مقالات

في السياسة والأدب التاريخ/ يوسف بزي


ما التاريخ أولاً؟ أهو الروزنامة الضخمة للأحداث يوماً بيوم وسنة بعد سنة، أم هو ذاك “الحدث المفرد” في مجرى الزمن الذي تنعطف معه المصائر والموض والأساليب المعمارية وطرز السيارات وأنماط العيش والأفكار؟ أهو السجل الهائل للأفعال وأسبابها ونتائجها في كل حين، أم هو مثلاً ذاك الذي رآه هيغل في نابليون معلناً: إني أرى التاريخ ممتطياً حصانه؟

التاريخ فيما يعنينا كأدباء قد يكون هوميروسي أكثر مما هو هيرودوتي. فالأول، هوميروس، لم يؤرخ حقاً بل قبض على التاريخ شعراً وملحمة. فيما الثاني كان يدوّن الوقائع والمشاهدات سعياً نحو الإمساك بسيرورة الزمن ونفي النسيان.

لكن المعضلة ليست في السؤال عن ماهية التاريخ، إنما هي في السؤال: ما الأدب أصلاً؟

إن كل التعريفات الخاطئة والصحيحة ستظل باستمرار واقعة في إشكالية عدم كفايتها وعجزها عن الإحاطة بمعنى الأدب وبتعريفه. بل وأحياناً نجد أن التعريف الخاطىء للأدب في حقبة ما قد يكون صحيحاً في حقبة أخرى، والعكس صحيح. والمفارقة أن ما نظنه ليس أدباً قد يكون أقرب مما نتصور إلى حقيقة الأدب. إذ من قال إن تاريخ هيرودوت في نهاية المطاف ليس أدباً خالداً؟

على الأرجح، نحن هنا لسنا معنيين بالتأريخ وطرائقه التدوينية، بقدر ما نحن متورطون في فهم العلاقة بين الأدب والتاريخ، بوصفها علاقة بين الكتابة والذاكرة، أو علاقة بين الكتابة والوعي باللحظة المعاشة. ومن أجل مقاربة هذه العلاقة أقترح أولاً أن نتجاوز مفهومين: الأول، هو ما أسميه “الهرطقة التعليمية” الذي يظن أن الأدب مجرد أداة تهذيب أو تربية. والثاني، هو ما أسميه “كآبة الفن للفن”، الذي ينفي الغاية والمعنى عن النشاط الأدبي.

إذا تجاوزنا هذين المفهومين، يسهل علينا القول إن الجهد الواعي وغير الواعي للأدب هو في حقيقته “دعوة” والأدباء “دعاة”.. لتبصر الحقيقة أوالاشتباه بها. أقول تبصر واشتباه، لأنه علينا أن لا ننسى أن الشعر مثلاً يساوي ما هو غير حقيقي.

بهذا المعنى، يبدو من الخطأ أن نرى في الأدب مجرد مناسبة لتجارب ذاتية أو مجرد ملاحقة لعلم الجمال. مع ذلك قد يكون منصفاً اعتبار الهمّ الذي يحرك كتّاب اليوم هو ليس اهتماماً بأنفسهم، بل بما نسميه “التجربة”. فما يجذب الكاتب اليوم ليس ما ينجزه تماماً بل البحث والحركة والتبصر في الحقيقة والزمن، والتي تؤدي إلى الإنجاز.

اليوم، في عالمنا العربي، الفعل الثقافي، أوالنشاط الأدبي، هو بظني ذاك الذي يستمد شرعيته ومبرره من موقفه الأخلاقي والفكري تجاه الحدث السياسي الذي يملأ فضاءاتنا العامة، عدا ذاك هو عمل بلا “أثر” وخارج الحساسية التاريخية. وبمعنى آخر فإن عودة الثقافي إلى السياسي تغدو اليوم شرطاً لكل خطاب ولكل ممارسة أدبية.

أكاد أجزم أن لا أدب من دون وعي سياسي. هذا مستحيل. وأغلب الظن أن أي فن هو موقف من العالم، ومن القيَم. “الشرط الإنساني” هو الذي يعطي لأي نص أدبي بعده التاريخي. وأظن أن السياسة أصلاً هي الاختراع الأكثر عملانية للأدب، فمن فن الخطابة (أي من الأدب) الذي مارسه الفلاسفة والمفكرون اليونانيون والرومان جاء فن السياسة.

مشكلة أي شاعر اليوم ليست في تأليف العبارة “الجميلة” إنما في أن يجد وجهته، الصوت الذي سيقول لحظته. فمثلا هناك على الأقل ألف شاعر عربي يعرفون تماماً كيف تكتب القصيدة ويعرفون حرفة الشعر وشروطه، مع ذلك تبدو نصوصهم لزوم ما لا يلزم.

أظن السبب ليس في تشابه الأصوات كما يقول النقاد، إنما في غياب الوجهة والمشروع والاقتراح.

قصائدي الأولى التي لم تصدر في أي ديوان، ورميتها بلا أسف، كانت تستجيب للشعر التجريبي، وللأصوات والاقتراحات الشعرية المقروءة والمكرسة. كانت بلا وجهة ولا مشروع. أخذني وقت مديد لأدرك مثلاً أن الشعر في الأربعينات والخمسينات ومطلع الستينات كان هادراً بالتبشير للنهضة وللانبعاث. كان قوياً في وصله ما بين التراث والميتولوجيات القديمة والأساطير التاريخية ومشروع الحداثة واستنهاض اللغة، والمجتمع، واستنهاض القيم والأخلاق والتجديد في الدين والإيمان بالتقدّم المطرد. كل ذلك قام به شعراء أفذاذ وكل واحد منهم وفق نبرته الخاصة، فذاك بنبرة أنكلوساكسونية، وذلك فرانكوفوني أو تراثي أو توفيقي بين “حداثة وأصالة” الخ…

ثم جاء جيل نكسة الـ 67 بنبرته الثورية واليسارية وبكمّ من الغضب واليأس والدعوة للثورة. قيل ذلك بنبرة غنائية ساذجة إلى حدٍ ما.  ثم ذهب كل ذلك في جحيم انهيار المجتمعات والحروب الأهلية وتفوق الاستبداد وطغيان العسكريتاريا والميليشيات وفشل الثورات.

عندما تحصّل لدينا هذا الوعي التاريخي، عرفنا تقريباً أن الشعر ليس فقط كتابة العبارة الجميلة بل هو شق وجهة ومشروع في اللغة وفي الأفكار، للتعبير عن هذا اللهاث التاريخي.

يبقى الأصعب هو الاقتراح الفردي ضمن هذه الوجهة، أن نجد النبرة والإيقاع والفكرة ببصمة جد فردية، وفي الوقت نفسه تعبّر عن العام وعن الوجهة. ذلك ما جعلنا، أنا وأقراني، نكتب في الشعر سيرنا الشخصية وتواريخنا في الحرب بوصفها وعياً لما حدث وإدانة، وبوصفها حقيقة لغوية، إذ انتهت لغة الانبعاث، ثم لغة الغنائية الثورية، إلى حطام. حطام ورثناه، أنا وجيلي، ويجب أن نتصرف به.

وصلتنا اللغة والمعاني والأفكار حطاما من جيل السبعينات. لم نعد نستطيع أن نكتب قصيدة تقول: “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً”. (من قصيدة لحسن عبدالله غناها مارسيل خليفة). حتى محمود درويش استسلم أخيراً وصار يكتب:

 “لم تكن هذه القافية

ضرورية، لا لضبط النغم

ولا لاقتصاد الألم

إنها زائدة

كذباب على المائدة”. (“حالة حصار”، صفحة 31)

إنها مرثاة سريعة لحقبة شعرية كاملة.

عندما غادرت الحرب إلى أفريقيا أواخر العام 1986، كنت أحمل معي كتب شعر كثيرة لعدة شعراء عرب مشهورين. كان خيار أن أصبح شاعراً واحداً من الاحتمالات التي فكرت بها آنذاك.

في أقل من عام كتبت سبع قصائد مستوحاة من أفريقيا وواحدة مستوحاة من تجربة الحرب في لبنان.

بعد محاولات شعرية كثيرة في قصائد تأملية وتجريبية متعالية وذهنية وفكرية- فلسفية متحذلقة، كانت كلها فاشلة… إنتبهت إلى أنني “أتهرب” من الذي يجب فعلاً أن أكتبه: تجربتي بالحرب. كان تهربي وهماً بإرضاء الذائقة النقدية، ووهماً بمماشاة السائد والمكرس في الأدب.

ما بين 1988 و1989 أنجزت قصائد مستوحاة من تجربتي الشخصية أثناء الحرب. الوعي التاريخي هو الذي جعلني أدرك (ثقافياً وأدبياً) إنه آن الأوان لمعارضة الشعر اليساري والعروبي التحريضي والحماسي والمنبري والثوري والغنائي، الذي كان سائداً في السبعينات، والذي يشجع على القتال والفداء ويمجد البطولة. وأنه آن الأوان أيضاً لمعارضة الجماليات الزائفة السكّرية والمتأنقة والمفارقة للواقع والمغتربة عن التاريخ. جماليات تجريبية تتماهى مع “الموضة” الغربية، خصوصاً الفرنسية منها، والتي كانت تسيطر على الذائقة الأدبية اللبنانية قبل الحرب.

وانتبهت إلى أن قصائد الحرب، التي نكتبها نحن الشبان، لا تتكلم عن المعارك والخراب والدم فقط لتختلف عن “موضوعات” الشعر السائد، بل هي مكتوبة بلغة محطمة، مخرّبة، مباشرة… لا تستطيع أن تكون موزونة. أي كانت تتكلم عن الدمار بلغة مدمرة ومفككة. حدث ذلك من دون تفكير مسبق، ثم أدركنا أهمية هذه الميزة ودافعنا عنها.

إذا، بوعي تاريخي يمكننا أن نتحدث مثلاً عن تأثير الشعراء “التموزيين” على لغة أنظمة الاستبداد في العالم العربي ما بين الخمسينات واليوم. أي ذاك التناغم بين أيديولوجية البعث القومي ولغة التموزيين حيث الكلام الملحمي والهذياني والتبشيري والقيامي.

بالوعي نفسه نقول إن التاريخ بالنسبة للجيل الذي سبقني هو الخامس من حزيران 1967، وللأسبقين هو 15 أيار 1948، أما بالنسبة لجيل اليوم فقد يكون التاريخ 11 سبتمبر 2001. كل هذه التواريخ، وثمة الكثير منها، ليست ماضياً وليست زمناً منقضياً. إنها على الأرجح لحظة فاعلة مستمرة في الذاكرة وفي الحاضر. والأصح القول إنها جرح ينزف على الدوام. جرح حيّ ينمو معنا ولا نتخلص منه. إنها وشمنا وعلامة وجوهنا. إنها في جسدنا وفي صوتنا وبصرنا. في قلب وجداننا وفي مناماتنا، في لغتنا وفي ضحكاتنا أيضاً… وهي لا تبارحنا.

التحدي غير العادل الذي يواجه الكتابة السورية اليوم، خصوصاً الشعرية، هو كيف ندبّر لغة صالحة لقول كل ما حدث ويحدث منذ العام 2011. لغة مفارقة تماماً لما سبق.

التحدي غير العادل الذي يواجه الكتابة السورية اليوم، خصوصاً الشعرية، هو كيف ندبّر لغة صالحة لقول كل ما حدث ويحدث منذ العام 2011. لغة مفارقة تماماً لما سبق.

اليوم، نستعين بهيغل مرة أخرى لنقول: إننا نرى التاريخ عابراً في التلفزيون، في الشرائط الرديئة الصنع المبثوثة على اليوتيوب. التاريخ يسير في أزقة الأرياف وساحات المدن الآن، وبسخاء وسيولة لا نقوى على احتوائهما. شعورنا أننا نعايش التاريخ. وأظن أنه بدأ ينتابنا الفزع: كيف سنكتبه أدباً. بأي طرائق ملتوية سيقارب الشعر تلك الكثافة الزمنية، بأي أسلبة سيسرد النثر هذه الأعمار المضاعفة التي نحياها الآن؟

المثير للدهشة أننا نشهد، بموازاة سيولة التاريخ اليوم، تعاظم تلك الكتل من النصوص التي يكتبها “البلوغرز” ونشطاء الفيسبوك والتويتر، كوثائق وهيروغليفيات وشهادات وأقوال شبه بدائية. كتلة لا متناهية أبعد ما تكون عن الأدب وأغرب من أن تكون تدويناً وتأريخاً للوقائع والتواريخ.

ما الذي نعرفه عنها. هل هي واقعية مزيفة أم هي ميدان استعصى على الثقافة العادية؟ أليس من الممكن أن تنبهنا أي شذرة من هذه الكتلة الإلكترونية التي قد تكون بلا مؤلف ولا تتشكل في نص منجز ولا في لغة صحيحة حتى إملائياً.. أن تنبهنا إلى أمر شديد الأهمية وملهم .. يود بيأس ما نسميه أدباً أن يقوله؟ بل أخطر من ذلك أن تفعل تلك الشذرة ذاك “الحدث المفرد” الذي يعطف التاريخ نفسه؟

بعد كل هذا، أليس مدهشاً أن يصبح الأدب بكل نقائصه وانحرافاته وتبعثر أنواعه وضياع أشكاله.. جوهراً متجلياً في اللاأدب. إذ بتنا ندرك أن جوهر الأدب يكمن بالضبط في فراره من كل تحديد ومن كل معطى جاهز. الأدب في النهاية يتجه نحو ذاته، نحو جوهره: الزوال. أو كما قال هيغل “الفن بالنسبة لنا شيء مضى”. وهو بهذا المعنى مثل التاريخ، لا يموت.. يبقى في العالم.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى