثنى، فإنها تعبر عن ندم وتغير. وقالت لصحيفة “التايمز” “لقد دمرت حياتي ودمرت مستقبلي”. وهناك إمكانية كما أثبتت التجارب في الدنمارك وبريطانيا لإعادة تغيير أفكار المقاتلين السابقين، فبعد كل هذا لم تنضم الغالبية إلى التنظيم بدافع الهوس الأيديولوجي بقدر ما لعبت الظروف النفسية والاجتماعية والاقتصادية المالية في قرار الكثيرين. وكما أشار الباحث في شؤون الإرهاب مارك سيغمان فالعائلة والأصدقاء عادة ما يلعبون دورا مهما في تقوية الارتباط بالجماعات الإرهابية. فعندما قررت شميما وزميلتان لها السفر إلى سوريا كن يتبعن خطى صديقة رابعة من بثنال غرين-شرق لندن، ذهبت إلى هناك قبلهن. وفي السياق اندفعت مثنى إلى تنظيم “الدولة” بسبب القيود التي فرضتها عائلتها وكان أنيسها الوحيد ودليلها للجهاديين خطابات المنظر القاعدي أنور العولقي كما قالت في أول مقابلة لها مع “الغارديان” في 17 شباط (فبراير). وفي ضوء هذه المحفزات فخلق محفزات جديدة لمن انخدع بفكر الجهاديين يمكنها الإسهام في تخليهم عن فكرهم المتشدد. وفي حال فشل المجتمع بفتح الباب أمام من غرر بهم تنظيم “الدولة” فسيظلون يعيشون في عالمهم بل وسيزداد حنقهم على مجتمعهم.

غسل اليد

ومن هنا فمحاولة التلويح بالوسائل القانونية لحرمان الجهاديين من حقهم بالمواطنة يعني تجاهل الآلية التي دفعت بهم أو بهن إلى أحضان الجهاديين، بل وتجاوز الأسباب التي دفعت بهم من أجل تحقيق أهداف سياسية كما في حالة جاويد الطامح لقيادة حزب المحافظين في بريطانيا. وكما أشارت أزاده موافيني في صحيفة “الغارديان” (26/2/2019) فالكثير من نساء تنظيم “الدولة” ممن اكتشفن خطأ قرارهن كن ضحايا محاولاتهن الفرار أو تعرضن لعمليات إكراه وضغط للبقاء. وترى أن الرد المتسرع بالتلويح بإجراءات قانونية يذكر بالجو الذي ساد في مرحلة ما بعد 9/11 حيث تم رمي الكثيرين في السجون السرية وغوانتانامو بدون العودة إلى الأصول القضائية أو توجيه تهم وتقديم أدلة. واليوم تحاول الحكومات من باريس إلى لندن وواشنطن غسل أيديها من نساء تنظيم “الدولة” حيث تحاول حكومات التظاهر بعدم وجودهن فيما سارعت أخرى بحرمانهن من جنسياتهن. وتقول رولا خلف في صحيفة “فايننشال تايمز” (27/2/2019) إن النقاش حول عودة الجهاديين تمحور حول الخطر الأمني الذي يمكن أن يتسببوا به إن عادوا، ومن المفترض أن تكون الدول الغربية مجهزة لمواجهة أخطار كهذه. وقالت إنها راقبت النقاش بنوع من القلق خاصة فيما يتعلق بحملة الجنسية المزدوجة وأنهم أقل بريطانية أو فرنسية من حملة الجنسية الواحدة مما يجعلهم مواطنين أقل. وكان صادق خان عمدة لندن قد انتقد قرار جاويد لأن معظم سكان العاصمة هم من أبناء المهاجرين. وفي تقرير أعدته جينا فيل من مركز دراسة التشدد بكلية كينغز-جامعة لندن ناقشت فيه أن عودة الجهاديات مهم لمحاكمتهن ووضعن تحت الرقابة. أما تركهن في المخيمات والاعتقال فسيؤدي لنقلهن لدول أخرى أو يتم استخدامهن في عمليات تبادل أسرى. والدول التي تفشل في تحمل مسؤوليتها تجاه مواطنيها لحماية نفسها من مخاطر قصيرة الأمد تقوم بمفاقمة المخاطر الأمنية طويلة الأمد. وفي النهاية تظل قضية الجهاديات معضلة لكن تجاهلها أو معالجتها بتسرع يترك آثاره السلبية على الأمن والقانون الدولي والمساواة بين الجنسين كما ورد بمقال بمجلة “ذا نيوريببلك” (28/2/2019) وجاء فيه أن الحديث عن مخاطر عودتهن لا أساس له لأننا لم نجر تقييما بعد عن طبيعة التهديدات ما دمن في المخيمات. بالإضافة لهذا فإننا نعرف الآن أن تنظيم “الدولة” نشأ في جزء منه من المعتقلين الذين احتجزتهم أمريكا في العراق بعد غزوه عام 2003.

معركة الباغوز لم تنته بعد

توقفت المعارك قرب بلدة الباغوز أمس الثلاثاء مجدداً، وذلك لإعطاء فرصة لخروج ما تبقى من مدنيين عالقين في المنطقة الأخيرة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة على الضفة الشمالية لنهر الفرات في أقصى الشرق السوري. وكانت حدة المعركة التي يخوضها مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي ضد التنظيم في تلك المنطقة قد تصاعدت خلال الأسبوعين الماضيين، إلا أن وجود مدنيين واحتمال وجود أسرى لدى التنظيم، بالإضافة إلى استماتة جزء من عناصره في القتال، أدى إلى توقف العمليات بشكل مؤقت عدة مرات.

وقال مصطفى بالي مدير المكتب الإعلامي لـ«قوات سوريا الديمقراطية» في تصريح لوكالة رويترز «إن مئات الجهاديين استسلموا بعد أن فتحت قوات سوريا الديمقراطية ممراً لفرار نحو 6500 شخص من القرية منذ يوم الإثنين» مشيراً إلى أن عناصر من التنظيم كانوا ضمن هؤلاء الأشخاص. فيما أكد المتحدث باسم التحالف شون راين لوكالة فرانس برس الثلاثاء أن «معركة دحر ما تبقى من داعش في الباغوز متواصلة مع هجوم قوات سوريا الديموقراطية وضربات التحالف».

وكان عناصر تنظيم داعش قد استخدموا السيارات المفخخة خلال المعارك بشكل مكثف خلال الأيام القليلة الماضية، بالإضافة إلى تنفيذهم عمليات تسلل إلى نقاط كانوا قد خسروها، وهو ما عقّد الوضع الميداني هناك، وأخّر سيطرة قسد على جيب التنظيم. ويقاتل ما تبقى من عناصر التنظيم في هذه المنطقة دون أفق واضح للوصول إلى اتفاق شامل يؤدي إلى استسلامهم جميعاً، فيما تحدثت تقارير صحفية عن خروج زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي نحو البادية السورية، كما أشارت تقارير أخرى إلى خلو الباغوز من قيادات الصف الأول، ما يجعل السيطرة على العناصر الموجودين أصعب، إذ تقاتل أعداد منهم بطريقة انتحارية.

وتشكل المنطقة الصغيرة التي يتحصن فيها التنظيم اليوم، بالقرب من البوكمال شمال النهر في محافظة دير الزور، الجزء الأخير من جيب يضم عدة بلدات وقرى، كان التنظيم قد احتفظ بسيطرته عليه بعد تراجعه عن أغلب محافظة دير الزور خلال العام 2017 ومطلع العام 2018، ثم خسره تدريجياً خلال معارك متكررة أثناء العام الماضي ومطلع العام الجاري، لينحصر تواجده أخيراً في منطقة ضيقة قريبة من الحدود العراقية، تتعرض لحملات قصف عنيفة من طيران التحالف، ومحاولات اقتحام متكررة، كانت تتوقف لفتح ممرات أمام المدنيين وعناصر التنظيم الراغبين بالاستسلام. ويُعتقد أن التنظيم ما زال يحتفظ بأسرى أجانب في آخر معاقله، إلا أن تصريحات الناطق باسم التحالف لم تؤكد أي معلومات عن أسماء الأسرى في هذه المنطقة.

ومنذ أسبوعين، يترقب العالم إعلاناً رسمياً عن «نهاية داعش»، بعد أن أطلقت الإدارة الأميريكة تصريحات متعددة توحي بأن التنظيم قد انتهى فعلياً، إلا أن هذا الإعلان يتأخر، فيما تتضارب الأنباء عن مفاوضات معقدة تتعلق بمصير عناصر التنظيم، وعن وجود انقسام بين عناصره الباقين في المنطقة، بين من يريد الاستسلام لقوات سوريا الديمقراطية ومن يريد القتال حتى النهاية، ذلك بالإضافة إلى أنباء متكررة عن تمكن عناصر وقيادين في التنظيم من الخروج من المنطقة نحو الباديتين السورية والعراقية.

وإذا كانت نهاية هذه المعركة ستعني نهاية سيطرة التنظيم الفعلية على بلدات وقرى مأهولة بالسكان، فإن الحديث عن أنها ستعني نهاية التنظيم لا يزال أمراً بعيداً عن الواقع، إذ لا يزال التنظيم يحتفظ بآلاف المقاتلين في مساحات واسعة من الباديتين العراقية والسورية، ولا يُستبعد أنهم سيكونون قادرين على إعادة تنظيم أنفسهم وشن هجمات جديدة. وفي هذا السياق، كان موقع السويداء 24 قد نقل عن مصادر في الفصائل المحلية بمحافظة السويداء، رصد تحركات يعتقد أنها لعناصر داعش شمال شرق المحافظة، ويتخوف أهالي السويداء من إقدام التنظيم على تنفيذ عمليات ومجازر في المحافظة كالتي حدثت في شهر تموز من العام الماضي.

ستشهد الساعات أو الأيام القليلة القادمة زوال سيطرة التنظيم من منطقة شرق الفرات، وهو ما سيفتح الباب واسعاً أمام تحديات وتساؤلات كبيرة، من بينها مستقبل الإدارة والسيطرة في مجمل المنطقة الخاضعة لسيطرة قسد، ومسألة عودة النازحين إلى محافظة دير الزور، وحل مشكلة المدنيين من عائلات عناصر التنظيم، بالإضافة إلى وضع عناصر التنظيم الذين استسلم منهم المئات خلال الأيام الماضية، وينتمي عدد كبير منهم إلى جنسيات مختلفة، سواء من دول وسط آسيا أو دول أوروبا.

موقع الجمهورية

معضلة «أجانب» داعش/ فراس علاوي

ليست قضية المقاتلين الأجانب في التنظيمات الجهادية مسألةً حديثة، بل هي قديمة قِدم وجود هذه التنظيمات، لكنها تبرز كقضية ملحّة خلال الأسابيع الأخيرة، جرّاء اقتراب المعركة مع آخر جيوب داعش في منطقة شرق الفرات من نهايتها، وبسبب تزايد أعداد المقاتلين الأجانب في سجون قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الرئيسي للتحالف الدولي في سوريا.

وللبحث عن حلول لهذه القضية التي باتت مصدر أرق لدول كثيرة، كانت كندا قد استضافت اجتماعًا دولياً قرب أوتاوا يوم السادس من شهر كانون الأول 2018، ضمّ وزراء دفاع ثلاثة عشر دولة، من بينها كندا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، وأعلن في ختامه وزير الدفاع الكندي هاجيت ساجان، أن مصير نحو 700 مقاتل أجنبي معتقلين في سوريا ستحدده البلدان التي يتحدرون منها.

لم يتم الإعلان عن نتائج حاسمة في ذاك الاجتماع، سوى التوافق على تحسين معايير احتجاز هؤلاء في سجون قسد. وبحسب جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأمريكي السابق، فإن قوات سوريا الديمقراطية تحتجز معتقلين يتحدرون من نحو 40 بلداً.

وقد التحق بالتنظيمات الجهادية في العراق وسوريا عشرات آلاف المقاتلين الأجانب خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وعلى وجه الخصوص بتنظيم الدولة منذ ولادة نسخته العراقية الأولى على يد أبي مصعب الزرقاوي. ولا توجد أرقام مؤكدة لأعدادهم، ولا إحصاء معلن لجنسياتهم، لكن العدد الأكثر تداولاً يتراوح ما بين أربعين وخمسين ألف مقاتل من دول أجنبية خلال هذه السنوات، لا يزال الآلاف منهم في تنظيمات جهادية متعددة، أبرزها خلايا ومجموعات تنظيم الدولة في التي لا تزال تحتفظ بتواجد في العراق وسوريا حتى اللحظة، وهو رقم لا يشمل المقاتلين المتحدرين من دول عربية.

يشكل مصير هؤلاء، أو من تبقى على قيد الحياة منهم بعد سنوات المعارك الطويلة، عامل أرق للحكومات الغربية وأجهزتها الأمنية وحتى شرائح من شعوبها،  خاصة تلك الدول التي عانت من هجمات لعناصر ينتمون لتنظيم داعش مؤخراً مثل بلجيكا وفرنسا، حيث تشكل عودة هؤلاء هاجساً أمنياً وتحدياً مجتمعياً خطيراً، يتعلق بأوضاع مراكز احتجازهم وعائلاتهم وحقوقها وكيفية إدماجهم بالمجتمع في حال عودتهم، إذ صرحت الحكومة البلجيكية على سبيل المثال بأنها تخشى من ازدياد عمليات تجنيد يقوم بها معتقلون جهاديون داخل سجونها.

ولمواجهة هذه المخاوف، تفكر تلك الدول بحلول كثيرة غير إعادة المقاتلين المستسلمين أو المعتقلين إلى أراضيها الآن، ومنها تحسين أوضاعهم في أماكن أحتجازهم في العراق وسوريا، وهو ما يحصل في سجون قوات سوريا الديمقراطية، حيث يُعامل رعايا تلك الدول معاملة خاصة، ضمن ظروف احتجاز تماثل ظروف الاحتجاز المحتملة في بلدانهم نفسها، ويحضر عمليات التحقيق معهم عناصر استخباراتية من بلدانهم في أحيان كثيرة.

لكن الأعداد الكبيرة للمعتقلين في سجون قسد، والتي قيلَ إنها بلغت 700 مقاتل قبل انطلاق معركة شرق دير الزور الأخيرة، تجعل من إدارة هذا الملف أمراً بالغ الصعوبة في ظروف عدم الاستقرار الراهنة. وتشير جميع الأنباء المتتالية إلى أن هذه العدد يتزايد سريعاً خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، جرّاء استسلام أعداد من هؤلاء المقاتلين، الذين تداولت مواقع إلكترونية أسماء كثيرين منهم وجنسياتهم، وهو ما تؤكده مصادر محلية متقاطعة، ومصادر داخل قوات سوريا الديمقراطية نفسها.

وتشير تسريبات أسماء المقاتلين المستسلمين مؤخراً إلى تحدرهم من دول أجنبية متعددة، منها تركيا وأفغانستان وروسيا وكازخستان وطاجيكستان وأوزباكستان وألمانيا وأوكرانيا وإيرلندا والولايات المتحدة وغيرها.

ويعود هذا الازدياد الملحوظ في أعداد المقاتلين الأجانب المستسلمين إلى اقتراب معركة شرق الفرات من نهايتها، وتجمع آلاف المقاتلين في بقعة شديدة الضيق تتعرض لقصف جوي عنيف من قبل التحالف الدولي، وما يرافق هذا من شعور باليأس لدى كثير من المقاتلين. ويفرض هذا أعباء جديدة على قسد والتحالف الدولي، من ناحية تأمين هؤلاء وعدم المخاطرة في تجميعهم في مكان واحد، ما قد يسبب خطراً أمنياً على المنطقة فيما لو حدث هروب كبير للمحتجزين، على غرار ما حدث سابقاً في سجن أبو غريب في العراق عام 2013.

ومن الأحداث التي تشير إلى أهمية هذا الملف ومحوريته، مبادرة قيادة قوات سوريا الديمقراطية إلى استخدام هذه الورقة فور إعلان ترامب نيته سحب قوات بلاده في سوريا، وهو الإعلان الذي اعتبرته قسد تخلياً عنها، إذ هددت الأخيرة بإطلاق سراحهم كونها لن تستطيع إدارة هذا الملف وتحمّل مسؤوليته بمفردها.

وليس الاحتفاظ بهؤلاء في سجون قسد أو العراق مع تحسين أوضاعهم أمراً نهائياً، كما أنه ليس سياسة تتبعها جميع الدول الأجنبية، إذ استعادت كازخستان نحو 46 شخصاً يحملون جنسيتها مطلع كانون الثاني الجاري، هم خمسة مقاتلين كانوا محتجزين في سجون قسد، وواحد وأربعون طفلاً وامرأة من عوائل مقاتلين. كذلك تلجأ دول أخرى إلى حلول وسط، تقضي باستعادة الأطفال والنساء الذين يحملون جنسيتها فقط، وقد نقلت وكالة فرانس برس أواخر العام الماضي أنباء تفيد بنقل عشرات الأطفال والنساء من العراق إلى روسيا، معظمهم من داغستان والشيشان.

ويشكل الأطفال الذين ولدوا في مناطق سيطرة داعش نتيجة زواج مقاتلين أجانب من نساء يحملنَ الجنسية نفسها أو جنسيات أخرى، أو من نساء في المجتمعات المحلية، تحدياً قانونياً وأخلاقياً كبيراً يواجه دول المقاتلين الأصلية، سواء فيما يتعلق بجنسيات هؤلاء الأطفال وإثباتها، أو فيما يتعلق بحقوقهم ومصيرهم.

لا يبدو أن معضلة المقاتلين الأجانب تسير في طريقها نحو حلّ قريب، لما تحمله من تعقيدات قانونية وسياسية وأمنية، ولعلّها ستشكل أبرز تحديات المرحلة القادمة ممّا يسمى الحرب على الإرهاب، وسيكون بحث مصير هؤلاء وكيفية محاكمتهم وإعادتهم إلى دولهم الأصلية وإعادة تأهيلهم على رأس جدول أعمال دول كثيرة عبر العالم خلال الأشهر القادمة.

وفي ظل استمرار وجود الآلاف من هؤلاء في سوريا والعراق وغيرهما، واستمرار وجود بؤر مشتعلة عديدة في العالم، ومواصلة التعامل مع قضية الجماعات الجهادية باعتبارها قضية أمنية محضة من جهة، وقضية يمكن الاستفادة منها سياسياً من جهة أخرى، فإنه يمكن أن يتم إفساح المجال أمامهم للانتقال إلى أماكن وجبهات أخرى عبر توافقات استخباراتية دولية مباشرة أو غير مباشرة. وإذا كانت اتفاقات كهذه لا يمكن أن ترشح إلى العلن، فإن تجارب سابقة عديدة تشير إلى أنها تبقى أمراً محتمل الحدوث.

أين هو تنظيم داعش في سوريا اليوم؟

دفع قرار الانسحاب الأميركي من سوريا بالسؤال عن مصير تنظيم داعش إلى الواجهة مجدداً، فالتنظيم الذي لم يتم القضاء عليه نهائياً حتى اللحظة قد يستفيد من هذا القرار لإعادة ترتيب صفوفه، إلا أن مثل هذا السيناريو ليس محتماً ولا أكيداً.

بالمقابل، فإن التحركات الدبلوماسية والإجراءات الميدانية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية بعد قرار الانسحاب، تؤكد نية الولايات المتحدة القضاء على التنظيم قبل انسحابها، وتؤكد استمرارها في العمليات العسكرية ضده بصرف النظر عن حجم تواجد قواتها البري.

وعلى الرغم من أن التنظيم قد استفاد من فترة هدوء العمليات ضده في الجيب الذي يسيطر عليه شرق الفرات، إلا أنه تعرض لانكسارات متتالية على تلك الجبهة، منذ خسارته السيطرة على بلدة هجين، ومن ثم سيطرة قوات سوريا الديموقراطية على أغلب مساحة بلدة الشعفة التي يقاتل التنظيم في أجزاء صغيرة منها الآن.

ولا يزال داعش يسيطر على بلدتي السوسة والباغوز وأجزاء من بلدة الشعفة، ضمن جيب صغير شرق نهر الفرات بالقرب من مدينة البوكمال على الحدود مع العراق، وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان أن قيادة التنظيم في تلك المنطقة قدمت عرضاً للانسحاب مقابل فتح الطريق لها نحو البادية العراقية، إلا رد قوات التحالف وقسد جاء بالرفض، متضمناً عرضاً وحيداً هو الموت أو الاستسلام، حسب ما نقل المرصد.

وفي سوريا ينتشر التنظيم أيضاً في منطقة البادية الممتدة بين الأطراف الغربية لنهر الفرات، وحتى أطراف محافظة السويداء والقلمون الشرقي وريف دمشق، وقد استفاد التنظيم جداً من تلك المساحات الواسعة جداً خلال مراحل نشاطه، وهو يمتلك خبرة واسعة للعمل في مناطق مماثلة منذ بداياته في العراق. وإذ تضم بادية الأنبار العراقية مجموعات للتنظيم، ليس هناك معلومات مؤكدة عن حجمها، إلا أن خبرة التنظيم في تلك المنطقة قد تجعلها الملجأ الأخير له، مع الإبقاء على تواجد له في البادية السورية، بما يمنحه قدرة على الحركة بشكل متكرر في مساحات واسعة يصعب ضبطها.

وعلى الرغم من تراجع حدة المعارك ضد التنظيم في البادية السورية بعد سيطرة قوات النظام على تلال الصفا شرق السويداء نهاية شهر تشرين الثاني الماضي، إلا أن الهزائم المتتالية التي تعرض لها، قد أثرت بشكل مستدام على بنيته التنظيمية وطبيعة حركته وأهدافه في المرحلة المقبلة، حتى بات من غير المرجح أن يحاول التنظيم استعادة السيطرة على مناطق جديدة في سوريا قريباً، نتيجة الإنهاك الكبير الذي تعرض له.

التحول في بنية التنظيم وطبيعة تواجده الجغرافي، دفعت به إلى تغيير أنماط القيادة والتحكم والسيطرة، وعن هذا يقول الباحث سعد الشارع: «تشكلت خلال العام الماضي لجنة من قيادات في الصف الثاني بعد مقتل معظم قيادات الصف الأول، تسمى اللجنة المفوضة، وتفيد المعلومات المتوافرة عنها بأنها غير متواجدة في الجيوب التي يسيطر عليها التنظيم، كما أنها غير موجودة في مكان واحد، وتقوم بتوجيه التعليمات والأوامر لقيادات الصف الثالث والرابع في المجموعات المقاتلة، إلا إنها في وضع لا يسمح لها برسم استراتيجيات واضحة».

وبينما يسيطر الهاجس الأمني والخوف من عودة المقاتلين الأجانب على أوروبا والولايات المتحدة، فإن التنظيم ليس اليوم في وضع يسمح له بتنسيق عمليات أمنية واسعة، أو بالقيام باختراقات مهمة على الأرض في سوريا أو العراق، ليبقى مصير «المهاجرين» الملف الرئيسي بالنسبة للقوى الدولية. وقد قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن أكثر من 600 شخص فروا من الجيب الذي يسيطر عليه تنظيم داعش شرق الفرات يوم الخميس العاشر من كانون الثاني 2019 نحو مناطق سيطرة قسد، وبين هؤلاء عدد من عائلات المقاتلين الأجانب.

وعلى صعيد العمليات الأمنية التي ينفذها التنظيم في سوريا، فإن ساحتها الرئيسية اليوم هي مناطق سيطرة قسد شرق الفرات، حيث تقوم خلايا تابعة للتنظيم بتنفيذ عمليات انتحارية وتفجيرات. وبالمقابل، فإن الحملات الأمنية التي نفذتها فصائل محافظة إدلب ضد عناصر التنظيم، قد قللت بشكل كبير من قدرته على القيام بتحركات واسعة ومنسقة هناك، ما يجعلها منطقة غير مرجحة للقيام بإعادة تمركز للتنظيم الذي يعاني من تراجع كبير.

نتيجة لهذه الأوضاع، فإن احتمال عودة قوية للتنظيم في سوريا أو العراق يبدو أمراً مستبعداً جداً خلال الفترة القريبة، إلا أن استمرار الأوضاع السياسية في البلدين على حالها، واستمرار الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدت إلى بروزه في العراق في المقام الأول، ستتيح للتنظيم اللجوء إلى فترة كمون قد تكون طويلة، لكنها تُهيء لعودة جديدة في السنوات المقبلة إذا ما استمرت عوامل كالوجود الإيراني والنظام السوري والتركيبة الحاكمة في العراق على حالها. كما أن تراجع وتيرة الاستنفار العسكري والأمني في الفترات المقبلة، قد يسمح للتنظيم بالقيام بعمليات على غرار العمليات الانتحارية التي كان ينفذها في العراق طوال سنوات، لكن في هذه المرة قد تكون سوريا ساحة جديدة لها.

وربما يكون هدف التنظيم الرئيسي في الوقت الحالي هو الانتقال إلى منطقة جديدة لبناء نفسه مجدداً، ووقد تكون مناطق عديدة تشهد أزمات وتوترات مرشحة لذلك، من بينها مناطق في آسيا الوسطى واليمن وشمال إفريقيا. وإذا كان مؤكداً أن الولايات المتحدة مصرة على القضاء على الجيب الذي يسيطر عليه التنظيم شرق الفرات نهائياً قبل انسحابها، لتقديم إنجازها هذا للإعلام والرأي العام الأمريكي والعالمي ، إلا أن هذا لن يعني بحال من الأحوال أنه قد تم القضاء داعش.

كيف هي الحياة في آخر أمتار “دولة الخلافة”؟

في الجيب الأخير لتنظيم “الدولة الإسلامية” في شرق سوريا، يعيش المقاتلون مع من تبقى من أفراد عائلاتهم في خنادق محفورة تحت الخيم للاحتماء من القصف والغارات، ويعانون من الذعر والجوع والبرد، بحسب ما نقلت وكالة “فرانس برس” عن خارجين من الباغوز خلال اليومين الأخيرين.

وخرج أكثر من سبعة آلاف شخص، غالبيتهم نساء وأطفال وبينهم عدد كبير من الأجانب، منذ مطلع الأسبوع من بلدة الباغوز حيث بات وجود التنظيم يقتصر على خيم متفرقة وبعض المزارع المدمرة. ويروي الخارجون تفاصيل أيام صعبة عاشوها تحت قصف “قوات سوريا الديموقراطية” وغارات طائرات التحالف الدولي بقيادة واشنطن التي لا تفارق الأجواء.

وتقول الفنلندية سنا (47 عاماً) التي خرجت مع أطفالها الأربعة من الباغوز الثلاثاء الماضي، إن “الأيام الأخيرة كانت مروعة، قصف وإطلاق رصاص واحتراق الخيم”. وتروي السيدة المنقبة ذات العينين العسليتين “كنّا ننام في الليل لنفيق في اليوم اللاحق، ونجد كل شيء قد تدمّر”، مضيفة “لم يكن أمامنا خيار سوى الخروج”.

وكانت سنا في عداد المئات من الأشخاص، من نساء وأطفال ورجال يشتبه بانتماء غالبيتهم إلى التنظيم، الذين خرجوا في حالة يُرثى لها الثلاثاء من جيب الباغوز، إلى نقطة فرز لـ”قوات سوريا الديموقراطية” على بعد عشرين كيلومتراً شمالي البلدة.

وروت مراسلة “فرانس برس” مشاهداتها في هذه النقطة، وقالت إنها رأيت أطفالاً يرتدون سترات مصنوعة من بطانيات شتوية ملونة يرتدونها للوقاية من البرد، وأمهات يسارعن لأخذ الخبز وحليب الأطفال والحفاضات التي يتمّ توزيعها عليهن، والعديد من الجرحى.

من تحت نقابها، تتناول سنا بشراهة حليب بودرة مزجته بالمياه وقدمت منه لأطفالها. وتقول إنها وصلت برفقة زوجها المغربي إلى “الشام من أجل الإسلام” قبل أكثر من أربع سنوات وللعيش في كنف “الخلافة”. لكن الوضع تبدّل بعد عام من وصولها مع بدء الهجمات ضد معاقل التنظيم ثم وفاة زوجها بحادث سير، على حد قولها.

وتضيف “كان كل شيء طبيعياً، كنا سعداء”، قبل أن تبدأ بالتنقل من مدينة إلى أخرى هرباً من المعارك وصولاً الى الباغوز، حيث لم يعد هناك إلا “القصف والموت فقط والجوع”.

تتمنى هذه السيدة لو أن بامكانها اليوم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكنها تستدرك “ليس بإمكاني تغيير ماضيّ، هذا قدري الآن”.

ويصف أبو مريم (28 عاماً)، وهو سوري من طرطوس، خرج الثلاثاء من الباغوز، كيف خسر زوجته وطفليه جراء القصف قبل أيام. يقول، وهو بين عدد قليل من الرجال الذين سمحت “قوات سوريا الديموقراطية” للصحافيين بالتحدث إليهم عند نقطة الفرز: “احترقوا وخسرت كل شيء، أريد فقط أن أخرج وأستريح”.

وتفصل بين مخيم الجهاديين ونقاط “قوات سوريا الديموقراطية” في أحد المحاور، أراض زراعية وعشرات هياكل السيارات المحترقة. وترصد هذه القوات من نقاط تواجدها، حركة دراجات نارية ورجالا يركضون ذهاباً وإياباً بين الخيم.

ويشرح أبو مريم “كنا نحفر خنادق في الأرض ونضع فوقها أغطية… هذه هي الخيم حالياً” التي يقول إنها تكتظ بعائلات تعيش “قرب بعضها البعض بسبب الزحمة”.

وجلس عشرات الرجال المشتبه بانتمائهم للتنظيم أرضاً في صفوف متراصة بعد إخضاعهم للتفتيش على أيدي “قوات سوريا الديموقراطية”. في المكان أيضا، عناصر من قوات التحالف الدولي الذي يراقبون الخارجين.

وتروي العراقية فاطمة عبد جاسم أنها تحمّلت الوضع “الكارثي” مع ابنتيها في المخيم، بانتظار إفراج التنظيم عن ابنها العشريني الذي كان احتجزه مع آخرين لمنعهم من الهرب.

وتقول “كانوا يسجنون الراغبين في الخروج من الشباب تحت الأربعين عاماً في خيمة يحيط بها حراس لمنعهم من الفرار، لكنهم سمحوا لهم قبل يومين فقط بالخروج”.

في الموقع المخصص للنساء في نقطة الفرز، تفترش شابة فرنسية مصابة بطلق ناري في رجلها، الأرض قرب عكازيها. ترفض الكشف عن اسمها، لكنها لا تخفي غضبها من القصف على الباغوز. وتقول “الرصاص دائماً فوق رؤوسنا.. في كل مكان ويتم إطلاق النار على الجميع”.

وخرجت هذه الشابة ذات العينين الخضرواين والتي تضع محبساً وخاتماً من الذهب في يدها، من الباغوز برفقة أطفالها، بينما تقول إنها لا تعرف مكان زوجها.

وتختصر الوضع في الباغوز بالقول “إنها الفوضى… في الواقع ليس هناك من كلمات أخرى”، مؤكدة أن ما تريده “هو القليل من الهدوء بعد الطعام”.

ويتحدث الخارجون من جيب التنظيم منذ أسابيع عن نقص في المواد الغذائية والمياه، مع ارتفاع ثمن تلك المتوفرة إلى حد كبير.

وتعرب صديقة سنا، وهي بلجيكية تعرف عن نفسها باسم صافية (24 عاماً)، عن سعادتها لتذوق الخضار بعد خروجها من الباغوز. وتقول “منذ أكثر من تسعة أشهر لم نر الخضار”، موضحة أن سعر كيلوغرام الأرز وصل إلى “أكثر من 50 دولاراً الشهر الماضي”.

وكانت هذه الشابة لحقت بزوجها الفرنسي إلى مدينة الرقة، التي شكلت المعقل الأبرز للتنظيم المتطرف في سوريا، قبل طرده منها. لم تعتقد صافية حين أتت إلى سوريا، أن “الخلافة” التي أعلنها التنظيم في العام 2014 على مساحات واسعة من سوريا والعراق ستنتهي بهذا الشكل في بلدة صغيرة نائية لم يسمع أحد باسمها قبل أشهر. وتقول “حقيقة، ظننت أنها ستكبر فقط، أما اليوم فبتنا نحتاج معجزة”

الباغوز… رائحة الجثث في كل مكان… والسماء كتلة نار

الباغوز (شرق سوريا): كمال شيخو

على بعد 5 كيلومترات شمال بلدة الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا، يجلس مجموعة من الرجال على الأرض في صفوف متراصة. بعد دقائق تصل دفعة جديدة على متن شاحنات نقل كبيرة إلى النقطة نفسها. طُلب من الرجال السير نحو الآخرين للخضوع للتفتيش، ينتظرون إشارة من جندي أميركي كان يقف على مسافة قريبة، وسط انتشار كثيف للقوات الخاصة الأميركية، ومدرعات مصفحة ومقاتلين من «قوات سوريا الديمقراطية» التي فرضت طوقاً أمنياً على المكان.

بعض الرجال كانت ملامحهم آسيوية وآخرون من روسيا ودول غربية وعربية، بشرتهم سمراء اللون يتشابهون، بلحية كثة، يرتدون عباءات بنية أو سوداء اللون فوق ثيابهم، ويضعون قبعات أو كوفيات فوق رؤوسهم. قدموا من آلاف الكيلومترات إلى سوريا أكثر منطقة ساخنة بالشرق الأوسط منذ عام 2011، وطالما حلموا بالعيش في كنف تطرف مشابه لـ«داعش»، فانتهى بهم المطاف في هذه النقطة بانتظار تحديد مصيرهم بعد استسلامهم.

بعد إنهاء عملية التفتيش والتدقيق الأولى في الهويات وأخذ بصماتهم وجمع المعلومات الشخصية، تُنقل النساء مع أطفالهنّ إلى مخيم الهول شمالاً، بينما يتم إيداع الرجال والشباب المشتبه بانتمائهم لتنظيم داعش بسيارات خاصة كانت تقف قريباً، ليتم لاحقاً نقلهم إلى مراكز تحقيق خاصة وإيداعهم في السجون.

ليس خافياً على أحد أنّ هؤلاء هم عناصر تنظيم «داعش» المتطرف، الذين أثاروا الرعب ونشروا الخوف خلال السنوات الماضية بقواعده المتشدّدة وأحكامه المتوحشة. حيث أصدر مناهجه وعملته الخاصة وجنى الضرائب من قرابة 8 ملايين نسمة. في ذروة قوته كان يسيطر على أراض ومدن حضرية في سوريا والعراق المجاور تقدر مساحتها بمساحة بريطانيا.

في هذه النقطة معظم الخارجين من عائلات التنظيم، من جنسيات متعددة، نساء متشحات بالسواد من دول المغرب العربي ومن العراق ودول عربية. وأخريات من دول الاتحاد السوفياتي السابق ومن روسيا والشيشان وإندونيسيا، بالإضافة إلى عائلات قدموا من فرنسا وبلجيكيا ودول غربية.

عائلة من العراق

«أنا شيماء أبلغ من العمر 55 سنة، عراقية من مدينة الموصل. قتل زوجي أثناء المعارك في مسقط رأسي منتصف 2015. على إثر ذلك نزحنا إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا، وبعد اشتداد المعارك هناك، قررنا المجيء إلى سوريا، قصدنا قرية أبو حمام بريف دير الزور الشمالي، ثم هجين والسوسة وشعفة وآخر مكان كنا محاصرين بداخله الباغوز، كنا نتراجع مع انسحاب مقاتلي التنظيم». وتضيف: «لدي ثلاث بنات، أكبرهنّ قتلت قبل خروجنا بثلاثة أيام. لم نتمكن من دفنها جراء المعارك. أما الأخريات فما زلن فتيات وهن جالسات بجانبي. الأولى ولدت 2002 والثانية تصغرها سنة، كما كان لدي ولدان وهما أكبر إخوتهم، قتلوا بغارة جوية في معارك هجين، وبقي عندي ابن عمره عشر سنوات والأصغر عمره 5 سنوات… يجلسون جميعاً بجانبي وسط هذه الصحراء».

ومضت بالقول: «لا، أنا لستُ بنتا؛ أنا هيفاء متزوجة من مقاتل لا يزال مرابطا بالباغوز. لقد قرر القتال حتى النهاية. أما نحن فخرجنا بأمر من أبو بكر البغدادي القرشي. فالنساء والأطفال مستضعفات لذلك أصدر قرارا بالسماح بخروجهنّ. نمنا اليوم هنا ونأمل في ترحيلنا اليوم لمخيم الهول شمالاً. عندما جاء الصحافيون والكاميرات، قدموا لنا كل شيء، من طعام ودواء وخبز. ولكن لا أحد يكترث لنا، عندما نأكل يجب أن نرفع البرقع والخمار، لكن مع وجود هذا الكم من الأشخاص الغرباء لا أحد يحترم خصوصيتنا. يأتون لالتقطاط الصور وإجراء المقابلات وهذا غير مقبول».

تقول ثانية: «أما أنا فأدعى وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة أيضاً من مقاتل مغربي ولقي حتفه في معركة هجين قبل أشهر، عندما تزوجت كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 16 وأنجبت منه طفلة عمرها 9 أشهر، لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر، من كان والدها، وكيف قتل، أين أنجبتها، وأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».

أرملة من طاجيكستان

«اسمي أسماء أنحدر من طاجيكستان، أنا مسلمة وعمري 27 سنة. أرملة ولدي 4 أطفال جميعهم من مواليد سوريا. زوجي كان من طاجيك وكان يعمل في مصر يمتلك شركة صغيرة للتجارة. انضم إلى تنظيم (القاعدة) بداية 2012، بعدما قرر والدي الانضمام إليها وسافر رفقة والدتي وإخوتي الصغار إلى مدينة إدلب غرب سوريا بالعام نفسه، قتل بغارة جوية أما والدتي فلا تزال تعيش هناك. لا تعلم عني شيئا منذ شهرين، سأتصل بها عندما يتسنى لي ذلك».

أنا هنا بسبب زوجي الذي قرر السفر لسوريا بداية 2013. بداية كان مقاتلا مع تنظيم «جبهة النصرة» – هيئة تحرير الشام الآن – وبعد احتدام القتال بينها وبين تنظيم «داعش»، قرر الالتحاق بالأخيرة وقصدنا مدينة الرقة مع إعلان السيطرة على مناطق في شهر يناير (كانون الثاني) 2014، وبعد إعلان معركة الرقة نهاية 2016، خرجنا إلى مدينة الميادين ثم البوكمال وبعد اشتداد القتال هناك قصدنا بلدة الباغوز. منذ أشهر ونحن لا ننعم بالاستقرار والأمان. أحمل حقيبة صغيرة معي أضع بداخلها بعض الملابس لأطفالي أما أنا فمنذ شهر أرتدي هذه الملابس السوداء.

أجلس في هذه النقطة الصحراوية أنتظر دوري للسماح بنقلي إلى مخيم الهول. عناصر التنظيم تحدثوا كثيراً أن القوات المهاجمة من الكفار والخوارج، عندما وصلنا إلى هنا كانت معاملتهم حسنة. كما كان في استقبالنا جنود أميركيون مع منظمة أميركية خيرية تقدم لنا الطعام والخبز وحفاضات الأطفال وتعالج المصابين.

بقيت أكثر من 3 أيّام من دون طعام. بعد وصولنا إلى هنا أكلت بعض الخبز والمعلبات، أعطوني علبة حليب وأطعمت طفلي الصغير، وأكل أطفالي وشربوا مياها صحية لكن التعب والبرد ينخر أجسادنا النحيلة من شهور الحصار هناك.

أتفقد أطفالي الصغار كل ثانية وطفلي الصغير يبكي باستمرار. أكبرهم من مواليد 2014 ولد بالرقة، أما الثاني فولد في الميادين، والثالث في البوكمال، وأصغرهم ولد قبل شهرين بالباغوز. كل ما أتمناه في هذه اللحظة أن ألتقي مع والدتي وأعيش معها في مكان ما».

من أعزاز بريف حلب

«أنا فاطمة عمري 22 سنة متحدرة من بلدة أعزاز بريف حلب الشمالي. زوجة زعيم بالتنظيم. زوجي ينحدر من دولة عربية وأكبر مني بعشرين سنة. عائلتي وافقت على زواجي لكونه مسؤولا بارزا. في معركة الباغوز أصيب إصابة بليغة، وعندما أعلنت الهدنة الأخيرة قرر الخروج وهو محتجز لدى الأميركيين لا أعلم ماذا سيكون مصيره.

أنجبت منه طفلتين: الأولى ماتت بسبب المرض والحصار المفروض على البلدة لعدم وجود طبيب جراح وأدوية، والثانية عمرها 7 أشهر لكنها تبكي منذ أمس بسبب البرد والجوع. في معارك حلب فقدت كل وثائقي، بطاقتي الشخصية وجواز سفري، لا أحمل أي إثبات لشخصيتي، أما زوجي فحمل كل أوراقه وصحبها معه.

حاولنا الهروب مراراً. أول مرة طلب منا المهرب 5 آلاف دولار أخذ نصف المبلغ ولاذ بالفرار. بينما في المرة الثانية دفعنا ألفي دولار مقابل إيصالنا إلى الحدود العراقية، وعندما وصلنا إلى مخيم الباغوز بعد مشي استغرق 6 ساعات، قلنا إنها الحدود لوجود مخيم ثان هناك، لكن اكتشفنا سريعاً أن المهرب خدعنا وهرب هو الآخر.

لذلك بقينا آخر دفعة. انتظرنا هناك 12 ساعة حتى خرجنا من البلدة، ومنذ أمس ونحن هنا في هذه الصحراء القاحلة مع هبوب الغبار والرياح الجافة. كنا نعيش في الملاجئ والحفر. كل عائلة قامت بحفر جورة كبيرة للاختباء أثناء القصف. أكثر منطقة آمنة كانت المخيم الواقع جنوب البلدة على ضفة الفرات.

زوجي يرفض العودة إلى بلده، قد نبقى في سوريا إذا سمح لنا بذلك، أو نسافر إلى تركيا، المهم ننتهي من هذه الإجراءات ونعبر إلى المخيم، وبعد الإفراج عن زوجي سنقرر أين نعيش».

من تونس إلى الباغوز

«أنا سعدية من دولة تونس. عمري 26 سنة. كنت أدرس اللغة العربية في بلدي، وبعدما قررت أسرتي السفر إلى سوريا صيف 2015 جئت معهم. تجلس هنا والدتي وشقيقتي الأصغر مني، تجلس هنا أيضا خالتي وبناتها الثلاث وابنها البالغ من العمر 8 سنوات. قتل والدي في معركة دير الزور، أما زوج خالتي فأصيب في معركة الباغوز وسلم نفسه أمس نجهل مصيره، وخالتي كان لديها ابنها البكر يقاتل في صفوف التنظيم، قرر البقاء للقتال ورفض بشدة الخروج معنا.

أما الحياة بالباغوز فكنا معظم الوقت نأكل الحشائش ونشرب مياه الفرات. فقدت الأغذية والسلع الأساسية. لم يكن هناك أدوية أو أطباء، الحياة كانت صعبة للغاية. قبل ثلاثة أيام وأثناء القصف العنيف، تحولت السماء إلى كتلة من النار، شعرت أن الأرض احترقت بالكامل، كنت أقول إنه لن يسلم أحد ليلتها. في اليوم الثاني بقي لهيب النار وسحب الدخان تغطي المكان. روائح الجثث المتفسخة كانت في كل مكان. لم نصدق أننا نجونا من الموت».

عائلة من إندونيسيا

«اسمي نور خيرت وعمري 22 سنة. نجلس هنا أنا ووالدتي وأخواتي الصغار. والدي سلم نفسه. كان في البداية مقاتلا لكنه كان يدرس اللغة العربية في معاهد التنظيم. في صيف عام 2015، قطعنا آلاف الكيلومترات في رحلة جوية أقلعت من العاصمة جاكرتا مسقط رأسي، متجهين نحو مدينة إسطنبول التركية، ومنها أكملنا الرحلة براً على متنِ حافلة حديثة، قاصدين مدينة كِلس التركية الحدودية مع سوريا. عبرنا سراً من خلال منفذ بلدة الراعي الحدودي على الطرف السوري الذي كان يخضع آنذاك لسيطرة التنظيم، قصدنا مدينة منبج بريف حلب الشرقي، ثم ذهبنا إلى مدينة الرقة وجهتنا المقصودة آملين العيش في ظل (داعش).

تعرفت على صفحات مقاتلي التنظيم عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. قرأت كثيرا عنهم وعن مناطق سيطرتهم التي كنا نظن أنها ستكون المكان الأفضل لنعيش فيه، حيث بإمكاني ارتداء اللباس الشرعي دون قيود، وأستطيع أن أعبر بحرية عن مظهري كفتاة مسلمة. للأسف الواقع كان عكس الكلام الافتراضي، اكتشفنا كذب ادعاءاتهم وزيف وعودهم، عايشنا ظلمهم وشاهدنا كيف كانوا يعاقبون الناس، قالوا لنا إن الطبابة بالمجان والعلاج في المشفى على نفقة التنظيم، وحتى الأدوية تعطى للمريض مجاناً، كل ذلك كان كذبا في كذب. كثير من عناصر التنظيم طلبوني للزواج، لكنني وأهلي كنا نرفض، لأنهم لا يصلحون للزواج، يتزوجون لمدة شهر أو شهرين إما يقتلون في المعارك أو يطلّقون نساءهم ويتزوجون مرة ثانية.

تنقلنا بين سوريا والعراق، وكلما كانت مدينة أو بلدة تتعرض للهجوم كنا نقصد مكانا آخر. المعارك لم تهدأ منذ أكثر من عامين كنا ندرك أن التنظيم سيخسر في النهاية. ننتظر انتهاء الإجراءات هنا ونقلنا إلى مخيم الهول وننتظر تحديد مصيرنا. سنعود إلى بلدي، فالحكومة سترأف بحالنا».

لامكان لتخزين عناصر «داعش»/ مشرق عباس

لايمكن حل التعقيد الذي تركه تنظيم «داعش» في المنطقة بتسويات سياسية، كما لايمكن حله بنقل عناصر التنظيم الى بلدانهم او الى بلدان مضيفة، وليس ثمة سبيل واضح لمحاكمتهم في بلدانهم الأصلية، ولا يجب العفو عنهم والتعامل بليونة مع ارتكاباتهم الجسيمة، وايضا لن يتمكن العراق من محاكمة مقاتلين لم يرتكبوا جرائم واضحة على ارضه، ولن تفعل سورية ذلك، ولن ينجح الجميع في التعاطي مع مشكلة عائلات التنظيم، ولا مع الأدلة الفعلية التي تدين المتهمين منهم قانونا في ظل تفاوت على مستوى البيئة القانونية والأحكام بين دولة واخرى.

الأزمة التي تتشكل على الحدود العراقية السورية، على خلفية الاتفاقات والتسويات الروسية والاميركية الاخيرة مع عناصر التنظيم للاستسلام، لاتشبه سواها، فالمقاتلون لاينتمون الى بلد محدد، والجرائم تمتد الى مساحة الكوكب، والاعتبارات الانسانية والقانونية تقف حائلاً امام رغبة الكثيرين بتصفية سريعة لهذا الملف، فيما ان التعاطي الدولي مع النظام في سورية يشكل عقبة اخرى.

من الطبيعي ان تحاول الدول المتورطة بعائدية عناصر من تنظيم «داعش» اليها وبالضرورة عائلاتهم وابنائهم حتى اؤلئك المولودين في العراق وسورية، إلقاء اللوم ومن ثم التبعات على الدول المتضررة، ومن ذلك اقتراح تحويل العراق الى «مخزن مؤقت» لعناصر التنظيم، كحل مثالي يدفع الازمة الى الامام من دون ان يتكفل بحلها.

وبالاضافة الى ان العراق لايمكنه تحمل تبعات هذا الحل، فانه مطالب في الاساس بايجاد حلول لاتقل تعقيداً لمئات الالاف من عناصر التنظيم وعائلاتهم المتكدسين في السجون او في معسكرات العزل، والذين يتحولون الى مايشبه القنابل الموقوتة الصالحة للتفجير.

ولهذا لايمكن للحكومة العراقية أن تقبل بهذا الخيار، وعليها تحمل الضغوط التي تمارس في هذه الاثناء لتسوية الازمة السورية بهذه الطريقة، وان تصر على منع الاحتفاظ بأي من عناصر التنظيم الاجانب الذين يتمتعون بحماية صفقات وتسويات الحدود الاخيرة، لكنها مطالبة باستقدام العناصر العراقيين ومحاكمتهم وايجاد حل دائم في اليات التعاطي مع عائلاتهم.

ومع ذلك فان نقل عناصر تنظيم «داعش» الاجانب الى بلدانهم، على غرار صفقة نقل المئات من «الشيشانيين» من سورية الى العراق ومن ثم الى الشيشان، وعودة جنسيات اخرى الى تركيا ودول الجوار، وبعض الدول الاوربية، تمثل خطراً حقيقياً على أمن العراق المستقبلي وعلى المنطقة والعالم، في حال اختارت هذه الدول عدم محاكمة مواطنيها، او التعامل معهم باجراءات مخففة، او حتى معاملتهم معاملة الابطال كما حصل فعلياً في بعض الحالات.

ومن دون ادلة واضحة، ولا رؤية قانونية موحدة لتصفية تركة «داعش» فان النقل واعادة التوطين بشكل غير منضبط سيعني منح ملاذات آمنة لمجموعات من أخطر الارهابيين، وأكثرهم تشدداً، بما يسمح بعودتهم مرة أخرى الى العراق أو المنطقة لاستكمال نظرية دولة الخلافة.

التفكير بمحكمة دولية لهذا الغرض يعيقه عمليا، أن تشكيل المحاكم المشابهة مهمة في غاية التعقيد، فيما ان غياب الادلة والبراهين المطلوبة سيقف حائلاً امام العدالة، كما ان المحكمة الدولية لا تمثل حلاً لعائلات التنظيم التي تشكل هوياتها واثبات نسبها مشاكل اضافية.

الاقرب ان تتشكل برعاية اممية منظومة تعاون وتبادل معلومات ومشاركة في المحاكمات ونظام استثنائي لتبادل المتهمين بين كل الدول المعنية بالموضوع، سواء دول المتورطين وهؤلاء قد لايكونون مقاتلين بالضرورة وانما ممولين ومساعدين، او الدول المتضررة من عملياتهم، وان يضمن هذا الحل نقل كل عناصر التنظيم وعائلاتهم الى دولهم، على ان يكونوا في نطاق نظام العدالة الموحد المذكور وتحت سلطته.

لقد كان غياب التعاون، والتغاضي الدولي عن رحلات الهجرة التي تواصلت بين 2014 و2017 الى «دولة البغدادي» في العراق وسورية ودول اخرى، سبباً مباشراً في الازمة الحالية، ولن يكون التغاضي او رفض المشاركة اليوم في حل المشكلة الا سببا مباشراً في أزمة اخرى غداً.

الحياة

حلول مبتكرة وخمول في التنفيذ/ براء صبري

مع تركيز الكثير من المعنيين بشؤون الشرق الأوسط على تفاصيل المعركة التي تجري رحاها على الضفة الشرقية من نهر الفرات في محافظة دير الزور السورية، والتي قاربت على النهاية الرسمية لها بعد أن بقي القليل من الكليومترات من الأراضي بالقرب من بلدة “الباغوز الفوقاني” بين يدي التنظيم الذي أرعب العالم، وسيطر على مساحة تضاهي مساحة لبنان والأردن، تطفو على السطح قضية مرافقة للأحداث، ولها دور كبير في الرأي العام الغربي، وهي قضية المعتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي من الجنسيات الأجنبية والمنتمين لتنظيم “الدولة” الإسلامية. صخب الملف حوّله من قضية متعلقة بتفاصيل محددة لحرب معينة إلى ورقة للإخافة أو للتذكير بالفضل أو بتعقيد المعادلة التي تحتاج إلى حل قانوني، ودبلوماسي، وأمني حتى. لم يعد هناك ملف قانوني بسيط لأسرى حرب يحتاجون إلى تسليمهم إلى طرف مقابل بل هي قضية متعلقة بأشخاص يحملون جنسيات مختلفة وقاتلوا وعاشوا ضمن كيان إرهابي على الأراضي السورية، ووقعوا بيد جهة محلية سورية، وترفض دولهم استقبالهم، وتخشى الجهة التي تعتقلهم من هروبهم أو صعوبة التعامل معهم. عقدة قانونية وسياسية صعبة الحل لكون الكثير من الدول المعنية بالموضوع ترفض نسقا موحدا في التعامل وتعمل كل دولة حسب أجندتها الذاتية والوضع السياسي الداخلي لبلدانهم.

منذ بداية ظهور تنظيم “الدولة” الإسلامية قبل أكثر من أربع سنوات كانت قوافل الأجانب من مختلف بقاع العالم تلتحق به. غرابة قصة الالتحاق تكمن بالإضافة إلى وصول تلك الأعداد إلى تلك المناطق الساخنة في العالم بين حدودي سوريا والعراق هي في كون الكثير من الملتحقين في الجهاد المفترض هناك يأتون بعوائلهم معهم. بل كانت هناك الكثير من العوائل التي التحقت بالتنظيم دون أزواج! أطفال ونساء فقط. ومع وصول المعركة الرسمية إلى النهاية بدأت تلك القوافل البشرية توديع أراضي الخلافة المفترضة، والاستسلام لقوات سورية الديمقراطية التي تحارب التنظيم في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور. البيانات الحالية التي تأتي من ريف دير الزور عن أعداد المعتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية هي ما يمكن الركون إليه من حيثيات عن أرقام المعتقلين. والعدد لا يمكن أن يكون قد رسى على خشبة من الثبات لكون ما زال هناك من يحاول الخروج من منطقة سيطرة تنظيم “داعش” إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وهناك احتمال لوجود أجانب بينهم. ومع وصول أكثر من 51750 من الأول من كانون الأول/ديسمبر الماضي لمناطق “قسد” قال عبد الكريم عمر، أحد مسؤولي شؤون العلاقات الخارجية في المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في تصريحات لوكالة “رويترز”: “إن مقاتلي داعش من الأجانب المحتجزين لدى قوات سوريا الديمقراطية عددهم 800، علاوة على 1500 طفل و700 زوجة. الأعداد تلك تشمل الأرقام الرسمية المعلنة حتى اللحظة لمواطني دول آسيوية وأوروبية عديدة”.

ورقة ضغط من سوريا وواشنطن

كانت القوات الكردية العربية على أعقاب تحقيق الانتصار الكامل حتى ظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقراره المفاجئ بسحب القوات الأمريكية من سوريا خلال بضعة شهور. كان القرار بمثابة الصدمة لتلك القوات، وللدول الغربية، وحتى للساسة في واشنطن. لم يكن يظن أحد ان تتنازل واشنطن بكل هذه البساطة لثلث سوريا لروسيا، وتركيا، وإيران، وللنظام، بالطبع. كان لوقع القرار والتهديدات التركية بدخول منطقة شمال شرقي الفرات، والابتزاز من دمشق ضد المفاوضين الأكراد عوامل ليبحث الأكراد عن أوراق لديهم تعدل من مسار القرار الأمريكي وتذكر التحالف الدولي بضرورة عدم نسيان خدمات حليف محلي وعدم نكران واجب ضرورة حمايته من المحيط المعادي. بدأت الأحداث حينها عندما ذكر قادة في قوات سوريا الديمقراطية عقب قرار ترامب بانهم غير قادرين على الاحتفاظ بسجناء “داعش” لديهم، وبإن هناك احتمالا لهروبهم عند حدوث اجتياح تركي للمنطقة. كان الحديث عن سجناء “داعش” محاولة لإظهار مدى المخاطر التي تواجه “قسد” والهياكل الإدارية التابعة لها بسبب مواقف تركيا والنظام. فيما بعد وبينما كانت قوات سوريا الديمقراطية تعتبر السجناء “الدواعش الأجانب” لديها ورقة ضغط تساعدها في دفع الغربيين لتقديم الدعم لها بعد أن رفضت معظم الدول الغربية استقبال مواطنيها المنضوين في “داعش” وفضلت تركهم لمصيرهم في سوريا والعراق. ولكن، فيما يبدو أن ترامب سرق القصة، ويستخدم ملف المقاتلين الدواعش الأجانب للضغط ضد باقي دول التحالف الغاضبة من قرار الانسحاب الأمريكي. ويطالبهم ترامب بنقل الدواعش إلى بلادهم الأصلية، وإلا سيكون إطلاق سراحهم هو البديل!

تضارب مواقف

لم تصل القوى الدولية المعنية بملف محاربة “داعش” إلى صيغة محددة بشأن كيفية التعامل مع عناصر التنظيم من الجنسيات الغربية المعتقلين لدى “قسد” وتبحث كل دولة عن حل يسهل مهمتها ويبعدها عن التصادم المباشر مع هذا الملف، خاصةً، وأن الصخب السياسي في تلك الدول يهدد قوة الحكومات التي تحاول ان تلتفت لقضايا أكثر أهمية لها. بريطانيا التي تعاني التخبط نتيجة المفاوضات بشأن بريكست، وفرنسا التي لا تنام نتيجة قضايا كثيرة أولها حركة السترات الصفراء، وألمانيا التي تكافح لكبح اليمين الصاعد لديها، وباقي أوروبا المقيدة باليمين أصلاً، كلها مجتمعة تجد في قضية استقبال هؤلاء المقاتلين وعوائلهم ما يزيد من همومهم. وبين تخبط هنغاري، ونمساوي، وضعف في الرؤية من دول أصغر، فإن منسقة الاتحاد الأوروبي موغريني قالت على هامش اجتماع مجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي في 19 شباط/فبراير ردا على دعوة ترامب: “على حد علمي، كان الطلب موجهاً إلى الدول الأعضاء. يمكن أن تكون (المسألة) جزءاً من النقاش الذي سيتمحور حول سوريا”.

في سياق مغاير يبدو إن الروس هم أكثر الجهات الدولية التي تحاول إعادة العوائل الروسية المنتمية لتنظيم “داعش” وتتحدث العديد من التقارير عن عمليات نقل لهؤلاء إلى بغداد ومن بغداد إلى روسيا.

الضجيج وردات الفعل المذكورة لم تفض إلى حلول واضحة بعد. فالأمريكان لم يعطوا للملف أهمية كما كان يظن البعض حيث الدواعش الأمريكيين ليسوا بذاك الرقم الكبير، ولم يعمل الأمريكيون على وضع حل بقدر ما عملوا على استثمار القضية والضغط على باقي الحلفاء للركون لها. باقي دول الحلفاء تقلقها عودة المقاتلين، وتحرجها الصحافة، والمنظمات الإنسانية لتركها مواطنيها بين يدي محاكم العالم الثالث. وبينما يتحدث الجميع عن القضية، وبينما أصبحت المعركة الرسمية على مشارف النهاية توجد بضعة سيناريوهات ممكنة لوضع حل نهائي لمصير هؤلاء المعتقلين:

أولاً، تطبيق مطلب “قسد” وترامب بضرورة سحب الدول الأجنبية مواطنيها المعتقلين لدى “قسد” ومن ثم محاكمتهم هناك بموجب القوانين الخاصة لتلك الدول وهو مطلب يتفق مع مطالب المنظمات المعنية بحقوق الإنسان.

ثانياً، هو ما تحدث عنه القيادي الكردي الدار خليل لوكالة الصحافة الفرنسية عن إمكانية تشكيل محكمة دولية أو اثنتين لمحاكمة تلك العناصر في مناطق الإدارة الذاتية. وهو خيار صعب التطبيق على اعتبار ان إصدار قرار بهذا الشكل يتعارض مع عدد من الترتيبات القانونية في هكذا مواضيع معقدة.

ثالثاً، تسليمهم للعراق ومحاكمتهم هناك. ومع رفض الإدارة الذاتية وقوات “قسد” تطبيق حكم الموت على المعتقلين مهما كان جرمهم، فإن العراق يعتبره الكثير من الساسة في الدول الغربية خيارا مثاليا لتصفية تلك العناصر بعيداً. ورغم أن الأخبار التي تتحدث عن احتمال محاكمة تلك العناصر أمام المحاكم العراقية يثير غضب نشطاء حقوق الإنسان لكون المحاكم في العراق ليست بالمستوى المطلوب.

رابعاً، الاقتداء بفرنسا، حيث بدأت الحكومة الفرنسية الحديث عن فتح الباب لعودة العناصر الفرنسية ضمن “داعش” لمحاكمتهم في فرنسا بعد ان ذكرت الخارجية أن هدفها “تجنب فرار وانتشار هؤلاء الأشخاص الخطرين” وخاصة بعد قرار ترامب بالانسحاب.

بعد سنوات من الحرب على التنظيم ما زالت قضايا متعددة مصدر قلق للعديد من الجهات الدولية المعنية بقضايا الإرهاب. وعلى الرغم ان الجهة الرئيسية المسؤولة عن إدارة الملف المذكور في شرق الفرات في سوريا هي قوات سوريا الديمقراطية إلا أن مصير هذه القضية لم يجد طريقه بعد. وبين الخوف من أن تسبب هذه القضية زيادة الصخب في الداخل الأوروبي وبين أن لا يعامل هؤلاء بصورة قانونية هناك خوف من أن تسبب هذه القضية في زيادة الشحن العاطفي لدى الجهات المتطرفة في المنطقة لولادة وحش جديد قد لا يكون بحجم “داعش” ولكن بالوحشية والفكر نفسه.

إشارات متضاربة من إدارة ترامب بشأن عودة المقاتلين السابقين في تنظيم “الدولة”/ رائد صالحة

الاباما-“القدس العربي”: أخبرت هدى مثنى أثناء دراستها في جامعة الاباما، برمنغهام، والديها أنها ستذهب في رحلة ميدانية إلى اتلانتا، وبدلا من ذلك، خرجت من الكلية، واستخدمت الرسوم الدراسية المستردة لشراء تذكرة طائرة، وطارت إلى تركيا، وشقت طريقها إلى سوريا لتلتحق بتنظيم “الدولة”.

الآن، تريد مثنى، وهي من أصول يمنية، العودة إلى “الوطن” ولكن الولايات المتحدة لا تريد عودتها، وقالت إنها ليست في حاجة للعودة، فقد استخدمت الشابة حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي للدعوة إلى قتل الأمريكيين، وقالت: “انطلق بالسيارة وأسكب كل دمك، أو أستاجر شاحنة كبيرة، وأدهسهم جميعا، خاصة في أيام العطل (باتريوت، قدامي المحاربين).

وعلى الرغم من ذلك، ومع تمزق تنظيم “الدولة” تقول مثنى إنها مستعدة للمحاكمة في الولايات المتحدة بسبب أفعالها، إلا أن وزير الخارجية، مايك بومبيو، ذكر أن المثنى لم تكن أبداً مواطنة أمريكية، وبالتالي لا يوجد التزام قانوني بأن تعيدها إلى البلاد، حتى لو كانت مستعدة للمحاكمة، وبعد هذا التصريح، قال ترامب إنه أصدر تعليمات إلى بومبيو بعدم السماح للمثنى بالعودة إلى الولايات المتحدة.

ويقاضي والد مثنى، أحمد علي المثنى، الحكومة الأمريكية للسماح لها بالعودة إلى المنزل، وقال إنها وشقيقها البالغ من العمر 18 شهراً، هم في الواقع، مواطنون أمريكيون، وأنهم محرومون من حقوقهم الدستورية.

وقد تبين أن مسألة إن كانت المثنى مواطنة أم لا كانت معقدة نوعا ما، كما تغيير موقف الولايات المتحدة مع مرور الوقت، والقضية المطروحة هي ما إذا كانت “خاضعة لولاية الولايات المتحدة” وما إذا كانت هدى مواطنة أم لا تعتمد على ما إذا كان والدها لا يزال دبلوماسياً عندما ولدت. وقالت هدى إن مواطنتها لم تكن محل سؤال أو تشكيك عندما حصلت على جواز السفر.

قضية هدى مثنى لا تتعلق فقط بالمسألة القانونية لإلغاء الجنسية، ولكن أيضاً، حول كيفية معالجة قضية المتطرفين الذين يريدون العودة، وقد دعت وزارة الخارجية الأمريكية في 4 شباط/فبراير الدول الأخرى إلى إعادة مواطنيها المحتجزين لدى”القوات الديمقراطية السورية” ومحاكمتهم.

وترتكز دعوى أحمد علي المثنى على هذا كدليل على موقف محدد لسياسة الولايات المتحدة بإعادة مواطنيها، الذين كانوا في السابق من أتباع “داعش” كما هدد ترامب في تغريدة بأنه إذا لم تعيد البلدان الأوروبية ترحيل مواطنيها المحتجزين كمقاتلين أجانب في سوريا وملاحقتهم قضائياً، فان الولايات المتحدة سوف تضطر إلى إطلاق سراحهم.

ولم تكن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تعاني من اتخاذ موقف حاسم في قضية عودة عناصر تنظيم “الدولة” إذ ساد نقاش مماثل في بريطانيا حول القضية، ومن المرجح أن تفشل الحكومة هناك في منع امرأة واحدة من العودة.

ومن السهل، بالنسبة إلى إدارة ترامب القول إن هدى انضمت إلى التنظيم، وليس هناك سبب لإعادتها، إلا أن هذا العقاب كما قال محاميها يعتبر قديما للغاية، وليس دستوريا. وأضاف أن الدستور موجود لحماية الأفراد الذين لا يحظون بشعبية، و”موجود لحماية أولئك الذين نشعر بغضب حيالهم”.

وقال دانييال بايمان من معهد “بروكينغز” إذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة على تحمل مخاطر عودة امرأة شابة، رغم مواردها، فان هذا قد يؤدي إلى قيام المتطرفين لتجميع وتنظيم أنفسهم. واستنتج خبراء أن منعها من العودة سيبعث رسالة خاطئة، خاصة إذا كنت مواطنا، ومن وجهة نظر سياسية، من المنطقي أن يكون لدى الولايات المتحدة برنامج لإعادة التأهيل.

وقد برزت ردود فعل متباينة على طلب ترامب من الدول الأوروبية استعادة مواطنيها الذين يقاتلون في سوريا، وقد كانت مسألة عودة المقاتلين الأجانب إلى ديارهم في أوروبا والولايات المتحدة لغزا، إذ أن بقاء هؤلاء في سوريا والعراق سيعني تعرضهم للتعذيب الشديد أو لعقوبة الإعدام، ولكن في الوقت نفسه، لا توجد سفارات لمعظم هذه الدول هناك، وليست هناك امكانية فعلية لجمع أدلة ضد المشتبه بهم إذا وقفوا في المحاكم الأوروبية.

وتبدو الدول الغربية مرتبكة بشأن عودة المقاتلين، فهي تبذل جهودا لتجنب استرجاعهم وعائلاتهم، على الرغم من إصرار ترامب على عودتهم إلى أوروبا ولكنها بدأت تستكشف بهدوء ما يمكن أن يؤثر على القضية.

وهناك الكثير من المشاكل المتعلقة بالقضية، بما في ذلك وجود غالبية المقاتلين في سجون أو مخيمات تابعة للميليشيات الكردية في سوريا، والتي لا تعترف بها أوروبا، ومشكلة العبور إلى تركيا التي لا تريد التعامل مع الأكراد، ومشكلة العبور من العراق، الذي أيضا لا يريد التعامل مع الأكراد في هذه القضية أو غيرها، وهناك مشكلة التحدث مع النظام السوري بسبب قطع العلاقات الدبلوماسية معه، وكذلك مشكلة محاكمة الناس بدون أدلة وافية.

المثير للاهتمام من موقف إدارة ترامب من قضية عودة المقاتلين السابقين، هو القيام بإرسال إشارات واضحة إلى رغبة الإدارة بنقل بعض المقاتلين الأجانب إلى معتقل خليج غوانتانامو، وقد دعا ترامب إلى إحياء المعتقل على النقيض من سلفه، باراك أوباما، الذي حاول دون جدوى إغلاقه.

وقال مسؤولو الإدارة، بمن فيهم نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية، روبرت بالادينو، إن الخيارات المتاحة للمقاتلين الأجانب الذين لا يمكن إعادتهم إلى الوطن تشمل غوانتانامو، وأوضح أن الخيار الأول المفضل هو بالتأكيد عودتهم إلى الوطن والمحاكمة، وإبقاء “المقاتلين الإرهابيين الأجانب” محبوسين في بلدانهم متى أمكن، ولكن عندما لا ترغب البلدان في تحمل مسؤولية مواطنيها الذين ذهبوا وحاربوا من أجل التنظيم، فعندئذ سوف نتأكد من أنهم سيبقون خارج ساحة المعركة، وإحدى الطرق للقيام بذلك قد تشمل إرسالهم إلى غوانتانامو.

هناك ما يقارب من 850 مقاتلا أجنبيا ما زالوا رهن الاعتقال لدى القوات السورية الديمقراطية، القوات المدعومة من الولايات المتحدة، التي تحارب آخر بقايا تنظيم “الدولة” في شرق سوريا، وقد طلبت هذه القوات من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول أوروبية باستعادة أكثر من 800 من مقاتلي التنظيم الذين تم اعتقالهم في سوريا ومحاكمتهم، والبديل كما قالت ليس جيدا، حيث ستضطر القوات إلى إطلاق سراحهم.

ومع سقوط آخر أراضي تنظيم “الدولة” واستعداد الولايات المتحدة لسحب قواتها، هناك قلق متزايد بشأن قدرة قوات الدفاع الذاتي على احتجاز المقاتلين الإرهابيين الأجانب، وخاصة أولئك الذين يعتبرون “ذوي قيمة عالية” وهم أقل من 10 في المئة من المعتقلين الحاليين.

وأوضح سيموس هيوز، مدير برنامج التطرف في جامعة جورج تاون، أن القوات الكردية الحليفة لا تستطيع القيام بمهمة الاحتجاز، فهي لا تملك بنية تحتية وليست قادرة على القيام بذلك خاصة مع انسحاب القوات الأمريكية، وأصبح من الصعب تشغيل معسكرات اعتقال في الهواء الطلق وإلى جانب بطء وتيرة عودة المقاتلين إلى وطنهم، فإن تهديد إطلاق سراحهم يجعل من معتقل غوانتانامو أمراً أكثر جدية، وهو موقف يؤيده الكثير من الجمهوريين.

وقال السيناتور توم كوت إنه لا يجب السماح أبداً لما يقارب من ألف أرهابي من التنظيم بالعودة إلى ساحة المعركة، وأردف: “لدى غوانتانامو أماكن شاغرة”.

وباء داعش”: ما لا تريده أوروبا لنفسها فقط!/ محمد المذحجي

لندن-“القدس العربي”: لا يشكل ما ظهر حتى الآن عن عدد مقاتلي الأجانب في تنظيم “الدولة” الإرهابي وخاصة الأوروبيين منهم، إلا قمة جبل جليد عظيم، وأحدث هذا الجزء من جبل الجليد زلزالاً كبيراً في العواصم الأوروبية ومواقف متباينة حكومياً وشعبياً غالبيتها رافضة لعودة المواطنين الأوروبيين الذين انضموا إلى صفوف التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا. وتتخوف أوروبا من انتشار ما يوصف بـ “وباء داعش” في بلدانها، ولا تريد ما لم تمنع انتشاره في دول أخرى خاصةً في الدول العربية، حيث تشير دراسة بريطانية نشرها موقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي سي سي” الناطق بالإنكليزية، إلى أن ما لا يقل عن 13 ألف و150 شخص من مواطني الدول الأوروبية التحقوا في صفوف تنظيم “الدولة” الإرهابي حتى عام 2018 ومن بينهم ما يقارب 850 مواطنا بريطانيا.

وكشفت وكالة المخابرات الهولندية “أي آي في دي” أن ما يقارب 315 من المواطنين الهولنديين غادروا البلاد للانضمام في صفوف التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا، وأن حوالي 33 في المئة من هؤلاء هم من بين النساء، مضيفةً أن نحو 55 شخصا منهم رجعوا إلى هولندا، وأن 85 شخصاً آخر منهم قتلوا خلال المعارك هناك، وأن 135 منهم لا يزال يتواجد في مناطق الصراع في سوريا والعراق. فيما تؤكد السلطات الدنماركية أن ما لا يقل عن 150 مواطناً دنماركياً توجه إلى ساحات المعارك في العراق وسوريا للانضمام للجماعات الإرهابية منذ عام. وتصدر موضوع عودة هؤلاء إلى بلادهم المشهد السياسي في الدنمارك، ورغم المواقف المتباينة حسمت الحكومة الدنماركية الموقف من خلال إعلانها بأنها لا تستطيع منع مواطنيها الذين سافروا للقتال في صفوف تنظيم “الدولة” من العودة لبلادهم. وقال وزير العدل الدنماركي، سورين بابي بولسن، “ليس لدي أي تعاطف تجاههم، هم غير مرغوب فيهم في الدنمارك” ونقلت وكالة الأنباء الدنماركية عنه القول “ولكن هذه مشكلة معقدة. لا توجد حلول مثالية أو بسيطة. الحقيقة هي أننا لا نستطيع أن نرفض عودة مواطنين دنماركيين لبلادهم”.

وتؤكد التقارير الصحافية التي نشرت مؤخراً بعد طلب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من الدوال الأوروبية باستعادة مواطنيها الإرهابيين، ما تراه الأجهزة الأمنية الأوروبية في أن هؤلاء العائدين تلقوا تدريبات وحصلوا على مهارات وقدرات تجعلهم يشكلون خطراً أمنياً كبيراً. وعن هولندا، كشفت بعض وسائل الإعلام أن عدداً من المواطنين الهولنديين الذين قاتلوا في صفوف “داعش” قد نقلوا جواً إلى بلادهم مجاناً من قبل الحكومة، وأنها أعطتهم أماكن للعيش فيها. وفي شباط/فبراير 2017، نشرت جريدة “دي فولكس كرانت” (جريدة الشعب) الهولندية، تقريرا وديا عن العائدين الذين يبلغ عددهم حوالي 50 شخصاً، قالت “يبدو أنهم لا يشكلون تهديدا عنيفا على الإطلاق، وكانوا أنفسهم مصدومين”. لكن عكس ما ذهبت إلى جريدة الشعب الهولندية، كان العائدون من صفوف تنظيم “الدولة” قد تورطوا بالفعل في هجمات إرهابية كبيرة في بروكسل وباريس. وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، كانت صحيفة “الإيكونوميست” قد أفادت أن محكمة في هولندا أدانت امرأة هولندية تبلغ من العمر 22 عاماً لتورطها في التخطيط لعمل إرهابي على الأراضي الأوروبية. ورغم أن هولندا تؤكد أنها حاكمت وتحاكم أولئك الذين انضموا إلى “داعش” لكن الإحصائيات لا تؤيد ذلك. حيث لم يتم محاكمة إلا 7 أشخاص من بين 50 شخصاً هولندياً، وتجري محاكمة 8 آخرين منهم فقط. وحول عودة من تبقى من مواطنين هولنديين في العراق وسوريا، أكد وزير العدل والأمن الهولندي، فرديناند غرابرهاوس، أن بلده يشارك في الوقت الحاضر بنشاط لإعادة أعضاء تنظيم “الدولة” الذين يحملون جوازات سفر هولندية، لكنه لم يقل شيئا عن محاكمتهم أو اعتقالهم.

وماذا عن الدنمارك؟ وكانت صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرت تقريراً عما يعرف باسم “نموذج آرهوس” وهو برنامج إعادة تأهيل العائدين من صفوف “داعش” يعتمد على أساس نهج عريق ومتكامل معروف في الدنمارك لمكافحة الجريمة، وفيه ترافق مجموعات من الخبراء والمستشارين النفسيين، والرعاية الصحية، هؤلاء الشباب، بهدف مساعدتهم في العودة إلى المسار التعليمي أو المهني، والبحث عن إقامة والعودة إلى نمط الحياة اليومية الطبيعية والانسجام مع المجتمع. كما يقدم هذا النموذج فرصة جديدة للشباب من أجل إعادة الاندماج في المجتمع بدل معاقبتهم مثلما تفعل دول أوروبية أخرى كفرنسا وألمانيا. والجزء الآخر لـ”نموذج آرهوس” يتمثل في محاولة الوصول إلى الشباب الذين تظهر عليهم علامات التطرف بهدف العمل معهم من أجل إقناعهم بعدم الذهاب للمحاربة في سوريا، ويحصل هذا من خلال التعاون بين الشرطة والمدرسين والموظفين الاجتماعيين والأندية الشبابية، حيث تدرب الشرطة هؤلاء للتعرف على العلامات المبكرة للتطرف الديني.

وقال أستاذ علم النفس في جامعة آرهوس الدنماركي، بريبِن بِرتيلسِن، إن “نموذج آرهوس” يتمحور حول الاحتواء، مضيفاً “أنظر لكل هؤلاء الشباب، ستجدهم يكافحون مشاكل مشابهة لما يواجهه شباب كثيرون حول العالم ابتداء من بناء حياتهم وفهم العالم من حولهم، وصولا إلى إيجاد مساحة ومعنى في مجتمعاتهم. فإذا لم يرتكبوا أي نوع من الجرائم، سنساعدهم نحن على إيجاد طريق للعودة”. في المقابل، انتقدت أحزاب قومية دنماركية أبرزها حزب الشعب الرافض للهجرة، هذا النموذج لإعادة تأهيل الإرهابيين العائدين، حيث وصفته بـ “ساذج، ولين، وقصير النظر وخطِر” كما دعا حزب “فينسترا” اليميني إلى سحب جنسية العائدين ومعاقبتهم وسجنهم لـ6 أعوام. فيما سبق وأن نشرت وسائل إعلام دنماركية محلية تقارير حول محاكمة مواطن دنماركي ذهب إلى سوريا لمحاربة تنظيم “الدولة” بينما لم يتم محاكمة الإرهابيين العائدين إلى الدنمارك. فقد حُكم على المواطن الدنماركي تومي موروك في حزيران/يونيو الماضي بالسجن لمدة 6 أشهر بسبب ذهابه إلى سوريا بهدف القتال ضد “داعش”. وانتقد تومي موروك السلطة القضائية في بلاده، قائلاً إن “القضاء الدنماركي يقاضي أولئك الذين يقاتلون داعش بدلاً من ملاحقة المتطرفين الذين عادوا إلى الدنمارك”.

ألمانيا حائرة في كيفية استقبال مقاتلي تنظيم “الدولة”/ علاء جمعة

برلين ـ”القدس العربي”:  التصريحات التي أصدرتها أنغريت كرامب كارنباور، رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي بشأن أهمية سحب الجنسية الألمانية من مقاتلي تنظيم “داعش” الألمان ذوي الجنسية المزدوجة، معتبرة ذلك إشارة ردع مهمة، تعكس مدى رغبة الساسة الألمان في وضع سياسة حازمة بشأن التعامل مع المقاتلين العائدين من التنظيم المتشدد الذين يحملون الجنسية الألمانية، وهو ما اعتبره البعض محاولة للتخلص من الضغوط الأمريكية على ألمانيا بعد مطالبات ترامب باستقبال ألمانيا المقاتلين الألمان العائدين من التنظيم.

وقالت كارنباور، التي خلفت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في رئاسة الحزب المسيحي لشبكة التحرير الصحافي “توقعنا من وزيرة العدل كاتارينا بارلي، هو أن تكون هناك موافقة منها على ذلك في النهاية” وأكدت أنه أمر” ضروري كما أنه إشارة ردع مهمة”. وأضافت: “من يذهب لتنظيم إرهابي، ولديه جوازي سفر، يجب أن يعرف أنه يتخلص بذلك من الجواز الألماني، ومن إمكانية العودة إلى ألمانيا”.

وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعا دولا أوروبية بينها ألمانيا وفرنسا، عبر موقع “تويتر” إلى استعادة أكثر من 800 مقاتل داعشي تم أسرهم في سوريا وتقديمهم إلى المحاكمة، وهدد بأنه في حال عدم استجابة الحلفاء، فإن الولايات المتحدة ستكون مضطرة إلى إطلاق سراح هؤلاء المقاتلين. يشار إلى أن هؤلاء المقاتلين محتجزون لدى قوى كردية، وليس الولايات المتحدة.

بيد أن ألمانيا ردت بفتور على النداء الذي أطلقه الرئيس الأمريكي وربطت الداخلية الموافقة على عملية الاستعادة بحدوث زيارات قنصلية لهم حيث صرحت متحدثة باسم الوزارة “مبدئيا كل المواطنين الألمان ومن يشتبه بأنه قاتل إلى جانب ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية له الحق في العودة”. ولكنها أضافت أن ذلك مشروط بالسماح لمسؤولين من القنصلية بزيارة المشتبه بهم. وقالت إن العراق أبدى اهتماما بمحاكمة بعض مقاتلي تنظيم “الدولة” الإسلامية من ألمانيا. وأضافت “لكن في سوريا لا يمكن للحكومة الألمانية ضمان الواجبات القانونية والقنصلية التي يتعين القيام بها تجاه المواطنين الألمان المسجونين بسبب الصراع المسلح هناك”.

يشار إلى أنه تم التوصل إلى اتفاق من قبل الائتلاف الحاكم إلى أن من المقرر أن يفقد أي ألماني يحمل جنسية مزدوجة، جواز السفر الألماني، إذا ثبتت عليه المشاركة في معارك تابعة لتنظيم إرهابي في الخارج. وكان الأمين العام للحزب المسيحي الديمقراطي باول تيسمايك قد اتهم وزيرة العدل مطلع الأسبوع الجاري بعدم عرض مشروع القانون الذي ينص على ذلك على الحكومة.

وتواجه ألمانيا، مثل عدة بلدان أوروبية، معضلة عودة مواطنيها الذين قاتلوا في سوريا والعراق، وخصوصاً الأطفال منهم، وقبيل إعلان السقوط الوشيك لتنظيم “داعش” الإرهابي تدرس الحكومة الألمانية حاليا الجوانب القانونية لعودة الجهاديين الألمان وسبل تقديمهم للعدالة. وسيكون من الصعب جمع أدلة تثبت تورطهم في أعمال وحشية في مناطق الصراعات، إضافة إلى عدم امتلاك ألمانيا لأي تمثيل قنصلي في سوريا. وتقول السلطات الألمانية إن نحو 1050 شخصا سافروا من ألمانيا إلى منطقة القتال في سوريا والعراق منذ 2013 وقد عاد ثلثهم تقريبا إلى ألمانيا.

ولتفادي هذا المطب القانوني، دعا وزير داخلية ولاية بافاريا يوآخيم هيرمان إلى سحب جوازات السفر من الجهاديين الألمان الذين يحملون أكثر من جنسية والذين جرى أسرهم خلال العمليات القتالية. لكن هذه الدعوة لم تلق آذاناً صاغية بشكل كاف. لكن ماذا عن معضلة أطفال الجهاديين؟

وتشهد ألمانيا سجالا حادا حول كيفية التعامل مع عودة الجهاديين من حاملي الجنسية الألمانية الذين اعتقلوا أثناء المعارك مع “داعش” فمن جهة أعلن وكيل وزارة الداخلية الألمانية للشؤون البرلمانية، شتيفان ماير، أن الوزارة تسعى إلى سحب الجنسية الألمانية من الجهاديين الذين يحملون جنسية دولة أخرى، جاء ذلك في تصريحات للمسؤول الألماني نقلتها صحف مجموعة “فونكه” الألمانية وقال ماير إن وزارة الداخلية بصدد “إعداد مشروع قانون” من أجل تقنين ذلك.

كما أن صحيفة “برلينر مورغين بوست” نشرت مقالاً تحليلياً تناولت فيه معضلة “الأطفال القنبلة” وروت فيه قصة ياسمين أو من مدينة هامبورغ، التي اختارت طريق الجهاد بعدما التحقت بشريك حياتها الجديد آنذاك في سوريا، برفقة ابنها جبريل (تسع سنوات) الذي أجبر على قضاء أربع سنوات تحت إمرة تنظيم “داعش”.

أما زميل زيهوفر في الحزب الاجتماعي المسيحي وفي المنصب السياسي، يواخيم هيرمان وزير داخلية بافاريا، فيطالب بمراقبة مكثفة لكل العائدين حاملي الجنسية الألمانية الذين لا توجد أدلة على تورطهم في جرائم يعاقب عليها القانون الألماني. وبعبارة واضحة: كل متشدد عائد لا يدخل السجن مباشرة، يجب مراقبته بشكل مكثف، حسب رأي الوزير المحلي في بافاريا.

أما إذا توفرت أدلة وقرائن على تورط عائد ما في جرائم، فلابد من مثوله فورا أمام القضاء، وهذا يعني، وفق الوزير البافاري، دخوله السجن على ذمة التحقيق فور وصوله إلى الأراضي الألمانية. ولكن في حال عدم كفاية الأدلة والقرائن على أدانة العائد، فيجب، وفق الوزير هيرمان، وضعه تحت رقابة مشددة ومكثفة وإذا اقتضى الأمر، حسب الوزير، على مدار الساعة، ما يعني إضافة عبء إضافي على عاتق جهاز الأمن الداخلي “حماية الدستور”.

رأي آخر يحول الأنظار إلى أفق بعيد عن ألمانيا، حيث يقول وزير الداخلية في ولاية بادن ـ فورتمبيرغ جنوب غرب البلاد توماس شتروبل، وهو من المحافظين في حزب المستشارة ميركل: إذا كان العائد من معتقلي سوريا يحمل جنسية أخرى إلى جانب الجنسية الألمانية، فيجب سحب الجنسية الألمانية منه وترحيله إلى موطن جنسيته الأصلية أو الأولى”. ويبرر شتروبل مقترحه بالقول: “إن من يخدم في جيش غريب عن بلاده، يفقد الجنسية التي يحملها، وهذا يجب أن ينطبق بشكل أساسي على من يخدم في قوة عسكرية إرهابية، كما هو الحال في القتال في صفوف “داعش” حسب تصريحات الوزير لصحيفة “بيلد”.

في هذا السياق ذهب أيضا وزير داخلية ولاية شمال الراين ويتسفاليا هربرت رويل الذي أوضح في كلمته أمام مؤتمر الشرطة الأوروبية المنعقد في برلين قائلا إن مشكلة عودة الأطفال واليافعين من هذه الشريحة تشكل تحديا كبيرا في ظل عدم وجود حلول صحيحة للمشكلة، حسب تعبيره.

كما طالب الوزير الاشتراكي بإقامة حوار مستديم مع جماعات وصفهم “بالإسلاميين في الإطار القانوني”. أما وزير الداخلية في ولاية ساكسونيا السفلى، بوريس بوستوريوس، فقال في تصريح له في هذا السياق إن مراقبة العائدين من مقاتلي “داعش” أمر مزعج للغاية ومجهد ويكلف الكثير من الأموال، لكنه شر لا بد منه لعدم وجود بديل لذلك.

في المقابل طالبت الخبيرة الألمانية في مكافحة التطرف كلاوديا دانتشكي في حوار مع شبكة “دويتشلاند” الألمانية الإعلامية الجهاديين الأوروبيين من سوريا “من الأفضل إيداع مقاتلي الدولة الإسلامية السابقين السجن هنا في ألمانيا على أن يبقوا طلقاء في سوريا وتركيا أو أن يكونوا هدايا بيد الأسد”. وبررت الخبيرة، التي ترأس مركز مكافحة التطرف “حياة” في برلين بأن ذلك يوفر “فرصة لإعادة إدماجهم في المجتمع”.

واعترفت الخبيرة أن عملية إعادة الإدماج قد لا تنجح في كل الحالات، إلا أنها استدركت أن الخطر سيقل بتلك العملية. ومضت كلاوديا دانتشكي قائلة “وحتى محاولات إعادة تأهيل المجرمين والمحكومين بجرائم جنسية لا تنجح دائماً ويبقى خطر عودتهم لممارسة الجرائم أمر وارد” مشددة على أنها لا ترى أي حل آخر.

كما حذرت الخبيرة من أي “أحكام مسبقة” بحق أطفال “داعش” العائدين من العراق وسوريا “الأطفال هم أول الضحايا ويجب علينا العمل على ألا يتحولوا إلى إرهابيين”. ودعت إلى إنشاء شبكة بين مكتب شؤون الشباب والمدارس ورياض الأطفال ومكتب العمل، ذاهبة إلى أن إرهابيي “داعش” الألمان اتجهوا إلى التطرف في ألمانيا ومن واجب المجتمع الألماني القضاء على خطر التطرف.

يذكر أن محكمة مدينة دوسلدورف عاصمة ولاية شمال الراين وستفاليا قد قضت مؤخرا بسجن ألماني من أصول مغربية عائد من سوريا، بخمسة أعوام وثلاثة أشهر بتهمة الانتماء لتنظيم “داعش” كما حكمت المحكمة على أخيه الأكبر سنا (36 عاما) بالسجن ثلاثة أعوام ونصف، بتهمة الإعداد لأعمال عنف جسيمة تهدد كيان الدولة الألمانية.

وكان الاخوان شاركا في القتال ضمن صفوف ميليشيا “جبهة النصرة” سابقا، “هيئة تحرير الشام” حاليا، وهي فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا. كما شاركا في القتال إلى جانب تنظيم “داعش” بالأراضي السورية وعادا إلى ألمانيا عام 2016. وكان الادعاء العام طالب بتطبيق عقوبة السجن لمدة سبعة أعوام على أحدهما وأربعة على الآخر.

فرنسا: قضية عودة الجهاديين في قلب الجدل السياسي/ آدم جابر

باريس-“القدس العربي”: بينما يعيشُ تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق أيامه الأخيرة وفق التقارير الغربية؛ تتزايد الضغوط على الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، بخصوص مصير مقاتلي التنظيم الإرهابي الحاملين لجنسيات هذه الدول المحتجزين لدى الأكراد في الشمال السوري. وهي مسألة باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى تشكل صداعاً كبيراً لكل من السلطات الكردية شبه المستقلة والتي تطالب بإعادة هؤلاء المقاتلين إلى أوطانهم، وأيضا للحكومات الغربية المترددة بشكل عام في إعادتهم، وخاصة الحكومة الفرنسية.

فمنذ وصول الرئيس الفرنسي الوسطي إيمانويل ماكرون إلى السلطة في أيار/مايو 2017، ظلت حكومته متمسكة برفضها التّام لاستعادة المقاتلين الفرنسيين في صفوف تنظيم “الدولة” وزوجاتهم، والذين وصفهم رئيس الدبلوماسية الفرنسية جان إيف لو دريان في وقت سابق بـ”أعداء الأمة” الذين يجب أن يمثلوا أمام العدالة سواء في سوريا أو العراق. وتبدو مسألة عودة أطفال الجهاديين أكثر تعقيداً في ظل اصطدامها بالقوانين الدولية لحماية الطفل التي وقعت عليها الدولة الفرنسية.

وقد فرض إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سوريا معادلة جديدة أبقت للأكراد في شمال سوريا قضية الأسرى الدواعش المحتجزين لديهم كورقة وحيدة يناورن بها، وفق صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية. ويقول عبد الكريم عمر وهو أحد مسؤولي العلاقات الخارجية في اللجنة العليا الكردية إن من الواضح أن بلدان هؤلاء المقاتلين الأجانب في صفوف “داعش” لا تريد عودتهم إليها، محذراً من أن فرارهم خلال عملية عسكرية قد يتعرض لها الأكراد سيؤدي إلى تشتتهم وهو ما سيكون بمثابة قنبلة موقوتة. من جانبه، هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأوروبيين بأن بلاده قد تضطر إلى إطلاق سراح مقاتلي “داعش” من الأوروبيين، في حالة لم تقم الدول الأوروبية باستعادة ومحاكمة نحو 800 من مواطنيها المنضمين إلى صفوف التنظيم والذين تم أسرهم في سوريا.

المحاكمات بالوكالة؟

طلبُ ترامب هذا؛ أثار تحفظات الأوروبيين الذين قابلوه بالرفض، وإن كانت مصادر فرنسية متطابقة قد أكدت قبل ذلك بنحو أسبوعين أن السلطات الفرنسية ستستقبل في الأسابيع المقبلة نحو 130 من الجهاديين الفرنسيين المحتجزين في معسكرات في الشمال السوري ستقوم باريس بترحيلهم تحت إشراف الأكراد، بينهم نحو 100 قاصر، وذلك خشية تشتت آلاف المقاتلين الذين يحتجزهم الأكراد في الشمال السوري ووصول بعضهم إلى أوروبا. ولتفادي هذا الأمر؛ أعربت وزير ة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه عن تفضيلها لترحيل هؤلاء الجهاديين إلى الأراضي الفرنسية ثم محاكمتهم ومتابعتهم عبر التعامل مع كل حالة بشكل منفرد، بمجرد وصولهم. وأيضا، أيد رئيس الوزراء إدوارد فيليب ترحيل الجهاديين الفرنسيين المرجح أن تطلق القوات الكردية في شمال سوريا سراحهم بعد الانسحاب الأمريكي، إلى فرنسا بدلاً من “تشتتهم وإعطائهم فرصة تكرار عملياتهم الإرهابية”. هذه التصريحات التي رأى فيها بعض المراقبين تحولاً في سياسة باريس بشأن المسألة، لاقت انتقادات لاذعة من قيادات أحزاب اليمين واليمين المتطرف، الذين يطالبون بتجريد هؤلاء المقاتلين الفرنسيين وعائلاتهم من جنسيتهم الفرنسية.

لكن، وعلى ما يبدو، فإن لقاء الرئيس العراقي برهم صالح مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الإثنين الماضي بقصر الإليزيه، حمل معطى جديداً فيما يتعلق بمصير الجهاديين الفرنسيين، حيث أعلن الرئيس العراقي خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الفرنسي أن بلاده ستُحاكم 13 مواطناً فرنسياً كانوا يقاتلون في صفوف تنظيم “الدولة” الإرهابي تسلمتهم من قوات سوريا الديمقراطية، موضحاً أنه سيتم الحُكم عليهم بموجب أحكام القانون العراقي. من جانبه؛ اعتبر إيمانويل ماكرون أن “الأمر عائد لسلطات الدول التي اعتقلت هؤلاء الجهاديين الفرنسيين لاتخاذ قرار سيادي بشأن محاكمتهم” وهو ما فهم منه مراقبون أن الجانبين العراقي والفرنسي توصلا إلى تفاهم حول طريقة معالجة معضلة الجهاديين الفرنسيين المعتقلين في سوريا والعراق والتي تؤرق الساسة في فرنسا، حيث تحدث الكاتب والمحلل السياسي في باريس مصطفى الطوسة عما وصفها بالمحاكمة بـ”الوكالة” لجهاديي فرنسا التي لطالما أصرت حكومته الحالية على ضرورة محاكمة مواطنيها محليًا بعد إلقاء القبض عليهم في سوريا أو العراق.

70 في المئة يرفضون عودة أطفال الجهاديين

ويقضي هذا التفاهم بمحاكمة هؤلاء الجهاديين، بمن فيهم أولئك الذين أسرتهم قوات سوريا الديمقراطية وتضغط لترحيلهم، في العراق بموجب الأحكام القانونية لهذا البلد. وهنا تكمن المعضلة بالنسبة للسلطات الفرنسية، حيث ترى العديد من المنظمات الحقوقية وقيادات في أحزاب اليسار أن موقف الدولة الفرنسية هذا من الجهاديين الفرنسيين وزوجاتهم والذي تؤيده أحزاب اليمين واليمين المتطرف؛ من شأنه ترك هؤلاء المواطنين الفرنسيين يواجهون عقوبة الإعدام المحظورة في فرنسا. علاوةً على ذلك؛ تواجه الحكومة الفرنسية معضلة مصير أطفال الجهاديين القاصرين العالقين في مخيمات سوريا والعراق والذين طالب أجدادهم مرارا وتكرارا من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التحلي بـ “الإنسانية” وإعادة أحفادهم إلى وطنهم بشكل عاجل.

فعقب النكسات الكبرى التي تعرض لها تنظيم “الدولة” في العراق وسوريا، تم أسر نحو 2500 طفل من 30 جنسية مع عائلاتهم ووضعهم في ثلاثة مخيمات في شمال شرق سوريا حسب منظمة إنقاذ الطفولة غير الحكومية. من بين هؤلاء الأطفال نحو 100 طفل فرنسي قاصر، شدد وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير أنه لا يحق للحكومة قانونياً إعادتهم إلى الأراضي الفرنسية. وهو موقف قوبل بتقديم عائلات أطفال هؤلاء الجهاديين الفرنسيين شكوى جماعية ضد فرنسا هذا الخميس أمام لجنة حقوق الطفل التابعة لمنظمة الأمم المتحدة؛ متهمين إياها بـ”التقاعس”. ويأملون أن تدفع اللجنة الدولة الفرنسية إلى “تحمل المسؤولية وحماية هؤلاء الأطفال من خطر المجاعة والموت الوشيك الذي يواجهونه”. وفي هذا الإطار قالت المحامية ماري دوزي: “على الدولة الفرنسية أن تحترم التزاماتها الدولية. لقد صدمني إعطاء إيمانويل ماكرون الأولوية لتسليم ثلاثة عشر جهاديا للعدالة العراقية خلال لقائه مع الرئيس العراقي وتجاهله التام مصير الأطفال الذين يموتون من الجوع والعطش والأمراض. فهؤلاء الأطفال لم يختاروا بأنفسهم الذهاب إلى العراق وسوريا وبعضهم أصبح يتيماً”.

في غضون ذلك؛ أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجراه معهد “أودوكسا” ونشرته صحيفة “لوفيغارو” وإذاعة “فرانس إنفو” يوم الجمعة؛ أظهرت أن 67 في المئة من الفرنسيين الذين استطلعت آراؤهم يفضلون بقاء أطفال الجهاديين الفرنسيين في العراق أو سوريا. فيما أعرب نحو 89 في المئة عن قلقهم الشديد من احتمال عودة الجهاديين الفرنسيين إلى البلاد. وأيد نحو 83 في المئة منهم قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بترك العراقيين يحاكمون 13 مقاتلاً فرنسياً حسب القوانين العراقية.

نساء “دولة الخلافة” خزّان الجيل الثالث والرابع من “القاعدة”/ رلى موفّق

ما يُنشر إعلامياً عن مراكز دراسات وأبحاث حول تنظيم “الدولة” الإسلامية يُؤشّر إلى أن ربع أجانب التنظيم على الأقل هم من النساء والأطفال. تكشف دراسة حديثة لـ “المركز الدولي لدراسات التطرّف” في “كينغز كولدج” في لندن، ارتكزت على تحليل قاعدة بيانات جمعها المركز بنفسه في 80 دولة شملت أكثر من 40000 شخص انضموا إلى التنظيم في العراق وسوريا منذ تأسيسه في العام 2013، أن 13 في المئة من الإحصاء (حوالي 5000) هنّ من النساء، وأن 12 في المئة (حوالي 4500) هم من القُصّر.

ونسبة الربع قابلة للارتفاع حكماً مع ما قالته معدّة الدراسة جينا فال لمحطة الـ “بي.بي.سي” عن عدم وجود شفافية في نشر الدول للأرقام الفعلية من منتسبي مواطنيها إلى التنظيم، والأرقام المنشورة التي تأتي عامة لا تتضمن تبويباً لمن هم راشدون أو مراهقون على طريق البلوغ أو أطفال ما دون الخامسة.

من الصعب الجزم بالأعداد النهائية لمقاتلي التنظيم الأجانب، ولكن يمكن مبدئياً احتساب نسبة النساء والأطفال منهم والبالغة بحدها الأدنى الربع. والتركيز القوي على هذه الشريحة يأتي مع قرب انتهاء تطهير الجيب الأخير في قرية الباغوز شرق سوريا على الحدود العراقية لـ “أرض الخلافة” التي أعلنها أبو بكر البغدادي على مساحة جغرافية من العراق وسوريا، ونزوح عائلات مقاتلي “التنظيم” إلى مخيمات شمال شرق سوريا، والتي يشكل أبرزها مخيم الهول الواقع في ريف الحسكة.

نساء “دولة الخلافة” يَنْتمِينَ إلى بقاع واسعة، والقسم الأكبر عراقيات وسوريات وجزائريات وتونسيات ومغربيات وتركيات، وأجنبيات أتَيْنَ أيضاً من أمريكا وأستراليا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وألمانيا ودول أوروبية أخرى، ومن روسيا ودول القوقاز، ومن الإيغور الصينية. صحيح أن القاسم المشترك بين غالبيتهن هو انتماؤهن إلى الإسلام أو تحوّل بعضهن إليه، لكنهن من بيئات وحضارات مختلفة. ولعل السؤال المشروع هو: هل أضْحَيْنَ جميعاً على فكر واحد يتضمن نفس العقيدة والمبادئ والقيم والسلوك؟ وهل ما زال بالإمكان إعادة تأهيلهن في إطار عملية تأهيل أطفالهن، أم أن الاتجاهات الذاهبة نحو فصل الأمهات عن الأطفال تنطلق من قناعة استحالة تفكيك الأفكار المتطرفة؟

سترتفع أصوات الكثير من النساء الأجانب، ولا سيما ممن كُن قاصرات حين جذبهن شبان “دولة الخلافة” عبر “البروباعندا” الخلاقة التي اعتمدها التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي، التي شكّلت أهم وسيلة تعبئة وإغراء لنساء حلمن بالمغامرة و “رجال الأساطير”.

بدأت التقارير الصحافية والإعلامية تُبث من مخيم الهول الذي لجأت إليه عشرات الآلاف من عائلات “التنظيم”. التقديرات تتحدث عن ثلاثين ألفاً نزحوا خلال الشهرين الماضين، والعدد ارتفع خلال الأسبوعين الماضيين. قناة الـ “بي.بي.سي” البريطانية عرضت تقريراً عن شاميمة بيجوم، فتاة في التاسعة عشرة من العمر فرّت من لندن في عمر الـ15 إلى “أرض الخلافة” وهي اليوم في المخيم وتطلب العودة إلى ديارها لتربّي طفلها الثالث الرضيع بعدما فقدت طفلين، وقُتل زوجها. وظهرت الأمريكية هدى مثنى مطالبة بالعودة إلى وطنها. وألقت وسائل إعلام الضوء على الفرنسيتين كلويه وشيماء، اللتين ترغبان بالعودة إلى بلدهما أملاً بمحاكمة عادلة. وتحدّث مراسل وكالة الصحافة الفرنسية الذي زار المخيم مع المغربية كِنزة التي قُتل زوجها أيضاً، وتريد هي الأخرى العودة إلى المغرب مع أولادها الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين سنة وعشر سنوات.

هذه عيّنات عن زوجات مقاتلي “داعش” وأمهات أطفالهم. عيّنات للائحة تطول لتشمل، على الأقل، 500 أجنبية في مخيم الهول وصلن أخيراً مع أطفالهن.

التقارير الإعلامية نقلت عن باحثين في “المركز الدولي لدراسات التطرّف” أن ما لا يقل عن سبعة آلاف من المقاتلين الأجانب عادوا العام الماضي إلى بلادهم بعد انحسار تنظيم “الدولة” في العراق، بينهم قرابة 250 امرأة و1200 طفل، غير أن كثيراً من الغموض ما زال يعتري مصير مَن تبقى مِن المقاتلين الأجانب وعائلاتهم، خصوصاً بعدما بدأ الإعلام الغربي بتسليط الضوء على النساء، وبعدما خرج وزير الخارجية البريطاني جيرمي هنت ليعلن أنه تم تجريد شاميما بيجوم من جنسيتها ومعها مئة أخريات من اللواتي انضممن إلى التنظيم.

التحدّي الراهن والمستقبلي متعدّد الأوجه، وهو يتعلق بالمسار الذي على الدول المعنية أن تنتهجه، وكيفية المواءمة بين مطالبات مجتمعاتها بتعديلات على القوانين لحماية تلك الدول من المخاطر المتأتية عن إمكان عودة هؤلاء إليها، وبين المسؤولية الاجتماعية تجاههم وضرورة عدم تعميم صورة نمطية، لا سيما مع بدء النقاش والجدل عما إذا كانت الفتيات اللواتي فرَرْنَ إلى سوريا والعراق قد غُرّر بهن وخُدعن وظُلمن أم أنهن أضحين اليوم الذراع البديلة لمقاتلي التنظيم لجهة تنفيذ “عمليات جهادية” في دولهم، إضافة إلى أن الوظيفة الأساسية الملقاة على عاتقهن في بناء الجيل الثالث والرابع من “القاعدة” باتت أمانة في يد نسوة التنظيم اللواتي تشرّبن عقيدة الجهاد لنقلها إلى الأجيال المقبلة. وسيغذي “الظلم” الذي سيلحق بكل من كان له علاقة بـ “القاعدة” و”داعش” والتنظيمات الإسلامية المتطرفة فكرة الانتقام والعودة إلى تحقيق حلم “أرض الخلافة” وأمجادها في وجدانهم.

البحث راهناً يتركز في العمق على التحوّل في دور “الجهاديات” بعد هزيمة التنظيم. فبينما كانت الأدوار التي يلعبنها تنحصر في بناء الأسرة وتعليم الأولاد ونشر العقيدة، وبعيدة عن مهمة القتال، أصبحن يلعبن دوراً بارزاً في استقطاب الشباب إلى “الجهاد” في أرض المعركة، ولتتطور المهام لاحقاً مع نشر عقيدة أن “الجهاد” ضد الأعداء واجب على المرأة، التي بدأت صورها الدعائية تنتشر وهي تقاتل في ساحة المعركة إلى جانب الرجال، وبدأت بتنفيذ عمليات انتحارية، بحيث أن المخاوف تنطلق من الدراسة القائلة بوجود “خلايا نسائية” و “خلايا أسرية” قادرة على تنفيذ هجمات ضمن ما يُعرف بعمليات “الذئاب المنفردة”.

تحدّي التعامل مع نساء تنظيم “الدولة” ومع أطفال التنظيم سيبرز بشكل أكبر في المرحلة المقبلة، لا سيما وأن التداعيات التي قد تنجم عن التوجهات المقبلة في فصل الأمهات عن أطفالهن لا تزال غير مدروسة ومحسوبة، ومن شأنها أن تؤجج الصراع بدل أن تُسهم في معالجته ووأده.

السجن أو الموت”… لقاء مع جهادية فرنسية هاربة من “الخلافة

عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” يخرجون من آخر بقعة خاضعة لسيطرة التنظيم. نساء ورجال من مختلف الجنسيات يعبرون الصحراء شرق دير الزور هربا من بلدة باغوز. مايسة عواد وروميو لانغلوا وجيمس أندريه التقوا إحدى الجهاديات الفرنسيات اللواتي تركن فرنسا للعيش في كنف التنظيم في شرق سوريا.

عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” يخرجون من آخر بقعة خاضعة لسيطرة التنظيم. نساء ورجال من مختلف الجنسيات يعبرون الصحراء شرق دير الزور هربا من بلدة باغوز.

مايسة عواد وروميو لانغلوا وجيمس أندريه التقوا إحدى الجهاديات الفرنسيات اللواتي تركن فرنسا للعيش في كنف التنظيم في شرق سوريا.

مدنيون خرجوا من «جحيم الموت» إلى مستقبل مجهول

«الشرق الأوسط» ترصد مغادرة آلاف جيب «داعش» إلى مخيمات النازحين شرق سوريا

الباغوز – دير الزور (سوريا): كمال شيخو

أجلت «قوات سوريا الديمقراطية» مزيداً من المحاصرين من آخر جيب لتنظيم «داعش» في شرق سوريا، تمهيداً لنقلهم على غرار الآلاف الذين خرجوا خلال الأسابيع الماضية، إلى معتقلات أو مخيمات، وذلك مع إعلان هذه القوات أمس بدء المعركة الأخيرة تمهيداً لـ«الانتصار الكامل» على التنظيم المتطرف.

ويستمر منذ عشرة أيام خروج آلاف الرجال والنساء والأطفال، بينهم عدد كبير من الأجانب، من البقعة الأخيرة المحاصرة في بلدة الباغوز وتقدّر مساحتها بنصف كيلومتر مربع، وغالبيتهم نساء وأطفال من عائلات مقاتلي التنظيم. والتقت «الشرق الأوسط» عدداً من الخارجين من الباغوز بعد التحقيق معهم وتفتيشهم للتأكد من عدم ارتباطهم بـ«داعش» قبل نقلهم إلى مخيمات للنازحين، حيث أوقفت «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن، أكثر من خمسة آلاف عنصر من التنظيم كانوا في عداد نحو 52 ألف شخص فروا منذ نهاية عام من مناطق سيطرة التنظيم في شرق سوريا.

وبعد أسابيع من تضييق الخناق على جيب التنظيم، يصل الخارجون من الباغوز متضوّرين جوعاً ويحملون أغراضاً بسيطة، من ثياب وأغطية، إلى نقطة الفرز التي استحدثتها قوات سوريا الديمقراطية التحالف الكردي – العربي، على بعد أكثر من عشرين كيلومتراً شمال بلدة الباغوز.

من العاصمة تونس المطلة على شاطئ البحر المتوسط، حيث تنخفض درجات الحرارة صيفاً، سافرت نور الإيمان رفقة زوجها شرقاً نحو سوريا إحدى أكثر الدول سخونة منذ العام 2011. عبرَ رحلة جوية أقلتها من مطار قرطاج الدولي إلى مطار أتاتورك بمدينة إسطنبول التركية.

ومنها أكملوا الرحلة براً على متن حافلة حديثة اتجهت إلى مدينة أورفا الحدودية مع سوريا، ليدخلوا سراً منتصف 2015 إلى مدينة الرقة شمال سوريا، حيث كانت عاصمة «داعش» آنذاك، في سبيل تحقيق وهم لطالما كانت تحلم بتحقيقه، لكن انتهى بها المطاف في بلدة الباغوز وسط صحراء بادية الجزيرة السورية.

هذه المنطقة باتت آخر موطئ قدم لعناصر تنظيم داعش وخرجت نور مع زوجها وأطفالها قبل يومين إلى نقطة تجمع الفارين، تنتظر مع آلاف الفارين غالبيتهم من عائلات وأسر التنظيم تأشيرات للعبور إلى مخيم الهول شمالاً.

«كنت واهمة»، بهذه الكلمات بدأت نور ذات الثلاثين عاماً حديثها لـ«الشرق الأوسط» من نقطة تجمع الفارين من الجيب الأخير الخاضع لسيطرة التنظيم، وبدت علامات الندم من نبرة صوتها، ونقلت أنهم ينامون في العراء وسط هبوب رياح صحراوية جافة، وانخفاض درجة الحرارة إلى 5 درجات ليلاً، لتضيف: «أخذوا زوجي للاشتباه بانتمائه للتنظيم، أنا وأطفالي ننتظر السماح لنا بالعبور إلى مخيم الهول، يقدمون لنا الطعام والمياه»، وتساءلت بصوت مرتفع: «متى سيتم نقلنا من هنا».

خرجن بأمر قيادي

تروي السعدية (32 سنة) المتحدرة من المغرب من النقطة الأمنية، كيف سافرت مع خطيبها وطلبت أن يكون مهرها العيش في كنف «داعش» على حد تعبيرها، ليوافق الشاب على طلبها، وقررا السفر نهاية 2015 عبر تركيا إلى سوريا، وقصدا مدينة منبج شرقي حلب والتي كانت خاضعة وقتذاك لسيطرة التنظيم، قبل أن يطرد منها صيف 2016 على يد «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادي أميركية.

عقدت قرانها في منطقة أصبحت ساخنة بعد أشهر من زواجها، وقالت: «بسبب المعارك نزحنا إلى الرقة، بقينا هناك أقل من سنة ليقتل زوجي الأول بغارة طيران وأنجبت منه طفلة، ثم ارتبطت بمقاتل تونسي»، ليقتل هو الآخر في المعارك هناك، «بعدها تزوجت للمرة الثالثة من مقاتل عراقي ولا يزال هناك يرابط مع الإخوة»، على حد تعبيرها.

اتشحت السعدية بالسواد وغطى وجهها ولم يظهر منه سوى عينيها، كشفت أنّ زوجها مقاتل انغماسي ونفذ عدة عمليات انتحارية، وقررت الخروج مع عائلات التنظيم بناءً على طلب: «بأمر من (زعيم داعش) أبو بكر البغدادي، طلب من جميع النساء والأطفال الخروج ليتسنى للمقاتلين التفرغ للقتال، سنذهب للمخيم وننتظر عودة أزواجنا»، ولفتت أنها لم تشاهد البغدادي كحال عامة الناس لم يشاهده أحد، «أظن إنه لا يزال يقاتل إلى جانب الإخوة في الباغوز لرفع معنويات المقاتلين».

في نقطة تبعد 20 كيلومتراً شمال الباغوز، يقف مجموعة من الجنود الأميركيين ومسؤولين من قوات التحالف الدولي، برفقة قادة عسكريين ومقاتلين من «قوات سوريا الديمقراطية»، يدققون في هوية الخارجين من البلدة المحاصرة، يبدو أنها نقطة تفتيش خاصة بالتحقيق مع عناصر التنظيم، تقوم الدورية بإجراءات التفتيش بشكل معقد خشية تسلّل عناصر التنظيم بين المدنيين، وينقل الأطفال والنساء إلى مخيم الهول، بينما يُرسل الرجال المشتبه بهم إلى مراكز الاعتقال.

فاطمة المتحدرة من مدينة الموصل العراقية، بدت علامات التقدم بالعمر عليها وارتسمت تجاعيد وجهها رغم أنها في بداية عقدها الخامس، أكدت أنّ سبب بقائها بالباغوز كان لعدم توفر المال لدفعه للمهربين، وبلكنة عراقية محلية ومفردات بالكاد تفهم، قالت: «ما كان بي فلوس – مال – لدفعه للمهربين لإخراجنا من هناك، زوجي احتجزوه هنا وبقي أبنائي الكبار يقاتلون هناك».

ونقلت أنه لا يزال الكثير من المحاصرين يرغبون بالخروج من جحيم الموت، وتضيف: «الجميع خائف ومرعوب يريدون النجاة بسرعة، الكل يعرف زين أن ساعة الصفر قربت».

وادعت سعاد (47 سنة) المتحدرة من مدينة حمص وسط سوريا، أنّ زوجها لم يكن مقاتلاً أو عنصراً في صفوف التنظيم، وكان يعمل في مجال التجارة، وقالت: «متنا من الجوع هناك، خلال الحصار كان التنظيم يوزع الطعام ومياه الشرب على عناصره فقط، مؤخراً دخلت شاحنة محملة بالغذاء تم توزيعها على أمراء التنظيم».

وأوضحت أن زوجها تم توقيفه للاشتباه بانتمائه للتنظيم، وأضافت قائلة: «أوقفوه ولا علاقة له بالتنظيم، كنا مجبورين أن نعيش هناك، هو مطلوب للنظام وما التحق بالجيش الحر، أجبرنا التنظيم تحت تهديد السلاح الخروج للمناطق التي يسيطر عليها».

الهروب من الجحيم

فرَ آلاف المدنيين وعائلات عناصر تنظيم داعش خلال الأيّام الماضية من الأمتار الأخيرة المتبقية في بلدة الباغوز التابعة لناحية السوسة بريف دير الزوّر الشمالي، وتواصل «قوات سوريا الديمقراطية» المرحلة الأخيرة من هجومها الهادف لإنهاء وجود التنظيم المتطرف شرقي الفرات.

وانتظر هؤلاء الفارون ساعات طويلة وسط المنطقة المحاصرة، في ظل برد قارس نخر أجسادهم النحيلة من قلة الطعام ومياه الشرب قبل بلوغ النقطة الآمنة الواقعة على بعد 5 كيلومترات شرقي البلدة، وتمكنت «قوات سوريا الديمقراطية» من فتح معبر آمن منذ بداية الشهر الجاري، حيث تستقبلهم برفقة طاقم طبي أميركي في موقع فرز أنشأته عند التلة المرتفعة المقابلة للباغوز، ويتم التدقيق في هوياتهم وأخذ بصماتهم، ويحال المشتبه بانتمائهم للتنظيم إلى مراكز التحقيق.

ونقلت العنود (46 سنة) المتحدرة من مدينة القائم العراقية المحاذية للحدود مع سوريا وتقابل بلدة الباغوز، أنهم كانوا يأكلون الحشائش ويشربون مياه النهر جراء حصار عناصر التنظيم، وعمدوا إلى توزيع الإمدادات الغذائية على مقاتليهم فحسب، وقالت: «الدواعش حاصرونا ومنعوا عنا كل شيء، لا أدوية ولا طعام ولا رحمة، السلع المتوفرة كانت أسعارها باهظة الثمن، من يملك المال يأكل، بقينا أيّام وليال نتضور جوعاً».

وبحسب روايات الهاربين من بلدة الباغوز البائسة، يعيش المدنيون المحاصرون ومقاتلو «داعش» أوضاعاً إنسانية صعبة، حيث لا يتوافر الطعام الكافي ومياه صالحة للشرب، مع قصف متواصل لطيران التحالف.

بينما وصفت هيفاء (31 سنة) القادمة من العاصمة السورية دمشق، الحياة بالباغوز بـ«جحيم الموت» وقالت: «كنا نتنقل من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى ثانية، نعيش الجحيم تحت القصف؛ الموت كان في كل مكان، مصابون وجرحى ولم يكن هناك وقت لدفن الأموات».

ويتمركز الجيب المحاصر التابع لعناصر التنظيم وتقدر مساحته بأقل من واحد كيلومتر شرقي الباغوز على الضفة الشرقية لنهر الفرات، يعد آخر معقل للتنظيم في هذا الجزء من سوريا، ولطالما لجأ التنظيم على جبهات عدة إلى استخدام المدنيين كدروع بشرية، بهدف عرقلة تقدم خصومه لدى تضييقهم الخناق على آخر معاقله، كما يزرع خلفه الألغام والمفخخات لمنع المدنيين من الخروج ولإيقاع خسائر في صفوف خصومه.

ولدى حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أوضح عدنان عفريني قيادي عسكري من «قوات سوريا الديمقراطية»، عدم التأكد من أنّ هؤلاء الفارين هم آخر من تبقى في الباغوز من مدنيين وذوي التنظيم الراغبين بالخروج، وقال: «نعتقد وجود مدنيين يستخدمهم التنظيم دروعاً بشرية، ومن بين هؤلاء رهائن ومختطفون ومن الطائفة الإيزيدية ومقاتلون من (قوات سوريا الديمقراطية)»، وذكر أنّ أغلب الذين تم إجلاؤهم خلال الأسبوعين الماضيين قدر عددهم بنحو 5 آلاف شخص كانوا من عائلات التنظيم نفسه، مشيراً: «التنظيم الإرهابي يستخدم حتى أسره كدروع بشرية لعرقلة تقدم قواتنا وتحرير كامل المنطقة، وتبين أن المئات من مقاتلي التنظيم لا يزالون يتحصنون عبر خنادق وأنفاق في الباغوز».

ومن شأن استكمال إجلاء المحاصرين من جيب التنظيم الأخير أن يحدّد ساعة الصفر لـ«قوات سوريا الديمقراطية» من أجل حسم المعركة؛ سواء عبر استسلامهم أو إطلاق الهجوم الأخير ضدّهم، تمهيداً لإعلان انتهاء سيطرة التنظيم على مناطق أثارت الرعب على مدى سنوات.

وأوضح عفريني أنّ الهدف الأساسي هو إجلاء كل من تبقى من الباغوز يرغب في الخروج حتى وإن كانوا من عائلات التنظيم، وقال: «نحن نتعامل مع النساء والأطفال على أنهم مدنيون، وقواتنا ملتزمة أخلاقياً بعزلهم عن نيران المعارك، فالأنفاق والمدنيون يؤخران القضاء على «داعش» جغرافياً وعسكرياً».

واستسلم الكثير من مقاتلي وقادة التنظيم خلال الدفعات التي خرجت مؤخراً، فالبعض اغتنم الفرصة وتنكر بلباس المدنيين وعند وصوله إلى نقطة التفتيش كشف عن هويته وسلم نفسه، فيما حاول آخرون تزوير هويتهم لكن بعد أخذ بصماتهم وإجراء تحقيق دقيق ومعقد تبين أنهم من مقاتلي التنظيم بحسب عفريني، مشدداً: «سلم الكثير من أمراء وقادة بارزين في التنظيم أنفسهم، كما ألقينا القبض على آخرين متنكرين خلال الأيام الماضية، يتحدرون من جنسيات غربية وعربية وتركية».

قدموا من مسافات

أسدل الستار على الفصل الأخير من «داعش» جغرافياً. حفنة من الرجال يرتدون لباساً طويلاً ويجلسون في العراء وسط صحراء جافة مع هبوب رياح مغبرة. تبدو عليهم ملامح أجنبية، قادمين من آلاف الكيلومترات إلى أكثر منطقة ساخنة في الشرق الأوسط، لطالما حلموا بالعيش في كنف «الخلافة المزعومة»، لكن انتهى بهم المطاف في نقطة تفتيش بانتظار تحديد مصيرهم بعد استسلامهم. ليس خافياً على أحد أنّ هؤلاء هم عناصر تنظيم داعش المتطرف، الذين أثاروا الرعب بقواعده المتشددة وأحكامه المتوحشة، وأصدر مناهجه الدينية وعملته الخاصة وجنى الضرائب من قرابة 8 ملايين نسمة في ذروة قوته.

لكن المئات من مقاتلي التنظيم قرروا القتال، فيما الكثير منهم سلموا أنفسهم لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، في حين بدأ آخرون التفاوض مع جهات عدة من أجل الخروج من المنطقة إلى بقعة ثانية تحت سيطرتهم.

بلحية طويلة غير مهذبة، وشعر أشعث كثيف، ظهر أحمد الشاب الثلاثيني المتحدر من تونس، انتظر مع زوجته وأطفاله الصغار نحو 12 ساعة حتى خرجوا من بلدة الباغوز، بعد وصوله إلى نقطة أمنية تتبع «قوات سوريا الديمقراطية» كشف عن هويته.

يروي أنه دخل إلى سوريا قبل ثلاث سنوات، تنقل خلالها بين إدلب والرقة والمدن العراقية، بقي مقاتلاً حتى قرر الهروب صيف العام الفائت والعودة إلى مسقط رأسه بحسب ادعائه، وقال: «كشف أمري وسجنت شهرين، بعد خروجي حاولت عدة مرات دون جدوى، وعند خروج المحاصرين والمدنيين قررت الخروج معهم وتنكرت بلباس مدني».

وأكد مقاتل مغربي يدعى مروان (37 سنة) أنّ المعاملة لدى التنظيم كانت بحسب الجنسيات، فالعراقي يكون قائدا عسكرياً والشيشاني والإيغور ودول روسيا الاتحادية كانوا قادة، أما باقي الجنسيات من العرب والأجانب يتولون مناصب متدنية وتوكل لهم مهام إدارية وتنظيمية، وقال: «العراقيون كانوا متسلطين ويحكمون بقبضة من حديد، فالمسؤول الأول عن الأذرع الإعلامية ومنابر التنظيم شخصية عراقية يكنى بأبو محمد العراقي، ويشاع أنه كان قياديا لدى الرئيس العراقي السابق صدام حسين».

بينما محمد (42 سنة) المتحدر من دولة كازاخستان يكاد يتحدث بالعربية، ادعى أنه كان يعمل إدارياً في صفوف التنظيم وقرر الخروج برفقة زوجته وأبنائه الصغار، وبكلمات مبعثرة وعلامات حيرة ارتسمت على وجهه، قال: «بقيت في مناطق التنظيم بسوريا والعراق نحو عامين ونصف، شاهدت كيف ينحرون الأبرياء ويقطعون الرؤوس ويحكمون بيدٍ من حديد، يحرمون الحلال ويحللون الحرام»، وأضاف: «بعد سقوط الرقة قررت الخروج وطلبت من التنظيم السماح لي بالعودة إلى مسقط رأسي، المفاجأة أنهم سجنوني وبقيت 3 أشهر، أنا جئت إلى هنا بإرادتي فكيف يمنعون عودتي!!!».

مصدر مطلع على سير المفاوضات بين عناصر تنظيم داعش، ووجهاء وعشائر من ذوي وأسر مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» الذين سقطوا أسرى خلال المعارك الدائرة بالباغوز، قال: «نتعامل بحذر مع ملف مقاتلينا الأسرى، لكن أؤكد أننا لا نتفاوض مع تنظيم إرهابي، ولديه خياران إما الاستسلام أو تمضي المعركة للنهاية ويتم القضاء عليهم عسكرياً».

وأكد المصدر أنّ لجنة التفاوض المشكلة من وجهاء وعشائر يتفاوضون مع مسلحي «داعش»، وبأنّ مطالبهم تفضي بنقل عناصره إلى بادية البوكمال قرب الحدود السورية – العراقية في منطقة غرب الفرات خاضعة لسيطرة (داعش)، أو إلى مدينة إدلب غرب سوريا، ويفضل قادة التنظيم الخيار الثاني.

وبحسب المصدر المطلع، رسم مسلحي التنظيم خريطة سيرهم وتنقلهم، تبدأ الحركة من بلدة الباغوز المحاصرة إلى مدينة الرقة معقل التنظيم سابقاً، ومنها يتوجهون غرباً إلى مدينة منبج المحاذية للحدود التركية، للدخول إلى مناطق فصائل درع الفرات المدعومة من تركيا، والتي تسيطر على مدن وبلدات شمال وغرب حلب، ومنها يسافرون إلى وجهتهم محافظة إدلب الخاضعة لنفوذ هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة سابقاً – وتعد الفرع السوري لتنظيم القاعدة.

وأكد المصدر أن التنظيم يضغط على عائلات أسرى القوات لدى «داعش» ويبلغ عددهم 27 عنصرا. وقال: «من خلال الاتصالات اليومية بين الأسرى وعائلاتهم، لأجل الحصول على موافقة لنقل عناصر التنظيم إلى منطقة صحراء الرطبة جنوب غربي مدينة البوكمال، أو إلى إدلب غرباً».

وتشهد خطوط الجبهة الأمامية في بلدة الباغوز الواقعة أقصى ريف دير الزور الشمالي، هدوءًا نسبياً للأسبوع الثالث على التوالي، مع تريث «قوات سوريا الديمقراطية» شن هجومها الأخير في انتظار إجلاء آخر المدنيين وعائلات التنظيم المحاصرين، لإعلان ساعة الصفر والقضاء على التنظيم.

وشدّد المصدر أن قيادة «قوات سوريا الديمقراطية» تتعامل بحذر مع ملف إنقاذ مقاتليها والأسرى الرهائن لدى التنظيم، وقال: «لا يزال مصير المختطفين والرهائن العرب والأجانب مجهول ويرجح يكونوا بالباغوز، كما توجد فتيات ونساء إيزيديات سبايا لدى التنظيم، كل هذه الملفات الشائكة تعرقل إعلان ساعة الصفر».

وتسببت العمليات العسكرية منذ بدايتها في سبتمبر (أيلول) العام الماضي، بفرار 50 ألفاً من المنطقة الخاضعة لسيطرة التنظيم من بينهم نحو 5000 آلاف مشتبه بانتمائهم إلى التنظيم تم توقيفهم، وتقدّر «قوات سوريا الديمقراطية» وجود قرابة نحو 5 آلاف من المدنيين وعائلات «داعش» المحاصرين معهم، في الجيب الأخير الخاضع لسيطرة التنظيم.

محنة الإيزيديين

جيهان الفتاة الإيزيدية البالغة من العمر 22 سنة، والمتحدرة من مدينة شنكال العراقية، كانت مختطفة منذ أغسطس (آب) 2014. وتمكنت من الفرار من قبضة التنظيم المتشدّد، فلم تصدق كيف وصلت إلى هذه النقطة الآمنة؛ قالت: «الأمر غير قابل للتصديق. حقيقة كنت أظن أننا في عداد الموتى، أمراء التنظيم باعوني وكنت سبية لأعوام مضت. اليوم أحصل على حريتي»؛ اغرورقت عيناها بالدموع وهي تروي قصتها وفصول المأساة التي مرت بها، حيث تعرضت للاغتصاب 6 مرات، وكان عناصر التنظيم يقايضونها إما بالتبادل مع فتاة إيزيدية ثانية، أو مقابل مال، لتضيف: «أحلم بالعودة إلى منزلي للاطمئنان على من تبقى من أهلي، أشعر أن عمري تجاوز مائة سنة من العذاب الذي تعرضت له على يد هؤلاء الإرهابيين».

فيما لا يتذكر الطفل جاندار ويبلغ عمره 12 سنة يتحدر من مدينة شنكال، كيف تم خطفه ويجهل مصير عائلته، وقال: «عندما خطفني «داعش» كنت بعمر 7 سنوات، أخذوني إلى تلعفر ثم إلى الموصل»، وبحسب الطفل قام عناصر التنظيم يومذاك بفصل النساء عن الرجال وبقي الصغار لوحدهم، وأضاف: «تنقلت عدة مرات بين الموصل العراقية والرقة السورية، بعدها إلى هجين ثم السوسة وكانت آخر محطة الباغوز».

ولا يزال جاندار يعيش حالة من الصدمة ولا يصدق أنه وصل إلى نقطة آمنة خاضعة لقوات عسكرية عمادها العسكري «وحدات حماية الشعب» الكردية، وتابع ليقول: «أجبروني على اعتناق الإسلام، كنت أتعرض للسجن إذا خالفت أوامرهم، عملوا على زرع الأفكار المتطرفة في نفوسنا»، ونقل أنه عمل في صفوف «أشبال داعش» مجبراً، «كنا نعيش في معسكرات مغلقة نتلقى تدريبات، كانوا يعلموننا كيفية استخدام السلاح وأن نكون انغماسيين لتنفيذ عمليات انتحارية».

وكان يجلس إلى جانبه طفل ثانٍ يدعى دلوفان (11 سنة)، في المنطقة الأمنية القريبة من الحدود العراقية، تحدث بصوت منخفض وكان يقول اسم التنظيم كاملاً، فالخوف كان يتملكه ولا يزال يعيش حالة من الرعب، وقال: «أريد فقط العودة إلى أمي وأبي… أدعو أن يكون أهلي هناك بألف خير، لا أعلم عنهم شيئا، اشتقت لهم كثيراً وأريد العيش معهم طوال حياتي».

ويسعى الجانب العراقي وبضغط من الأقلية الدينية الإيزيدية، إلى عقد صفقة مع قادة تنظيم داعش لتحرير النساء والفتيات الإيزيديات ويتراوح عددهن بين 500 و600 مختطفة، مقابل السماح بفتح معبر أمن لخروج عناصره إلى صحراء الأنبار والتي لا تزال خاضعة للتنظيم.

وذكر الناشط الإيزيدي علي الخانصوري والذي عمل كوسيط لتحرير المختطفات الإيزيديات، في مكالمة صوتية عبر خدمة (واتساب) لـ«الشرق الأوسط»، أنّ تنظيم داعش نفذ عمليات إعدام جماعية بحق المختطفات الإيزيديات في الباغوز، وقال: «انتقاما لمقتل قادة بارزين في صفوف التنظيم الإرهابي بعد غارة جوية نفذها طيران التحالف الدولي قبل أيّام»، مضيفاً أن عمليات الإعدام تمت ذبحاً في عدة مناطق من البلدة بحق أكثر من 50 مختطفة من فتيات ونساء المكون الإيزيدي، وقال: «عناصر عراقيون وسوريون وأجانب نفذوا العملية بأمر من البغدادي». وكشف الخانصوري أنه على اتصال مع قيادي بارز من التنظيم في الباغوز بهدف تحرير من تبقى من الإيزيديات، وأكد أن قرار الإعدامات جاء بأمر من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وهددوا مراراً التحالف الدولي و«قوات سوريا الديمقراطية» بتنفيذ المزيد من الإعدامات ما لم يتم تحقيق مطالبهم، مضيفاً: «الجهات العراقية المعنية لم تتدخل لإنقاذ الإيزيديين من هذه المجازر».

الشرق الأوسط

داعش” يخسر معركة الإعلام أيضاً

بينما يتضاءل حجم تنظيم “داعش” على الأرض، فإن حضوره الإعلامي أيضاً لم يعد بالحجم الذي كان في فترة الذروة قبل سنوات، عندما كان يصدر نحو 40 مادة إعلامية في اليوم الواحد، بين بيان وفيديو ومواد إذاعية، بحسب تقرير صادر العام 2015 عن المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي في لندن.

ونقلت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قوله أن التنظيم انهزم في المجال الافتراضي أيضاً، مضيفاً: “لفترة من الزمن كانوا يستخدمون الإنترنت أفضل مما نستخدمها، لقد استخدموها بشكل ذكي، لكن لم يعد الأمر كذلك اليوم. واليوم فإن الناس الذين يستخدمون الإنترنت، الذين كانوا ينظرون إليهم باحترام ويعجبون بهم وبذكائهم، لم يعودوا يظنون أنهم أولئك الأذكياء”.

لكن ذلك الفرح بالانتصار الإلكتروني قد يكون مبالغاً فيه، إذ أن الذراع الإعلامية للتنظيم تستمر في العمل على مستوى أصغر، حيث تأقلمت مع الخسارة، بالإضافة إلى أن الفكر المتطرف الذي يدفع مقاتليه ومؤيديه للقتال حتى الموت هو ذاته الذي يحرك العمليات الإعلامية، فيما انتقل الإعلام الداعشي للترويج عبر الزوايا المظلمة في الإنترنت، إلى أن “داعش” فكرة والفكرة لا تموت، في تحد للحرب المستمرة على الإرهاب.

ففي الوقت الذي هزم فيه مقاتلو التنظيم فإن حجم الإنتاج الإعلامي تضاءل بشكل كبير، فبين آب/أغسطس 2015 إلى كانون الأول/ديسمر 2018، تراجع متوسط المنشورات الإعلامية ما بين بيان وأغنية وفيديو من 300 في الشهر إلى أقل من 100 في الشهر، بحسب المسؤولين الأميركيين المتابعين لإعلام التنظيم على الإنترنت، الذين يشكلون جزءا من عملية العزم الصلب الذي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم “داعش”.

وقال المسؤولون في بيان: “كانت جهودنا ناجحة في هزيمة الخلايا الإعلامية لتنظيم “داعش”، وقمنا في سوريا باستهداف أعضاء التنظيم الإعلاميين وبنيتهم التحتية وإمكانياتهم”. بينما قال ريسمان، أن المنشورات متعددة الوسائط التي كان ينتجها التنظيم تأثرت بشكل رئيسي، وسمى عدداً من المنشورات التي توقفت، مثل “دابق” و”القسطنطينية” باللغتين الإنجليزية والتركية.

ولفتت الصحيفة إلى أن آخر نسخة من مجلة رومية، التي تعد أهم مجلة للتنظيم، نشرت في أيلول/سبتمبر 2017، ولم يتبق سوى صحيفتها الأسبوعية العربية “النبأ”، بالإضافة إلى أن إصدارات الفيديو المتعددة كل أسبوع توقفت. وأكملت أنه بالرغم من أن تنظيم “داعش” تمتع فترة باستخدام “تويتر” و”فايسبوك” و”يوتيوب” و”تيلغرام”، إلا أن شركات الإعلام الاجتماعي الكبرى أصبحت أفضل في التعرف على المحتويات المتطرفة وحظرها، لكن يبقى هناك عشرات الحسابات لتنظيم “داعش” في “تيلغرام”.

وبحسب كبير المحللين في مجموعة “SITE” الاستخباراتية الأميركية المتخصصة في مراقبة المحتوى المتطرف على الإنترنت آدم ريسمان، فإن عقيدة التنظيم تؤمن بأن “الجهاد الإعلامي يساوي إن لم يكن أكبر من الجهاد العسكري”، مشيراً إلى أن التنظيم يدفع للإعلاميين الأجر ذاته الذي يدفعه للمقاتلين في الجبهات. مضيفاً: “فعل تنظيم “داعش” أكثر من غيره لتحبيب الجمهور به، فكان الأول الذي يفتح فروعاً على منصات التواصل، وسمى أولئك الذين يروجون للخلافة ولفكر التنظيم على منصات التواصل الاجتماعي مجاهدين. ولم تقم أي مجموعة أخرى بمغازلة المؤيدين بهذا الشكل”.

وفي العام 2015 على سبيل المثال، كتب التنظيم منشوراً بعنوان “أنت مجاهد أيها الإعلامي”، نشرته مكتبة الهمة التابعة للتنظيم، جاء فيه: “إن قوة الكلمة أشد من قوة القنابل النووية”، وأضاف المنشور: “إن التحريض على الجهاد يساوي الجهاد، “ولذلك يا عزيزي الجندي المجهول في الإعلام، اعرف أهمية دورك في تحقيق النصر.. فأنت مجاهد في سبيل الله”.

والحال أن مثل استراتيجيته القتالية، التي تتضمن خليطاً من المقاتلين التابعين للتنظيم، بالإضافة إلى الذين يقومون بهجمات إرهابية من المؤيدين للتنظيم في أنحاء العالم، فإن الجهد الإعلامي للتنظيم اعتمد على خليط من المجندين في هذا الحقل والمؤيدين الذين لا يملكون صفة رسمية، والذين يقومون بنشر رسالته، وهو ما أكده الباحث في شؤون الإرهاب في جامعة “جورج واشنطن” سيموس هيوز.

وأضاف هيوز أنه بسبب حصار الأذرع الرسمية للتنظيم فإنه تحول إلى مؤيديه، الذين يتمتعون بميزة أنهم غير موجودين على رادار السلطات، وبإمكانهم بالتالي تشكيل شبكات توزيع، وبعضهم يملك إمكانية إنتاج المحتوى الخاص به، ومثال على ذلك كان رسماً لبابا نويل يقف بجانب صندوق متفجرات في ميدان تايم سكوير في نيويورك، الذي بقي متداولاً عبر السوشيال ميديا لأسابيع خلال تشرين الثاني/نوفمبر، وكان ذلك الرسم من إنتاج أحد المؤيدين للتنظيم.

وتبرز حالة العراقي الأميركي أشرف الصافو، الذي كان هدفاً لعملية مكتب التحقيقات الفيدرالي، فمع أنه لم يكن عضواً في تنظيم “داعش”، إلا أنه ساعد في إنشاء مؤسسة “خطاب” للإعلام، التي تتكون من 33 مؤيداً يقومون بإعادة نشر الدعاية المتطرفة، وينتجون مادة خاصة بهم، بالتنسيق مع المسؤولين الإعلاميين في تنظيم “داعش”.

ويقوم أعضاء هذه المؤسسة “بهجمات” عبر الإعلام الاجتماعي، مستخدمين مجموعات من الحسابات الجديدة أو المقرصنة لنشر تغريدات جاهزة، بالإضافة إلى أن هؤلاء قاموا باستخدام إجراءات أمنية، مثل استخدام برامج تمنع تتبعهم، والقيام باستخدام أجهزة هاتف مدفوعة الأجر مسبقاً. علماً أن تنظيم “داعش” كان قبل أربعة أعوام يشرف على ماكينة إعلامية كبيرة، تصدر البيانات والمعلومات المصورة والنشرات والصحف والمجلات ونشرات الإذاعة والأغاني بلغات، من خمس إلى 11 لغة، بالإضافة إلى أن التنظيم أصدر تطبيقات لتعليم الأطفال والحساب واللغة العربية، ومعها صور متحركة لمتطرفين يطلقون أسلحتهم الرشاشة أو قذائف الهاون.

وبحسب الباحث في تنظيم “داعش” لدى منتدى الشرق الأوسط أيمن جواد التميمي، فإنه منذ اللحظة التي بدأ فيها التنظيم يهزم فإن رسالته الإعلامية بدأت تتحول إلى فكرة أن التنظيم لا يحتاج إلى أرض ليكون موجوداً، ففي العام 2015، وبعد سيطرة المقاتلين الأكراد على كوباني، قال المتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني: “هنيئاً لك أيها البنتاغون لهذا النصر.. لقد كسبت أكوام حجارة”.

ويقوم التنظيم اليوم بترتيب عمليته بشكل أكبر، معتمداً على فروعه في الصومال وشرق أفريقيا ويقول التميمي هنا: “بدلاً من أن يكون تنظيم داعش هو هذا الجهاز المركزي في العراق وسوريا، وله فروع في أنحاء العالم كله، فإنه أصبح جهازاً جهادياً عالمياً موزعاً”. بينما قال ريسمان أن التنظيم انتقل من دعوة المسلمين للانضمام له هم وعائلاتهم، التي كان ناجحاً فيها، إلى “يجب أن تأتوا لكن إن لم تستطيعوا بسبب العقبات فابقوا في بلدانكم وقوموا بالهجمات هناك، فإن وقعها أكبر من هنا”.

وتشير تقارير ذات صلة، إلى أن تنظيم “داعش” بدأ بإنشاء وجود له على الشبكة السوداء وعلى مواقع التواصل السرية، مثل “زيرو نت”، التي تسمح باستضافة مواقع “peer-to-peer”، حيث تحفظ المواقع على أجهزة حاسوب عادية وليس خادمات، فتكون نسخاً من الصفحات موزعة على عدة حواسيب، وذلك لتجنب المراقبة.

المدن

داعش فكرة والفكرة لا تموت”.. إلا بالاستقرار السياسي/ وليد بركسية

ربما تكون عبارة “داعش فكرة والفكرة لا تموت” هي الأكثر تعبيراً عن طبيعة دعاية التنظيم المتشدد الذي حكم قبل سنوات قليلة مساحات شاسعة بين سوريا والعراق، تفوق مساحة بريطانيا، نجح خلالها بإنشاء “دولة الخلافة” التي أعطته مكانة بارزة أمام بقية الجماعات الارهابية، وإرثاً أسطورياً يجب التصدي له، مع فقدان التنظيم آخر حيز جغرافي له وتحوله إلى جماعة متمردة هاربة، على غرار فلول تنظيم “القاعدة” في العراق التي انبثق منها التنظيم أصلاً قبل عقد من الزمان.

ولا يعتبر الوصف السابق مبالغة في تقدير قوة التنظيم، فإذا كانت فرضية أن الإرهاب يتمدد في الخلاء صحيحة في وقت سابق، يجب القول أن الإرهاب الداعشي اليوم ينزوي ويتلاشى في الخلاء أيضاً. وبالتالي لا يعني تراجع “داعش” ميدانياً أن التنظيم قد انتهى ومُسِح عن الوجود ببساطة، إذ ينحسر نفوذه ويتحول بسرعة من دولة إرهابية إلى مجرد جماعة إرهابية تعمل في الخفاء وتنظم نشاطها عبر زوايا الإنترنت المظلمة بشكل خاص من أجل تجنيد المقاتلين في الغرب والقيام بعمليات منفردة ضد “الكافرين”، من أجل انتظار اللحظة المناسبة لإحياء “دولة الخلافة” في سوريا والعراق بوصفهما دولتين لا تتوافر فيهما حلول سياسية قادرة على القضاء على جذور الإرهاب نفسه.

ومنذ اليوم الأول لنشأته، أدار التنظيم حملة دعائية متقنة قدم من خلالها الإرهاب بطريقة غير مسبوقة عبر فلسفة “جمال الشر” باعتماده على مواقع التواصل الاجتماعي وتصوير عملياته الدموية بحرفية مستمدة من أفلام سينمائية وبرامج تلفزيون الواقع، ساعدته على تجنيد الكثير من الأنصار، وتحوله إلى تنظيم “عالمي” جاذب للمتطرفين الحالمين بإقامة “يوتوبيا إسلامية” في المشرق.

ولعل تلك الدعاية فتحت شهية وسائل الإعلام الغربية لتداول أنبائه، إلى درجة مبالغ فيها، حسب بعض الانتقادات التي وجهت لكبرى الصحف في الولايات المتحدة وبريطانيا، خلال الأيام الماضية، لمساهمتها المفترضة في إعطاء صورة مبالغ فيها عن قوة التنظيم وقدرته على الانبعاث مجدداً رغم أنه تعرض للقصف باستمرار على مدار العامين الماضيين في سوريا والعراق، وهو الآن على مشارف خسارة آخر معاقله، وبالتالي خلافته.

والحال أنه لا يمكن لوم وسائل إعلام كبرى، مثل “نيويورك تايمز” أو “نيويوركر” و”سي إن إن” وغيرها، على افتتانها بأخبار التنظيم، ليس لأن تلك الأخبار كانت مثيرة وقادرة على حصد آلاف القراءات والمشاهدات في عصر تصارع فيه وسائل الإعلام من أجل استمراريتها في عالم متقلب، بل لأن التنظيم بحد ذاته كان حدثاً فريداً بأساليبه الدعائية غير المسبوقة من جهة، ولخطورته على الأمن الإقليمي والدولي، التي تضفي على أخباره قيمة إعلامية لا يمكن تجاهلها، ولا تعني تغطية أنباء التنظيم ودعايته، ترويجاً لذلك الفكر، لأن المتأثرين بالفكر الداعشي، في الدول الغربية، لا يتلقون مصدر معلوماتهم من الإعلام “الكافر”، بل يعيشون في عالم مختلف من المعلومات والعزلة، وهو ما أكدته قضية “عرائس داعش” الأخيرة بوضوح.

المخيف في الأمر هنا، أن خلافة “داعش” لم تكن فقاعة إعلامية، بل كانت أمراً واقعاً سقطت به الحدود الرسمية بين سوريا والعراق بعد حوالي 100 سنة على إنشائها وترسيمها باتفاقية “سايكس بيكو”، واشتعلت من ورائه حروب وقتل وتعذب بسببه كثيرون، وساهم وجوده المروع في تحسين صورة الأنظمة الدكتاتورية التي تعتبر بلا شك أحد أهم أسباب تشكله. كما أن المظالم السياسية والاجتماعية التي أدت إلى خلق بيئة خصبة للتنظيم كي ينمو ويزدهر في سوريا ما زالت موجودة، ولم يتم التوصل الى حل سياسي حقيقي ينهي هذه الحلقة المفرغة التي يمكن تلمسها في العراق، مع التحولات التي طرأت لتنظيم “القاعدة” منذ العام 2003 والتي انبثق منها “داعش” قبل سنوات.

رغم ذلك، يبقى التساؤل عن دور وسائل الإعلام الكبرى في تصوير “داعش” في هيئة التنظيم الذي لا يقهر، مشروعاً، وبحسب الانتقادات التي يكررها باحثون مؤخراً، مثل خبير علم الجريمة بجامعة كينت البريطانية، سايمون كوتي، فإن “الكثيرين من المراقبين يترددون في الاعتراف بحجم هزيمة داعش، وهم مقتنعون أنه سيتحول إلى شيء أكثر إرهاباً، لدرجة أن البعض لا يستخدمون كلمة الهزيمة مطلقاً، ويبدو وكأنهم من دعاة داعش الذين يحولون كل خسارة داعشية إلى مجرد كبوة مؤقتة في طريق انتصارهم المحتوم، ويركزون على حقيقة أن التنظيم يمتلك معاقل في أماكن أخرى، مثل أفغانستان، ويرون أنه سيعود مستقبلاً مسترداً عافيته”.

ويبدو الجدل السابق نوعاً من الترف الفكري، خصوصاً أنه ينطلق من فرضية واهية تفيد بأن هنالك فرقاً في تعامل المنظومتين السياسية والإعلامية في الغرب مع قوة التنظيم، رغم أن الخطاب الدبلوماسي الغربي يحذر في العموم من إمكانية انبثاق التنظيم.

ففي العراق على سبيل المثال، حذرت الأمم المتحدة العام الماضي من أن خمس مناطق حررت حديثاً من “داعش” تحتاج بشكل عاجل إلى الاستقرار، وإلا فإن موجة التطرف العنيف قد تظهر مرة أخرى، ما يهدد بتبديد المكاسب العسكرية التي تحققت ضد “داعش”، وهو ما كررته وزارة الخارجية الأميركية حينها.

ويركز الخطاب الدبلوماسي الغربي على فكرة تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة من “داعش” من أجل التصدي لدعايته التي تستهدف السكان المحليين من أجل خلق شرعية للجهاديين هناك، لأن ذلك الاستقرار ضمن دول تحترم القانون ومبادئ الديموقراطية والمواطنة، هو الحل الوحيد لمكافحة تحول “داعش” إلى خرافة أو أسطورة شعبية متناقلة عبر الدعاية الداعشية نفسها، وليس عبر الإعلام العالمي، علماً أن تلك الحالة هي أمر سعى إليه التنظيم بشدة منذ اليوم الأول لظهوره، تمهيداً لليوم الذي يأتي ويهزم فيه ويتقهقر نحو البادية والأرياف التي خرج منها، راسماً صورة المدافع عن المظلومين السنة ضد “المتوحشين الشيعة” و”الأجانب الصليبيين”، مستفيداً من مظلوميات تاريخية تتكرر وتزداد كشعاره تماماً “باقية وتتمدد”.

المدن

نساء خارجات من الباغوز يتوعدن بـ”فتوحات” جديدة لتنظيم الدولة

قرب الباغوز: عند مشارف بلدة الباغوز في شرق سوريا، تصرخ نساء “الله أكبر” و”باقية وتتمدد”، يحملن أحذيتهنّ أمام كاميرات الصحافيين ويوجهن الشتائم لهم، ويتوعدن بـ”الانتقام” وبـ”فتح جديد”، وذلك بعد ساعات من خروجهن من الجيب الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

بين الآلاف الذين تدفقوا خلال الأيام الأخيرة من البقعة الصغيرة قرب الحدود العراقية، نساء وأطفال والعديد من الجرحى. يبدو واضحاً أن أكثر المتشددين هم آخر مغادري البلدة المحاصرة من قوات سوريا الديمقراطية. ويبدو الخارجون منهكين وجائعين ومتألمين من الهزيمة التي لحقت بتنظيم وعدهم بـ”خلافة” مترامية الأطراف. رغم ذلك، لا يقر كثيرون منهم بانتهاء “الدولة الإسلامية”.

فور رؤيتهنّ صحافيين تجمعوا في المكان، بدأت حوالى عشر نساء بالصراخ، وحمل بعضهن أحذيتهنّ أمام كاميرات الصحافيين، فيما ألقت أخريات الحجارة على الكاميرات. وصرخن “الله أكبر”، و”باقية وتتمدّد”.

كنّ في طريقهن إلى الحافلات لنقلهنّ إلى مخيم الهول في الحسكة في شمال شرق البلاد. فقد أبطأت قوات سوريا الديمقراطية هجومها مجددا خلال الأيام الماضية بسبب خروج دفعات جديدة من الرجال والنساء والأطفال من الباغوز.

وقالت إحداهنّ “سننتقم وسيصل الدم إلى الركب”، مضيفة “خرجنا، لكن هناك فتوحات جديدة مقبلة”.

اعترضت النساء على قضائهنّ ليلة في العراء وفي البرد غداة خروجهن من الباغوز ومصادرة قوات سوريا الديموقراطية هواتفهنّ النقالة وكل الأجهزة الإلكترونية التي حملنها.

على الأرض، جلست أخريات ينتظرن تحرك الحافلات. بينهنّ أم محمد (47 عاماً)، العراقية من الأنبار، التي قالت “ننتظر الفتح بإذن الله، خرج الأنذال والخائفون وخرجنا نحن لأننا نشكل ثقلا على الرجال”. تتردد في الإجابة عن مكان زوجها المنضوي في صفوف التنظيم، وتكتفي بالقول “الحمد لله، حياً كان أو ميتاً”.

في مكان قريب، انهمكت أمرأة بالصلاة وأخرى بقراءة القرآن، فيما كان طفل يردّد بصوت خافت أغنية لتنظيم الدولة الإسلامية أثناء سيره إلى جانب والدته.

وكرّرت امرأة عراقية رفضت التعريف عن نفسها، “باقية بإذن الله تعالى برغم أنوفهم”، بينما قالت أخرى اكتفت بذكر عمرها (60 عاماً)، “لا تنتهي دولة الخلافة، لأنها انطبعت في دماغ وقلب الرضيع والصغير”.

وأكدت كثيرات أنهنّ يردن تربية أولادهنّ على “نهج الخلافة”.

لم يكن في الإمكان تبين وجوههن تحت النقاب الأسود الطويل الذي تظهر منه العينان فقط. وبغضب، توجهت إحداهنّ الى صحافية بالقول “لعن الله من تشبهت بالرجال”، في إشارة إلى لباسها، بينما أمسكت أخرى خصلة من شعر الصحافية، وقالت لها “ألم تقرأي القرآن، ألا تختشين؟”.

– “مسؤولية البغدادي”

ولا تسمح قوات سوريا الديمقراطية للصحافيين بالاقتراب كثيرا من الرجال الذين يتمّ فصلهم عن النساء للتوسع في التحقيق معهم والتأكد مما إذا كانوا مقاتلين في صفوف التنظيم المتطرف، أم لا.

لا تسمح قوات سوريا الديمقراطية للصحافيين بالاقتراب كثيرا من الرجال الذين يتمّ فصلهم عن النساء للتوسع في التحقيق معهم

في الجزء المخصص للرجال، جلس عدد من المشتبه بهم على الأرض.

وقال أبو مريم (28 عاماً) المتحدر من طرطوس في غرب سوريا، “ما دفع الناس إلى الخروج هو التعب. كل من في الداخل يريدون، الخروج لكنّهم خائفون”.

وأشار الى أنه فقد زوجته وطفليه وسياراته وأمواله، وكل ما يريده الآن “الذهاب بعيداً عن هنا”، “لأريح رأسي”.

ارتدى أبو مريم عباءة صوفية فوق ثيابه، وكان يتحدث بصوت خافت. الى جانبه، قال عبد المنعم ناجية إنه تأخر بالخروج لأنه كان يخشى الأسر، خصوصاً أن أولاد عمّه، بحسب قوله، مقاتلون في صفوف التنظيم. روى أنه خلال الأيام الماضية “سرت شائعة مفادها أن جميع الرجال سيخرجون إلى إدلب (شمال غرب سوريا الذي لا يزال خارجا عن سيطرة قوات النظام السوري) من دون أن يتعرض لهم أحد، لكنها لم تكن صحيحة، وما حصل هو أن الكلّ خرج إلى الأسر”.

قال ناجية إنه في الثلاثين من عمره، لكن بدا أكبر بكثير، وقد طغى الشيب على شعره وذقنه.

وجه أصابع الاتهام في ما آلت إليه الأمور للفساد الذي حل في التنظيم، وحمل زعيمه أبو بكر البغدادي المسؤولية.

وقال “كان هناك تطبيق لشرع الله، لكن بات هناك ظلم وقيادات سرقت الأموال وتركت العوام، رعية أمير المؤمنين… هربوا، وبقينا نحن إلى أن وصل الرصاص إلى فوق رؤوسنا”.

وفرّ، وفق قوله، عدد كبير من قادة التنظيم إلى إدلب وتركيا والعراق، “كل فترة، نسمع خبراً أن الأمير الفلاني (قطع) أي أنه ترك الجماعة”.

أما أبو بكر البغدادي فلم يره يوماً، وقد يكون حالياً في العراق، بحسب قوله. وتابع “تركنا أمانة لأناس خذلونا وذهبوا… هو يتحمل مسؤولية، كونه بنظرنا القدوة… لمن تركنا؟”.

وأكد أنه لم يبق في الداخل اليوم سوى قادة “ضعفاء”.

على الرغم من ذلك، كان يدعو لـ”الخلافة الإسلامية” وللبغدادي نفسه، متمنياً له السلامة و”الفتوحات”.

وخلال العامين الماضيين، مُني تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان استولى على منطقة واسعة توازي مساحة بريطانيا في سوريا والعراق في 2014 بهزائم متتالية. وانحسرت أماكن تواجده تدريجياً، ليحاصر أخيراً في بقعة صغيرة من بلدة نائية غير معروفة في أقصى الشرق السوري، بات اليوم اسمها على كل لسان.

في منطقة الفرز، فقد أحد الرجال فجأة أعصابه أمام الصحافيين، ووقف برغم إصابة في رجله، وصرخ متهماً التحالف الدولي الذي يشن غارات مكثفة على الباغوز دعما لهجوم قوات سوريا الديموقراطية، بـ”الإرهاب”.

ثم قال “أنا استسلمت بسبب إصابتي، وإلا كنت بقيت، فأنا واكبت تنظيم الدولة الإسلامية منذ البداية. خرجت الآن، لأنه لم يبق أي شيء”.

(أ ف ب)

القدس العربي

الايزيدية سلوى..كيس أزرق من الباغوز إلى شنكال/ محمد حسان

على تلة ترابية تفصل “قوات سوريا الديموقراطية” عن مخيم الباغوز، الذي يُسيطر عليه تنظيم “الدولة الإسلامية”، جلست سلوى لتستنشق رياح الحرية التي بدأت تمتزج بورود ربيع أخضر غطى بادية ديرالزور.

سلوى، 36 عاماً، أيزيدية من قرية تل قصاب في سنجار، اختطفها التنظيم مع والدتها وأختها الصغرى أواخر العام 2014، قبل أن يُطلق سراحها، الجمعة، مع مجموعة من المختطفات.

تتحدث سلوى والدموع تنهال من عينيها، عن ممارسات عناصر التنظيم ضد الأيزيديات. تقول لـ”المدن”: “دخلنا السجون وتعرضنا لأبشع أنواع التعذيب، تم استعبادنا من مقاتلي التنظيم لإشباع رغباتهم الجنسية، وفي الفترة الأخيرة قاموا بقتل الكثير من المختطفات وتم دفنهن بمقابر جماعية”.

سلوى لم تجد منفذاً من العذاب، إلا بالزواج من داعشي طاجكستاني، طيلة فترة اختطافها، بسبب تحدثه اللغة الكردية وللخلاص من التعذيب التي كانت تتعرض له داخل سجون التنظيم.

المعركة متوقفة

المعارك متوقفة لليوم الثالث على التوالي، بين “قسد” و”داعش” في محيط مخيم الباغوز، آخر الجيوب التي يُسيطر عليها التنظيم شرقي نهر الفرات.

توقف المعركة جاء بعد توصل الطرفين إلى اتفاق تهدئة، يقضي بوقف القصف الجوي من “التحالف الدولي” على المخيم، مقابل إطلاق التنظيم سراح معتقلين لديه، والسماح لمن يرغب من مقاتلي التنظيم وعائلاتهم بالخروج من المخيم.

“داعش” أطلق ليل الخميس/الجمعة، سراح قرابة 50 شخصاً، بينهم مقاتلون من “قسد” ومختطفات أيزيديات مع أطفالهن، إضافة لأربعة أطفال من الطائفة الشيعية اعتقلهم التنظيم من مدينة حديثة العراقية قبل سنوات.

وتستمر عملية خروج مقاتلي التنظيم وعائلاتهم من المخيم تحت إشراف “التحالف الدولي”، وشهدت الساعات الماضية خروج 250 شخصاً بينهم 75 مقاتلاً، والبقية من النساء والأطفال، بينهم جرحى وحالات طبية حرجة.

وتقوم “قسد” و”التحالف الدولي” بنقل مقاتلي التنظيم وعائلاتهم إلى حقل العمر النفطي لتحقيق معهم، ثم نقلهم في مرحلة لاحقة إلى مخيم الهول جنوبي الحسكة.

ويتوقع أن تستمر الهدنة بين الطرفين إلى أن يتم خروج جميع الراغبين بالاستسلام، كما تحاول “قسد” استثمار التهدئة للعمل على تحرير جميع المعتقلين في سجون التنظيم، خاصة مقاتليها.

“داعش” يستعد

يستغل عناصر “داعش” الرافضين للاستسلام فترة الهدنة لتعزيز الخطوط الدفاعية، خاصة البساتين المحيطة بالمخيم ومنطقة تلة الجهفة شمالي المخيم.

وحفر التنظيم المزيد من الإنفاق والخنادق داخل مناطق سيطرته، لضمان تنقل مقاتليه بين الجبهات لتجنيبهم قصف طيران “التحالف”، كما زرع المزيد من الألغام بهدف إعاقة أي محاولة تقدم بري للقوات المهاجمة.

ويعتبر سلاح المفخخات أهم الأسلحة التي سوف يعتمد عليها التنظيم في حال استئناف المعركة. وتم توزيع سترات واحزمة ناسفة، على جميع مقاتلي التنظيم المتبقين، لاستخدامها في حالات الضرورة، وقام شرعيو التنظيم بأخذ بيعة الموت من المقاتلين.

تحركات التنظيم تقابلها مساعٍ من “قسد” لتغيير تكتيكها العسكري، الذي فشلت خلاله في اقتحام المخيم عبر التمهيد المدفعي والجوي ثم الاقتحام البري.

وستعتمد “قسد” على تركيز القصف الجوي والبري على تلة الجهفة، التي تعد أكبر عائق يواجه القوات المهاجمة في حال التقدم البري، بهدف السيطرة عليها، ما سيساهم في سقوط المخيم نارياً.

مصدر عسكري من “قسد”، أكد لـ”المدن”، أن قوات “التحالف”، تنوي استهداف مناطق التنظيم بعد استئناف المعارك بالقنابل الارتجاجية، بهدف تدمير شبكة الأنفاق التي يتحرك داخلها مقاتلو التنظيم”.

نريد العودة

أهالي قرى الباغوز والمراشدة والسفافنة طالبوا قوات “قسد”، التسريع في إنهاء العملية العسكرية في المخيم و بدء إجراءات عودتهم إلى قراهم، التي تشهد عمليات عسكرية منذ أشهر.

وبحسب الإدارة المدنية لمنطقة هجين، فقد بلغت نسبة الدمار في الباغوز وما حولها أكثر من 95% من المنازل والمرافق العامة، خاصة المدارس والطرق الداخلية.

كما تعد المنطقة من أكثر المناطق التي تنتشر فيها مخلفات الحرب، من الغام وقذائف مدفعية وصواريخ طائرات حربية غير منفجرة، إضافة لعشرات الجثث المتفسخة التي تعود لمقاتلين من التنظيم وقطعان من الماشية.

سولوان، من وحدات الهندسة في “قسد”، قال لـ”المدن”، إن فريق الهندسة يعمل حالياً على نزع الألغام في مناطق الاشتباك مع التنظيم، إضافة الى الطرق الداخلية في منطقة الباغوز وما حولها.

وأضاف: “تأمين منطقة الباغوز مرتبط بانتهاء جيب التنظيم الأخير، لذلك نمنع عودة المدنيين خوفاً على حياتهم”.

وبلغت حصيلة القتلى نتيجة انفجار الألغام ومخلفات الحرب  في مناطق سيطرة “قسد” في ديرالزور، خلال شباط/فبراير 9 أشخاص بينهم أربعة أطفال.

إلى “شنكال”

بعدما استنفذ جميع الصحافيين والمقاتلين اسئلتهم لسلوى، اخبرها أحد العناصر المسؤولين عن نقل المختطفين المحررين بضرورة تجهيز نفسها، فقد وصلت السيارة التي ستنقلها إلى القامشلي ومن هناك إلى شنكال “سنجار”.

باص صغير لونه أبيض، أقلّ 7 نساء، بينهن سلوى، وأكثر من 13 طفلاً أيزيدياً، كل ما يفكرون فيه وجوه ذويهم بعد كل هذا الغياب، من بقي منهم على قيد الحياة ومن رحل.

الباص يبتعد في الطرق الترابية، سلوى تنكمش على نفسها لا شيء تحمله سوى كيس أزرق، لا يعرف محتواه، مع الكثير من الألم الذي عاشته لسنوات، والذي لا يبدو أنه سينتهي قريباً.

المدن

التغريبة الداعشية/ حسام جزماتي
لا تبعث ظروف احتضار «الدولة الإسلامية» على الاطمئنان، من قرية «الباغوز» في أقصى شرق سوريا تخرج يومياً مئات النساء والأطفال، ويستسلم مقاتلون لكن دون أن يستسلموا !
في معقلها الذي صدف أنه الأخير تنزّ داعش دمها الثقيل بعد أن نزفت مصلاً هنا وهناك حتى حوصرت في مساحة راحت تتقلص حتى وصلت إلى أقل من كيلومتر مربع ترصده الكاميرات التي تتلقف الخارجين كذلك. يحتفل العدد القليل ممن تبقى من «السبايا» الإيزيديات بالحرية.
يعانقن المقاتلات الكرديات من «وحدات حماية المرأة» ويسارعن إلى الاتصال بعائلاتهن بعد سنوات طويلة مرّة من الأسر. فيما تظهر نساء داعش المنقبات بهيئة الأسيرات العنيدات؛ أمام الفضائيات يصرّحن بإيمانهن بدولة الخلافة وبالبغدادي الذي أمرهن بالخروج لمنع إلقاء النفس إلى التهلكة، وللحفاظ على الأولاد الذين سيعيدون مجد «الدولة» إن قتل آباؤهم الذين ظلوا في الداخل.
يبدو الرجال الخارجون أقل عنفواناً، جرحى متعبين مجللين بالغبار بوجوه شبه محروقة. يصمتون ما أمكن، وحين يتكلمون ينفي معظمهم المشاركة في القتال ويزعم وظيفة إدارية. يقول الأجانب: «لا أتكلم العربية» بصوت متقطع، تهرباً من الأعذار والتنصلات والتبريرات التي يقولها بعض السوريين.
خارجون من تحت نيران التحالف الدولي المركزة، لا يبدو رجال الدواعش مهزومين بالدرجة الكافية، بل أقرب إلى المخذولين. مجرّدين من قوتهم وغطرستهم، من حسبتهم وأمنييهم وجلاديهم ومن الرؤوس المقطوعة في الساحات؛ يرجع الدواعش إلى صورة عتيقة «جذابة»؛ مؤمنين مخلصين وقد وقعوا في «الأسر». وفي ظل تخامد إيمان عموم السوريين بقضاياهم الأولى وبمعسكراتهم، يبدو أي مؤمن «قوياً» حتى في انكساره.
منذ وقت طويل بدأت شعبية داعش بالتآكل. غير أن موتها هذا الذي لا يشبه الموت ربما يخبرنا الكثير عن مستقبلها كجثة غير هامدة تستطيع أن توقع في حبائلها مناصرين جدداً بدأت أصواتهم تظهر، في دورة دموية خرقاء تالية، وقد دعمت بمشهدية كربلائية سنّية عربية طازجة تضاف إلى إرث من المظلومية.
بالمقابل، لا يتوقع الدواعش من الضفة التي يستسلمون لها إبادةً توازي ما مارسوه من تنكيل وشناعات في حق أي مخالف لهم أو مشتبه فيه. فهناك المعايير القانونية والأخلاقية الغربية التي لا يستطيع التحالف رميها عرض الحائط بشكل كلي وشامل. كما يبدو أن غليل أعداء داعش من القسديين الصلبين قد شفي مع توالي انتصاراتهم عليها، وصار همهم تأمين المعسكرات والمستلزمات لأعداد فاضت عن طاقة الاستيعاب، فضلاً عن تمييز المقاتلين من سواهم، واحتجاز المجرمين، وتسليم المهاجرين إلى دولهم التي تعاني حيرةً في التعامل مع هذا الملف، ناهيك عن ملحقاته من الزوجات والأبناء. وإذا أضيف إلى ذلك كله ما تواتر من قصص تسرب الدواعش، نتيجة الاضطراب العام أو سرعة التحقيق أو الفساد أو علاقات القربى؛ فإن لدى الخارجين من الرجال فرصاً معقولة للنجاة، أما النساء فيعرفن أن أحداً هنا لن يعدمهن بناء على ترديد كلمة «باقية».
من المستبعد أن تعيد داعش سيطرتها على أية جغرافيا مستقلة على المدى المنظور والمتوسط، غير أن المؤكد أن رصيدها بعد هزيمتها الحالية أكبر من خزانها يوم هزيمتها عندما كانت «دولة العراق الإسلامية» وآلت إلى بضع مئات فقط من المقاتلين. ربما لن نواجه داعش ككيان على الأرض حتى وقت طويل، وعلى الأرجح أننا لن نواجهها أبداً، غير أن إعادة تشبيك المبايعين الفارين لبناء تنظيم إرهابي لن تحتاج إلا لأشهر من الاستقرار الآمن في الشمال السوري أو الجنوب التركي مع علاقات خارجية متشعبة. وهو ما لم تتأخر بوادره في الظهور منذ زمن، على أي حال، في تفجيرات إدلب والاغتيالات في مناطق قسد ذات الغالبية العربية.
ينصب الاهتمام عموماً على معالجة مسألة الدواعش الحاليين الذين لا يفضّل الكثيرون أي حل يتضمن بقاءهم أحياء، فضلاً عن الأطفال الذين وقعوا تحت تأثير نمط «أشبال الخلافة» الذي لم يعرفوا له بديلاً. غير أن مشاهد قوافل المشاة الخارجين من الباغوز كفيلة باستثارة الحماس مجدداً في نفوس تشعر بالمظلومية الطائفية في العراق وسوريا وبالمظلومية العامة في العالم. لقد انهار إعلام داعش المؤثر والفعال كما تداعت معظم مقوماتها، لكن هذه المشاهد ستبقى شديدة الصلاحية لاستخدام إعلاميين محتملين، وربما في المستقبل القريب.
تسبح داعش في حوض الإسلام العربي السنّي، والريفي بدرجة أوضح في سوريا. لقد سال حبر نظري غزير في النقاش عن مدى تمثيلها للدين أو براءته منها، غير أن أحداً لم يمارِ في أنها شكّلت للكثير من العرب السنّة «رأس الحربة» التي «تشفي صدورهم» إذ «تثخن» في أعدائهم. ولن نضيف جديداً إذا قلنا إن الحلول الاستئصالية غير مجدية ولا ممكنة عملياً، وإن تجفيف حوض داعش من الحقد هو الطريق الجدي لتضمحل على المدى الطويل. وبهذا المعنى لا بد أن تطال خطة صيانة المنطقة سواها من «الدواعش»، الأسديين والخامنئيين.
تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى