ثقافة وفكر

جورج حاوي.. “بطلاً” سينمائياً/ وضاح شرارة


رأيت جورج حاوي – أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني طوال نحو ربع قرن، ووجهه البارز في سنوات الحروب الملبننة واللبنانية الداخلية، ومدار كتابة تاريخ الحزب بأقلام جيل قادته السابقين في الأعوام الاخيرة- رأي العين، على قول العربية، 4 مرات في أربعة مشاهد. وترقى المرة الأولى إلى أواخر الخمسينات، غداة “حوادث” 1958. ففي السنة المدرسية التي تجمع أواخر هذا العام إلى نصف العام التالي، 1959، وعلى جاري تقليد يعود ربما إلى منتصف العقد السادس هذا، تنافست أحزاب سياسية على “انتخاب” مجلس طلبة المدارس الثانوية. والانتخاب لم يكن انتخاباً، على معنى شاع وافترض اجتماع جسم انتخابي مؤلف من المنتسبين التلقائيين أو المتطوعين إلى هيئة: المدرسة الثانوية أو الفرع النقابي الذي تحتضنه. فالمدرسة الثانوية، الرسمية أو الخاصة، لا علم لها، أي لا علم لمعظم تلامذتها، بمندوبها إلى مجلس الطلبة ولا بالمجلس هذا. فلا شرط على ندب المندوب إلا انتسابه إلى المدرسة، ومن اختاره أو اصطفاه هو حزبي تربطه بعض طلاب المدرسة رابطة ما: صداقة أو تدريس أو معرفة بوسيط.

وعلى هذا، جمع محازبون بعثيون، على رأسهم معلمةٌ في مدارس إرساليات خاصة وخطيبُ المعلمة غير المعلن، وزوجها من بعد، نحو ستين مندوباً، صبايا وشباناً، من نحو أربعين مدرسة. وأوجبوا الستين هؤلاء هيئة عامة وناخبة. وانتخب الستون، وهم في الأثناء أمسوا خمسين أو حوالى الخمسين، مجلساً من عشرة أعضاء أو 12 عضواً، على عدد الرسل والحواريين. وأجري الاقتراع في صالة تشبه صالة سينما ومدارجها، وتقع في مبنى اللعازارية، حيث هو اليوم بعد نحو ربع قرن على تجديده. ودخل المدعوون، وكنت منهم، إلى مبنى اللعازراية من جهة موقف السيارات المنطلقة إلى البسطتين وبرج أبو حيدر، والمزرعة وراس الخط قبل البربير والطريق الجديدة إلى جنوب الغران تياتر وصف المكتبات، ولم يكن مبنى المركزية، قبالة البوابة العتيدة، أنشئ بعد.

وانعقد “مؤتمر” المندوبين، بعد تمهيد سريع تولته المعلمة المتحمسة والمتدفقة الكلام. فشرحت الإجراء الانتخابي: الورقة والقلم وقراءة لائحة أسماء المرشحين واختيار العشرة… واقترحت انتخاب هيئة إدارة الجلسة من ثلاثة، على سبيل التمرين. فضحك المجتمعون. وحين ترشح ثلاثة فتيان علت الأصوات بطلب ترشح الفتيات. واقترح أحدهم أن تقتصر إدارة الجلسة على الصبايا، وحظر ترشح “الرجال” وترشيحهم. وماشى الجمهور الاقتراح من غير مناقشة. فحلت ثلاث صبايا جميلات وأنيقات ومبتسمات وخجولات، عربيتهن مكسرة، على مسرح الصالة، وراء منصة. وكتبن على اللوح أسماء المرشحين العشرين تقريباً. واضطر المرشحون، غير مرة، إلى تهجئة أسمائهم وضبط كتابتها على اللوح. فترك الناخبون مقاعدهم، ووقفوا، وتنقلوا بين نواحي الصالة وبأيديهم القلم والورقة. وتذرعوا بالسؤال عن الأسماء الى مكالمة المرشح أو المرشحة. وإلى الاستفهام عنه أو عنها ممن قد يعرفه أو يعرفها. وعمت نشوة حارة الجمهور. فانقضى فوق نصف الساعة على فرصة الاختيار المتاحة. ولما أوعز إلى إدارة الجلسة بإعلان استئنافها وإجراء الاقتراع، طلبت أصوات كثيرة تمديد المهلة، وعللت الامر بعسر الانتخاب وتكافؤ المرشحين ومواهبهم. وقال آخرون أن جمعية عمومية مثل هذه ينبغي أن يطول انعقادها أسبوعاً على أضعف تقدير، بل عمراً كاملاً، عقَّب صوتان ذائبان سروراً وفرحاً.

مشهد أول

ولما لملم الحضور ذيول الهرج والمرج بعسر، ورضوا الجلوس مترددين وآسفين، استوى أحد المجتمعين واقفاً وطالباً الكلام. وبرزت قامته المديدة والعريضة في وسط الصالة، وأشرفت على الجمهور. وكان الواقف البارز يلبس بدلة سوداء فاحمة، من سترة فضفاضة وبنطلون يكاد لا يضم حزامه بطن الشاب المندلقة ومعها قميصه المجعلكة والمتحررة من الحزام وقيده. ونمَّ وجه طالب الكلام بسن شاب عشريني، ناضج العبارة والقسمات ولم يصرم بعد بقايا طفولة لعوب ووقحة معاً. وتتوج الرأس لمة شعر كثة وداكنة، ويتوسط الأنف الصارم والفم المندلق الشفة السفلى شارب عبي يخيل إلى من يتأمله، رغماً عنه، أنه ولد مع صاحبه ولم ينبت مع مراهقته القريبة.

وبدا الاضطراب على الصبايا الثلاث، ولم يجبن الطلب. فكرر الشاب بصوت آمر ما قال إنه حق له في الكلام لا جدال فيه. فركضت المعلمة إلى المنبر، وقطعت الكلام الذي باشره المتعلم و”أخذه” قبل أن تقرّ له الإدارة بحقه فيه. وأرفق الشاب صراخه، وهو اقتصر على تكرار “بددددي إحكي!” ، برفع مظلة سوداء مبللة وإنزالها وتحريكها في الاتجاهات كلها. وركض أربعة أو خمسة شبان من أنحاء الصالة، بعضهم قفز فوق المقاعد، وتحلقوا حول الخطيب الصارخ والملوح بمظلته. وأمسك واحد بكوعه وذراعه، وثانٍ حاط كتفه بذراعه، وشده ثالث من رسغه ويده… وجروه كلهم خارج صف المقاعد. وحفوا به وهم يدفعونه محمولاً صوب باب الصالة. وخرج وهو يتكئ بظهره على أيدي مرافقيه، ويرفع رأسه مائلاً به إلى الخلف، وهو يعلن إرادته وعزيمته.

ولم يعلق أحد على المشهد، ولم يسأل عمن يكون المشاغب. واستأنفنا اقتراعنا. وسألت المعلمة وخطيبها، وهما صديقان وقريبان، من هو الشاب وما قصته. فقالت الصديقة: “يمكن شيوعي”، ولم تعقب. ولا أذكر أن أحداً عاد إلى الحادثة فيما بعد. و”بعد” هذه طالت فوق العقدين. وبعد عقدين أو أكثر، ومن غير إعمال ذاكرة ولا إجهاد فكر، ولا شراكة أو مداولة، سميت غير متردد الشاب العشريني، المتسلل وحيداً إلى اجتماع تلامذة ثانويين في خريف 1958، والرافع المظلة إثباتاً لحقه في الكلام: جورج حاوي. وهو هو، على الشاكلة التي رأيته عليها واستقر من غير إلفة ولا قرب: الواثق من “حقه” في المواقف كلها، والمطمئن إلى قوة دالته (“كاريزماه”، على قول رفيقه جورج البطل، عطفاً على  جورج البطل وحزبه.. حصاد المحاكاة والعبث) من يعرف ولا يعرف، والنادب نفسه ورأيه إلى تصدر الرفاق المرحبين والخصوم المبغضين ومقحمها على الأحوال والظروف كلها، والمتيقن، قبل هذا كله وبعده، من اصطفائه على شطر لا بأس به من “العالمين”.

مشهد ثانٍ

ورأيت جورج حاوي مرة ثانية، على بيِّنة من أمره ومن أمري، في 23 نيسان 1969، وهو يوم السبت الذي تظاهر فيه مئات من التلامذة والطلاب ببيروت، في ساحة راس الخط- المقاصد- البربير، إنكاراً لإطلاق الجيش (اللبناني) النار على دوريات فلسطينية مسلحة قريباً من حدودنا الدولية، وعلى أنصار لبنانيين، بعضهم مسلح. ودعا إلى التظاهر لفيف شيع ومنظمات وشلل بينها وبين المنظمات المسلحة الفلسطينية روابط لا تحمل على التدبر والتدبير السياسيين إلا تعسفاً. وهذا الصنف من التعسف يمت إلى السياسة “صليبة” (هو من صلبها). ويشيع في الجمهور فوق شيوع التدبر والتدبير.

واجتمع عدد قليل من التلامذة والطلاب المختلطين، وفيهم فتيات وشابات، ومن المتظاهرين عدد أقل من غير التلامذة والطلاب. وحين عزم المتظاهرون على المشي في طريق المزرعة- البسطة، المفضية إلى المجلس النيابي، حجز بينهم وبين الطريق هذه صف من قوى الأمن الداخلي، الفرقة 16 والدرك. فانقسمت التظاهرة جناحين: بقي الجناح الأول محصوراً في الساحة وفاض بعضه على كورنيش المزرعة اللصيق (وكنت في هؤلاء)، وسار الجناح الثاني نحو ساحة البرج من طريق جسر الاستقلال، وانقطع من متظاهري الساحة والكورنيش وانقطع هؤلاء منه. وفي أثناء عشر دقائق ابتعد الجناح الثاني، ودارت مناوشة بالحجارة بين متظاهري الجناح الأول وبين صف قوى الأمن. وتراجعت هذه سريعاً أمام المتظاهرين، وتقهقرت إلى محلة المزرعة، وخلفت على مدخل مستشفى البربير المطل على رأس شارع المزرعة – البسطة، قبالة بن عدنان، سيارة جيب وشاحنة نقل.

وفي الدقائق التي فصلت تقهقر قوى الأمن من إطلاق الرصاص على المتظاهرين، أو لعلته قبل إصابته وقتله، وقفت مع غيري على باب بن عدنان، وراقبت تراجع الأمنيين. وفجأة رأيت جورج حاوي، الأرجح وحده أو ربما مع متظاهر آخر أو اثنين، وهو يتكئ على الشاحنة ويسعى في زعزعتها. وهرع آخرون، وحفوا بالمركبة، وهزوها هزاً عنيفاً. وأخرج واحد من المتحلقين قداحة، وقصد خزان الوقود في مقدم المحرك. وفي هذه اللحظة، نبهني صديق قدم من ناحية منعطف كورنيش المزرعة أن شاباً يلبس ثياباً رياضية وحذاء ركض، أخرج مسدساً 6 ملم محشواً من جيبه، وأطلق ناراً على قوى الأمن. واقترح أن نتعقبه. فركضنا صوب المنعطف الذي قدم الصديق منه. ورأيت شاباً نحيلاً وقصيراً في قميص وبنطلون بيضاوين ناصعين يقفز فوق الحاجز الذي يتوسط الجادة العريضة ويقصد سينما بيروت، على الرصيف المقابل، ويدخل في إحدى الطريق القريبة.

وسمعتُ خلفي، قبل أن أبلغ قبالة مبنى السينما لعلعة رصاص كثيف ملأت انفجاراتها الفضاء. وأضعت جورج حاوي. وقرأت أخيراً من في محاورات جورج البطل، وقبيل ذكرى مضي 50 عاماً على الحادثة، أن جورج حاوي- وهو اتهمه يومها بالعمالة للاستخبارات الأميركية رفاقه على رأس الحزب الشيوعي، ولم يكذب موظفو الأمن “الموثوقون”  في السفارة السوفياتية ببيروت التهمة- كان على رأس تظاهرة 23 نيسان، وشهادة الصور (الفوتوغرافية) قاطعة. والحق أن التظاهرة كانت تظاهرتين. وتلك التي يممت صوب ساحة البرج وبلغتها لم يدرِ من مشوا فيها بواقعة الرصاص ولا بالقتل. أما تمييز رأس التظاهرة من ساقتها (ذَنبها) فأظن، إلى يومي، أنه كان عسيراً حتى على نظر حديد مثل نظر الشيوعي المحترف.

المشهد الثالث والرابع

وبعد أشهر قليلة على 23 نيسان 1969، وفي فورة تظاهرات طلابية وفلسطينية (في المخيمات) مناصرة، دعت صحيفة الحرية- “القومية العربية” تحزباً والناصرية هوى والمنعطفة إلى “الماركسية” معتقداً وإيديولوجية- بعض أهل الحلقات اليسارية الناشطة إلى محاورة بعضهم بعضاً. وكان أصحاب الدعوة والشيوعيون والتقدمي الاشتراكي الجنبلاطي تنتظمهم “جبهة” وطنية وتقدمية على ما ينبغي، مشتركة. وحين وقعت نازلة 5 حزيران 1967 ضعفت أواصر الجبهة العتيدة. وأيقن بعض “القوميين العرب”، من القيادين على الدوام، أن السبب في الواقعة هو أخذ القاهرة، وأجهزتها، “الاشتراكية العلمية”، عقيدة الاتحاد الاشتراكي العربي منذ 1962، بيد ضعيفة وهزيلة. والعلاج هو أخذ الماركسية من غير مواربة ومسكها “بقوة”.

وفي بعض ظهر دافئ خلا من الشراب ومن الغلمة (ولم يكن محمد العبدالله كتب كتابه الفاضح)، كنتُ فيمن دعوا إلى مناقشة “المرحلة” على طاولة مستديرة، على أن تنشر الصحيفة الأسبوعية المناقشة. وكان المناقشون ستة: اثنين من الصحيفة، وجورج حاوي، وموفداً ندبه التقدمي الجنبلاطي، واثنين عن فريق صغير، كنت ثانيهما. ودعا أصحاب الدعوة المناقشين إلى الجلوس على شرفة الشقة التي “تقيم” فيها الصحيفة. وحين دخلنا الشقة أعلمنا صاحبا الدعوة بأنهما لم يخبرا حاوي بخبرنا، وقدومنا ومشاركتنا، وأنهما يعولان على حجة الحضور الحاصل لأجل إقناعه بالجلوس والمحاورة.

ولم يكن سبق أن عرفت الرجل وجهاً لوجه وعرفني. وأرجح أنه سبقت له معرفة بصاحبي، واستنتج من صحبتنا من يكون الثاني. فما أن رآنا داخلين حتى وقف، وشزرنا بنظرة ملؤها غضب غير مصطنع، وهو لا يكاد يملك السيطرة على هياجه. ورمى علبة السجائر على الطاولة، ودلّى  شفته السفلى، وقال ما معناه إما هم وإما نحن. واستعاد علبته بيد، وأدخلها جيب سترته، وأذكر أنه حمل باليد الأخرى سبحته ومرجحها، ومعس سيجارته في الصحن أمامه، واستدار صوب الباب محاكياً المغادرة. فركض أحد صاحبي الدعوة نحونا، ورجانا بإيماء جبهته ونظارتيه فوق كلامه أن نجلس في غرفة أخرى، وننتظر هدوء ثورة الرجل. وحضن صاحب الدعوة الثاني، وهو يبلغ نصف قامة الرجل أو ثلثها، حاوي ورجاه الجلوس. وسمعنا في الغرفة القريبة، على شاكلة مشاهد مسرحية من موليير أو ماريفو، أجزاء من المحاورة معظمها بصوت “القيادي” الشيوعي الجهوري: ما حدا بيسبنا… كم شلعوط… آل يسار… كيف ما كان…

وعاد الإثنان معتذرين إلينا، وناقمين أو مظهري النقمة على صاحبهما الحرون. وشاورانا في اقتراح جلسة من غير مناقشة “منظمة”، ومن غير نشر، وتقتصر على التعارف. فلم نرَ ضيراً في التعارف. فغابا دقائق قليلة وعادا على وجهيهما أمارات خيبة بالغا في إظهارها، “تضامناً” معنا من غير شك. وختما الرواح والمجيء المسرحيين بالاعتذار، وبإعلان التخلي عن المناقشة وعن نشر “عدم المناقشة” هذا، إذا جازت الدلالة إلى عدم والإشارة عليه. وحسبا أنهما بهذا يعاقبان ضيفهما على عناده وإبائه الجلوس إلى طاولة تجمعه ونقاد حزبه “المغامرين”.

وآخر المشاهد كثير، على عدد المرات التي رأيت فيها الامين العام السابق (ترك منصبه في 1992) يمشي، متنزهاً على كورنيش المنارة في صحبة زوجته، في  بعض الأماسي الخريفية من عام 2001 أو 2002… وبلغ الرجل من الضخامة في الأثناء مبلغاً محرجاً، يحرج الرجل ويحرج من يمر به، عرفه أم لم يعرفه. وكان يمشي ويداه وراء ظهره، صدره إلى أمام وقار على بطن هائلة، عالي الرأس، زائغ العينين الثابتتين والمغرورقتين من نفح الهواء، ينظر إلى أفق وراء الأفق المرئي، فتخرجه نظرته من بين الناس، وزوجته فيهم، كأنه يمشي وحده في خلاء قفر.

فأقول في نفسي إن الرجل عاد من حيث بدأ، إلى السينما الإيطالية: الواقعية الكوميدية في المشهد الأول، والبؤس العبثي على ما صوره روسليني وزورليني وأنطونيوني وروزي…

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى