ثقافة وفكر

ما هي وظيفة الثقافة في اللحظة العربيّة الراهنة؟/ أوس يعقوب

2/2

كشفت لنا الثورات العربيّة التي اندلعت في نسختها الأولى في عدّة بلدان عربيّة أواخر عام 2010 وبداية 2011 والتي عرفت بـ “الربيع العربيّ”، وكذلك في نسختها الثانية التي نعيش فصولها اليوم في لبنان والعراق والجزائر والسودان، وساهمت في إسقاط أو زعزعة عدد من الأنظمة الاستبداديّة التي كانت جاثمة على رقاب الشعوب في هذه البلدان؛ كشفت عمّا أنفقته تلك الأنظمة الديكتاتوريّة خلال عقودٍ من الزمن من ثروات وطنية وجهود بشريّة وهي تشنُّ حربها الإلغائيّة ضدّ الثقافة الحقيقيّة ذات الجذور العميقة، وضدّ المثقّفين الملتزمين بقضايا الأمة والشعوب الأساسيّة، بهدف محو الثقافة الفاعلة المؤثرة بحمولتها القيميّة الملتزمة بمطالب الناس بالحريّة، والعدالة، والكرامة، والقيم الإنسانيّة من جهة، وفرض بدائلها الثقافيّة بإفرازاتها المشوّهة التي تسلب الإنسان كافة حقوقه الشرعيّة وتمنع عنه العيش بحريّة وكرامة من جهة ثانية.

في هذا الملف نناقش مع نخبة من الكتَّاب والباحثين الأكاديميّين العرب، من الّذين يشكّلون رافعة من روافع الثقافة العربيّة الحديثة، إشكالية “راهن الثقافة العربيّة، وواقعها والمأمول منها”، متوجّهين إليهم بالسؤال التالي: من منظوركم، ما هي وظيفة الثقافة في اللحظة العربيّة الراهنة؟ وكيف ترون وظيفتها (أي الثقافة) في تغيير الشارع العربيّ لا تكريسه، في أوطاننا العربيّة التي تشهد الآن موجة ثانية من ثورات الربيع العربيّ، في ظلّ غياب الدور الجدّي للمؤسّسة الثقافيّة الرسميّة ومسؤوليّاتها تجاه كلّ مَنْ يحمل راية الثقافة، التي تمثّل ضلعاً من أضلع النضال ضدّ أيّ ممارسات وانتهاكات تُرتكب بحقّ الإنسان العربيّ من المحيط إلى الخليج؟

هنا الجزء الثاني والأخير:

إيهاب بسيسو (شاعر ووزير الثقافة الفلسطينيّ السابق): ضرورة قراءة أبعاد وجذور الاحتجاجات الشعبيّة عربيّاً

يمكن فهم الدور الذي يقوم به العمل الثقافيّ من خلال القدرة على خلق مساحات الوعي والمساهمة في التأثير المجتمعيّ عبر الإبداعات المختلفة. ولعل الفعل الثقافيّ القادر على إحداث الاهتزازات الممكنة في بحيرة الركود الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ هو الفعل القادر على الانتقال إلى حالة التفاعل الغنيّ بالمعرفة والمساهم في بلورة مفاهيم الحريّة والتقدّم.

إنّ تعزيز مفاهيم الحريّة من خلال العمل الإبداعيّ يوفر منصّات ضروريّة لنقاش القضايا التي تمس نبض الحياة اليوميّ ويساهم في جعل الفعل الثقافيّ حالة مستمرة لمعالجة ومواجهة الأزمات الفكريّة والسياسيّة المتراكمة. لذا من المهم الإشارة إلى الخطورة في ظلّ اللحظة العربيّة الراهنة ثقافياً في تحوّل الدور المنوط بالعمل الثقافيّ من حالة مؤثرة ومساهمة في الفعل اليوميّ والوعي الجمعيّ إلى حالة جماليّة غير مؤثرة أو محدودة التأثير. أو بمعنى آخر تكمن الخطورة في التحوّل من المضمون إلى الشكل أو الاهتمام بالشكل الثقافيّ على حساب المضامين القادرة على تحفيز الفكر والنقد والحركة الثقافيّة ما قد يجعل الدور الثقافيّ في حالة تضاؤل وانكماش أمام تحدّيات السياسة والمجتمع والأيديولوجيا. لهذا يصبح من الضروريّ الاهتمام بالسياسات الثقافيّة كمدخل نحو تطوير آليّات التفاعل المجتمعيّ وذلك عبر برامج ثقافيّة تتيح المجال للأعمال الإبداعيّة في الوصول إلى الشرائح المجتمعيّة المختلفة بهدف تعزيز المشاركة والتفاعل الثقافيّ والاجتماعيّ.

والمقصود هنا الوعي بأهمّية دور الثقافة كإبداع ومؤسّسات ومثقّفين/ات إلى جانب الوعي بأهمّية الإنتاجات الثقافيّة القادرة على مواكبة نبض الحياة اليوميّة إبداعيّاً ما يشكّل قفزة نوعيّة نحو ترسيخ مفهوم الحريّة في العمل الثقافيّ والنقد الذي يضيف حيويّة ضروريّة لنمو وتطور المشهد الثقافيّ. وفي ظلّ اللحظة العربيّة الراهنة لا يمكن النظر إلى العلاقة بين الثقافة والمجتمع بأبعاده السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة دون قراءة أبعاد وجذور الاحتجاجات الشعبيّة عربيّاً على مدار السنوات الماضية والتي ما زالت تتجدّد ضمن موجات الربيع العربيّ. بل يمكن القول: إنّ الثقافة كفعل تراكمي شكّلت وعيّاً متناميّاً ساهم بدوره في الإرهاصات الفكريّة والتي تم التعبير عنها شعبيّاً في مختلف الساحات العربيّة. بمعنى آخر لا يمكن فصل السياق التاريخيّ والدور النهضويّ التنويريّ عربيّاً منذ نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين عن الفعل الراهن رغم التعقيدات السياسيّة وتحدّيات اللحظة الراهنة. وفي المقابل يمكن القول: إنّ الحركة المستمرة شعبيّاً خصوصاً خلال السنوات الماضية شكّلت حافزاً إضافيّاً للفعل الثقافيّ بالخروج من المساحات المغلقة إلى الساحات وفضاءات الإبداع المتعدّدة ما يجعل الحاجة إلى دور ثقافيّ فعال مسألة بديهيّة تحقق التوازن بين الفعل اليوميّ والرؤية الفكريّة بضرورة تعزيز مفاهيم الحريّة والتعدّديّة ضمن مفردات الحالة السياسيّة والاجتماعيّة. وقد يحتاج هذا إلى رؤية ثقافيّة شاملة ومغايرة للنمط السائد أو النمط التقليديّ في النظر إلى دور الفعل الثقافيّ بالانفتاح أكثر على مفردات الإبداع والتكنولوجيا والطاقات الشبابيّة التي تقدّم كلّ يوم اقتراحات متجدّدة في الشكل والمضمون الثقافيّ.

إنّ الثقافة كفعل مقاومة يختصر الحاجة بضرورة الاستمرار في فعل ثقافيّ يواجه القمع والاضطهاد والتمييز ويشكّل امتداداً للفكر التنويريّ العربيّ القادر على مواجهة كافة التحدّيات.

منصور الصويم (كاتب وروائي سوداني): الثورة في السودان ثورة مفاهيميّة في المقام الأوّل

مهمّةٌ ثقيلةٌ تلك التي تنتظر المثقّفين، ومن يقع على عاتقهم وضع السياسات الثقافيّة في البلدان العربيّة التي شهدت وتشهد الموجة الثانية من الربيع العربيّ؛ وحتى تلك التي لم تشهد هذه الموجة أو سابقتها.

هذه ثورات حقيقيّة وعظيمة في معناها ومبناها، تدعو إلى تغيير جذريّ يمس بنية الثقافة العربيّة برمّتها، ولكي يواكب المثقّف – واضع السياسات الثقافيّة – هذه التغيّرات لزاماً عليه التخلص من أدواته وأساليبه القديمة في المعالجة الثقافيّة، التي بات من الواضح أنّها غير ذات جدوى ولن تسهم في التغيير المنشود بشكله الثوريّ الذي قد نقاربه في شعار الثورة السودانيّة “حريّة، سلام وعدالة”.

الشباب العربيّ الثائر سئم الأساليب السياسيّة القديمة التي سجنت المجتمع العربيّ والبلدان العربيّة داخل تقسيمات وصراعات طائفيّة تغذيها دعوات ما يسمّى بـ “الدولة الدينيّة”. فالثورة الحادثة الآن – السودان نموذجاً – ثورة مفاهيميّة في المقام الأوّل، تصبو إلى القضاء على كلّ أساليب الغش والخداع السياسيّ القديم، والانتقال بنظم الحكم من شكلها الاستبداديّ التدليسيّ التقليديّ إلى نظم حكم حديثة، الخيار الأوّل فيها للحكم المدنيّ “الديمقراطيّ” الذي يساوي بين الجميع دون تمييز على أسس دينيّة أو عرقيّة أو ثقافيّة.

إنّها ثورة شاملة كما ذكرت، ومن البديهيّ أنّها تسعى إلى اقتلاع كلّ القديم بما فيه الأساليب الثقافيّة القديمة في النظر إلى الواقع العربيّ، التي أثبتت فشلها من جهتين في رأيي: الأوّل عجزها في مواجهة حالة التخلّف العربيّ طوال السنوات الطويلة الماضية.

والثاني فشلها في استقراء هذه الثورات، الشيء الذي يتضح في ما يبدو أنّه حالة “تجاوز ثوريّ” لـ “الرؤية الثقافيّة”.

لا يمكنني بالطبع تحديد الوجهة الصحيحة والجديدة التي يفترض على “الثقافة العربيّة” أن تنتهجها حتى تواكب هذه الحالة الثوريّة العظيمة التي بدأت تنبت وتزهر، فعلى المثقّفين العرب “تثوير” أدواتهم النقديّة وابتكار آليّات ثقافيّة جديدة تمضي بالتوازي مع رغبة التغيير المطروحة بقوّة بواسطة الشباب العربيّ الثائر.

وجدي الأهدل (قاص وروائي يمني): وظيفةٌ معطلةٌ. الإنتاج الثقافيّ العربيّ يخلو من الروح!

وظيفة الثقافة معطلة. تنطبق الآية القرآنيّة (وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) على المشهد الثقافيّ العربيّ من المحيط إلى الخليج. فهناك ميزانيّات بملايين الدولارات تُنفق على تسيير النشاط الثقافيّ، ونجد أنّ مكاتب وأروقة المؤسّسات الثقافيّة العربيّة تعج بالموظفين، وتُفرز أشكالاً متنوّعة من الإنتاج الثقافيّ.

ولكن رأيي أنّ هذا الإنتاج الثقافيّ يخلو من الروح. لقد شيّد العرب قصوراً مزخرفة للثقافة، ولكنها مبان خاوية من المعاني.

ترمز (الْبِئْرُ) في الآية القرآنيّة إلى الأعماق التي ينبغي النزول إليها للوصول إلى الروح الصافيّة النقيّة العذبة.

هذا ما يراه المتابع الخارجيّ الذي ينتمي لثقافة أخرى: الثقافة العربيّة جسد بلا روح!

حتماً “الروح” موجودة، ولكن ثمّة قوى تحرس فوهة البئر وتُعطل الغرف منها. بعض هذه القوى تُعطل الغرف بحسن نيّة، ومثالها التيارات الدينيّة التي ترى نفسها موكلة بمنع أيّ أحد من الاقتراب من البئر، وهناك قوى تُعطل بقصد وسوء نيّة، ليست تحرس البئر، ولكنها تشيع أنّ ماءه سام وغير صالح للشرب، وهذا ما تفعله الأنظمة الديكتاتوريّة التي تنشط لإبقاء شعوبها في حالة من العماء الروحيّ، وحصرها في اللهاث وراء المظاهر الفارغة والجشع والاستهلاك المحموم والمتعة الزائلة.

وإزاء هذا المشهد الثقافيّ الممتلئ بالحياة من الخارج والميت من الداخل، ينبغي على المثقّف العربيّ التفكير في حلول ناجعة لكسر هذا التناقض.

ربما على المثقّفين العرب التضحية بالقصر لكي تحصل الشعوب على جرعة روحيّة تروي عطشها! حسناً، هذا إجراء يصعب تطبيقه على أرض الواقع، لأنّ معظم المثقّفين العرب مرتبطون بالقصر – السلطة، وبالتالي لا بد من البحث عن مخارج أقل كلفة وأكثر واقعية…

وواحدةٌ من الحلول المقترحة هو تحيّيد الجماعات الدينيّة، وإقناعها أنّ دور الحارس الذي تمارسه على الكنوز الروحيّة يعطي نتائج سلبيّة، فجميع أمم الأرض تحصد الازدهار والرخاء والعزة، باستثناء الأمة العربيّة التي تتردى في الوحل، ولذا لا بدّ أن تقتنع هذه الجماعات بالتخلي عن حراسة القيم الروحيّة، لأنّ الإسلام تحديداً ينص على أنّ العلاقة بين الله والإنسان مباشرة وبسيطة وقريبة جداً، ولا تحتاج إلى وسطاء أو مُعمّمين يلعبون دور “السكرتارية”.

أمّا بشأن الأنظمة الديكتاتوريّة، فهذه معركة وعي طويلة الأمد، وتحتاج إلى جلد وصبر ونَفَسٍ طويل، حيث يتوجب على المثقّف العربيّ صاحب الضمير الحيّ مناهضة الوعي الزائف الذي تعمل السلطة القمعيّة على تعميمه بين المواطنين. وقد يضطر المثقّف إلى خوض معركة شرسة مع أدوات النظام الثقافيّة، وهي معركة غير متكافئة لا يمكن تجنبها، ولا بدّ من خوضها في كلّ ساعة وفي كلّ دقيقة، بهدف فتح عيون الناس على القيم العليا وإرشادهم إلى الجمال الروحيّ المبثوث في الآداب والفنون.

إنّ كسب المال جيد، ولكن ذلك المسعى لا علاقة له البتّة بالقيم العليا، وعارضة الأزياء لا شكّ أنّها حسناء، ولكن إثارة الجعجعة حولها لا ينتفع به أحد، والأفضل أن يبحث الإنسان عن الجمال في داخله، وهو جمال أصيل وغير قابل للزوال.

تحاول السلطة فرض نماذج للنجاح بوصفها قدوة للأجيال الشابة، وواجب المثقّف كشف سخف هذه النماذج الجوفاء، وعدم صلاحيتها لإحداث أيّ تطور روحيّ منشود. وعليه أن يُعلي من شأن نماذج قيمتها لا تقدر بثمن، فأفضل لاعب في العالم له ثمن، وأجمل ممثلة في السينما لها سعر، وأما المثقّف المستنير الذي يفتح البوابات الروحيّة فليس له ثمن ولن يكون.

عبد المالك أشهبون (كاتب وناقد أكاديمي مغربي): الثقافة العربيّة الراهنة: ثقافة الاستثمار في الجهل المقدّس بامتياز

صعبٌ، في سياقنا العربيّ اليوم، الحديث عن وظيفة للثقافة في اللحظة العربيّة الراهنة. يجب أن نوضّح مسألة، أنّ الثقافة العربيّة تزخر بجيوش من المثقّفين، لكن قلّة منهم من يملك وعياً طليعيّاً وجريئاً وغير مهادن. قليلون فقط من يطرحون الأسئلة الجذريّة، وهؤلاء، يتعرّضون لأشكال الاضطهاد والنفي والتهديد والقتل؛ لأنّ الثقافة العربيّة مسيجة بأسيجة أيديولوجيّة ودينيّة وأخلاقيّة مانعة من ترسيخ مفهوم الثقافة الخلاق والمبدع، ثقافة تعتبر التفكير خروجاً عن الصف، وخروجاً عن الدين، وتهديداً لطمأنينة المؤمنين. فالمثقّف الحقيقيّ هو الذي يسمّي الأشياء بمسمّياتها…

السؤال المطروح هو كيف تنتشر ثقافة التنوير في وطن عربيّ ترسخت فيه ثقافة التكفير؟ وعليه، فإنّ وظيفة المثقّف العضويّ في إعمال للعقل الخاص: شكاً، وتساؤلاً، واعتراضاً، وحقاً في الاختلاف باتت في خبر كان في ظلّ ثقافة القطيع التي لا ترضى بغير الاصطفاف التام وراء شيوخ الظلام من جهة، وفي ظلّ ثقافة موازيّة لثقافة القطيع، عدوة للفكر الحقيقيّ، ونصيرة للبلاهة تنتشر أكثر من النار في الهشيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة التي كان المعول أنّها ستسهم في تعزيز الديمقراطيّة والتنوير، يتضح الآن أنّها على العكس تمسخ الديمقراطيّة من جهة، وتكرس البلاهة على حساب الفكر من جهة أخرى، وهي لذلك أقوى سلاح في يد الشعبويّات المختلفة.. لأنّ سياق اللحظة يقتضي الابتعاد عن أيّ إصلاح مؤسَّس على خيار التنوير والتثوير…

خلاصة القول: إنّ هناك بحيرات ثقافة تنويريّة صغيرة، وسط صحراء الجهل الشاسعة، ولكن هذه البحيرات لا تتجمع لتكوّن نهراً كبيراً يمكن أن نسمّيه حركة ثقافية تنويريّة مثل تلك التي اجتاحت أوروبا في القرن الثامن عشر. الأدهى من كلّ ذلك أنّ زحف عصور الظلام، على وطننا العربيّ، قائم على قدم وساق من هنا لا مجال للحديث عن وظيفة للثقافة العربيّة في هذا الوضع المسيج بالبلاهة التي ترتبط بوسائل التواصل الاجتماعيّ وبالاستثمار في “الجهل المقدّس” باعتباره مقاماً من مقامات الاستثمار في الجهل…

من هنا فالحديث عن وظيفة للمثقّف سيصير حديثاً عن “دونكيشوت” جديد يحارب طواحين الهواء لا أقل ولا أكثر…

أحمد ولد الحافظ (كاتب وروائي موريتاني): على الثقافة اليوم أن تعيد ترميم العقل العربيّ

يقال إنّ باول يوزف غوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر كان يتحسّس مسدسه كلما سمع مفردة الثقافة أو المثقّف؛ تحيل هذه المقولة إلى نمطية سوداء من التوجّس من الثقافة والمثقّفين؛ ربما لما امتازوا به تاريخيّاً من استغلال الثقافة من أجل أهداف معينة.. ومع ذلك فإنّ وظيفة الثقافة أو المثقّف – في تقديري – تبقى واحدة؛ بغض النظر عن السياقات وعن الظروف؛ صحيح أنّ عالمنا العربيّ يمرّ بمرحلة حرجة من تاريخه؛ فبعد ترنح طويل – بين الاستعمار والاستبداد – استلمته موجة من الغلو والتطرف أدخلته في دوامة من العدميّة لا تبدو نهايتها مترائيّة للعيان.. ويخيّل إليّ أنّ من عوامل هذا التردي تخلّي الثقافة عن رسالتها وعن دورها في صناعة الوعي المجرد؛ بعيداً عن الغائيّة (سواء أكانت سياسيّة أم أيديولوجيّة..)، إنّ تجربة الموجة الأولى من “الربيع العربيّ” مع تحفظي على المصطلح؛ وما واكبها من تخندق واصطفاف ثقافيّ – أملته اعتبارات سياسيّة وأيديولوجيّة في الغالب – يمكن أن يشكّل تجربة مركزة للثقافة وللمنشغلين بها؛ حتى يتفادوا ما يمكن تفاديه من الأخطاء التي جرّت إلى هذه الدوامة التي دخلناها؛ أو أُدخلناها.

على الثقافة عندنا أن تعيد بناءها من جديد؛ في إطار المتغيّرات والتجارب ليست العربيّة فحسب؛ وإنّما الإنسانيّة بصورة أشمل وأعم.. عليها (أي الثقافة) أن تنطلق كمؤسّسة مستقّلة؛ وليست مستغلّة؛ بمعنى أنّه عليها أن تأخذ مسافة من كلّ الأطر السياسيّة والأيديولوجيّة؛ حتى يتسنى لها إعادة ترميم العقل العربيّ؛ بما يخدم مُثل العدل والمساواة والحريّة.. بل والاستقلال؛ حيث يفترض أنّها هي المنشودة من قبل كلّ الثورات.. عليها أن تشيع المعرفة في بعدها الإنسانيّ المجرد، وأن تسوق الاختلاف وأبعاده الإيجابيّة؛ بما يعنيه من تعدّد وتنوّع وثراء…

لست متشائماً كثيراً بشأن الموجة الأخيرة من “الثورات العربيّة” ولعل الشارع العربيّ (الجزائريّ والسودانيّ خاصّة) استفاد في تعاطيه معها من التجربة السابقة؛ وهو ما نتمنى على الثقافة أن تواكبه.

على الثقافة اليوم أن تؤسّس لمنظومة جديدة محورها الإنسان؛ بعيداً عن أيّ اعتبار آخر (سواء أكان عرقيّاً أو نوعيّاً أو عقديّاً أو فكريّاً..).

على المثقّف أن يستعيد مكانه في القاطرة؛ كربان لسفينة الوعي والرقي والاستقرار؛ لا أن يظلّ موظفاً لدى كينونات أخرى؛ لا ترى في الثقافة أكثر من وسيلة لتحقيق أهداف ذاتيّة وآنيّة في الغالب الأعم.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى