أبحاث

رأي "روسي" في مستقبل سوريا وديكتاتورها وديموقراطيتها/ وضاح شرارة

2018

نشر موقع روسي إلكتروني وحكومي، “روسيا اليوم”، في 28 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، مقالاً كتبه “الكاتب والمحلل السياسي”، رامي الشاعر. والكاتب، سفير فلسطيني، اعتمدته دولة فلسطين لدى موسكو في وقت سابق. ومذ ذاك، جمع إلى صفته الديبلوماسية الفلسطينية “دلالة” ديبلوماسية روسية، غير رسمية وغير مسؤولة، لكنها تغمز من هذا الطرف أو ذاك. فلم يكد الموقع الحكومي ينشر المقال حتى تلقفه مراسل صحيفة سعودية لندنية في موسكو ولخصه، ونشرت الصحيفة ملخصه في 29 من الشهر، وعنونته: “دعوات روسية للأسد لـ (الإقرار بمرحلة انتقالية)” (الشرق الأوسط، رائد جبر من موسكو، 29/11/2019).

والمقال، في نصه الكامل من ثماني صفحات ونحو 2000 كلمة بالعربية، يُختم في حاشية أُضيفت إلى المتن بمثل هذه الدعوة. ويوضح الكاتب أنه يرفق مقاله بملحق أملاه عليه ظرف طارئ هو بلوغ محادثات اللجنة الدستورية المصغرة (45 عضواً من 150) بجنيف يومها الثالث من غير إقرارها جدول أعمال. ويتوقع الكاتب “الفشل”، المحقق بعد ظهر اليوم العتيد، ويوقع “المسؤولية الكبرى” على “القيادة في دمشق”. وهذا أضعف القول. فالحق أن الوفد الحكومي رفض التقيُّد، بعد إقرار مدوّنة سلوك المفاوضات، بالبند الثاني الذي نص على مناقشة المبادئ الدستورية العامة، وشَرَطَ مباشرة البند هذا بالإجماع على “مبادئ وطنية” تسبق المبادئ الدستورية، وأولها إدانة الإرهاب وحمل السلاح ومقاومة الدولة… ومعنى هذا، من غير شبهة، إدانة وفد المعارضة، وبعض وفد المجتمع المدني، مواقفهم وآراءهم التي قدِموا إلى جنيف في سبيل مناقشتها والمفاوضة والمحاورة عليها.

القرار 2254 الانتقالي

ورامي الشاعر، حين يدنو من إدانة “القيادة في دمشق” على تنصّلها من الانخراط في المفاوضة، يسوّغ رأيه من طريق غير التنبيه إلى تناقض الوفد الرسمي، وإخلاله بشرط تأليف اللجنة. فهو يعزو التنصّل والتهرّب الصريحين إلى رفض بشار الأسد الاعتراف بالقرار الدولي 2254، وسعيه في استبداله بـ “مقررات سوتشي ومسار آستانا” (على قول الكاتب في النقطة الأولى من “برنامج” خطواته على طريق الحل، ص 5 من المقال). وتغفل هذه المقررات القرار الدولي إغفالاً مريباً. وعلى خلاف ما جاء في متن مقاله، وفي دفاعه عن القرار الدولي، يشدّد فجأة على “صوابية المرحلة الانتقالية في سوريا”، ويتعدى “المرحلة”، وعموميتها الزمنية غير المقيّدة بأجل، إلى اقتراح “حكومة انتقالية”، وإلى الإيحاء بعجلة الإجراء وضرورته الملحة.

وتتسارع المعالجة في الأسطر العشرة الأخيرة. فتتناول الانتخابات النيابية والرئاسية، وتنبّه إلى التزام نتائجها. وتستبق، على نحو الغمز من بشار الأسد، ومن نواياه وإرادته، نتائجها هذه. وتقرر أو تكاد تقرر أن هذه النتائج قد تقضي بـ “اعتزال” (الأسد) السياسة”، وتخليه عن موقعه “كسياسي وقائد”. وتخيّره، مشفقة، بين دخوله التاريخ “كقائد من نمط جديد قادر على تغيير وجه سوريا وعقلها”. وتسكت المقالة عن الاحتمال الآخر، وتوجزه بنفي الأول: “أم لا”. وفي مستطاع القارئ أن يملأ فراغ “لا” بالكلمات المناسبة. فيجعل نظير “قائد”: “تابع” أو “نفر” منفي، ونظير “جديد”: “قديم” أو “بالٍ” أو “سابق”، و “قادر”: “عاجز”، إلخ.

وكانت الإشارات السابقة إلى القرار 2254 نوّهت باشتراك روسيا في “وضعه” أو صوغه، ثم بقيامه مقام المدخل الضروري إلى “التسوية الشاملة”. وأخيراً، إلى إناطة “المساعدة في إعادة الإعمار” به. وعلى هذا، فمن دون القرار الدولي الصادر في صيف 2012- قبل ظهور “داعش”، وقبل اشتداد ساعد “القاعدة” (النصرة)، وقبل آب/ أغسطس 2013 وقصف قوات الأسد الغوطة الشرقية بغاز السارين، وقبل عملية “غصن الزيتون”، وغيرها من المنعطفات-، تستحيل التسوية الناجزة، ويستحيل الإعمار (وهو صنو علاج الإبادة والحؤول دونها، على ما يوحي رامي الشاعر في البند الرابع من “برنامجه” وهو يفنّد فيه أبواب المساكن وتهديد باب يشمل 15 في المئة من سكانها بـ “حافة الموت”).

“إعفاء” الأسد من الديموقراطية

وفي ثنايا المقال تنبيهات خجولة إلى مقاومة بشار الأسد وجهازه، أو أجهزته، سياسات أو إجراءات موضعية تعهدت روسيا، من حميميم وقبلها، رعايتها. فهي رعت “مصالحات” محلية في مئات البلاد والجبهات. ووعدت بحماية المتصالحين من المقاتلين السابقين. وفي معظم الأحوال أخلّت أجهزة الأسد بعهود قطعها “الراعي” الروسي. فلم تعمل بقانون العفو عن “أولئك الذين وجدوا أنفسهم في صفوف المعارضة بفعل عوامل موضوعية غالباً ما كانت خارج إرادتهم”، على قول رامي الشاعر مزدرياً المعارضة والمعارضين، ومسوّغاً انتهاكات السلطان “الأحمر” والكيماوي. فأدى ذلك إلى خروج الجنوب السوري، بعد المصالحات، على الجهاز الدمشقي. وكانت الديبلوماسية الروسية اقترحت دستوراً يأخذ بإجراءات “لا مركزية”، والكرد نصب الاقتراح. فلم يفوّت رأس الجهاز فرصة واحدة لم ينبّه فيها إلى عزمه على استئناف سيرته السابقة من غير تغيير، وعلى ملاقاة السوريين على مسرح حروب أهلية آتية بعد ثلاثين عاماً، “وعمره يسمح له بذلك” على قول الشاعر، رامي طبعاً.

والحق أن دلالة المقال الروسية، أي ما يعنيه فعلاً في سياق السياسة الروسية والأطراف المتفرّقة التي تشترك في تقريرها، لا تنفك غامضة، قرئ المقال من غير ملاحظة أجزائه وتركيب هذه الأجزاء أم قُرئ في ضوء ملاحظتها. فانعطافة الحاشية التي ذُيّل بها تبدو أقرب إلى التقريع والإنذار، إن لم تكن في مثابة إيذان بالقطيعة. وقد يكون الوقت الذي نُشر فيه، والمؤرَّخ باليوم الثالث من محادثات اللجنة الدستورية على وجه الضبط، هو الداعي إلى التسارع الذي تقدّمت ملاحظته. فأعمال اللجنة ينبغي أن تكون تمهيداً إلى انعقاد الفصل الأخير من الجلجلة السورية، وذلك من طريق الشراكة الدولية في التسوية السياسية، والدستور والانتخابات باب عليها، وفي الإعمار الباهظ. والعودة إلى إبراز القرار الدولي 2254، وإلى إنزال المرحلة والحكومة الانتقاليتين منزلة الصدارة، بعد تحريف دلالته وإهماله وإغفاله في آخر المطاف، تتهيأ هذه العودة بهيئة إعلان روسي عن مرونة موعودة وملتبسة.

ومصدر الالتباس أمران متناقضان أو مختلفان. فرأي الديبلوماسي الفلسطيني السابق والكاتب في موقع رسمي، ليس الأول من صنفه. وسبق للرئيس الروسي أن قال إن ما يهمه هو “استقرار” سوريا، مع بشار الأسد أو من دونه. واشتراك روسيا في صوغ القرار 2254 قرينة على قبولها ما فهمه منه الجمهور يومها: “إعفاء” الديكتاتور السوري وكفّ يده تدريجاً. واشتكت الديبلوماسية الروسية ضعف استجابة الأسد أوامرها مرات. والفرق بين مقالة اليوم وكناية الأمس هو فظاظة التصريح، النسبي الصراحة، آن لا يتستر الرجل (الأسد) على تحلله من (شبه) العهود الدولية السابقة التي تذرّعت بها السياسة الروسية إلى تبرير انخراطها المدمّر في الحروب السورية. وأوامر اليوم الأسدية الأخيرة: “موت” جنيف والانسحاب من مفاوضاتها، الحسم على كل الجبهات، دعوة الكرد إلى التجنّد في الجيش العربي السوري… ليست أقل من إعلان استئناف السيرة الاستبدادية بحرفها. ولا يحمل هذا لافرنتييف، من دون بوتين الخاص، على تحفّظ عن فتوح الرئيس السوري.

وفي مقابل الرأي هذا يؤرّخ الكاتب للمأساة السورية تأريخاً يزعم الحياد والتوازن، ولكنه يلقي بالمسؤوليات الثقيلة و “البنيوية” على “الظروف الصعبة التي عاشها الشعب السوري على امتداد عشرات السنين”، وعلى “المعارضة الراديكالية التي استغلت الجماعات الجماهيرية المغلوبة على أمرها… ” ومهّدت الطريق (“ليأتي في إثرها”) إلى الجماعات الإرهابية. وعلى رغم التواء هذا التأريخ وتعثّره، ينتهي الكاتب إلى أن ما عاناه السوريون هو حرب أهلية يتقاسم المسؤولية عنها المعارضة “الراديكالية”، وهو يقصد هيئة التنسيق والمجلس الوطني والجيش السوري الحر في بداياته وتنسيقيات درعا وداريا والقابون وحمص…، أولاً، و “مجموعة أشخاص” يكني عنهم بطائفتهم التي لا يسميها (“قاعدة اجتماعية ضيقة”)، وبـ “سلالتهم” (الأسد “وريث” والده)، و “روابطهم العشائرية والطائفية” و “قرابتهم”، ويلمح إلماحاً حيياً إلى “تركيب أجهزة السلطة”، ولا يسمي الاستخبارات وأجهزة الأمن و “أفرعها” التي يختلف إحصاؤها من وقت إلى آخر ثانياً، ويبقى “الجيش السوري”، مع “مؤازريه الروس والإيرانيين”، مناط النجاة.

وفي نهاية المطاف، تتحمل الديموقراطية الغرم الأكبر. فالمعارضة “المتشدّدة”، وهي صفتها الملازمة، رفعت على الدوام قميص الديموقراطية، “من سبيل العنف”. ولكن، ما شأن الديموقراطية؟ يكيل لها الكاتب نعوت “المزيفة”، و “العنيفة”، و “العاجزة”، و “المهزلة”، و “المأجورة”، و “المأجورة البالية”. فهي “غربية” أولاً وأخيراً. ومثالها الأعظم هو: “مسيرات المثليين في مدن القارة العجوز (و) السماح بزواج المثليين”. وغنيّ عن القول إن الديموقراطية السورية “الخاصة”، شأن ديموقراطية السيد فلاديمير بوتين “العمودية” أو ديموقراطية السيد فيكتور أوربان “اللاليبرالية” ينبغي أن تراعي “خصائص (سوريا) ذات الأغلبية المسلمة (…) وتقاليدها وأنماط حياتها”، وأن تُبنى على “الاحترام المتبادل بين البشر (…) وتكفل الحق في الحياة والعمل والعيش الآمن (…) والمساواة (…) وحق التصويت والاقتراع…”. أما الحق في الاجتماع الحر (أو إنشاء “جماعات” طوعية وغير عصبية)، أو “الحق” في الرأي والمعتقد والنشر والإقامة والسفر والمقاضاة والتملُّك فبداهات لا تستحق الذكر، شأن “الحقوق الاجتماعية” المتأخرة زمناً، والتي تحتكم إلى الجودة وتحقق معاني المساواة (في التعليم والطبابة والسكن…) الفعلية.

وينبغي أن يطمئن هذا بشار الأسد و “سلالته” وبطانته إلى سلاسة المعايير الديموقراطية المتوقّعة منه إذا “أثبت… قدراته” قائداً سياسياً، وقرب هذه المعايير من “تقاليد” سوريا و”خصائصها” المزعومة. فالكاتب الفلسطيني- “الروسي” يعفي الديكتاتورية الأسدية العقيمة من تبعاتها عن الحروب السورية المعقّدة والمستمرة إلى اليوم، والمتناسلة إلى غد غير منظور. ويسكت عن دورها في انعطاف سوريا أولاً، ثم جوارها القريب، اللبناني والعراقي والأردني والفلسطيني، صوب إرساء “الأنظمة” أو الأبنية السياسية الوطنية على “بنية تحتية” حربية أهلية. فاضطلاع “الدولة” السورية، منذ أواخر خمسينات القرن الماضي التي توّجها انقلاب حافظ الأسد في 1970 واستيلاؤه على السلطة في وقت واحد تقريباً مع صدام حسين ومعمّر القذافي “الثريّين”، بأدوار قاعدة خلفية “قومية” لحركات المعارضة المسلحة والانقلابية في المشرق العربي، دعا هذه الحركات إلى النفخ المتعمّد في عوامل الشقاق الأهلي ورعايته. وتولّت “مناهضة الإمبريالية”، ثم الاستكبار والشياطين، توزيع الأقنعة على الوجوه القبيحة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى