مقالات

في محترف القصيدة: روني شار دائماً

ميشرافي عبد الودود

-1-

عندما صدرت الأعمال الكاملة لروني شار في سلسلة لابلياد عام 1983، نشر لي أحد المحررين في جريدة ليبيراسيون موجزا نقديا أشدت فيه بروني شار كأحد أعظم الشعراء طيلة قرون من الفرنكوفونية. أرسلت المقال إلى روني، وانتظرت. وافق روني أن يستقبلني؛ وكان استقباله شيئا ما وديا وحذرا جدا. “لقد كان مقالا مكتوبا من قبل صائد الحنكليس”، قال لي مُودعا بطريقة ملغزة. بعد مضي وقت طويل في تفسير اللغز، اكتشفت أن صائدي الحنكليس يضعون العديد من السنانير في نفس الخيط لمحاولة اصطياد الأسماك، من جميع الجوانب، وهم الديماغوجيون.

أمام عتبة بيته بقرية السورغ، استقبلني رجل فارع الطول (الأجيال القادمة ستعرف أن روني كان يحتذي مقاس 48)، مفتول العضلات، وجبهة عالية على غرار سيزان، ووجه مستطيل بضخامة ملامحه العميقة، فيما العيون متأملة ووديعة، ملابسه محتشمة لدرجة لا تجعلنا نشعر على الفور أنها غير مصنفة.

معنوياً وجسدياً، كان روني شار وحشاً عملاقاً؛ يتميز الفرد أولا وقبل كل شيء باحتياطه من الطاقة، كما السيارات بعدد الخيول.

كان روني خليطا أو تعاقبا بين القسوة والرقة، النرجسية والسماحة، بُغض الجنس البشري والإيثار، الزهد والشهوانية، أحلام اليقظة المتعالية والحس السليم الهائل.

أحياناً كثيرة، عند غروب الشمس، كان يتجاهل محادثه، مستغرقا في رؤاه، في حالة حلم اليقظة، أو يأخذ في التمتمة بلغته؛ تلك اللغة الغريبة التي كان المتحدث الوحيد بها. فيكتشف شهوده رجلا آخر. لا أتذكر مغنية الأوبرا المشهورة، التي قيل إنها حُوت ابتلع عندليبا. حسنا، روني ذلك العملاق المزاجي المتسلط كان بداخله عندليبا.

[بول فاين]

*****

في هذا الملف الخاص سنرافق الشاعر الفرنسي روني شار، 1907- 1988، في مقتطفات باذخة من المقابلة الوحيدة التي أجراها في حياته مع فرانس هوسر، حيث يتحدث عن الشعر والحب وملابسات تشكل القصيدة وهندسة مجموعته الشعرية الأولى “آرتين” تحديدا.

ومباشرة بعد ذلك نتوقف مع باقة من تعريفات روني شار للشعر والحب على حد سواء.

وفي الأخير وقفة مع قصيدة “آرتين” التي افتتحت مجموعته الشعرية الأولى، ورسالة الوداع الموقعة من الشاعر إلى المرأة الملهمة.

في محترف القصيدة (مقابلة)

تشكلت مجموعتي الأولى “آرتين” من خلال شخصيتين: تلك الفتاة التي ماتت غرقا، لُولا آبا، والفتاة التي قابلتها قبل ثلاث أو أربع سنوات، في ساحة حلبة سباق الخيل، المكان الأكثر روعة، الذي كنت أتردد عليه كما لو أنه أرض مغناطيسية. عندما كنت شابا، غادر للتو سن المراهقة، غالبا ما كنت أذهب إلى سباقات الخيل، وكما العادة بمفردي. لا زلت أرى نفسي،

مستندا على حواجز قياس الوزن، عندما أتت للاستناد على السياج بجانبي، فتاة جد شقراء، ممّن توصف بالفاتنة. ابتسمت لي. انحنى أحدنا على الآخر وتبادلنا القبلات. لكن والدها نادى عليها، بعنف، ورغم أنني بحثث عنها وسط الحشود، لم أتمكن من إيجادها مرة أخرى.

قُرعت الأجراس، وانطلقت الخيول الأصيلة، وهرع المراهنون الأثرياء المستنفرون إلى الأكشاك. تركت لي شعورا عميقا عمّا كان يمكن أن يحدث وتم رسم خطوطه فقط.

في ما بعد، في الوقت الذي لم أعد أفكر فيها، رأيتها رفقة والدتها في عربة كابريوليه تهرول على الطريق المؤدي إلى أفينيون. كان زمن الفتيات بأشرطتهن الواسعة، المتموجة حول الخصر وأهداب العقدة الحقيقية أو المزيفة. كانت الأمهات أجمل من بناتهن بسبب بساطة زيهن. كما كان يتم التعرف على الفارق بين الأعمار بهذا الاختلاف فقط. إحداهما في العشرين من عمرها والأخرى في الأربعين. كانت الأم تقود العربة. لكن لم تكن تثير الريح منها شيئا، مشدودةً في بذلتها المخططة الملتصقة، بينما كان كل شيء في البنت يتطاير ويجلد الهواء حتى ردفيها الصغيرين. أبدت السماء استحسانها، والأشجار أيضا.

بعد عامين أطلعني شخص على اسمها: لقد تزوجت. عندما طلب مني بروتون نصا يتناول خلود اللعنة في اللامتوقع، فكرت أن أقدم له قصيدة أنهيتها للتو، لها علاقة بفتاة حلبة سباق الخيل ولُولا آبا. لكن بعد إعادة النظر، آثرت تأجيل ذلك لاحقا.

منذ تلك اللحظة، رافقتني الفتاة آرتين على مدى فترات متباعدة، ولم تتحول أبدا إلى رماد. كانت تتجلى في أحوال مختلفة على مشارف الخفي، عابرةً للأفق برقبتها الشامخة. كما حدث في سيراز عام 1943، بينما كنت أغادر مخبأي في القرية العتيقة، فوجئت مفزوعا بفتاة غجرية تتسلق الدرج الحجري للزقاق، لأن الزي الرائع الذي كانت ترتديه شكل خطرا كبيرا عليها، بوجود إبادة ممنهجة للغجر من قبل الألمان.

كانت موديلا جديدا تماما في تدرجات الأخضر والوردي المشوب بغلالة رمادية ينتهي بشريط الحاشية الزعفراني. على بعد متر مني رفعت بصرها للأعلى. أحسست في هذا الوميض أننا أمام حدث معدّ سلفا، ناجز للتوّ. دونما كلمة، مددت نحوها يدي التي أمسكت بها. ولم يعد المخبأ مجرد مخبأ بل تحوّل إلى غرفة حب. عندما تركتني، أصغيت لخطواتها، بجفون مغمضة، تبتعد وسط الأحجار وهالة ذلك النهار.

في عام 1943 كانت تلك الغجرية شقيقة لُولا آبا وفرنسواز دي إم. أضفت إلى قصيدة “آرتين” صفحة ناقصة لكنها ستبقى بيضاء فارغة. هكذا تشكلت هذه الباقة من “المكونات”، حيث القيادة للزمن، الذي يتحول إلى حشد من القصائد في قصيدة واحدة لا ترتوي. عدة مرات أخرى ظهرت نزيلة أخاديدي المستحوذة عبر الأخيلة المؤتلفة في ندى اللقاء الفضي؛ والتي لم يتسرب إليها الجفاف أبدا. كان ثمة عالم ينضج، عنقودا داميا من القبل.

لا جدوى من الشرح، علينا الموت في الموعد المحدَّد، وتوديع القصيدة إلى الأبد بعد ولادتها: سوف تواصل النقطة المضيئة الترحل في نظراتنا كما السحاب في قوس قزح الفصيح.

هل نحن إزاء مشهد يحتاج للتفسير؟ لكننا لا نريد الإيضاح، فالليل يتمدد عليه مبكرا دائما برقصة باليه الحبر والضوء. نحن نكتب في حالة الطوارئ: والقوة التي ترحِّلنا تُلزمنا

بإحباطات معقودة. تماما كما يمنحك شخص رائع ابتسامة مضاعفة لم تكن تنتظرها؛ يهبك الشعر الوجه المكتمل لإلهتين اتحدتا أخيرا. يطأ حافة الهذيان، ولا يتجاوزها.

ليس بمقدور العقل فقدان شعور الرفاه بلا ندم. الشعر في منتصف الطريق ليس حرية. الحقيقة والحرية، دون إعداد مسبق، تسود بينهما علاقات عدم التسامح. لكن فجأة يتحدان في كيان واحد؛ وفي هذه اللحظة يصنعان الجمال، برجا من الأجراس تخترقه عربدة الرياح، ولا يضعف تحت السيطرة.

في نهاية هذا الربيع المطير، كان “الشفافون” يرتدون أحذية متينة مع أنها بالية قادمة من المخازن الحربية القديمة. لكن عند ديانا، تنتظرهم النعال المجدولة بأوراق الدخان البيضاء المجففة. أصبحت سرعتنا الأولية وتفاصيل حياتنا، تحت نعال الشِعر، غبارا ذهبيا بين سيقان الزنابير العاملة في زوايا النوافذ…

لم يتسن لي، كما رغبت، مرافقتها كفاية، لكنني مع ذلك أتذكرها جيدا. كانت تمتلك طريقة متفردة للغاية للاختلاء غالبا وحدها في الأماكن المضاءة بالأقحوان، بقطن الحور، بالأطلال الغامضة، وغيرها من الزهور المنثورة، على بعد بضعة أمتار من خليج السورغ الصغير. وثانيا ديانا لم تكن تغادر بيتها، الذي خصصته لإصلاح أغراض رجل مستعملة، أو غسل ثياب حائلة الألوان.

في كنيسة سان برنابا، كانت تضع زهور شبّ الليل والقرنفل البري. في الأيام المشمسة كانت تغني، وفي الصباحات الغائمة كانت تدندن بألحان لا أفهمها. كثيرا ما تذوقنا الحليب، الكستناء، والبيض المسلوق، من أناملها الجميلة. شريحة الخبز تتغطى برقاقة من الزبدة وطبقة من الشوكولاتة، تينتان تطلان من جيب بلوزتها. رأيت أو سمعت في محيطها أربع دجاجات وديك يتجولون بحرية، زهور الكبَر كانت تنشر سحر عبيرها النفّاذ جنوب البيت.

الزيارات الوحيدة التي استقبلتها ديانا كانت من أصدقائها “الشفافين” الذين لم يكونوا يخفون مغازلاتهم لها وحبهم. كنا نداعبها، نقبلها بضع قبلات، ثم ننزل السلم وكان الصمت عاريا قليلا. أبقيت نفسي على مسافة، خوفا من أن أطرد؟

اعتدت الصيد في إحدى شعاب النهر، الأكثر جفافا على الإطلاق. كنت أخلع قميصي في الهواء، حواف سروالي المصنوع من النسيج المحبوك مرفوعة. على مسافة مائة متر، كنت أمسح المياه الباردة، ممررّا يدي، بأصابعي المتقاربة، تحت الجذور حتى أشعر بخفقان بطن سمكة. كنت أتقدم ببطء، مداعبا خياشيمها، وفجأة تلتف يدي. إنها طريقة متوحشة في الصيد، كان التيار يبللني حتى الأذنين.

كانت ديانا الوحيدة التي تستمتع بهذه اللعبة. كانت تطلب مني التوقف آنذاك عن الاستحمام والخروج للتنشف بصدريتها. كنت أتظاهر أني لا أسمع شيئا. فكانت تلف بالحشائش سمكة البوري التي تلقتها فيما كانت تبتعد نصف متوثبة، نصف مقطبة في الاتجاه المعاكس حيث كان قميصي وسروالي يفشيان نهاية طفولتي.

عصفورا هازجة، في الجزيرة الصغيرة المجاورة، يرفعان عاليا، مملكتهما من السوسن والقصب. أحببت تغريدهما الجوهري، المنتشر، الممهِّد على غالبية عصافير ضفاف الأنهار. “ما تعنيه المرأة، الله ينساه”، قالت مرة أخرى، على مرمى السمع، ديانا الهازلة. انتبهت منذ الوهلة الأولى إلى خصلاتها الفوضوية والنظيفة للغاية، دونما شعرة بيضاء واحدة، كانت ستزيدها جمالا، وعنقها الطويل في كنزتها المقطبة.

أمضيت صيفين في رفقة “الشفافين”؛ أبلغتهم تحيتي، وتلقيت تحيتهم. عيون ديانا الخضراء

اليشبية، على مر الأيام، الأحداث، والتقاربات، كانت تشيع انعكاس أشعتهم على الولد الذي يغادر طفولته.

شجيرة دُرَيْدار أزهرت في الساحة. كنا في شهر تموز، اتسعت الدورة المحمومة للفصول. لقد كانت ديانا “الشفافة” وكانت أيضا امرأة القرابين الغامضة والفسيحة. ديانا مدينة لبعض الآلهة بحراستها، لكنهم دون حاجة إلى اقناع، يستريحون الآن ليس بعيدا عنها، على شجرة الميْس، الشجرة الوحيدة التي تطل على نافذة غرفتها. بالنسبة لي، أنا الذي كنت مقموعا في عائلتي، أربكني أن ديانا بقيت وفية بقلبها لرفاقها. مواقفهم لم تتغير. كنت في الرابعة عشرة، ولم يكن لدى ديانا سوى عمر الرغبة التي كانت تستثيرها.

عشت على ندائها، صيادا بئيسا ومهرجا مزعجا، وكان رائعا حقا. لويس كوريل، الرجل المتمرس الذي كان مهتما بها، همس لي بكلمة في إحدى الليالي: “امرأة وحيدة وسط مشاة القمر، ومخلصون لها أيضا، ديانا ملاك شهواني، لكن بالتأكيد لا يمكن أن تعرف معنى ملاك”.

أما الشفافون، فكانوا يهرولون على المنحدرات الصخرية، وراء شرعية بعيدة المنال ربما أفلحت الشمس في مجاورتها. كان للحياة والموت هناك مصب للحرية. سأنضم إليه فيما وراء ظل غدي. هذا الليل الذي يستمر يرتفع في الفضاء مثلما أصم أبكم يعدّ خطواته في الصحراء.

-2-

في هذا الملف الخاص نرافق الشاعر الفرنسي روني شار، 1907- 1988، في مقتطفات باذخة من المقابلة الوحيدة التي أجراها في حياته مع فرانس هوسر، حيث يتحدث عن الشعر والحب وملابسات تشكل القصيدة وهندسة مجموعته الشعرية الأولى “آرتين” تحديدا. ومباشرة بعد ذلك نتوقف مع باقة من تعريفات روني شار للشعر والحب على حد سواء. وفي الأخير وقفة مع قصيدة “آرتين” التي افتتحت مجموعته الشعرية الأولى، ورسالة الوداع الموقعة من الشاعر إلى المرأة الملهمة.

هنا القسم الثاني والأخير:

للشاعر عُمران وحبّ طليق

للشاعر عُمران؛ العمر الذي يسيء فيه الشعر، من جميع النواحي، معاملة الشاعر. والعمر الذي يسمح باحتضانه بجنون. لكن أيّاً منهما ليس معرّفاً كفاية. كما ليست للتالي السيادة.

■■■

أنت تتعجل الكتابة،

كما لو كنت متأخرا عن الحياة،

إذا كان الأمر كذلك، تتبّعْ الخطى إلى منابعك،

تعجّلْ.

تعجّلْ مشاركة حصةِ تمرّد جودك الرائعة.

■■■

لا ينبغي لقيثارتي أن تتنبأ بي، أو يعثر شعري على ما كان بوسعي كتابته.

■■■

أعشق الذي يومضني فيضاعف الغامض بداخلي.

■■■

طائر السِمامة بأجنحته الواسعة للغاية، والذي يحوم ويصيح

فرحا حول المنزل. هكذا هو القلب.

يجفِّف الرعد، يزرع في السماء الصافية.

إذا لمس الأرض. يتمزق.

السنونوة جوابه الحاضر، الأليفة التي يمقتها.

ماذا تساوي تخاريم البرج؟

استراحته في التجويف الأكثر حلكة

لا أحد أكثر منه ضيقةً.

في صيف السطوع الطويل. يغادر في الظلام

عبر شبابيك منتصف الليل.

ليس باستطاعة عينٍ ملاحقته، يصيح، هذا كل

وجوده. رصاصة صغيرة ترديه. هكذا هو القلب.

■■■

لا تستعجل المجيء، أيها الحب، اذهب مجددا

لم تُرعِش الشجرة سوى عمرها

أوراق نيسان مزقتها الريح

الأرض تهدّئ من اندلاع سطحها

وتغلق تجاويفها

أيها الحب العاري، ها أنت، ثمرة الاعصار!

حلمت بك تقشّر اللحاء.

■■■

لا تكتفي الكلمة بالتعيين، بل تمثِّل، وتقرِّر أكثر من صورة؛ شخص ما يتماثل للشفاء، يمكنني رؤيته من زوايا مختلفة: شخص سيموت، شخص يقاوم الموت؟ امرأة – هل هي تلك التي أمسك ذراعها، أو تلك التي تتمنّع، أو أيضا تلك التي تسخر مني؟ تمنح الكلمة تمثيلا فيما يتشكل حولها نوعا من الديكور، لكن، فجأة، تنسدل الستارة، فيختفي هذا المشهد: تأتي الكلمة التالية، مثلما أوركسترا بعيدة، يستحسن أن تكون فرقة حجرة. الموسيقى التي أعشقها ترّن بداخلها. ليست صاخبة على الإطلاق، فقط مهموسة. وهذا يثير نوعا من الغبطة. كما مرج مروي في أمسية صيفية، بجوار أشجار الأكاسيا الفواحة.

■■■

لا أكترث لولادتي، يا حبي: ستكون مرئيا حيث سأختفي.

■■■

يحوّل الشاعر بالتتالي الانكسار إلى انتصار والانتصار إلى انكسار. الإمبراطور قبوِلادي شغوفٌ فقط بأطلس السماء الزرقاء.

■■■

في منتصف الشعر، خصمك ينتظرك، إنه سيدك، اشتبك معه بشرف.

■■■

بصفته ساحر انعدام الأمان، لا يمتلك الشاعر سوى إرضاءات بالتبني. رمادٌ لا مكتملٌ دائما.

■■■

ينبغي على الشاعر خلق توازن بين العالم المادي للأرق والسهولة المرعبة للنوم، سطور المعرفة حيث يمدِّد الجسد الهش للقصيدة، تراوح بشكل عشوائي من مكان إلى آخر بين هاتين الحالتين المتعاقبتين للحياة.

■■■

أنا الشاعر، راعي البئر الجافة، التي تمدّها بالماء، آه حبيبتي، أقاصيك.

■■■

يا أرضي بكليتك، مثلما طائر استحال إلى ثمرة في شجرة خالدة، أنا ملكك.

■■■

القصيدة هي الحب المتحقق للرغبة التي بقيت رغبة.

■■■

مارثا التي لا تستطيع هذه الجدران العتيقة أن تحتويها، النافورة التي تتمرآى فيها مملكتي المنعزلة، لا يمكنني أبدا أن أنساك لأنني لست مضطرا إلى تذكرك: أنت الحاضر الذي يتكاثر، سنتحد سويا دونما حاجة إلى اقتراب، أو ترتيب موعد مثلما زهرتي خشخاش تصنعان في الحب شقائق نعمان عملاقة.

■■■

لن أخترق قلبك كي أحدّ من ذاكرته، لن أبقي فمك لكي لا أمنع فتحه على الهواء الأزرق وظمأ الرحيل. أريد أن أكون لك الحرية ورياح الحياة التي تجتاز العتبة الدائمة قبل أن يصير الليل مفقودا.

■■■

لا يستاء الشاعر من الإطفاء الشنيع للموت، لكن واثقا من لمسته المتفردة يحوِّل كل شيء إلى صوف مجدول.

■■■

الكيان الذي نجهله كيانٌ لا متناه، قادر، خلال المشاركة، على تغيير آلامنا وعبئنا إلى شفق شرياني.

■■■

بين البراءة والمعرفة، بين الحب والعدم، يبسط الشاعر عافيته كل صباح.

■■■

لا يليق بالشاعر خداع الخروف، واستثمار الصوف.

■■■

الشعر أقل المياه الصافية إبطاء عند ظلال جسوره.

■■■

في حدائقنا، غاباتٌ قيد الإعداد.

■■■

الزهرة التي كان يمسكها بين أسنانه

يمكنه إسقاطها

إذا وافق أن يعرِّف باسمه

إرجاع حطام الشراع إلى أمواجه

ثم بعض اعتراف مؤلم

سيطارد منامك

من بين نباتات رتم دمه

صغيرتي، صغيرتي، إنني أرتعش!

عندما ابتعد هذا الفتى بعيدا

المساء ابتلع وجهك

عندما ابتعد هذا الفتى بعيدا

محني الظهر، حاسر الجبين، فارغ اليدين

تحت شجرات السوحر كنت متجهمة

لم تكوني أبدا هكذا

هل سيعيد إليك بهاءك؟

صغيرتي، صغيرتي إنني أرتعش

الزهرة التي كان يمسكها بين الشفتين

هل كنت تعرفين ماذا كانت تخفي:

أبتي محض جرح محاط بالذباب

غطيته بحناني

لكن عيونه تفي بالوعد

الذي قطعته على نفسي

إنني ثملة، إنني متحولة

أنت أبتي من يتغير!

■■■

أسكن جرحا.

■■■

الشِعر، الحياة المستقبلية داخل الإنسان المؤهل من جديد.

■■■

أن تكون شاعرا، يعني امتلاك شهية مفتوحة للقلق الذي باستهلاكه، في خضم كلية الأشياء الراهنة والمتوقعة، لحظة الختام – يفضي للغبطة.

■■■

القصيدة تعطي وتأخذ في وفرتها الرحلة الكاملة للشاعر المنفي عن عزلته. وراء كوة الدم هذه تشتعل صرخة القوة التي ستدمر نفسها وحدها لأنها تمقت القوة؛ شقيقتها الذاتية العقيمة.

■■■

الشاعر سِفرُ تكوينِ كيان يقذف وكيان يتلقّف؛ من الحبيب يستعير الفراغ، ومن الحبيبة، الضوء. هذه الحراسة المزدوجة تمنحه بطريقة مثيرة صوته.

■■■

الزهرة التي يدفئها، يضاعف بتلاتها،

يظلّل تويجها.

الزمن يمزِّق، ويفرم

وميضٌ ينفصل عنه: سكيننا

الربيع يأسرك، والشتاء يحررك، موطنَ وثْباتِ الحب.

النجمة تعيد لي إبرة الدبّور التي كانت بداخلها.

اعتن، أيها الوجه المداوم، أنت تروي قلوب الماعز على قمم الجبال.

■■■

الوضوح أقرب جرح للشمس.

■■■

صداقتنا هي السحابة البيضاء الأثيرة لدى الشمس.

صداقتنا لحاء خالص، لا ينسلخ عن مروءة قلبنا.

■■■

يوصي الشاعر: “انحنوا للأمام، انحنوا أكثر”. لا يخرج سالما دائما من صفحته. لكن كما الفقير يعرف كيف يستفيد من خلود زيتونة.

■■■

لن نسمح بأن يسرقوا منا حصة الطبيعة التي نحتويها. لن نفرط في سداة، لن نتنازل عن حصاة ماء.

بعد رحيل الحصادين، على مرتفعات جزيرة فرنسا، الصوان الدقيق المنحوت الذي يبزغ من الأرض، بمجرد أن تلمسه يدنا، يبتعث من ذاكرتنا نواة فجر معادلة، نواة فجر لن نرى، كما نعتقد، تغيره أو نهايته؛ فقط الحمرة المشعة والسيماء الرفيعة.

■■■

عندما أحلم وأتقدم، عندما أمسك ما لا يعبر عنه، بانتباهي، أكون راكعا.

■■■

أروع ما في هذا الإنسان؛ كل ينبوع فيه، يلد جدولا، مع كل هبة، ينهمر وابل من اليمام.

■■■

كل حرف من الحروف التي يتألف منها اسمك، أيها الجمال، المتوّج بلوحة العذابات الشرفية، يقترن ببساطة الشمس المسترسلة، يندرج في الجملة الهائلة التي تحجب السماء، منضما للإنسان المستبسل في خيانة قدره مع نقيضه الصعب المراس: الأمل.

■■■

إنهم المتشائمون الذين يرفعهم المستقبل. يشهدون قيد الحياة علة قلقهم تصبح حقيقة. مع ذلك فإن العنقود، الذي تلا القطاف، يلتف أعلى الدالية، وأطفال الفصول، الذين ليسوا مجتمعين كالعادة، يسارعون إلى تثبيت الرمل تحت الموجة. هذا أيضا يلتقطه المتشائمون.

■■■

الحياة؛ إصرار على استكمال ذكرى.

الموت؛ أن تصير، حيّاً، لكن في لامكان.

■■■

أحيانا يروي الواقع ظمأ الأمل، لهذا السبب، وبعكس كل توقع، يعمِّر أطول.

■■■

ينبغي على الشاعر أن يترك آثارا لعبوره، لا أدلّة. وحدها الآثار تجعلنا نحلم.

■■■

سنواتك الثماني عشرة المتمردة على الصداقة، على العدوانية، على حماقة شعراء باريز فضلا عن الجدل العقيم لعائلتك الأردينية الغبية نوعا ما، لقد أحسنت صنعا بتبذيرها في رياح عرض المحيط، بوضعها تحت ساطور مقصلتها المبكرة. كنت محقا بمغادرة بولفار الكسالى، وحانات العبقرية الشعرية المتبولة، لأجل جحيم الوحوش، لأجل تجارة الماكرين وتحية البسطاء.

هذا الاندفاع الجنوني للجسد والروح، قذيفة المدفع تلك التي تصيب هدفها من خلال تفجيرها. أجل، هنا فقط حياة الانسان.

كنت محقا بالرحيل آرثر رامبو، نحن من القلائل الذين يصدقون بلا دليل السعادة الممكنة برفقتك.

■■■

الإنسان الذي ينقل الوضوح على كتفيه

يحتفظ بذكرى الأمواج في مستودعات الملح.

■■■

عزائي بعد موتي، أنني سأكون هناك – متحللا، بشعا – لأراني قصيدة.

■■■

أيها البقاء على قيد الحياة، للأفضل دائما!

■■■

 في شوارع المدينة يتجول حبّي، فليذهب أنّى يشاء في الزمن الممزَّق. إنه لم يعد حبي بعد الآن. يستطيع الجميع التحدث معه. لن يتذكر بوضوح من أحبَّه؟

إنه يبحث عن شبيهه في لهفة العيون. الفضاء الذي يقطعه وفائي. يرسم الأمل ويتجاهله خفيفا. الغلبة له دون أن يكون طرفا.

أنا أحيا في أعماقه كسفينة غارقة سعيدة. رغم جهله، فإن عزلتي هي كنزه. في خط الزوال العظيم حيث يقع مداره، حريتي توسعه.

في شوارع المدينة يتجوّل حبّي، فليذهب أنّى يشاء في الزمن الممزَّق. إنه لم يعد حبي بعد الآن. يستطيع الجميع التحدث معه. لن يتذكر بالتحديد من أحبَّه ويضيئه من بعيد كي لا يسقط؟

آرتين

في السرير المُعدّ لي كان ثمة: حيوان مدمى وممزق، بحجم فطيرة حلوى، أنبوب من الرصاص، زوبعة ريح، قوقعة متجمدة، خرطوشة فارغة، إصبعي قفاز، بقعة زيت؛ لم يكن ثمة باب السجن، ثمة فقط طعم المرارة، ماسة من الزجاج، شعرة، نهار، مقعد مكسور، دودة قز، ذبابة خضراء أليفة، الشيء المسروق، مسمار الإسكافي، فرع من المرجان، وعجلة قطار بطيء.

تقديم كوب من الماء لفارس ينطلق مسرعا على حصانه، في حلبة سباق تعج بالحشود، يفترض، افتقارا تاما للمهارة. آرتين كانت تزف إلى الأرواح التي تزورها هذا التقشف الهائل.

نافد الصبر على دراية تامة بسلسلة الأحلام التي تطارد عقله، لا سيما في مجال الحب حيث تتجلى الحيوية المفترسة خارج حدود اللحظة الجنسية؛ التمثل، يتنامى، في الليلة الحالكة، في الأمكنة المحكمة الإغلاق.

آرتين تعبر بسهولة اسم المدينة، إنه الصمت الذي يحرر الليل.

الأشياء المحددة والمحتشدة تحت اسم الطبيعة الدقيقة هي جزء من المشهد الذي تدور فيه الأعمال الأيروتيكية للمآلات القاتلة، في ملحمة الليل والنهار. العوالم الساخنة الخيالية التي تتدفق بدون توقف في القرية إبان موسم الحصاد تجعل النظرة عدوانية والعزلة غير محتملة للشخص الذي يمتلك قدرة تدميرية. بالنسبة للهزات الرائعة يستحسن رغم كل شيء الوثوق فيها بالكامل.

حالة الخمول التي تسبق آرتين تشتمل على العناصر الضرورية لاستعراض الأحاسيس المؤثرة

على ستارة الانهيار العائمة: لحاف من ريش مشتعل في هاوية الظلام السحيقة الدائمة الجيشان.

حافظت آرتين نكاية في الوحوش والأعاصير على نقاء لا ينضب. في النزهة، كانت الشفافية المطلقة.

في خضم الاكتئاب الأكثر نشاطا تشتعل آلة جمال آرتين؛ العقول الفضولية تظل مشتعلة، والعقول اللامبالية فضولية للغاية.

تتجاوز تجليات آرتين حدود أقطار النوم، حيث يدار الإيجابي والإيجابي بذات العنف القاتل. إنها تزدهر في طيات حرير مشتعل مليء بأشجار لها أوراق من رماد.

كانت عربة الخيول النظيفة والمجددة تأخذها دائما إلى الشقة المغطاة بالملح الصخري عندما يكون مقررا استقبال العديد من الأعداء الألداء لآرتين خلال أمسية بلا نهاية. وجهها المتخشب الخالي من التعابير كان بغيضا للغاية. الركض المجنون لعاشقين، بشكل عشوائي على الطرقات، يتحول فجأة إلى تسلية كافية، للسماح للمأساة، أن تدور مرة أخرى، في الهواء الطلق.

كان الكتاب المفتوح على ركبتي آرتين صالح للقراءة فقط في الليالي الحالكة. على فترات غير منتظمة، تلقّى الأبطال المآسي التي ستنهال على رؤوسهم، والمسارات المتشعبة المرعبة التي كانت ستسلكها أقدارهم المحتومة مرة أخرى.

فقط معنيون بأقدارهم، كانوا يتمتعون ببنية جسمانية جيدة، يتحركون ببطء، يتكلمون لماما. كانوا يعبرون عن رغباتهم بإيماءات سخية من رؤوسهم. كذلك كانوا يبدون كما لو يتجاهلون بعضهم البعض تماما.

الشاعر قتل موديله.

■■■

رسالة الوداع الأخيرة:

عزيزتي آرتين،

لدي انطباع أن أحلامك الكبرى لم تعد، كما في الماضي، تستثير كامل جسدي. كان لقاؤنا في تشرين 1929، منذ ذلك التاريخ فقدت المتعة التي كانت تمنحها لي حلبات سباق الخيل. أعرف من المسؤول. إنه الغاز الذي يسلط ضوءا ضعيفا على الخيول الصغيرة الحجم، عند خط الوصول، وبذلك يؤدي إلى حوادث تدافعات باهظة تسيل فيها دماء غزيرة. إنها جنة الجزارة. ثيابي البالية، السحالي الخضراء المزعجة في رواحها ومجيئها، ووجود أورام واضحة، محيطة بالجمال، يضعني في حرج شديد معك. هل تعتقدين أن غرس أشجار الحور كفيلة بإرشاد العصافير التي تشكو من اختفائك إلى موقع نومك؟ لا أظن.

إنني أتحرك في مشهد حيث الثورة والحب، يضيئان سويا، احتمالات مدهشة، ويوجهان رسائل بليغة. في التوقيت الصحيح، تظهر فتاة بخصرها النحيل كالزنبور، تذبح ديكا ثم تغط في سبات عميق، بينما على بعد بضعة أمتار من سريرها، يتدفق سائر النهر بمخاطره.

لطالما أثنيتِ على إخلاصي في عدة مناسبات. أريد أن أصدق أنك لن تظلين متجاهلة إزاء هذا الإقدام اليائس، لهذا الأمل. عزيزتي آرتين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى