وجها لوجه

بافل بافليكوفسكي: أوروبا تغيرت كثيراً..لكننا لم نَضِع بعد


حوار محمد صبحي

نعم، أرادوا جعل الموسيقى الشعبية واجهة الاتصال لبلدنا

حرب باردة ببساطة يدور حول زوجين كلاهما يلعب دور القيادة في العلاقة

أسألُ المخرج البولندي باول بافليكووسكي (1957 – وارسو، بولندا) عن نسخة مختصرة من قصة حياة والديه العاطفية، فيقوم بإخبارها في نَفَس واحد: “اللقاء الأول بينهما كان في عامهما الـ17، في أواخر الأربعينيات، زواج، فطلاق، ثم زواج مرة أخرى وطفل في العام 1957، بافل. اضطرتهما ظروف عملهما للسفر كثيراً – كان الأب طبيباً، والأم راقصة باليه – ومرة ​​أخرى انفصلا. انتقل الأب إلى برلين، بينما اصطحبت الأم ابنها (14 عاماً) إلى لندن. كلاهما تزوج ثانية، التقيا بعضهما بعضاً مرة أخرى في الخارج، ثم عاشا معاً مرة أخرى… كان الوضع فوضوياً جداً ومتعِباً. أتصور ذلك. أعتقد أنهما على المدى الطويل تعبا من المجادلة، وسوف يدركان في مرحلة ما أن ليس لأحدهما سوى الآخر”.

كانت علاقة والدي بافليكوفسكي هي مصدر إلهام لقصة الحب بين صائد المواهب (توماش كوت) ومغنية فرقة الرقص الشعبي البولندي (أداء رائع من جوانا كوليغ) في دراما “حرب باردة”(*) الملتهبة، فيلمه الجديد الذي تدور أحداثه في أوروبا بين أواخر الأربعينيات وحتى أوائل الستينيات. الإشادة النقدية والحفاوة لجماهيرة حضرتا بقوة منذ العرض العالمي الأول للفيلم في أيار/مايو الماضي في مهرجان “كان” السينمائي، وقد ذُكر فيلم بافليكوفسكي منذ ذلك الحين كفائز محتمل بأوسكار أفضل فيلم أجنبي. لم يخب ظنّ جمهور الفيلم، إذ استطال نجاح الفيلم المهرجاني وغزا في الشهور التالية مهرجانات ومنصات عديدة، نذكر من بينهما فوزه بخمس جوائز كبرى في جوائز السينما الأوروبية الشهر الماضي، ووصوله للقائمة النهائية لترشيحات أوسكار أفضل فيلم أجنبي، فضلاً عن فوزه المحتمل بجائزة أوسكار أفضل تصوير سينمائي.

لدى بافليكوفسكي سمعة تدعمه، فمنذ بداية القرن الجديد صنع لنفسه اسماً في إنكلترا (التي درس ودرّس في جامعاتها فنون الإخراج) كصانع أفلام صغيرة جادة. على سبيل المثال، في فيلمه “ملاذ أخير” (2000) تغادر امرأة روسية صغيرة مع ابنها إلى إنجلترا لمقابلة خطيبها، لكن حين لا يظهر ينتهي بها المطاف في مركز طالبي اللجوء السياسي. أو في أفضل أفلامه وأكثرها ذيوعاً – قبل شهرته المتأخرة عالمياً- دراما الصيف الحالم والحب المثلي المعنونة “ماي سامر أوف لاف” (2004)، مع إيميلي بلانت وناتالي بريس في دور مراهقتين تكتشفان الحب والرغبة في الريف الإنكليزي. نمت مكانته السينمائية عالمياً بشكل كبير عندما عاد إلى وارسو وقرر التركيز على وطنه القديم. في 2013، ظهر فيلمه “إيدا” في صورة صارمة بالأبيض والأسود، عن راهبة يهودية تتعثّر بتاريخها العائلي المأساوي في الستينيات البولندية، وأكسبه جائزة أوسكار، هي الأولى على الإطلاق لفيلم بولندي.

في فيلمه الجديد، “حرب باردة”، يعود بافليكوفسكي من جديد إلى ماضي بولندا، ليحكي قصة حب، دون إشغال باله بأي اسقاطات ممكنة تربط فيلمه بما يحدث في عالم اليوم. هو فيلم شخصي ومنطلق حنين لاستدعاء ماض زاخر، أما إذا كانت الأجواء خلف الستار الحديدي تعيد إلى الأذهان صورة أوروبا حالياً، فهذه مسألة يحددها المشاهد بنفسه، كما يقول بافليكوفسكي.

– زولا وفيكتور، بطلا الفيلم، يحملان اسمَي والديك. ما الذي يعنيه ذلك؟

* نعم، قصة الفيلم مبنية على أساس علاقة والدي ببعضهما بعضا، لكني تعاملت معها بحرية. إنها قصة مثيرة بحد ذاتها: على مدى فترة أربعين عاماً، انفصل والداي مراراً وتكراراً، فقط ليعودا إلى بعضهما مرة أخرى. بالطبع غيرتُ وحذفت في كثير من مواضع القصة، لأن الحياة الحقيقية أكثر تعقيداً من أن تُسرد في الفيلم. ومن أجل تسهيل الأمور، قررت أثناء كتابة السيناريو إعطاء اسمي والديّ لبطليّ الفيلم، وفي النهاية قررت أن أتركها على هذا الحال، لأن تلك الأسماء توافقت بشكل جيد مع ما يحدث في الفيلم.

لم أضع طفلاً في قصة الفيلم، للحفاظ على مسافتي منه. “حرب باردة” ببساطة يدور حول زوجين كلاهما يلعب دور القيادة في العلاقة، تماماً مثل والديّ. في كثير من علاقات الحبّ، وخاصة على الشاشة، واحد من الاثنين غالباً ما تكون له اليد العليا. هذا ليس هو الحال هنا. كتبت بالفعل ماضي والديّ في التسعينات، لكني لا أنوي تصويره بعد. انجذبت طويلاً إلى علاقات الحب المأسوية؛ قبل سنوات كنت أعمل على فيلم أميركي عن سيلفيا بلاث وتيد هيوز (انتحرت بلاث في الثلاثين من عمرها، واتهِم هيوز علناً ​​بمسؤوليته عن دفعها للانتحار، المحرر)، لكن ذلك لم يحدث أبداً. مشاحنات مع نجوم كبيرة وتوقعات عالية جداً. قبل ثلاث سنوات، أخرجت قصة والدي مرة أخرى. حذرني منتجي: قصة امتدت على مدى أربعين سنة مع الكثير من التقلبات والانعطافات، هذا لا ينجح كثيراً في الأفلام. قال إن ذلك كثير جداً ومعقد جداً. ولكن مع “إيدا” أثبت بالفعل أن السرد البيضاوي elliptical يمكن أن يعمل بشكل جيد، بحيث لا يتعيّن عليك إظهار كل شيء لتقول الكثير.

– تنتهي القصة بطريقة دراماتيكية، ولكن أيضاً على غرار القصص الخيالية. هل هذا مأخوذ أيضاً من الحياة الحقيقية لوالديك؟

* النهاية ليس بعيدة عن الحقيقة. لكني لا أريد الخوض في ذلك.

– بالعودة إلى البداية، عندما يجتمع زولا وفيكتور في المجموعة الموسيقية. مشاهد الغناء والرقص رائعة. كيف أتيت إلى هذا المكان الموسيقي؟

* في البداية لم يكن لدي سوى تلك القصة الرومانسية، لذلك بحثت عن عنصر آخر يعطي القصة دماء تساعدها على الاستمرار. ثم قابلت بالصدفة فرقة مازوفشا، التي تجمع وتؤدي الأغاني البولندية التقليدية. تأسست الفرقة الموسيقية بعد الحرب العالمية الثانية بواسطة زوجين جابا أنحاء الريف البولندي بكامله رفقة جهاز تسجيل، لتسجيل الأغاني المحلية بأصوات مغنييها مباشرة. وجدث هذه التفصيلة رائعة، لذا أدرجتها في القصة، وطلبت من الفرقة العمل على المشاهد الموسيقىة. من هنا، أصبحت الموسيقى شريكاً ثالثاً في علاقة زولا وفيكتور، كما الروح القدس في الثالوث، يجمعهما باستمرار ويعطيهما الإلهام. لكني استمتعت أيضاً برؤية جزء محدد من التاريخ البولندي بهذه الطريقة.

– “حرب باردة” يتشارك مع فيلمك السابق “إيدا” بعض أوجه التشابه. من ناحية، الصورة بالأبيض والأسود، أبعاد الإطار، العودة إلى ماضي بولندا التاريخي. من ناحية اخرى، هو أكثر حيوية وحركة.

* أجد هذا الفيلم مختلفاً تماماً من وجهة النظر الأسلوبية عن “إيدا”، الذي كان تأملياً وهادئاً وكاثوليكياً جداً. هذا الفيلم أكثر حيوية وفيه الكثير من الطاقة، لأنه قصة حب عاطفية ومحمومة لامرأة حاسمة للغاية تدورعلى خلفية من الرقص والموسيقى والسياسة. الكاميرا تتحرك كثيراً جداً، والأبيض والأسود أكثر عمقاً. على أي حال، إذا قارنته بأفلام هوليوود، فستجده يعتمد جماليات مختلفة للغاية في جانب تقطيع المشاهد والنقلات بينها. أريد فقط أن أقول إنني بذلت قصارى جهدي لكي لا أكرر نفسي، ويقولون إنه يصنع نسخة أخرى من “إيدا”.

-لكن الفيلمين، “إيدا” و”حرب باردة”، يختلفان كلية عن باقي أعمالك. ما سبب تلك “العودة البولندية” المتأخرة نسبياً في حياتك المهنية كمخرج؟

* هذا له علاقة بظروفي الشخصية. لقد نشأت في بولندا، لكني هاجرت بشكل غير متوقع مع والدتي إلى بريطانيا في سن المراهقة. استقريت هناك. عندما أصبحت مخرجاً، كنت أرغب في رواية قصص عن أجزاء أخرى من العالم، وفعلت ذلك عدة مرات، لكن في الوقت نفسه أصبح عندي أطفال ولم أرد أن أكون بعيداً عن البيت لشهور. هناك أشياء في الحياة تعيش لها أكثر من السينما، وفي بعض الأحيان يكون عليك تقديم تنازلات. لقد صنعت العديد من الأفلام في إنكلترا. ولكن في النهاية، يبدأ صوت في داخلك: أعتقد إنني الآن أصبحت أكثر جاهزية وتفهماً لاكتشاف جذوري. بمجرد أن كبر ولداي ودخلا الجامعة، عُدت إلى بولندا. هنا صادفت العديد من القصص، الكثير من التاريخ غير المكتشف. في هذا الصدد، لا يزال يمكنني توقع المزيد.

– ذكّرني فيلمك قليلاً بأفلام النوار (Noir). قصة رومانسية صاخبة بين امرأة لديها ماض ورجل بلا مستقبل، مصوّرة بالأبيض والأسود، في الخمسينيات، وملامح مكائد سياسية وتقلبات في الحبكة.

* حسناً، هذه التصنيفات من نصيب النقاد. سمعت أيضاً أن الفيلم يذكّر بـ”كازابلانكا” مايكل كورتيز وأفلام بيرغمان وتاركوفسكي. أنا أفهم ذلك، لكني شخصياً لست مشغولاً أبداً بأنواع أو مراجع سينمائية. على أقصى تقدير، بحثت عن ممثلين يتمتعون بمظهر كلاسيكي، توماش كوت لديه شيء من غريغوري بيك، وجوانا كوليغ فيها شيء جين مورو. لكن بخلاف ذلك، سألت نفسي كيف يمكن أن أروي هذه القصة، التي حمتُ حولها لفترة طويلة، بأفضل ما يمكنني. ولهذا، عدت تلقائياً إلى صندوق الحيل الشخصية: الصور المنمقة، والموسيقى، التهكم، والمراجع الدينية.

– لا يدوم الفيلم أكثر ساعة ونصف، لكن أحداثه تغطي أكثر من متوسط ​​العمر البشري. كيف تعطي المُشاهد شعوراً بمجموع ما تعرضه من أحداث منفصلة؟

* أكتب قصة وأحذف كل الأشياء الفائضة، من هنا أبدأ. ما يتبقى يجب أن يكون مفعماً بالحيوية ومتماسكاً بصرياً وقوياً. مشهد موجود فقط لنقل المعلومات هو مشهد ميت يختفي على الفور. أحاول اقتراح، وليس شرح الرابط بين الأحداث. على سبيل المثال، أخذت الوقت الكافي لتصور مشاهد الموسيقى والرقص في فرقة الرقص الشعبي حيث تشارك كلتا الشخصيتين. كمشاهد، يمكنك الحصول على مساحة لملاحظة التغييرات التي مرت بها المجموعة على مر السنين. مثلاً، تأثروا بموسيقى الجاز في باريس أثناء العروض على الجانب الآخر من الستار الحديدي.

-هل تريد أيضاً أن تقول بفيلمك شيئاً عن أوروبا اليوم؟

* لم تكن هذه فكرتي، لقد تغيرت أوروبا وتغير الناس أكثر من اللازم في هذه الأثناء. نقضي وقتاً أطول في البحث عن المعلومات على شاشاتنا بدلاً من النظر إلى عيون بعضنا البعض. هذا هو السبب في أنني لا أحب صنع الأفلام التي تدور في الوقت الحاضر. لا أعرف كيف يمكنني جعل استخدام الهاتف المحمول مثيراً للاهتمام بشكل مرئي.

– هل تعتبر “حرب باردة” كحكاية رمزية حول العلاقة بين شرق أوروبا وغربها؟ إشارة تحذير ربما؟

* لم أحاول إيصال شيء من هذا القبيل، على الأقل بوعي. بالطبع أعرف أن قصة الحب يمكن أن تحصل على معنى أعمق من خلال السياق التاريخي، ولكن إذا تعمدت وضع مجازات في قصة، فسوف تصبح سخيفة. كل ما عليك فعله هو أن تخبر قصتك بشكل جيد ونقي قدر الإمكان، ثم ستجد نفسك تبدع أكثر مما ظننت في البداية.

يظهر الفيلم أوجه تشابه بين ذلك الحين والآن، لكن لا يُقصد به تحذير. من شأن ذلك أن يكون مرعباً. هو في المقام الأول قصة حب، ومن خلال هذه القصة يظهر لنا العالم الذي يعيشان فيه. لكنك قد ترى فيه شيئاً معيناً لم أقصده، وبعض المشاهدين يرون أشياء مختلفة عن بعضهم البعض. بعد العرض الأول للفيلم في وارسو، جاءني وزير الثقافة. لقد كره هذا الرجل فيلمي السابق، لكنه قال: أحسنت، قصة جميلة، موسيقى جميلة. فكرتُ: لقد فاتتكَ بعض الأشياء، مثلاً كيف كان الموسيقيون محرومين من الحرية في ذلك الوقت. لكني أبقيت فمي مغلقاً. في بعض الأحيان لا يرى الناس أنفسهم كما تراهم.

– في الفيلم تُظهر كيف تُستخدم الثقافة سياسياً: يريد ساسة النظام الحاكم إبراز الأفكار الشيوعية عبر الموسيقى الشعبية. ما علاقة ذلك بالوضع حالياً، وكيف تحافظ كفنان على استقلاليتك في بلد مثل بولندا؟

* نعم، أرادوا جعل الموسيقى الشعبية واجهة الاتصال لبلدنا. موسيقى يغنيها فتيان وفتيات سلافيين شقر تعمل كنظير لموسيقى الجاز في الغرب. الآن تدعم الحكومة البولندية الحالية الفرقة الموسيقية التي ظهرت في الفيلم، بعدما واجهت مشكلات مادية. الحكومة تفعل ذلك باعتبار الفرقة نظيراً قيّماً لجميع ما تسمّيه بالأفلام والمسرحيات المعاصرة غير الأخلاقية. يوجد صدى معين للحالة البولندية الحالية حاضرة بالفعل في فيلمي، ولكني أشك في أن القائمين على الحكم يرون الأمر بالطريقة نفسها التي أراها بها.

لا أحاول التفكير في الأمر أكثر من اللازم. الحدود البولندية لم تغلق بعد، وطالما يمكنني صنع أفلام أستطيع التعبير فيها عن حقائقي وقناعاتي عن الناس والحب والثقافة والسياسة، فأنا أفضل ألا أنفق الوقت على ألعاب الخطابة الكلامية مع السياسيين، إذا كنت أنا وبقية الفنانين قادرين على العيش في بولندا بهذه الطريقة، فنحن على أية حال لم نضع بعد. لا تدع القصص الصحفية تخدعك. الناس والحالات أكثر تناقضاً مما تظن. نرى الآن العالم ينهار إلى سرديتين لا يلمس كل منهما الآخر. في أميركا ترامب لم يعد بين الجانبين أي شيء مشترك. بسبب خوارزميات الإنترنت، يستمع الأشخاص فقط إلى مجموعتهم الخاصة. ليس هناك أرضية مشتركة. نأمل من الفن تقديم تلك المساحة.

بعدما قلت ذلك، هناك صوت/سرد أكثر غباء من الصوت/السرد الآخر، وأكثر إجرامية وأكثر دموية. صوت/سرد يريد أن يعاقب، يقتل، يسجن ويعزل البلد. لذا عندما يتعلق الأمر بهذا الجانب، فأنا على الجانب الآخر منه بكل تأكيد. أنا سينمائي، أريد الحرية في ما أريد عمله. أعتقد أن الفن يجب أن يكون منطقة خالية إيديولوجياً. دع الفن هو الفن، لا تضاجعني، ولا تحاول أن تستدرجني غصباً إلى عربتك.

(**) رُشّح الفيلم لثلاث جوائز أوسكار: أفضل فيلم أجنبي، وأفضل إخراج، وأفضل تصوير سينمائي.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى