شعر

لا كلامَ إلّا الريح/ تيشاني دوشي

(قصائد وشذرات مختارة)

أغنية المهاجر

دعونا ألّا نتحدث عن تلك الأيام

حين كان بنّ القهوة يملأ الصباح

بالأمل، حين كانت الأوشحة التي تغطي رؤوس أمهاتنا

معلقة كرايات بيضاء على حبال الغسيل

دعونا ألّا نتحدث عن الأذرع الطويلة للسماء

التي ما فتئت تهدهدنا في الغسق.

وأشجار خبز القرود: دعونا ألّا نرسم أشكال أوراقها في أحلامنا،

أو نحنّ إلى جلبة تلك الطيور المجهولة

التي صدحت وماتت في أفاريز الكنيسة.

دعونا ألّا نتحدث عن الرجال

الذين اختطفوا من أسرّتهم في الليل.

دعونا ألّا نقول كلمة

“مفقود”.

دعونا ألّا نتذكر رائحة المطر الأولى.

فلنحكي، بدلا من ذلك، عن حيواتنا الآن:

البوابات والجسور والمتاجر.

وحين نتقاسم الخبز

في المقاهي وعلى طاولات المطابخ

مع إخوتنا الجدد،

دعونا ألّا نثقل كاهلهم بالحكايات

عن الحرب أو الهجران.

دعونا ألّا نتلفّظ بأسماء أصدقائنا القدامى

الذين يتكشّفون كحكايات خرافيّة

في غابات الموتى.

فلن يعيدهم ذكرهم إلى الحياة من جديد.

دعونا نبقى هنا، وننتظر وصول

المستقبل، أن يتكلم الأحفاد

بألسنة متشعبة عن الوطن

الذي جئنا منه ذات مرّة.

أخبرونا عنه، قد يسألون.

فيخطر ببالنا أن نحدّثهم

عن السماء وبنّ القهوة،

والبيوت البيضاء الصغيرة والشوارع المغبرّة.

وقد تترك لذاكرتك أن تنثال وتطفو

كقارب ورقي أسفل أحد الأنهار.

وقد تصلّي أن تهمس الورقة

بحكايتك إلى الماء،

وأن يغنّيها الماء للأشجار،

وأن تنوح بها الأشجار

إلى الأوراق وتنوح. فإن بقيت ساكنا بلا حراك

ولم تتكلم، فربّما تسمع

حياتك كلّها تملأ العالم

حتى تكون الريح هي الكلمة الوحيدة.

اليوم الذي ذهبنا فيه إلى البحر

اليوم الذي ذهبنا فيه إلى البحر

كانت الأمّهات في مدراس يبحثن

في حوض السفائن عن الأطفال المفقودين.

طار قشّ السقوف في السماء، فركض

السجناء أحرارا، ورقصت البيوت كخطَر

في الريح. رأيت امرأة تمسك

بحافّة العالَم البالية

في يدها، ناظرة أبعد من المعبد

الذي مازال قائما، حين كانت سالمة

في الأطلال المبهرجة لشمس

جنوب الهند. حين حرّكت

يدها الأخرى على جبينها،

في فيض بهاء مقنطّر،

كما لو تستطيع وحدها أن تبدّل الأشياء،

وتأخذنا إلى أمان أسرّتنا الأخرس.

في متحف رودان

يتبعني ريلكه في كل مكان

ببذلاته التي حاكها الخيّاط

وابتسامته النباتيّة.

يقول إنّني دائما ما سوف أبدأ من جديد،

لأنني يافعة،

ولا أستطيع معرفة الحُبّ.

يرى كيف أصبحتُ قطعة كبيرة

من زجاج ثانية، محاولة

التقاط الشمس

في الزوايا البعيدة للغرف،

وقمم الجبال، ومطارح

الضوء الملتبسة.

يتحدث عن قسوة

المستشفيات، وسكون

الكاتدرائيّات،

يأخذني عبر أجساد

وأذرع وسيقان

كبيرة جدا،

تحفر السماء العتيقة حجرا

بجميع الكلمات الميّتة

التي نحملها ولا نستطيع استخدامها.

نرفع المرايا

التي تسقط منها صورنا المنعكسة—

وجودات نصف محطّمة،

حيث نفقد أنفسنا،

من أجل الآخر،

ومازال على الآخرين أن يأتوا.

الصيف في مدراس

كل واحد في البيت يحتضر.

أمي في غرفة مكيّفة الهواء

لا تستطيع أن تسمع الأنهار وهي تحطّم سدودها

ضدّ أعصابها. يذرع أبي الشرفات على مهله،

واهبا مزقا من جلده إلى صفوف أشجار

البونسيانا المتوهجة. يحاول زوجي إيقاف زحف

جيوش الماضي بحشو أذنيه بقشور

المانجا اليابسة. وأخي؟ إنّه أكسل واحد فيهم جميعا.

يفتح الباب. يأخذ شمسيّة الموت. ويخبطها على هذا المنوال أو ذاك. ثمّ يغنّي.

شذرات

أشكرك، أيتها الشّعرات البيضاء،

كما ينبغي بشاعرة،

فأنا مشغولة بالتقاط

أنفاسي على الدّرج.

***

انطلق في العالم وهيّئ نفسك للرّعب.

لا تغمض عينيك. صد سمكة.

هشّم رأسها وانظر الحياةَ وهي تلهث

خارجة منها. ابصق العظام في الرمال.

***

يفلق المطر في الساعة الثالثة السريرَ نصفين،

يطقطق فوق النوافذ كفرسان

يتقرّحون

طيلة قرن من السّبات.

***

لُفَّ سمكة بجرائد الأمس،

وافرش تربيعات على الأرض

كي يبول

الجرو

على وجه پوتين.

***

أحمل زوجي في أكياس بلاستيكية.

إنه يهمس كشيء بال، ورقيق،

أنزليني هنا، على رسلك، أنزليني.

كل شيء شديد الخفّة— البخور،

الرماد، ورهافة صوته تسّاقط

في الأمواج، وتتلاشى.

***

يلتقط البحر حياتي،

ويفرغها على نفسه.

أراها مسفوحة، ثمّ تتلاشى.

ها هي الأجزاء المنسيّة—

سماء ليليّة ورديّة، أساور مكسورة،

وصيّاد يمشي مبتعدا عن الضياء.

***

 على جِيدي الأصابعُ الزّبَدُ،

والصوتُ فِيَّ ينسكبُ،

شرفة الأزرقِ البَدَدِ.

***

ليست صرخةَ

بداية، أو نهرا مدفونا في تجاويف الأرض.

إنّها صوت عشرة ملايين امرأة

يغنّين عن زمن في الكون

حين وُلدنَ والنمورُ

تتنفّس بين أفخاذهنّ.

***

أنّى للمطر الذي لا يسبرُ الأغوار

أن يحرّر الكافورَ من سراديب

الأرض.

***

كانت الشمس، في البدء،

ثم تفتُّح الشمس

ثم صراخُ الشمس

ثم شهر سبتمبر

***

الصبايا يخرجن

من الغابة كالعصافير حين تحلّ

على نوافذ الصباح.

تحسين الخطيب

شاعر ومترجم من فلسطين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى